تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ، فإن كان قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) على تحقيق المشيئة ، فمعناه : أنكم لا تشاءون الاستقامة ـ على ما ذكرنا ـ إلا أن يشاء الله.

وإن كان على تحقيق الفعل ، فتأويله : أنكم ما استقمتم على الطريقة إلا بمشيئة الله تعالى.

وقال بعضهم : تأويل قوله : (وَما تَشاؤُنَ) ، أي : لم تكونوا تشاءون إنزال هذا الكتاب ، فأنزله الله تعالى على رسوله ـ عليه‌السلام ـ بغير مشيئتكم.

وهذا غير محتمل عندنا ؛ لأنه قد سبق من القوم الإرادة والسؤال بإرسال الرسول إليهم بقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] ، فثبت أنه قد سبق منهم السؤال بإرسال الرسول وإنزال الكتاب عليه ، لكن تأويله ما ذكرنا.

ثم في هذه الآية دلالة أن كل من شاء الله تعالى منه الاستقامة توجد منه الاستقامة ، ولا يجوز أن يشاء من أحد استقامته ولا يستقيم ، كما قالت المعتزلة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ منّ على من استقام بمشيئة استقامته ، فلو لم توجد الاستقامة من كل من شاء منه الاستقامة ، لم يكن للامتنان معنى ؛ لأن الاستقامة وغير الاستقامة تكون به ، لا بالله تعالى ، والله المستعان ، [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم](١).

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

٤٤١

[سورة الانفطار ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) قد ذكرنا أن هذا جواب [عن](٢) سؤال تقدم ، لم يبين السؤال عند ذكر الجواب ؛ لأن (إِذَا) جواب عن (٣) سؤال «متى» ؛ فجائز أن يكون سؤالهم ما ذكر في إتمام الجواب ، وهو قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : متى تعلم النفس ما قدمت وأخرت؟ فنزل قوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) الآية إلى آخرها.

ثم ذكر الانفطار هاهنا وهو الشق ، وذكر الفتح في موضع آخر ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ : ١٩] ، وقال في موضع آخر : و (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) [المرسلات : ٩] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، فمنهم من ذكر أن شقها وانفطارها أن تفتح أبوابها.

ومنهم (٤) من حمله على الشق الذي يعرف من شق الأشياء ، وهذا أقرب ؛ لأن الآية في موضع التخويف والتهويل ، وليس في فتح أبوابها تخويف ، وإنما التخويف في انشقاقها بنفسها.

ثم السؤال عن ملاقاة الأعمال وعن علم الأنفس بها سؤال عن الساعة ، وفي ذكر انفطار السماء ، وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وتسيير الجبال ، وجعل الأرض قاعا صفصفا ، وصف أحوال الساعة وآثارها ، وليس فيه إشارة إلى وقت كونها ؛ لأنه ليس في التوقف على حقيقة وقتها تخويف وتهويل ، وفي ذكر آثارها تخويف ، وهو أنه عظم هول ذلك اليوم ، واشتد حتى لا تقوم له الأشياء القوية العلية في أنفسها ، وهي الجبال ، والسموات والأرضون ، بل يؤثر فيها هذا التأثير ، حتى تصير الجبال كالعهن المنفوش ، وتصير كثيبا مهيلا ، وتنشق السماء ، وتصير الأرض (٥) قاعا صفصفا ، فكيف يقوم لها الإنسان الضعيف المهين؟!.

__________________

(١) في ب : سورة : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ).

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : وعن.

(٤) قاله السدي أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٣).

(٥) في ب : الجبال.

٤٤٢

أو إذا كانت السموات والأرضون والجبال مع طواعيتها لربها لا تقوم لها وأفزاعها بل تتقطع ، فكيف يقوم لها الآدمي الضعيف مع خبث عمله ، وكثرة مساوئه مع ربه؟!.

فيذكرهم هذه الأحوال ؛ ليخافوه ، ويهابوه ؛ فيستعدوا له ؛ فلهذا ـ والله أعلم ـ ذكرت الأحوال التي عليها حال ذلك اليوم ، ولم يبين متى وقته ؛ ولهذا ما لم يبين منتهى عمر الإنسان ؛ ليكون أبدا على خوف ووجل من حلول الموت به ؛ فيأخذ أهبته ، ويشمر (١) له ، ولو بين له كان يقع له الأمن بذلك ؛ فيترك التزود إلى دنو ذلك الوقت ، ثم يتأهب له إذا دنا انقضاء عمره.

ثم إن الله ـ تعالى ـ ذكر أحوال القيامة في غير موضع ، وجعل ذلك مترادفا متتابعا في القرآن ؛ فيكون في ذلك معنيان :

أحدهما : أن للقلوب تغيرا وتقلبا في أوقات ، فرب قلب لا يلين لحادثة أول مرة حتى يعاد عليه ذكرها مرة بعد مرة ، وحالا بعد حال ، ثم تلين ؛ فيكون في تتابع ذكر البعث والقيامة مرة بعد مرة إبلاغ في النذارة وقطع عذر المعتذرين (٢) يوم القيامة.

والثاني : أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام ، وقد وقع الإسلام في قلوبهم موقعا ؛ فيكون في تكرار المواعظ تلقيح لعقولهم ، وتليين لقلوبهم على ما أكرمهم الله ـ تعالى ـ من الإيمان ، ونصرة رسول رب العالمين ؛ كقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٣].

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) : إما أن يكون انتثارها ؛ لأنها مجعولة لمنافع الخلق ، فإذا استغنى عنها أهلها فلا معنى لبقائها.

أو لما جعلت زينة للسماء ، فإذا انفطرت السماء ، لم تحتج إلى زينة بعدها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) ، قال قائلون : أي يفجر ماؤها في بحر واحد ، ثم يغور ماء ذلك البحر الذي اجتمعت (٣) فيه المياه ؛ إما بما تنشفها الأرض ، أو تجعل في بطن الحوت الذي (٤) ذكر أن الأرضين قرارها على ظهره ، أو في بطن الثور ، ثم يسوي الله ـ تعالى ـ الأرض كلها ؛ حتى لا يبقى فيها عوج ، ولا قعر ؛ فيبس (٥) البحار بما شاء : إما بالجبال ، أو بغيرها.

__________________

(١) في ب : ويتشمر.

(٢) في أ : المعذورين ، وفي ب : المتعذرين.

(٣) في أ : اجتمع.

(٤) في أ : التي.

(٥) في ب : فيكنس.

٤٤٣

وقال بعضهم : بل يغور ماء كل بحر في مكانه ، لا أن تجتمع المياه كلها في مكان واحد وبحر واحد.

وقال بعضهم : بل يمتزج بعضها ببعض ؛ فتصير نارا يعذب بها أهلها ، وكذلك (١) قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] ، وقال : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] ، والله أعلم أي ذلك يكون؟.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) ، أي : بعث من فيها ، وتقذف القبور من فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ، أي : تعلم الأنفس ما عملت ، إلى آخر ما انتهى [إليه عملها](٢) فلا يخفى عليها شيء من أمرها.

ومنهم من يقول (٣) : ما قدمت من خير وأخرت من شر فستعرفه في ذلك اليوم.

ومنهم من يقول (٤) : علمت ما قدمت من العمل ؛ أي : بما عملت (٥) بنفسها ، (وما أخرت) أي : ما سنت من السنة فعمل بها بعدها.

وهذا الذي ذكروه داخل في تفسير الجملة التي ذكرنا أنها تعلم من أول ما عملت إلى آخر ما انتهى إليه عملها.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) يحتمل : عن ربك ؛ فيكون تأويله : أي شيء غرك عن ربك الكريم ؛ حتى اغتررت به؟! واغتراره عن ربه الإعراض عن طاعته وعبادته ، وقد تستعمل الباء في موضع «عن» ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، ومعناها : يشرب عنها ، لا أن يشربوا فيها كرعا ، أو تجعل العين آنية لهم.

ثم وجه الجواب للمغتر بالله ـ تعالى ـ في قوله ـ عزوجل ـ : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هو أن كرمه دعا الإنسان إلى ركوب المعاصي ؛ لأنه لم يأخذه بالعقوبة وقت

__________________

(١) في ب : فذلك.

(٢) في أ : علمها.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٥٥٧) وهو قول عكرمة وقتادة وابن زيد أيضا.

(٤) قاله ابن مسعود أخرجه ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٣ ـ ٥٣٤) وهو قول ابن عباس وعطاء أيضا.

(٥) في ب : علمت.

٤٤٤

جريرته ، فتجاوزه (١) عنه أو تأخيره العقوبة ، حمله على الاغترار ؛ إذ ظن أنه يعفى عنه أبدا كذلك ؛ فأقدم عليها ، وإلا لو حلت به العقوبة وقت ارتكابه المعصية ، لكان لا يتعاطى المعاصي ، ولا يرتكبها ، فعذره أن يقول : الذي حملني على الإغفال والاغترار كرمك أو حمقي ، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين تلا هذه الآية : «الحمق يا رب» (٢).

أو يكون قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي : أي شيء غرك حتى ادعيت على الله تعالى أنه أمرك باتباع آبائك؟! أو تشهد عليه إذا ارتكبت الفحشاء أن الله تعالى أمرك به ؛ على ما قال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا) [الأعراف : ٢٨] ، ألم أبعث إليك الرسول؟! ألم أنزل إليك الكتاب فتبين لك ما أمرت به عما نهيت عنه؟!.

وقيل : نزلت الآية في شأن كلدة ؛ حيث ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلم يعاقبه الله ـ تعالى ـ فأسلم حمزة حمية لقومه ؛ فهمّ كلدة أن يضربه ثانية ؛ فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) حيث لم يهلكك عند تناولك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

لكن لو كانت الآية فيه فكل الناس في معنى الخطاب على السواء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) ففي ذكر هذا تعريف المنة ؛ ليستأدي منه الشكر.

وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر ، ولا يجري عليها سلطانهم ؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته.

وفيه ذكر حكمته وعلمه ؛ ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى ؛ لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجوه (٣) لا يعرفها الخلق ، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا ؛ بل خلقهم ليأمرهم وينهاهم ، ويرسل إليهم الرسل ، وينزل عليهم الكتب ؛ فيلزمهم (٤) اتباعها ، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها ، وتركوا اتباعها ، وسنذكر وجه التسوية (٥) في قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى : ٢] : أنه سواه على ما توجبه الحكمة.

أو سواه بما به مصالحه.

__________________

(١) في ب : فتجاوز.

(٢) أخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٤).

(٣) في ب : وجه.

(٤) في ب : فلزمهم.

(٥) زاد في أ : به.

٤٤٥

أو سواه من وجه الدلالة على معرفة الصانع.

أو سواه فيما خلق له من اليدين ، والرجلين ، والسمع ، والبصر.

وقوله : (فَعَدَلَكَ) أي : سواك.

ووجه التسوية : أن [جعل له يدين](١) مستويتين ، لم يجعل إحداهما أطول من الأخرى ، وكذلك سوى بين رجليه.

وقرئ بالتخفيف والتشديد.

قال أبو عبيد : معنى قوله : (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف ، أي : أمالك ، وليس في ذكره كثير حكمة ، واختار التشديد فيه.

وليس كما ذكر ، بل في ذكر هذا من الأعجوبة ما في ذكر الآخر ؛ فقوله : (عدلك) ، أي : صرفك من حال إلى حال ، ووجه صرفه ـ والله أعلم ـ : أنه كان في الأصل ماء مهينا في صلب الأب ، فصرف (٢) ذلك الماء إلى رحم الأم ، ثم أنشأه نطفة ، ثم صرفها إلى العلقة ، وإلى المضغة إلى أن أنشأه خلقا سويا.

أو صرفه على ما عليه من الحال من الصحة إلى السقم ، ومن السقم إلى البرء ؛ فيكون في ذكر هذا تعريف المنة والقدرة والحكمة ، كما في الأول ، ففيه أعظم الفوائد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) :

منهم من جعل (ما) هاهنا صلة زائدة ، ومعناه : في أي صورة شاء ركبك.

ومنهم من جعل (ما) هاهنا بمعنى الذي.

ثم قوله : (شاءَ رَكَّبَكَ) يحتمل أن يكون هذا عبارة عما تقدم من الأوقات ، وهو أنه قد شاء تركيبك على الصورة التي أنت عليها ، لا على صورة البهائم وغيرها ؛ فيكون [في](٣) ذكره تذكير المنن والنعم ؛ ليستأدي منه الشكر.

ووجه التذكير أنه أنشأه على صورة يرضاها ، ولا يتمنى أن يكون بغير هذه الصورة من الجواهر ، وأنشأه على صورة يعرف المحاسن والمساوئ ، ويعرف الحكمة والسفه ، ويميز بينهما ، ويميز بين المضار والمنافع ، وأنشأه على صورة سخر له السموات والأرضين والأنعام ، كما قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..). الآية [الجاثية : ١٣] ، وقال ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ..). الآية [الإسراء : ٧٠] ، ولم يسخره لغيره ؛ فثبت أن فيه تذكير (٤) النعم ؛ ليشكروه ، ويقوموا

__________________

(١) في ب : جعله بين.

(٢) في أ : فضرب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : تذكر.

٤٤٦

بحمده.

وجائز أن يكون هذا على الاستئناف في أن يركبه على ما هو عليه ، [على](١) أي صورة شاء من الصور التي يستقذرها ؛ ويمسخه قردا أو خنزيرا ؛ لمكان ما يتعاطى من المعاصي ؛ فيكون في ذكره تذكير (٢) القدرة والقوة ؛ ليراقب الله ـ تعالى ـ ويهابه ؛ فيترك معاصيه ، ويتسارع إلى طاعته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) فإن حملت (٣) قوله : (كَلَّا) على التنبيه (٤) والردع فممكن أن يعطف على ما قبله وعلى ما بعده ، وكذلك إذا حملته على القسم بمعنى : حقا ؛ فإنه يستقيم عطفه على الأمرين جميعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِالدِّينِ) يحتمل أن يكون أريد به دين الإسلام.

والأصل : أن الدين إذا أطلق أريد به الدين الحق ، وهو الإسلام ، وكذلك الكتاب المطلق كتاب الله تعالى.

ويجوز أن يكون أريد به : البعث والجزاء ، وسمي : يوم الدين ؛ لما ذكرنا أن الناس يدانون بأعمالهم.

والحكمة فيه ـ والله أعلم ـ : أنهم قد أقروا بأن الله ـ تعالى ـ أحكم الحاكمين ، وتكذيبهم بيوم الدين يوجب أن يكون أسفه السفهاء ، لا أن يكون أحكم الحاكمين ؛ لأن الدنيا عواقبها الفناء (٥) والهلاك ، فهم إذا كذبوا بالبعث فقد زعموا : أنهم ما أنشئوا إلا للهلاك والفناء ، ومن بنى بناء ، ولم يقصد ببنائه سوى أن ينقضه ويهدمه ، فهو سفيه ، عابث في الفعل ؛ فلم يحصلوا من تكذيبهم إلا على نفي الحكمة من الصانع ، وتثبيت السفه لله تعالى ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وهو قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] ، وهم لم يكونوا يدعون أنهما خلقتا باطلا ، ولا كانوا يظنون ذلك ، ولكن الإنكار الذي وجد منهم بالبعث والجزاء يقتضي خلقهما باطلا ؛ فعلى ذلك إنكارهم بالبعث يزيل عنه القول بأنه أحكم الحاكمين ، ويثبت ما ذكرنا من السفه ، سبحانه وتعالى عما يصفون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) ، وهم لم يكونوا يقبلون الأخبار ، ولا كانوا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : تذكر.

(٣) في أ : جعلت.

(٤) في ب : التثنية.

(٥) في أ : الفساد.

٤٤٧

يؤمنون بها ، ثم أخبرهم أن عليهم حفاظا ؛ لأن الذي حملهم على الجهل تركهم الإنصاف من أنفسهم ، وإلا لو أنصفوا من أنفسهم ، لكان إعطاؤهم النصفة يوصلهم إلى تدارك الحق ومعرفة ما عليهم من الواجب.

ثم قد ذكرنا أن المرء إذا كان عليه حافظ ، أداه ذلك [إلى](١) المراقبة ؛ فيرتدع عن تعاطي ما يؤخذ عليه ، فنبهنا أن علينا حفاظا ؛ ليحتشم عنهم ، ولا يأتي من الأمور ما يسوءهم ، ووصف أنهم كرام ؛ ليصحبهم صحبة الكرام ، [ومن صحبة الكرام أن يحترمهم](٢) ، ويتقي مخالفتهم ، ولا يتعاطى ما يسوءهم ، وذلك قوله : (راماً كاتِبِينَ).

وفي ذكر الكرام فائدة أخرى ، وذلك أن قوله : (كِراماً كاتِبِينَ) ، أي : كرام على الله تعالى ، والكريم على الله ـ تعالى ـ هو المتقي ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] ؛ فيكون فيه أمان لهم : أنهم لا يزيدون ، ولا ينقصون في الكتابة ، وإنما يكتبون [على](٣) قدر أعمالهم (٤) ، كما ذكرنا من الفائدة في وصف جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالقوة والأمانة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أنهم يعلمون ما نفعله (٥) قبل أن نفعل (٦) بما عرفهم الله ـ تعالى ـ فيكون في تعريفه إياهم إلزام الحجة عليهم ، ويكون الذي يكتبون امتحانا امتحنوا به ؛ إذ قد فوض إلى بعضهم أمر كتابة الأعمال ، وإلى البعض إرسال الأمطار ، ونحو ذلك.

أو (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) وقت فعلكم جهة الفعل من خير أو شر ؛ فيكون لفعل الخير آثار بها يعرفون أن الفاعل قصد به جهة الخير ، ويكون لفعل الشر آثار بها يعرفون ذلك أيضا.

ثم عذر المسلمين في ترك المراقبة أقل من عذر المكذبين بالدين ؛ لأن المسلمين علموا أن عليهم حفاظا يحفظون عليهم أعمالهم ، ويكتبونها عليهم ، ثم هم مع ذلك يغفلون ، ولا يصحبونهم صحبة الكرام ، ويتركون التيقظ والتبصر (٧) ، والكفرة ينكرون أن يكون عليهم حفاظ ، ومن كان هذا حاله فالإغفال من مثله غير مستبعد.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : أن يحترم لهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : عملهم.

(٥) في ب : نفعل.

(٦) في ب : يفعل.

(٧) في ب : التبصير.

٤٤٨

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) : قد ذكرنا أن البر هو الذي ما طلب منه ، والذي طلب منه ما ذكر في قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ..). إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] ، وفي هذه الآية دلالة على ما ذكرنا أن البر إذا ذكر دون التقوى ، اقتضى المعنى الذي يراد بالتقوى ؛ لأنه أخبر أن البر هو الإيمان بالله ـ تعالى ـ واليوم الآخر ، ثم ذكر أن الذي جمع بين هذه الأشياء ، فهو المتقي.

ثم احتجت المعتزلة لقولهم بالتخليد في النار لمن ارتكب الكبيرة بقوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) إلى قوله : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) ؛ لأن مرتكب الكبيرة فاجر ، وقد وصف الله ـ تعالى ـ : أن الفجار لفي جحيم ، ولا يغيب عنها ، وزعموا أنه [ما](١) لم يأت بالشرائط التي ذكر في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ١٧٧] فهو غير داخل في قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ).

والأصل عندنا ما ذكرنا : أن كل وعيد مذكور مقابل الوعد فهو في أهل التكذيب ؛ لما ذكر من التكذيب عند التفسير بقوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطففين : ٧] إلى قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المطففين : ١٠] ، وقال : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) إلى قوله : (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٤ ، ١٠٥] ، وإذا كان كذلك ، لم يجب قطع القول بالتخليد في [النار] لمن ارتكب الكبيرة ، بل وجب القول بالوقف فيهم.

ثم [إن](٢) الله ـ تعالى ـ جعل لأهل النار يوم البعث أعلاما ثلاثة ، بها يعرفون ، وتبين أنهم من أهل النار ، لم يجعل شيئا من تلك الأعلام في أهل السعادة :

أحدها : اسوداد الوجوه بقوله : (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦].

والثاني : بما يدفع إليهم كتابهم بشمالهم ، ومن وراء ظهورهم ، ويدفع إلى أهل الجنة كتبهم بأيمانهم.

والثالث : في أن تخف موازينهم ، وتثقل موازين أهل الحق.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

٤٤٩

فهذه أعلام أهل الشقاء ، وفيما ذكر اسوداد الوجوه قرن به التكذيب بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : ١٠٦] ، وفيما ذكر دفع الكتاب بالشمال ومن وراء الظهور ، قال فيه : (فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة : ٣٢ ، ٣٣] ، وقال : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) إلى قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى ..). الآية [الانشقاق : ١٠ ـ ١٥] وقال ـ تعالى ـ عند ما ذكر خفة الميزان : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٥] ، ولم يذكر عند ذكر شيء من هذه الأعلام غير المكذبين ، فثبت أن الوعيد في المكذبين لا في غيرهم ؛ لذلك لم يسع لنا أن نشرك أهل الكبائر مع أهل التكذيب في استيجاب العقاب ، وقطع القول بالتخليد ، بل وجب الوقف في حالهم والإرجاء في أمرهم.

والثاني : ذكر في مواضع الإيمان بالله ـ تعالى ـ أدنى مراتب أهل الإيمان ، ووعد عليه الجنة ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩] ، وقال في موضع آخر : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) [الحديد : ٢١] ، وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ..). الآية [النساء : ١٥٢] ، فذكر في هذه الآيات التي تلوناها أدنى منازل أهل الإيمان ، وذكر في موضع آخر أعلى مراتب أهل الإيمان ، ووعد عليها الجنة بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ..). الآية [العصر : ٣] ، وقال : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..). الآية [البقرة : ١٧٧] ؛ فجائز أن يكون ذكر الجميع على المبالغة لا على جعله شرطا ؛ فيجب القول باستيجاب الوعد بأدنى مراتبه ، على ما ذكر في الآيات الأخر.

وجائز أن يكون الجميع (١) فيما ذكر فيه الإيمان بالله ورسله مضمرا ، ويكون ذكر طرفا منه على الإيجاز ؛ ألا ترى أنه ذكر الكفر في بعض المواضع ، وأوعد عليه النار ، وذكر في بعض المواضع الكفر مع أسباب أخر ، وأوعد عليه النار بعد ذلك بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..). الآية [البقرة : ٦١] ، وقال في موضع آخر : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ..). الآية [المدثر : ٤٣ ، ٤٤] ، ثم لم يصر جميع ما ذكر من السيئات مع الكفر شرطا ، بل وجب القول بالتخليد لمن اقتصر على الكفر خاصة ؛ فثبت أن ليس في ذكر المبالغة دلالة جعل المبالغة شرطا ، بل جائز أن يستوجب الوعيد بدونه ؛ فلذلك لم يقطع القول في أصحاب الكبائر بالتخليد في النار ، ولا بأنهم مستوجبون للوعد ؛ بل قيل فيهم بالإرجاء.

__________________

(١) في ب : الجمع.

٤٥٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) ، قال بعضهم (١) : تأويله منصرف إلى أهل النار وأهل الجنة ؛ فأهل الجنة لا يغيبون عن الجنة ، ولا أهل النار عن النار.

وقال بعضهم : أريد بها أهل النار خاصة : أنهم لا يغيبون عنها.

وأنكر بعض الناس الخلود لأهل النار في النار ، ولأهل الجنة في الجنة ، وقالوا : لو لم يكن لنعيم الجنة انقضاء ، ولا لعذاب الآخرة انتهاء ، لكان يرتفع عن الله ـ تعالى ـ الوصف بأنه أول وآخر ؛ لأنهما يبقيان أبدا ؛ فلا يكون هو آخر ، وقد قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد : ٣] ؛ فلا بد من أن يكون لهما انتهاء حتى يستقيم الوصف بأنه آخر.

ولأنهما لو لم يوصفا بالانتهاء لكان علم الله ـ تعالى ـ غير محيط بنهايتهما ، فتكون النهاية مجاوزة لعلمه ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ محيط بالأشياء وعالم بمبادئها ومناهيها ؛ فلا بد من القول بفنائهما حتى يكون علمه محيطا بهما.

ولأنهم إنما استوجبوا الجزاء بأعمالهم ، وأهل النار استوجبوا العقاب بسيئاتهم ، فإذا كانت لسيئاتهم نهاية ، ولخيرات أولئك نهاية ، فكذلك يجب أن يكون للجزاء نهاية أيضا.

والأصل عندنا : أن كل من اعتقد مذهبا فهو يعتقد التدين (٢) به أبدا ما بقي ، لا يتركه (٣).

ثم العقاب جعل جزاء للكفر ، والثواب جعل جزاء للاتقاء عن المهالك بقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ، وقال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، فإذا ثبت أن كل واحد منهما جزاء للمذهب ، وكان الاعتقاد للأبد ؛ فكذلك جزاؤه يقع للأبد والدوام ، لا للزوال والانقطاع.

والثاني : أن العلم بزوال النعيم مما ينغص النعمة على أربابها ، ويمرر عليهم لذاتها ، ويكدر عليهم ما صفا منها ، فإذا كان كذلك لم يتم لهم النعيم ، وأهل النار إذا تذكروا الخلاص من العذاب ، تلذذوا بها ، وهان عليهم العذاب ؛ فوجب القول بالخلود ؛ ليتم النعيم على أهله والعذاب على أهله.

والجواب عن قوله : إنه يرتفع عنه الوصف ؛ لأنه أخبر : أن الله ـ تعالى ـ استوجب الوصف بأنه أول وآخر بذاته لا بغيره ، وغيره يصير أولا وآخرا بغيره ، ثم ما من شيء إلا وله أول وآخر ، ثم لا يوجب ذلك إسقاط الأولية والآخرية عنه.

وقوله بأن بالله ـ عزوجل ـ لا يوصف بالإحاطة بالأشياء لو وجب القول بالخلود ، فنقول بأن العلم بما لا نهاية له هو أن يعلمه غير متناه ، والعلم بالتناهي بما لا نهاية له

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٢ / ٤٨١).

(٢) في ب : التبيين.

(٣) في ب : ليتركه.

٤٥١

يوجب الجهل لا العلم.

والجواب عن الفصل الثالث : ما ذكرنا أنه يعتقد المذهب للأبد ، فكذلك الجزاء يتأبد ، ولا ينقطع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) ، قال بعضهم : إنك لم تكن تدري ، فدراك الله تعالى.

وقال بعضهم (١) : هذا على التعظيم لذلك اليوم ، والتهويل عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) ، وذلك اليوم يوم تجرى فيه الشفاعات ، فيشفع الأنبياء لكثير من الخلق فيشفع لهم ، وإذا كان كذلك فقد ملكت نفس لنفس شيئا ، ولكن تأويله يخرج على أوجه ثلاثة :

أحدها : أن الكفرة كانوا يتوادون فيما بينهم ؛ ليتناصر بعضهم بعضا في النوائب ، فقال : (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥].

أو لا تملك نفس لنفس شيئا إلا بعد أن يؤذن لها ؛ كما قال ـ عزوجل ـ : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] ، وقد يجرى التشفع في الدنيا لا بالاستئذان من أحد.

أو يكون معناه : أن كل نفس سيتبين لها في ذلك اليوم أنها لم تكن تملك شيئا إلا بالتمليك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، أي : لا ينازع فيه ، وهو في كل وقت لله ـ تعالى ـ لكن الظلمة ينازعونه في هذه الدنيا.

أو (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، أي : يتبين لكل أحد في ذلك اليوم بأن الأمر لله ـ عزوجل ـ في ذلك اليوم وقبل ذلك اليوم ، والله المستعان ، [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم](٢).

* * *

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٦٥٧٣) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٥).

(٢) سقط في ب.

٤٥٢

[سورة المطففين ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(١٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) : وجه تعييرهم بالتطفيف وإلحاق الوعيد بهم ؛ لمكانه وإن كانوا مستوجبين للوعيد ، وإن أوفوا المكيال ، ولم يطففوا فيه ؛ إذ كانوا جاحدين بالله تعالى ومكذبين بالبعث ـ : هو أن الكفرة لم يكونوا اعتقدوا الكفر بالله ـ تعالى ـ لتلذذ يقع لهم بنفس الكفر ، ولا التزموه على التحسين لهم إياه ، وإنما أعرضوا عن الإيمان لحبهم الرئاسة ، ولمأكلة كانت لهم خافوا زوالها عنهم بالإسلام.

أو (٢) زهدوا عنه ؛ لما يلزمهم بالإيمان مؤن ، واختاروا الكفر ؛ لئلا يلزمهم [بالإيمان](٣) تحملها ؛ فكان الذي يحملهم على الصد عن الإيمان وترك النظر في آيات الله ـ تعالى ـ وحججه ما ذكرنا ؛ فعيروا بالأفعال الدنية التي كانوا يتعاطونها فيما بينهم من التطفيف والهمز واللمز وتركهم إيتاء (٤) الزكاة بقوله (٥) ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٧] ؛ لينقلعوا عنها ؛ فيحملهم (٦) ذلك على النظر في القرآن والتدبر فيه ، وهو كما ذكرنا في القتال أن فيه ما يحملهم على الإيمان ؛ لأنهم كانوا يتزهدون عنه لحبهم الدنيا ، فإذا قوتلوا ضاقت عليهم الدنيا ؛ فبعثهم ذلك على الإيمان بالله ـ تعالى ـ وعلى النظر في آياته.

وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تلا هذه الآية على أهل مكة تركوا التطفيف ؛ فلم يطففوا

__________________

(١) في ب : سورة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.

(٢) في ب : و.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : إتيان.

(٥) في ب : لقوله.

(٦) في ب : بعلمهم.

٤٥٣

بعد ذلك.

قال أهل اللغة : التطفيف : النقصان ، يقال : إناء طفان ؛ إذا كان غير مملوء.

وقال الزجاج : يقال : شيء طفيف ، أي : يسير ، فسمي : مطففا ؛ لما يسرق منه شيئا فشيئا في كل مكيال.

وفي هذه [الآية](١) دلالة أن حرمة الربا عامة على أهل الأديان.

وفيه دلالة أن حرمة الربا ليست لمكان العاقدين ، وإنما هي حق على العاقدين لله ـ تعالى ـ وذلك أن الذي يكال له ، كان يأخذ ما يكال له على علم منه بتطفيف البائع ، ثم كان يرضى به ، ويتجاوز عن ذلك ، ومع ذلك لحقهم التعيير بالتطفيف ؛ فدل أن حرمته ليست لمكان العاقدين ، ولكنها من حق الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) منهم من ذكر أن هذا على التقديم والتأخير ، ومعناه : ويل للمطففين على الناس إذا [اكتالوا أو وزنوا](٢) ، وإذا اكتالوا استوفوا.

ومنهم من قال بأن (عَلَى) هاهنا بمعنى «عن» ؛ فكأنه يقول : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا عن الناس يستوفون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) منهم من حمل قوله : هم بعد ذكر الكيل والوزن على التأكيد والمبالغة ، فإن كان هذا على هذا ، فحقه الوقف على قوله : (كالوا) ، وعلى قوله : (وزنوا).

ومنهم من قال (٣) : معناه : وإذا كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ؛ لأن الألف بينهما ليست بمثبتة في المصاحف ، وهو مستعمل : كلته ، وكلت له ، ؛ كقوله : وعدته ، ووعدت له ، فإن كان هذا معناه ، لم يستقم الوقف على قوله : (كالوا) و (٤) (وزنوا) ؛ لأن قوله : (لهم) ، تفسير لقوله : (كالوا) أو (وزنوا) ، ولا يجوز قطع التفسير عما له التفسير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ..). [الآية](٥) :

قال أكثر أهل التفسير : (أَلا يَظُنُ) : ألا يعلم ، وأ لا يتيقن.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : كالوا أو وزنوهم.

(٣) انظر : تفسير ابن جرير (١٢ / ٤٨٤).

(٤) في ب : أو.

(٥) سقط في ب.

٤٥٤

وقال أبو بكر الأصم : (أَلا يَظُنُ) ، معناه : ألا يشك أولئك في البعث ، وهو محتمل لما ذكرنا ؛ لأن الشك يوجب الرهبة ، وارتفاعه يوجب الأمن ؛ ألا ترى أن المرء إذا أراد أن يسافر إلى مكان ، فأخبره إنسان أن في الطريق الذي يريد أن يسلك سراقا وقطاع الطريق ، فإنه يترهب لذلك ؛ فيستعد له بما (١) يدفع عن نفسه ضرر قطاع الطريق وضرر السراق ، وإن لم يتيقن أن المخبر صادق في مقالته ، ولا يتيقن أن السراق يتمكنون من الإضرار به ، فكيف لا يشك هؤلاء بكون البعث بما يخبرهم النبي ـ عليه‌السلام ـ ويقيم عليه الحجج ، وهذا أقل منازل الأخبار أن تورث شكا.

ثم الأصل أن حرف الشك يستعمل عند استواء طرفي الداعيين ، والظن يستعمل عند اختلاف طرفي الداعيين ، وهو أن تغلب (٢) إحدى الدلالتين على الأخرى ؛ لذلك يستقيم الحكم والقول بأكثر الظن ، ولا يستقيم بأكثر الشك.

ثم الظن يتولد من البحث عن الأمر والنظر فيه ، وإذا تدبر فيه ، فهو لا يزال يرتقي في الظن درجة فدرجة ؛ حتى ينتهي نهايته بلوغ اليقين (٣) ودرك الصواب ؛ فلذلك حمل أهل التفسير تأويل الظن هاهنا على اليقين والعلم ؛ إذ (٤) ذلك نهاية الظن.

وحمله أبو بكر على الشك ؛ لما لا ترتفع الشبهة كلها فيما كان طريق معرفته (٥) الاجتهاد.

ومثال الظن منا الخوف الذي ذكرنا أنه قد يستعمل في موضع العلم ؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته صار علما ؛ كالذي يهدد بالقتل ، أو بقطع عضو ؛ ليشرب الخمر [أنه يباح](٦) له الشرب ، ويجعل كالمتيقن أنه يفعل به لا محالة لو امتنع عن الشرب ؛ لبلوغ الخوف نهايته وإن لم يكن في الحقيقة متيقنا ؛ لما يجوز أن يحصل به ما يمنعه عن القتل ؛ فعلى ذلك الحكم في الظن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) للحساب الذي يحصل عليهم ؛ فلا يجدون منه مخرجا ؛ فيتخلصون من العذاب ، ليس على ما يحصل عليه الحساب في الدنيا يجد لنفسه الخلاص ووجه المخرج عنه.

__________________

(١) في ب : ما.

(٢) زاد في ب : إحدى.

(٣) في ب : النفس.

(٤) في ب : إن.

(٥) في ب : معرفة.

(٦) في ب : أيباح.

٤٥٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) ، سماه : عظيما ؛ لما ذكرنا من دوام عذابه ودوام عقابه (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي : لحكمه.

أو لحسابه.

أو لوعده ووعيده.

أو يقومون له مستسلمين خاضعين بجملتهم ، وإن كان البعض منهم وجد منه الامتناع عن الاستسلام في الدنيا ، فإن الظلمة ينازعونه ويدعون لأنفسهم أشياء ، وينكرونها له ، فأما يوم القيامة فإنهم جميعا يقرون له وينقادون لحكمه وقضائه ؛ لذلك خصه بقيام الناس له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا) قال الحسن وأبو بكر : حقا ؛ أي ، بعثهم حق ؛ فيبعثون.

وقال الزجاج : (كَلَّا) : حرف ردع وتنبيه ، أي : ليس الأمر على ما ظنوا : أنهم لا يبعثون ؛ بل يبعثون ويجازون بأعمالهم ؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من طريق الاستدلال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) اختلف في السجين :

فمنهم (٢) من جعله اسم موضع ، وأشار إليه فقال : هو صخرة تحت الأرض السابعة يوضع كتاب الفجار (٣) تحته إلى يوم القيامة.

ولكن ليس بنا إلى معرفة ذلك الموضع حاجة ؛ لأن الذين امتحنوا بجعله في ذلك الموضع قد عرفوه ، وهم الملائكة.

ومنهم من زعم أنه حرف مذكور في كتب الأولين ، فذكر ذلك في القرآن ، فجائز أن يكون المقصود يتحقق بدون الإشارة إليه.

وجائز أن يكون السجين الموضع الذي أعد (٤) للكافر في الآخرة للعذاب ، لكن أول ما يرد إليه عمله الذي أثبت في كتابه ، ثم تلحق به الروح ، ثم يتبعهما جسده في الآخرة على

__________________

(١) في ب : لقائه.

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٦٦١٧) ، وأبو الشيخ في العظمة ، والمحاملي في أماليه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٨).

(٣) في ب : الكافر.

(٤) في ب : اعتد.

٤٥٦

ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن» (١) ، فيرد كتابه إلى ذلك السجن ، ويرد كتاب الأبرار إلى الجنة التي أعدت له ، ثم تتبعه روحه ، ثم جسده ؛ فذلك قوله : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨].

ومنهم من قال : [هو] على التمثيل ليس على تحقيق المكان في العليين ؛ وذلك لأن السجن هو مكان أهل الخبث في الدنيا ، فمثلت أعمالهم بذلك ؛ لخبثها وقبحها ، ومثلت أعمال الأبرار بما ذكر من العليين ، وذلك مكان أهل الشرف وأولي القدر ؛ فيكون ذلك كناية عن طيب أعمالهم.

وقال الكسائي : السجين : مشتق من السجن ؛ كقولك : رجل فسيق ، وشريب ، وسكيت.

ثم ذكر كتاب الفجار ، والفجور يكون بالكفر وبغيره ، فهذا اسم يقع به الاشتراك بين أهل الكفر وأهل الإسلام ، لكنه ألحق عند التفسير بما يوجب (٢) صرف الوعيد إلى الكفار بقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، وكذلك نجد هذا الشرط ملحقا بالتفسير في جميع ما جرى به الوعيد بالاسم الذي يقع به الاشتراك ؛ من نحو الفسق ، وترك الصلاة ، بقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : ٤٣] ، وفيما جرى من الوعيد في الذي لا يؤتي الزكاة ؛ فكان في ذكر التفسير على تقييده بالتكذيب قطع الشهادة وإيجاب العذاب على المكذبين ، وفي ذكر الاسم الذي يقع به الاشتراك إيجاب الخوف على المسلمين الذين شركوا في ذلك الاسم ، فترك قطع الشهادة عليهم بالوعيد ؛ لما (٣) لم يذكروا عند التفسير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) فهو تعظيم ذلك اليوم ، ووصفه بنهاية الشدة ، أو على الامتنان على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يكن يعلم ذلك حين أطلعه الله عليه ، وهكذا تأويل قوله : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) [المطففين : ١٩].

وقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ، أي : الكتاب الذي في السجين مرقوم ، والمرقوم ، قالوا : مكتوب ومثبت.

والرقم عندنا : هو الإعلام ، يقال : رقم الثوب ؛ إذا أعلمه ؛ فجائز أن يكون علمه هو أن يختم ؛ فيكون فيه إخبار أنه لا يزاد على قدر ما عمل ، ولا ينقص منها ، وهو كما ذكرنا من

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) كتاب الزهد (١ / ٢٩٥٦) ، والترمذي (٤ / ٤٨٦) كتاب الزهد ، باب : ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن. (٢٣٢٤).

(٢) في أ : بما يجوز.

(٣) في ب : بما.

٤٥٧

الفائدة ، فيما وصف جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالقوة والأمانة بقوله : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢٠ ، ٢١] ، فوصف بالأمانة ؛ ليؤمن الخلق عن خيانته في الكتاب وتغييره ، ووصفه بالقوة ؛ ليعلم أن غيره لا يتهيأ له أن ينتزع منه ما أرسل على يده ، فيغيره ، فكذلك وصفه بالختم والأعلام ؛ ليؤمن من الزيادة فيه والنقصان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، أي : للمكذبين بجميع ما يحق عليهم تصديقه ، وذلك يكون بالإيمان بالله تعالى ، وبآياته ، ورسله ، وبالبعث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) : الدين اسم لشيئين : اسم للجزاء (١) ، واسم للاستسلام والخضوع ؛ فسمي : يوم الدين ؛ لما يدانون بأعمالهم ، أو لما يستسلمون لله ـ تعالى ـ في ذلك اليوم ويخضعون له ، وفي تكذيبهم بيوم الدين تكذيب لقدرة الله تعالى وتكذيب رسله ؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى الإيمان بيوم الدين ؛ فكانوا يكذبونهم بتكذيبهم بذلك اليوم ؛ فيكون تأويله منصرفا إلى ما ذكرنا من تكذيبهم بجميع ما يحق عليهم التصديق به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) : المعتدي هو الذي يتعدى حدود الله تعالى ، والأثيم : الذي يتأثم بربه ؛ فيكون مجاوزا به عن الحدود ، والتأثم بربه هو الذي يحمله على التكذيب ، وإلا لو قام بحفظ حدوده ، ولم يأثم بربه ، لكان لا يكذب بيوم الدين.

أو يكون فيه إخبار أن المكذب به معتد أثيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : قال : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أباطيل الأولين.

وقال أبو عبيدة : الأساطير : هي التي لا أصل لها.

ومعناه عندنا : ما سطره الأولون ، أي : كتبه ، فالسطر : الكتابة ؛ فيخبرون أنها ليست من عند الله تعالى ، بل مما كتبها الأولون الذين لا نظام لهم ، ولم يكن يقولون هذا في كل ما يتلو عليهم ، ولكنهم كانوا يعارضونه بهذا عند ما كان يتلو عليهم من نبأ الأولين ، وكانوا ينسبونه إلى السحر إذا أتاهم بالآيات المعجزات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، قيل : الرين : الستر والغطاء.

وقيل : الرين : الصدأ ؛ فالله ـ تعالى ـ سمى الإيمان الذي هو في النهاية من

__________________

(١) في أ : للجن.

٤٥٨

الخيرات : نورا ، وسمى الكفر الذي هو في النهاية من الشرور : ظلمة (١) ، فإذا كان الإيمان منورا للقلب ، والكفر مظلما ، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام (٢) ، فكل سبب من ذلك يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة ؛ على ما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول (٣) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذه الآية ، فقال : «هو العبد يذنب الذنب ، فتنكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب منها صفا قلبه ، وإن لم يتب ، وعاد فأذنب ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، وإن عاد نكتت (٤) في قلبه حتى يسود القلب أجمع ؛ فذلك الرين» ، ومن يرد الله أن يهديه يشرح صدره شيئا فشيئا بأسباب تتقدم الإيمان حتى يحمله ذلك على الإيمان ؛ فذلك تمام الانشراح.

وعلى هذا يخرج تأويل ما روي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب ، كلما ازداد عظما ، ازداد ذلك البياض ، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله.

ومعنى قوله : «يبدأ نقطة بيضاء» إلى قوله : «حتى يستكمل الإيمان» ، عندنا بالأسباب الداعية إلى الإيمان ، فلا يزال ينشرح منه شيء فشيء حتى يؤمن ، لا أن يكون الإيمان ذا أجزاء ، ولكن للإيمان مقدمات ؛ فينشرح شيء فشيء بكل مقدمة منه حتى يفضي به إلى الإيمان.

ثم إن الله ـ تعالى ـ سمى السواتر عن الإيمان بأسام ، مرة قال : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [النحل : ١٠٨] ، ومرة قال : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ..). الآية [فصلت : ٤٦] ، ومرة : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، فكأن الذين وصفوا بالقفل على قلوبهم هم الذين انتهوا في الكفر غايته حتى لا يطمع منهم الإيمان ، وهم المتمردون المعتقدون للتكذيب ، وهم الرؤساء منهم والأئمة.

ومنهم من هو مطبوع على قلبه ، وهم الذين اعتقدوا الكفر لا عن تمرد وعناد ، ولكن لما لم تلح لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان.

وذكر الزجاج أن أول منازل الستر : الغبن ، وهو الستر الرقيق كالسحاب الرقيق في السماء ، يعمل في غشاء القلب غشاء السحاب الرقيق بلون (٥) السماء ، ثم إذا ازداد سمي :

__________________

(١) في أ : الشر والظلمة.

(٢) في أ : الإثم.

(٣) في ب : نبي.

(٤) في ب : نكت.

(٥) في ب : يكون.

٤٥٩

رينا ، ثم يرتقي إلى الطبع إلى أن يصير كالقفل على القلب ، وفي هذا دليل على أن لله تعالى تدبيرا وصنعا في أفعال العباد ؛ لأنه أنشأ للكفر ظلمة في القلب حتى تمنعه تلك الظلمة عن درك الخيرات ونور الإيمان ؛ إذ كل من اعتقد الكفر فهو ليس يعتقده ؛ ليمنعه عن درك الأنوار ، وإذا لم يوجد منه هذا ، ثبت أنه صار كذلك بتدبير الله ـ تعالى ـ وصنعه ؛ إذ لا يجوز أن تحدث الظلمة في القلب إلا بمحدث لها ، وإذا انتفى الصنع من الكافر (١) ثبت أنه بتدبير (٢) الله ـ تعالى ـ ما صار كذلك ، وأنه أنشأه مظلما ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، اختلف في قوله : (يَوْمَئِذٍ).

فذكر أبو بكر الأصم : أن هذا في الدنيا ، يقول : إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير الله تعالى ؛ فصارت عبادتهم غير الله حجابا من عبادته.

وذكر أهل التفسير : أن هذا في الآخرة.

ثم منهم (٣) من يقول : إنهم حجبوا عن لقاء ربهم ، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين.

ومنهم من يقول : هم محجوبون ، أي : عن كرامته (٤) التي أعدها لأوليائه ، وعن رحمته ، فعوقبوا بالحجب عن ذلك ؛ جزاء لصنيعهم ؛ لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم الله ـ تعالى ـ فلم يقبلوها بالشكر ، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين ؛ فأبلسوا من رحمته وكرامته في الآخرة ؛ عقوبة لهم ومجازاة ، وهو كقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ، أي : جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به ؛ فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملوا بمثله في الآخرة.

وقال في آية أخرى : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ١٢٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) : من صرف الحجب إلى الدنيا ، فهو يقول : ثم إنهم يصلون الجحيم بعد ما عبدوا غير الله تعالى ، وحجبوا عن عبادته.

ومن صرف التأويل إلى أمر الآخرة ، فهو يقول : إنهم يصلون الجحيم بعد ما يظهر فيهم من أثر الحجاب من سواد الوجوه ، وإعطاء الكتاب بشمالهم ومن وراء ظهورهم.

__________________

(١) في أ : الكلام.

(٢) في ب : تدبير.

(٣) قاله الحسن بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٦٤٦).

(٤) في أ : ذكر الله.

٤٦٠