الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

والخالدون في النار دون أبدهم بين من خفف عنه أم كان استحقاقه دون الأبد ، وهم بين من يموت في النار أو يخرج إلى الجنة ، وبنفس القياس كل من دون المشركين من العصاة على دركاتهم.

وعدم الغفر باتا بالنسبة للإشراك الوثني ليس إلا لبعد الجريمة في بعديها ، فإنه انحس دركات الكفر بالله ، وألّا قصور للمشرك أيا كان في إشراكه بالله ، حيث اللّاتسوية بين الله وسواه من الفطريات البينة بين كافة ذوي الشعور مهما كانوا من الحيوانات الوحشية والحشرات والجراثيم.

فلا مجال في حقل الإشراك بالله ـ لمن مات مشركا ـ لغفر أيا كان ، وفي ما دونه مجال لغفر كما يشاء الله (١) وقد قرر مشيئته في غفر المستغفرين يوم الدنيا

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٦٩ ـ أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الانصاري قال : جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : ان لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما دينه؟ قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه فإن أبي فابتعه منه فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه فأتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره فقال : وجدته شحيحا على دينه فنزلت (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

وفيه أخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقال : إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا بعد ورجونا.

وفيه أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال : لما نزلت هذه الآية (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ..) قام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه فقال : والشرك بالله ، فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ..) فأثبتت هذه في الزمر وأثبتت هذه في النساء.

وفيه عن أبي ذر قال أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن ـ

١٠١

وتاركي كبائر السيئات وفاعلي كبائر الحسنات ، والمؤمنين بالله والمستأهلين للشفاعات.

ثم هناك أسباب أخرى للغفر لم نتعرف إليها فانها مطوية في مشيئة الله.

وليس الغفر لما دون الإشراك بالله فوضى جزاف ، وإلا لبطلت الشرائع بأسرها ، فانما «لمن يشاء» كما يتناسب تشريع الشرائع وتحذير العصاة ووعود النار لمن تخلف عن شرعة الله.

فهناك من الذنوب «ذنب لا يغفر وذنب لا يترك وذنب يغفر ، فأما الذي لا يغفر فالشرك بالله ، وأما الذي يغفر فذنب بينه وبين الله عز وجل وأما الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا».

فالذي قد يشاء الله أن يغفر هو الذنب الذي بينه وبين الله إلا الإشراك

__________________

ـ زنى وإن سرق؟ قال : «وإن زنى وإن سرق على رغم انف أبي ذر» أقول : يعني مصيره إلى الجنة لا انه يدخلها بغير حساب وإلا لبطل التحذير والعقاب.

وفيه عن أبي ذر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «ان الله يقول يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فاني غافر لك على ما كان فيك ويا عبدي لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة» أقول «مغفرة» تعني تخفيفا عن عقوباته فإن الإيمان بالله مكفر لأنه من أكبر الحسنات ، وفيه عن أبي ذر سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : «ما من عبد لا يعدل بالله شيئا ثم كانت عليه من الذنوب مثل الرمال إلا غفر له» وفيه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» أقول ومن طريق أصحابنا في توحيد الصدوق أحاديث متظافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من قال لا إله إلا الله أحسن أو أساء دخل الجنة .. أقول : ولا تعني هذه الأحاديث إلا عدم التسوية بين الموحد والمشرك لا التسوية بين المحسن والمسيء (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) لا في أصل الإيمان والفسق عنه ولا في عمل الإيمان والفسق عنه.

١٠٢

بالله بكل دركاته ، والذي لا يشاء هو الذي لا يترك ، اللهم إلا أن يرضي الله المظلوم بما يقدمه الظالم من قربات إلى الله.

إذا فالمشيئة الإلهية في الغفران تشمل غير الإشراك مهما اختلفت الدرجات في الغفران والدركات في العصيان.

أترى الإشراك بالله يعنى ـ فقط ـ عبادة من دون الله ألوهية؟ وأما الموحد المشرك بالله في تشريع او تكوين أماذا من اختصاصات الربوبية فهو ممن يرجى غفرانه!.

إن للتوحيد درجات كما للإشراك دركات ، وقد لا يعنى من الإشراك القاطع للغفران عن بكرته كلّ دركاته حتى النازلة مثل الرئاء ، فإنما هي الجلية كأن تسوي بالله سواه في أيّ من شؤون الألوهية والربوبية أو الحرمة حيث الكل ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨) مهما كانت هذه التسويات ايضا دركات.

وقد تعني (لِمَنْ يَشاءُ) في احتمال الغفران من خفت تسويته أمّن ذا من موارد مشيئته ومواضع ارادته.

ولكن (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) دون المشرك ، تعميم لعدم الغفران من المشرك رسميا إلى من يشرك بالله سواه في أيّ من شؤون الربوبية وان لم يحسب في عداد المشركين الرسميين ، فيشمل المرائين إلا القاصرين في رئائهم.

ذلك ، ولكن عدم الغفر بالنسبة لمن يشرك بالله في كل دركاته لا يعني أبد الخلود له في النار تسوية له مع حملة الضلالة الشركية المخلدة في أبد النار.

فلكل إشراك بالله عذابه الموعود قدره ولا يظلمون نقيرا ، دون أن يسوى بين من يشرك بالله على مختلف دركاتهم ، كما لا يسوى بين سائر الكافرين ، ولا بين المؤمنين بدرجاتهم ، قضية العدل في الثواب والعقاب.

١٠٣

فالموحد المرائي ، أو الذي سوى بين الله وخلق له في شأن من شؤون الربوبية ولا سيما إذا كان عن جهالة ، إنه قد لا يغفر له إشراكه هذا ، ولكنه قد تغفر له سائر سيئاته إذا لم تحبط حسناته بإشراكه ، إذ لا يحبط كل إشراك بالله حسنات صاحبه ، فانما هو ـ كأصل ـ عبادة الطواغيت والأوثان.

ففرق كبير بين من يشرك بالله وأن يشرك به ، فعدم الغفر بالنسبة للمشرك يعم كل حالاته وأعماله ، و (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) تختص بالعمل الذي يشرك فيه بالله دون سائر أعماله التي لا يشرك فيها بالله.

وترى الإلحاد في الله نكرانا طليقا كما يزعمه الماديون والدهريون ، تراه دون الإشراك بالله أو فوقه أو مثله؟.

إنه ليس دونه إن لم يكن فوقه ، أم هو مثله أو قسم منه حيث القائل بأصالة المادة يراها خالقة للخلق وهو إشراك في أصل الألوهية نكرانا للإله الأصل.

فكما أن العابد للوثن تارك لعبادة الله رغم إقراره بألوهيته ، كذلك العابد للمادة المؤله لها تارك لعبادة الله مع إنكاره لألوهيته ، بل وهو أضل منه سبيلا ، فانه انحس دركات الإشراك بالله.

وإذا كان الإشراك بالله تخلفا عن الفطرة والعقلية على أية حال ، فنكران وجود الله تخلف مثله أم هو أضل سبيلا.

وحصيلة المعني من الآية أن مادة الإشراك بالله عن علم لا يشملها غفر الله ، فمن مات يشرك بالله لا يغفر في شركه مهما لم يكن من المخلدين أبدا في النار ، وقد يغفر له غير اشراكه بالله ان لم تحبط أعماله بذلك الإشراك كالنازلة من دركاته.

١٠٤

ومن مات لا يشرك بالله شيئا قد يغفر له سائر سيئاته بميزان العدل والفضل من الله ، وقد لا تغفر فيستحق أبدا النار دون خروج منها إلى الجنة كرؤوس الضلالة من الموحدين أو أهل الكتاب.

فلا تعني هذه الآية أن المشرك بالله أيا كان إشراكه هو مخلد في النار أبدا ، فإنما لا يغفر ان يشرك به فيذوق وبال امره فيه قدره أبدا أم دونه.

ولا أن غير المشرك بالله يغفر له كل سيئاته مهما كان كفرا ، وإنما يجوز له الغفران كما يشاء الله.

فلا تعني ـ إذا ـ التسوية بين قبيلي الإيمان والكفر دون الإشراك ، ولا بين مختلف دركات الإشراك ودونه من الكفر ، حيث التسوية بين مختلفي الاستحقاق ظالمة على أية حال (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

إذا فالإشراك بالله لا يغفر بصورة طليقة تعم كافة دركاته دونما استثناء ، ثم المظالم بالنسبة لخلق الله لا تغفر لأنه ظلم بحق الخلق ، اللهم إلّا أن يغفره المظلوم في نفسه ، أم يحمّله الله على غفره بما يبدل له من حسنة.

ثم المظلمات الأخرى هي أهون غفرا مما سواها ، و (يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) تشمل الآخرين.

فقد يغفر السكر والزنا ولكن الإشراك لن يغفر ، لأنه مسامحة عن حق الربوبية وهو ظلم لا ينجبر ، وسائر الظلم قد تنجبر.

وترى حين لا يغفر المشرك الوثني بالله ، فهل بالإمكان غفر من هم أحرص الناس على حياة منهم كما اليهود : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٢ : ٩٦)؟.

١٠٥

إن في كونهم أحرص منهم على حياة دلالة على اعتقادهم في حياة الحساب ، فهم يستأجلونها كيلا يستعجل لهم العذاب!.

وليس وعد النار بأيد الخلود فيها إلّا على المشركين الرسميين : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢) ثم يتلوهم سائر المنحرفين عن توحيد الله كما في آية تتلوهم : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٧٣).

ومن ثم المرائين حيث زجّهم الله في صف المشركين : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١١٠).

فمهما شملت (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ثالوث الإشراك بالله ، ولكن أقانيمه تختلف في دركاتها ، فهي مختلفة في عقوباتها مهما اشتركت في سلبية غفرها.

فالإشراك المحبط لكافة الحسنات (١) هو الموعود عليه أبد النار إضافة إلى

__________________

(١) كما «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (٦ : ٨٨) «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» (٥ : ٥) و «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١١ : ١٦).

«وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢ : ٢١٧) «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ في الكفر ... حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (٥ : ٥٣) و (٩ : ٦٩) (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧ : ١٤٧) (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (٩ : ١٧) (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ـ

١٠٦

حتمية عدم الغفر ، وإشراك الرئاء لا يحبط إلّا العمل المرائى فيه فلا خلود فيه بمجرده في النار مهما لم يغفر نفس الرئاء ، والإشراك العوان بينهما لا يغفر ويعذب صاحبه دركا بدركه ولكنه ليس ليستحق به خلود الأبد في النار مهما حبطت منه صالحات قلت او كثرت.

ذلك ، وقد تعم نوازل الإشراك بالله كالرئاء وما دونها (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦).

ولو أنك فتشت الأكثرية المطلقة من قلوب الموحدين وجدتها مشركة حين ترى لمن سوي الله تأثيرا في الكون ، فليست آيات التنديد بالإشراك لتعنيهم كلهم ، اللهم إلّا المشركين الرسميين ، ثم المتوسطين ومن ثم ـ وفي آخر المجالات ـ المرائين.

فالموحد حين يوحد الله على حد قوله (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (٣٤ : ٢٢) فقد حقت له رحمة الله ، ومن سواه مشرك بالله مهما اختلفت دركاته كما اختلفت درجات الموحدين.

والإشراك في التشريع كما الإشراك في التكوين : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢ : ٢١) ويتلوهما الإشراك في الطاعة كما

__________________

ـ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» (١٨ : ١٠٥) (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣٩ : ٦٥) (أولئك لم يؤمنوا فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٩) (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٢٨) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٣٢).

فلا يحبط كل الأعمال إلا الإشراك بالله والنفاق والتكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة وعدم الإيمان وهو عبارة أخرى عن الشرك والارتداد عن الايمان وكراهة رضوان الله والكفر والصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول وارادة الدنيا فقط.

١٠٧

العبادة : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٦ : ١٢١).

إذا ف (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) شرط كونه افتراء فإثما عظيما وهو العلم والعمد ، هذا فقط غير مغفور ، ثم إن كان إشراكا يحبط سائر الأعمال فلا غفر إطلاقا ، وإلا فلكل عمل حاله من قابلية الغفر وعدمها.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) والإثم ما يبطئ عن الخير فعظيمه البطاء عن كل خير وهو هنا خير الرباط الصالح بالله في توحيده ، فكلما كان البعد عن الله أكثر أبطأ عن الخير أكثر ، حيث التوحيد هو منبع كل خير رباني مهما اختلفت درجاته ، فحين انقطاع الصلة التوحيدية عن الله يصبح الوصول عن الخير بطيئا حتى انقطاعه بأسره فيصبح المشرك بالله شرا كله وضرا كله.

ومن أفضل الخير المقطوع عن الإشراك بالله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ابدا مهما (يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) حسب الشروط والمؤهلات المسرودة في القرآن.

فالمستمسك بالولاية التوحيدية الربانية ترجى له مغفرة مهما ترك سائر الولايات المفروضة على الموحدين ، حيث الأصل هو ولاية الله ، وليست سائر الولايات الربانية إلّا موصلة دلاليا إلى ولاية الله ، وغاية الأمر في ترك ولايتهم ضلال التارك عما يجب عليه من واجبات وجاه الله ، وترك الواجبات هذه وإن أوجب العذاب ولكنه قد يقبل الغفران ، أم تقليل العذاب مادة أو مدة.

ثم (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) تعم النشآت الثلاث مهما كان سلب الغفران يختص بغير الأولى ، كما وتعم الغفر عن كل ما دون ذلك او عن

١٠٨

بعضها ، وتعم كامل الغفر عما يغفر أم بعضه تخفيفا عن العذاب المستحق الموعود.

وترى الموحد الذي يفسد كما المشرك أم هو أصل سبيلا هل هو داخل في حقل إمكانية الغفر؟ كلّا حيث إن سبب سلب الغفر باتا عن الإشراك بالله هو افتراء الإثم العظيم ، فكلما حصل الإثم العظيم لموحد أو مشرك أم ولمسلّم فالحكم نفس الحكم مهما كان المذكور (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لأنه الأصل الأكثري المطلق المطبق في افتراء الإثم العظيم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ

١٠٩

إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ٤٩.

تزكية النفس حين تعنيها عقيديا أو عمليا فهي محبورة مشكورة وإن كان الله هو الذي يوفق المتزكين للتزكية ف (مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٣٥ : ١٨) و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (٨٧ : ١٤) (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (٩٢ : ١٨).

وحين تعنيها فاضية عن واقع التزكية فمحظورة كما في آيتنا و (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٥٣ : ٣٢) (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ)

١١٠

(٢٤ : ٢١) تزكية في الأولى توفيقا لها وتعريفا بها ، وأخرى في الأخرى غفرا للذنوب وقبولا للشفاعة أمّاهيه من تزكيات أخروية ، فقد (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢ : ١٧٤) كهؤلاء المفترين على الله الكذب ، وقد يزكي كالصالحين من عباده تطهيرا لهم عما اعترضتهم من اللمم أو سيئات كما في آيات.

فمن زكّى نفسه فزكّاها الله توفيقا لها ، ثم زكاها إنباء أنه مزكّى فمحبور مشكور.

ومن لم يزك نفسه أم لم يعنه الله في تزكيته نفسه ـ فقلبه وعمله فارغان عن الزكاة ـ ثم ادعاها لنفسه ومن نفسه فمحظور.

ومن زكى نفسه بتوفيق الله ولما يتزك كما يرام أم تزكى ثم زكى نفسه كأنه هو الذي زكاها فهو كاذب في دعواه رغم زكاته (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ).

فليس الله ليظلم من لم يزكه واقعيا أم إنباء ، ولا من زكاه دون ما يرام ثم لم ينبئ إذ (لا يُظْلَمُونَ) المزكون وسواهم واقعا وادعاء (فَتِيلاً) حيث التزكية الربانية سلبيا وإيجابيا لا يعتريها أي ظلم ، فإنما يحتاج الى الظلم الضعيف.

والتزكية في قول فصل محظورة قوليا فارغا عن الواقع ، أو عمليا حين ترائي الناس فيما تعمله من الراجحات (١) وهكذا «يخشى الرسول (صلّى الله

__________________

(١) في معاني الأخبار للصدوق بإسناده إلى جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : قول الناس صليت البارحة وصمت أمس ونحو هذا ثم قال : إن قوما كانوا يصبحون فيقولون : صلينا البارحة وصمنا أمس فقال علي (ع) لكني أنام الليل والنهار ولم أجد بينهما شيئا.

وفي الإحتجاج للطبرسي عن علي (ع) ولولا ما نهى الله عن تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تسمعها آذان السامعين.

١١١

عليه وآله وسلّم) على أمته أن تزكي أنفسها» (١) ف «لا يزكى على الله أحد» (٢) إلّا من زكاه الله قدر ما زكاه.

وأما التزكية الحقيقية المصدّقة من الله فقد تجب أمام الناكرين لحق واجب التصديق كالرسالة والإمامة وما دونهما من مقامات روحية واجبة الإتباع على من دونهم وكما زكى يوسف نفسه (٣) وكذلك سائر المقربين كأفضلهم خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٤).

__________________

(١). حم ٤ : ١٧١.

(٢). في أدب ٥٤.

(٣) في تفسير العياشي قال أبو سفيان لأبي عبد الله (ع) ما يجوز أن يزكي المرء نفسه؟ قال : نعم إذا اضطر إليه أما سمعت قول يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وقول العبد الصالح (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) وحين يقول المنافقون للرسول (ص) : اعدل في القسمة يقول : والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض.

(٤) الإحتجاج للطبرسي عن معمر بن راشد قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : أتى يهودي إلى رسول الله (ص) فقام بين يديه يحد النظر إليه فقال : يا يهودي ما حاجتك؟ فقال : أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كان كلمه الله عز وجل وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظله بالغمام؟ فقال له النبي (ص) انه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول ان آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أنه قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد (ص) لما غفرت لي فغفر الله له وأن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما نجيتني من الغرق فنجاه الله عز وجل ، وأن إبراهيم (ع) لما ألقي في النار قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما انجيتني منها فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأن موسى لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفته قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني قال الله عز وجل (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا ولا نفعته النبوة ، يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته فيقدمه ويصلي خلفه. أقول : راجع الفرقان ٢٧ : ٤٤٧ ـ ٤٥٠.

١١٢

وإذا كانت التزكية الصادقة محظورة إلّا عند الضرورة ـ وكما يزكي الله عبده ـ فكيف تكون حال التزكية الكاذبة أو المبالغة أو المرائية؟.

ذلك (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) تزكيته ، توفيقا لزكاته كما يسعى لها وتصديقا لها بوحي منه تعالى وكما زكى أولياءه المقربين السابقين ومن نحى منحاهم كلّا على حدّه وصالحه.

ولقد نزلت هذه الآية تنديدة شديدة بهؤلاء الذين يزكون أنفسهم من هود أو نصارى وأضرابهم ، فقد حصروا الجنة في أنفسهم لأنهم أبناء الله وأوداءه! وسائر الناس كأنهم أغارب عن الله وأعداءه ، متجاهلين كافة القيم والموازين لزكاة الأنفس إلا ادّعاءات جوفاء عنصريات التصور ، وكأن الله منعزل الى بعض العناصر من خلقه دون آخرين! (١).

وهم أولاد الأنكاد لم يكونوا يزكون أنفسهم من عند أنفسهم فقط ، بل وكانوا يفترون تزكيتهم على الله أنه هو الذي زكاهم وفضلهم على من سواهم :

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) ٥٠.

وترى ماذا تعني افتراء الكذب على الله وكل افتراء هو في نفسه كذب؟ إنه افتراء ما يعلمون كذبه على الله ، فقد يفترى أمر على الله دونما علم بصدقه أو كذبه فهو افتراء كذب وليس افتراء الكذب إذ لا يعلم كذبه ، وهؤلاء يزكون

__________________

(١). (ومن تزكياتهم لأنفسهم) ما رواه في الدر المنثور ٢ : ١٧٠ عن ابن عباس قال : إن اليهود قالوا ان أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله وسيشفعون ويزكوننا فقال الله لمحمد (ص) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) الآية» وفيه عنه قال : كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب وكذبوا قال الله إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ثم أنزل هذه الآية.

١١٣

أنفسهم افتراء على الله أنه زكاهم وهم يعلمون كذبه (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) يبين كذبهم في ادعاءاتهم ودعاياتهم.

فالإثم هو المبطئ عن الخير ، فحين يزكي الإنسان نفسه في الأولى والأخرى ، فذلك يبطئه عن كل خير ، إذ يرى نفسه في غنى عن تكلف الخيرات ، إذ ليس التجنب عن الطالحات والسعي في الصالحات إلّا للحصول على الزكاة في الحياة ، فحين يزكي الإنسان نفسه فيراها مزكاة من كل الجهات فلا يرى لنفسه حاجة الى تكلف الصالحات ، كقسم من أهل الباطن ـ على حد قولهم ـ المدّعين الوصول الى اليقين ، تاركين لما يوصل الى اليقين سنادا الى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)!.

فعلى المؤمن بالله أن يرى نفسه دائما في قصور وتقصير ، ولكي يحاول دائبا في الحصول على زكاة جديدة وكما الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) حيث يعني استزادة الإيمان بالله ، ويخاطب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ـ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١٥ : ٩٩) فإذا لا حد نهائيا لليقين فلا حد لعبادة الرب الموصلة الى اليقين ، ولذلك نراه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يدأب في عبادة ربه مستزيدا لاستزادة اليقين وهو الآن في البرزخ ومن ثم يوم القيامة دون نهاية دائب في عبادة ربه تخضعا لديه وحصولا على معرفة زائدة ليستزيد بها العبادة كما يستزيد المعرفة بالعبادة ، فرقدان يتجاوبان على طول الحياة الأبدية المحمدية في المعرفة والعبودية.

أجل والمتقون «لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي اللهم لا تؤاخذني بما

١١٤

يقولون واجعلني أفضل مما يظنون وأغفر لي ما لا يعلمون» (١).

فيا لتزكية النفس من إثم مبين ، يجمّد صاحبها عن كل حراك حيوي صالح ، ويورده في كل طالح ، حين يرى نفسه مبراة من كل القذارات والعقوبات والمسؤوليات.

وما شأن هؤلاء اليهود المزكين أنفسهم إلا شأن من يحسبون أنفسهم مسلمين فلا بد وأن الله ناصرهم ومخرج لهم اليهود من أرضهم ، بينما هم منسلخون عن حبل من الله وحبل من الناس ، واليهود مستمسكون بحبل من الناس ، فهم متغلبون ـ على قلتهم عليهم على كثرتهم.

فلئن يعجب من عجب هؤلاء اليهود في تزكيتهم أنفسهم فأمر الأكثرية الساحقة من المسلمين أعجب ، حيث يكتفون بالجنسية الإسلامية وهم عن واقعها براء وفي عراء.

ذلك! وقد تذهب تزكية النفس الجهلاء بالمزكي الى أضل بلاء أن يرى المشرك أفضل من المسلّم نفيا له عن صالح الإيمان أنفى من طالح الكفر المطلق!.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) ٥١.

أولئك «الذين لهم نصيب من الكتاب» دون كل الكتاب ، ينفون الإيمان عمن أوتوا كل الكتاب ، وليس فقط سلب الإيمان وإثبات الضلال عليهم بل (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مشركين (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) وهم أولاء المتقولون قولتهم الكافرة (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)!.

__________________

(١). نهج البلاغة من كلام للإمام علي أمير المؤمنين (ع) يصف فيه المتقين «لا يرضون ..».

١١٥

ف «الجبت» هو الوثن غير ذي عقل ولا شعور و «الطاغوت» هو العاقل المعبود من دون الله ، طاغيا على الله وعلى خلق الله ، فإيمان هؤلاء الكتابيين بالجبت هو تقريبهم أنفسهم الى الأوثان تبعيدا لأصول الموحدين المؤمنين ، وإيمانهم بالطاغوت طاعتهم العمياء لأحبارهم ورهبانهم من دون الله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩ : ٣١).

هؤلاء الأوغاد الأنكاد يفضلون المشركين على المؤمنين كما يفضلون طاعة أحبارهم ورهبانهم على طاعة الله!.

فقد نرى حي بن أخطبهم وكعب بن أشرفهم يحالفان المشركين على قتال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١) ونرى كعبهم يسجد لصنمين من أصنام المشركين مجاراة لهم ليصدقوه في عزم الحرب معهم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٧١ ـ أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : قدم حي بن أخطب وكعب بن أشرف مكة على قريش فخالفوهم على قتال رسول الله (ص) فقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب فأخبرونا عنا وعن محمد قالوا : وما أنتم وما محمد؟ قالوا ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العتاة ونسقي الحجيج ونصل الأرحام ، قالوا فما محمد؟ قالوا : صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج وبنو غفار ، قالوا : لا بل أنتم خير منهم وأهدى سبيلا فأنزل الله هذه الآية.

(٢) المصدر أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي (ص) وأمرهم أن يغزوه وقال : أنا معكم نقاتله فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد .. قال : بل أنتم خير وأهدى فنزلت هذه الآية.

١١٦

ذلك! وفي تفضيل عبدة الجبت والطاغوت على المؤمنين إيمان بالجبت والطاغوت وكفر بالإيمان.

ويلاهم من بغضاءهم الجنوني كيف سمحوا لأنفسهم أن يتجاهلوا المشاركة الكتابية بينهم وبين المؤمنين فدخلوا في حصون المشركين تعاهدا كافرا أكفر من المشركين في قتال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فكيف بمن يدعون أنهم أبناء الله وأحباءه يتعاونون مع المشركين به وأعداءه على المؤمنين به وأحباءه ، وذلك أنحس من الإشراك به وأنجس!.

أجل ، فإنهم ذووا أطماع توسيعه غير متناهية لحد ، وذووا أحقاد غير زائلة بلا أمد ، فحين لا يجدون عند الحق وأهله لهم عونا فلينعزلوا الى أهل الباطل أمثالهم ، ثم ليشهدوا للباطل ضد الحق بأية وسيلة فإن الغاية عندهم تبرر الوسيلة!.

إنها جبلة لعينة وخطة لئيمة مستمرة معهم على مدار حياتهم الجهنمية ، فلذلك يخصهم الله باللعنة مرة تلو الأخرى لأنهم باللعنة عليهم من غيرهم أحرى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) ٥٢.

لقد خاطب الله الأمة المسلمة أن يروا بكل عجاب هؤلاء اليهود الذين يفضلون المشركين عليهم ، أفلا يشمل ذلك التنديد الشديد واللعنة الوبيلة بعض الطوائف الإسلامية القائلة إن اليهود خير من طائفة أخرى مسلمة كما سمعناهم هكذا يقولون (١).

__________________

(١) لقد حصل ذلك في هجرتي إلى الله من شر الطاغوت الشاه عليه لعنة الله ، لما هاجرت إلى المدينة المنورة وإلى مكة المكرمة حيث أقمت فيها سنتين ، فواجهت فيمن واجهتهم عميد الجامعة ـ

١١٧

ذلك ، ويا للهول من الحسد العارم أن يجرّ بصاحبه الى تلكم المجرات السحيقة الكافرة ، حسدا على ما آتى الله من فضله أمة أخرى ، كأن لهم نصيبا من الملك :

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ٥٣.

فالملك روحيا وزمنيا لله يؤتيه من يشاء ويعزله عمن يشاء (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣ : ٢٦).

ويكأن لهم نصيبا من الملك وجاه ملك الله ، أم تخويلا من الله ، فهم يقتسمون الملك لمن يشاءون : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

__________________

ـ الإسلامية بالمدينة المنورة فسألني من أي المذاهب أنت ، قلت المذهب الإسلامي ، قال : أسألك عن مذهبك وتجيبني عن دينك؟ قلت : لم يأت رسول الإسلام بمذاهب وإنما أتى بدين واحد هو الإسلام ، قال : أقول : لك أنت من أي المذاهب الإسلامية الموجودة ، سني أم شيعي؟ قلت : أنا مسلّم سني أستن بسنة رسول الله (ص) وشيعي أشايع رسول الله (ص) قال : أظنك تتقي في مذهبك ، قلت : كيف أتقي عميد الجامعة الإسلامية في مذهب إسلامي هو أصل الإسلام وأنا فيه ، قال : أظنك رافضيا شيعيا وهم شر من اليهود ، فتلوت عليه هذه الآية وقلت : إذا فأنت شر منهما حيث تفضل اليهود على طائفة إسلامية تشارككم في أصول الإسلام وفروعه مهما اختلفت الآراء حول بعض الفروع ، كما ويختلف المجتهدون في كل مذهب مع بعضهم البعض في بعض الفروع.

هذا ، وذلك من المبكي المخزي أن يتجرأ مسلّم على تفضيل الكافر على مسلم لأنه لا يوافقه في مذهبه الفقهي الخاص!.

وكما سمعت بعض الشيعة في لبنان يفضلون الإسرائيليين على الفلسطينيين المسلمين لخلافات بينهم سياسية أو مذهبية!

١١٨

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ٥٤.

هؤلاء اليهود النسناس (يَحْسُدُونَ النَّاسَ) رسولا وأئمة ومسلمين (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو الرسالة والشرعة القرآنية المهيمنة على سائر الشرائع والرسل.

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) من إسحاق ومن إسماعيل ، فالأنبياء الإسرائيليون كلهم من يعقوب بن إسحاق بمن فيهم من وليي العزم موسى والمسيح بن مريم (عليهم السّلام) ، ثم النبوة الإسماعيلية هي بين إسماعيل نفسه وحفيده الوحيد في حقل النبوة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١)

آتيناهم أولاء الأكارم (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) توراة وانجيلا ، وقرآنا يهيمن

__________________

(١) عن الإمام الحسن المجتبى حين سئل بمحضر والده أمير المؤمنين عليهما السّلام : من هم الناس؟ إنه قال : نحن الناس وشيعتنا أشباه الناس وسائر الناس نسناس.

ويروى عن الإمام الباقر (ع) في هذه الآية قوله «نحن الناس» رواه من أعلام السنة ـ إضافة إلى المستفيض عن أصحابنا الإمامية ـ ابن المغازلي الشافعي في المناقب كما في كفاية الخصام ص ٣٦٧ روى بسنده عن الإمام الباقر (ع) في الآية قال : نحن الذين يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله ، والسيد أبو بكر العلوي الخضرمي في رشفة الصادي ص ٣٧ ، وابن حجر الهيثمي الملكي في الصواعق ص ١٥٠ ، والسيد سليمان القندوزي في ينابيع المودة ص ١٢١ ، أخرج ابن المغازلي عن جابر الجعفي عن محمد الباقر رضى الله عنه في هذه الآية قال : نحن الناس المحسودون ، وأخرج ابن المغازلي من أبي صالح عن ابن عباس قال : هذه الآيات نزلت في النبي (ص) وفي علي رضي الله عنه.

ومن طريق إخواننا روى جماعة من الأعلام أن الائمة من أهل البيت عليهم السّلام هم المعنيون من الناس.

أقول : وهذا من التفسير بالمصداق المختلف فيه فإن رأس الزاوية في الناس هنا هو الرسول (ص).

١١٩

عليهما وعلى كل كتابات الوحي ، و «الحكمة» هنا تعم حكمة الكتاب إعلانا وإسرارا ، وحكمة تفهّم الكتاب وتطبيقه بعصمة الوحي أمّا دونه.

(وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ما أعظمه في الرسالة الإسلامية السامية في القيادات الروحية ، وكذلك الزمنية كما في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه حين أسس دولة الإسلام في المدينة المنورة ، ومن ثم في شطر من إمامة علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) ثم القيادة العالمية بكل حقولها زمن صاحب الأمر القائم المهدي من آل محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

فكيف يحسد اليهود على ما آتى الله الناس المحمديين من فضله من بعد ما آتاهم من فضله وقد تلمح (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) تلمح لاختصاص آل إبراهيم بمحمد وأهليه المعصومين ، حين يراد بآل عمران موسى بن عمران ومريم بنت عمران ، أم هم أبرز المصاديق من آل إبراهيم وكما اختصهم في دعاءه عند بناء البيت بذكره : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) فهذه الأمة المسلمة هي من إبراهيم من إسماعيل دون إسحاق ، ولا تعني «آل إبراهيم» بني إسحاق فحسب ـ إن لم تعن فقط بني إسماعيل ـ حيث التنديد بحسدهم يرجع تقريرا له لمكان اختصاص الفضل ـ إذا ـ ببني إسحاق وهم لا يحسدون أنفسهم على ما آتاهم الله من فضله ، إذا فهم الأمة المتميزة المسلمة المخصوصة بدعاء إبراهيم (عليه السّلام).

__________________

ـ وممن أخرجه ابن المغازلي في المناقب كما في كفاية الخصام ٣٦٧ روي بسنده عن الإمام الباقر (ع) والسيد أبو بكر العلوي الخضرمي في رشفة الصادي ٣٦ وابن حجر الهيثمي في الصواعق ١٥٠ والسيد سليمان القندوزي في ينابيع المودة ١٢١ ، وأخرج ابن المغازلي من أبي صالح عن ابن عباس قال : هذه الآية نزلت في النبي (ص) وفي علي (ع) ، وأخرج عن جابر الجعفي عن محمد الباقر (ع) في هذه الآية قال : نحن الناس المحسودون.

١٢٠