الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في نكران الإيمان بأي معنى كان ممن ألقى إليكم السّلام ، ولا يختص ذلك الابتغاء البغي محظورة هذه القولة بنفسه ، فإنما هو أنحس دركات الباعث لهذه القولة ، ومنها كأخفها عدم الاطمئنان بصدقه ، وحتى إن كان عالم ذلك الكذب ولكنه يعامل بما يقول كما قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنما كان يعبر بلسانه»! ثم وحين تبتغون عرض الحياة الدنيا (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) في الأولى والأخرى ، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

ومن ثم (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : كذلك البعيد البعيد الذي أنتم عاملون الآن ابتغاء الحياة الدنيا في جاهليتكم القريبة الغريبة من تسرّع ورعونة في الغنيمة (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) ابتغاء رضوان الله في حرب وسواها.

و «كذلك» الذي تجدونه ممن ألقى إليكم السّلام (كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ـ ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أن تقبّل منكم هذا الإسلام الخاوي عن الإيمان ، بل وإسلام النفاق حيث أجرى فيه بمظاهر الإسلام ظواهر أحكام الإسلام.

و (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تخفون إسلامكم عمن تعاشرونهم من الكفار طيلة العهد المكي (١) ، فلعل الذي ألقى إليكم السّلام كان مسلما من ذي قبل

__________________

ـ محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ بعيره ومتاعه فلما قدمنا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ..) وفيه عن أبي حدرد الأسلمي نحوه بزيادة : فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أقتلته بعد ما قال آمنت بالله؟ فنزل القرآن.

(١) الدر المنثور عن ابن عباس قال بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال : أشهد أن لا إله إلا ـ

٢٦١

__________________

ـ الله فأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله والله لأذكرّن ذلك للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلما قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالوا يا رسول الله ان رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال : أدعوا لي المقداد فقال يا مقداد أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله فكيف لك بلا إله إلا الله غدا فأنزل الله هذه الآية الى قوله : كذلك كنتم من قبل قال فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمقداد : كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الرجل يتكلم بالإسلام ويؤمن بالله والرسول ويكون في قومه فإذا جاءت سرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبر بها حيّه يعني قومه وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم فيلقي إليهم السّلام فيقولون : لست مؤمنا وقد ألقى السّلام فيقتلونه فقال الله تعالى : «... يعني تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجدتم معه وذلك عرض الحياة الدنيا فإن عندي مغانم كثيرة والتمسوا من فضل الله ... وفيه أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن عقبة بن مالك الليثي قال بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سرية فغارت على قوم فأتبعه رجل من السرية شاهرا فقال الشاذ من القوم إني مسلّم فلم ينظر فيما قال فضربه فقتله فنمى الحديث الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال فيه قولا شديدا فبلغ القاتل فبينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخطب إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل فأعرض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم قال أيضا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما قال الذي قال الا تعوذا من القتل فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم لم يصبر فقال الثالثة والله يا رسول الله ما قال الذي قال الا تعوذا من القتل فأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعرف المساءة في وجهه فقال : إن الله أبى علي لمن قتل مؤمنا ثلاث مرار.

وفيه أخرج الشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن المقداد بن الأسود قال قلت يا رسول الله ا رأيت إن اختلفت أنا ورجل من المشركين بضربتين فقطع يدي فلما علوته بالسيف قال لا إله إلا الله ، أضربه أم أدعه؟ قال بل دعه ، قلت : قطع يدي ، قال : إن ضربته بعد أن قالها فهو مثلك قبل أن تقتله وأنت مثله قبل أن يقولها ، وفيه أخرج الطبراني عن جندب البجلي قال إني لعند رسول الله (صلّى الله عليه وآله ـ

٢٦٢

يكتم إيمانه ـ كما كنتم ـ فلما واجهكم في الحرب ألقى إليكم السّلام.

و (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) إسلامكم ، انكم كنتم تلقون السّلام على عدوكم حين تسالمونه ، فيقبل منكم كما تقبلون منه دونما تكذيب (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) باستمرارية هذه السنة الطاهرة بتكملة إسلامية.

«كذلك» في هذه الزوايا الأربع (كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) إقرارا واستمرارا لصالح الغابر ، وتصفية للحاضر ، إذا :

«فتبينوا» ـ (فِي سَبِيلِ اللهِ) ثم امضوا حيث تؤمرون دونما تسرّع واستعجال ، (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) : سواء ما تعملون من قبل ، أم حاليا وفيما بعد ، فعليكم إخلاص الطويات والنيات لله وفي سبيل الله.

فلقد كان الدرس الحاضر تكملة للدرس الغابر : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) فمهما لم يكن القاتل خطأ محظورا خارجا عن أصل الإيمان ، ولكنه خارج عن كماله ، حيث إن صالح الإيمان لزامه التبين في كل ضرب من ضروب الحركات الإيمانية ، خارجة عن إفراط المفرّطين وتفريط المفرطين ، جامعة بين الشعار الإسلامي وشعوره ، فلا شعار ما لم يكن شعور ،

__________________

ـ وسلّم) حين جاء بشير من سريته فأخبره بالنصر الذي نصر الله سريته وبفتح الله الذي فتح لهم قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بينا نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى إذ لحقت رجلا بالسيف فلما خشي أن السيف واقعه وهو يسعى ويقول إني مسلّم إني مسلّم قال فقتلته؟ فقال يا رسول الله إنما تعوذ فقال : فهلا شققت عن قلبه فنظرت أصادق هو أم كاذب فقال : لو شققت عن قلبه ما كان علمي هل قلبه الا مضغة من لحم قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لا ما في قلبه تعلم ولا لسانه صدقت قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استغفر لي ، قال : لا أستغفر لك فمات ذلك الرجل فدفنوه فأصبح على وجه الأرض ثم دفنوه فأصبح على وجه الأرض ثلاث مرات فلما رأوا ذلك استحيوا وخزوا مما لقي فاحتملوه فألقوه في شعب من تلك الشعاب.

٢٦٣

ولا شعور تاما ما لم يكن شعار ، بل هو أمر بين أمرين ، ووسط بين الجانبين ، تبيّنا صالحا سليما عن عرض الحياة الدنيا ، وغرضها ومرضها.

أجل «فتبينوا» بصالحة الطرق الشرعية في كل سلب وإيجاب ، دونما اعتماد على احتمال أو ظن ، بل ولا على علم أجرد من سائر التبين.

ذلك وكما (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..) (٤٩ : ٦) فتبيّن الحق هو الأصل الأصيل في شرعة القرآن في كل شارد ووارد ، وقد ضمن الله لنا كل إراءة آفاقية وأنفسية حتى يتبين لنا الحق (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤١ : ٥٣).

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ٩٥.

نرى في هذه الحلقة التربوية مواجهة خاصة لحالة خاصة في الحقل الإسلامي ، يعالجها القرآن بتوجيه وجيه وتشويق وتشديق ، وكما ورد في أسباب النزول ، ولكن النص ليس ليختص بزمن دون زمن كما هو الدأب الدائب في القرآن كله فإنه طليق من قيود الزمن الخاص ومن ملابسات البيئة الخاصة ، لأنه هدى للعالمين أجمعين طول الزمان وعرض المكان.

فكما أنه لا يستوي الضارب في سبيل الله ، المتبين وغير المتبين ، كذلك (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ).

وهنا (الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) طليقة بالنسبة لكل جهاد في أية سبيل

٢٦٤

من سبل الله ، فكما «بأنفسهم» تعني التضحية بالنفس في سبيل الله ، كذلك هيه بكل محاولة نفسية ثقافية أو عقيدية أماهيه ، بألسنة أو أقلام من هؤلاء الكرام ، وهنا نفهم المعني من «مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء» فإن مدادهم هو الذي يمد شرعة الله في أنفسهم حتى يضحوا في سبيل الله ، فلولا مدادهم هكذا ومددهم لم يكن هنالك معنى صالح لدماء الشهداء.

ولنأخذ هنا مثالا كأبرزه ، ماثلا بين أيدينا طول القرون الإسلامية ، هو القتال في سبيل الله والمؤمنون في ذلك الحقل ضروب عدة.

منهم المجاهد في سبيل الله بنفسه وماله وأولئك هم المفضلون بصورة طليقة.

ومنهم المخطئون في هذه السبل ، جهادا بمال دون نفس أو بنفس دون مال ، أو جهادا بهما وخطأ في قتل المحارب الذي ألقى السّلام إسلاما أو سلما ، أم خطأ في كل من الجهادين بنفس أو بمال.

ومنهم القاعدون ، وهم بين معذور وهو ناو للجهاد بكامله ، وغير معذور لا يضر بقعوده صف المجاهدين ، أم هو مضر.

وهنا اللااستواء بين غير أولي الضرر والمجاهدين ، لا يعني الإستواء بينهم وبين أولي الضرر ، لا سيما وأن الضرر يعني مع العذر نفس الضرر ، أن يضر بقعوده صف الجهاد.

فقد يكون القاعد عن الجهاد معذورا عن قصور ولا يضر بقعوده صف الجهاد فهنا اللّاإستواء (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) وبأحرى غير المعذور ولا المضر المنطبق عليه تماما : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بمعنييه.

وأما إذا كان من أولى الضرر بالجهاد وهو غير معذور ، أم هو معذور عن

٢٦٥

تقصير ، فغير موعود بالحسنى حتى يدخل في حقل اللّايستوي.

فللمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم درجة على المجاهدين بأحدهما ، ولهؤلاء درجة على المعذورين القاصرين الذين لا يضرون بقعودهم ، ولهم درجة عليهم إن كانوا مقصرين في عذرهم ، ولهم درجة على غير المعذورين الذين يضرون بقعودهم كشخص واحد ، ولهم كذلك درجة على القاعدين الذين يقعدون غيرهم كما يقعدون وهم غير معذورين.

فكلما كانت الطاقة المستطاعة مبذولة في سبيل الله كانت الدرجة أعلى ، وإن كان قد يسوى بين المعذور القاصر غير المضر الذي يتحسر على عذره وقصوره حيث يؤتى أجره بنية ما نواه بفضل الله.

وقد نزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بشأن من دونهم وهم غير المعذورين الذين لا يضرون بقعودهم حيث تخرجهم عن الإستواء شرط عدم الضرر ، إذ تعنى «الضرر» كلا العفو والضرر ، فإن عناية خصوص العذر تقتضي «أولي العذر» فالمعذورون خارجون عن اللّااستواء.

إذا فالقعود عن الجهاد بعذر لا يسقط عن القاعد ثواب الجهاد في سبيل الله ، ف «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ولكنه قد لا يجعله مع المجاهد على حد سواء.

و (أُولِي الضَّرَرِ) صنفان اثنان ، ضرر يعذر القاعد وهو المرض وما أشبه ، ثم ضرر بقعوده عن الجهاد حيث يضر الصف الإسلامي ، وبينهما غير ضرر ولا إضرار بقعوده ، وهؤلاء الثلاث لا يستوون والمجاهدين في سبيل الله ، كما لا يستون هم بين أنفسهم (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٠٣ ـ أخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه ـ

٢٦٦

ـ من طريق مقسم عن ابن عباس أنه قال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) عن بدر والخارجون الى بدر ، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم إنا أعميان يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهل لنا رخصة فنزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ..) فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه على القاعدين غير أولي الضرر.

وفيه عن الفلتان بن عاصم قال : كنا عند النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل عليه ـ وكان إذا أنزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله ـ قال : فكنا نعرف ذلك منه فقال للكاتب أكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله فقام الأعمى فقال : يا رسول الله ما ذنبنا فأنزل الله فقلنا للأعمى انه ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخاف ان يكون ينزل عليه شيء في أمره فبقي قائما يقول : أعوذ بغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال للكتاب أكتب : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

وفيه أخرج ابن ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس (لا يَسْتَوِي ..) فسمع بذلك عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى فأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله قد أنزل الله ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد فهل لي من رخصة عند الله أن قعدت فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما أمرت في شأنك بشيء وما أدري هل يكون ذلك ولأصحابك من رخصة فقال ابن أم مكتوم : اللهم إني أنشدك بصري فأنزل الله (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

وفي نور الثقلين ١ : ٥٣٥ في المجمع أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية من بني واقف تخلفوا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم تبوك وعذر الله أولي الضرر وهو عبد الله بن مكتوم ، رواه أبو حمزة الثمالي في تفسيره. وفيه عن عوالي اللئالي روى زيد بن ثابت أنه لم يكن في آية نفي المساوات بين المجاهدين والقاعدين استثنى غير أولي الضرر فجاء ابن أم مكتوم وكان أعمى وهو يبكي فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيف لمن لا يستطيع الجهاد؟ فغشيته ثانية ثم أسرى عنه فقال : اقرأ (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر الى ملحقها عند صدع في الكنف.

وفي تفسير الفخر الرازي ١١ : ٨ قال عليه الصلاة والسّلام : إذا مرض العبد قال الله عز وجل ـ

٢٦٧

ذلك ولكن (كُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) تخرج القاعدين أولي الإضرار بقعودهم ، أم بإقعادهم من سواهم فإنهم متخلفون عن مسئوليتهم فكيف وعدهم الله الحسنى ، كما وأن «الضرر» دون «الإضرار» قد يختصه بالعذر العاذر ، أن لم يقعده عن الجهاد في سبيل الله بنفسه إلّا قد يختصه بالعذر العاذر ، أن لم يقعده عن الجهاد في سبيل الله بنفسه إلّا العذر النفسي من عمى أو مرض أو هرم ، ولا بماله إلّا العذر المالي ، إذا ف (أُولِي الضَّرَرِ) هم ألوا الأعذار.

ومن القاعدين أولي الضرر هم الذين ظلوا في مكة بعد الهجرة مستضعفين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، ومن غير أولي الضرر ، غير المعذورين عن تلك الهجرة المجاهدة احتفاظا على أموالهم إذ لم يكن المشركون يسمحون لهم أن يحملوا معهم شيئا ، أم توفيرا لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر ومحاظر إذ لم يكونوا يتركونهم يهاجرون وكثيرا ما كانوا يؤذونهم أو يحبسون ، فهم ـ إذا ـ قعدوا عن الهجرة حافظين على إيمانهم مستسرين عن المشركين ، حتى إذا وجدوا مجالات للتخلص عنهم كما في حروب ، فكانوا يدخلون معهم ثم إذا وصلوا إلى المؤمنين يسلّمون ويظهرون إيمانهم.

فقعود أولي الضرر : العذر ، لا محظور فيه أبدا ، وقعود غير أولي الضرر فيما لا يجب النهوض فرضا على الأعيان غير محظور ولا محبور ، ثم قعود أولي الضرر والإضرار محظور محظور ، والقادر على إزالة العذر ليس معذورا في أيّ من الواجبات على المستطيعين.

ثم «الضرر» تعم كافة الأعذار الشرعية نفسية ومالية وحالية ، فليس

__________________

ـ «أكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة الى أن يبرأ» وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم أولئك حبسهم الضرر».

٢٦٨

فرض الجهاد على كافة المؤمنين القادرين ، وإنما قدر الواجب فيه أم والراجح ، ف (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٩ : ١٢٢).

ولو أن «الضرر» لم تشمل عذر التفقة في الدين لغير النافرين ، فالتفقه جهاد كما القتال جهاد ، وهنا انقسام في واجب الجهاد بين النفر للقتال والبقاء للتفقه ، ولكلّ أهله.

وفي كل جهاد في سبيل الله مجاهدون وقاعدون أولوا الضرر والعذر وهما سواء ، وقاعدون غير أولي الضرر فلا سواء وإن كان (كُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ثم قاعدون أولوا الإضرار خارجين عن الحسنى وان ليس للإنسان إلا ما سعى».

ذلك وللمتطوعين في سبيل الله السابقين إليها درجة على القاعدين غير المفروض نفرهم ، فإن للسابق إلى تحقيق الأمر الكفائي سابق الفضل والرحمة ، فلكل سعي ومحاولة في سبيل الله قدر المستطاع عملية أم في النية والطوية ، لكلّ درجة.

ولأن عدم المساوات بين المجاهدين والقاعدين قد يوحي بحرمانهم ـ على إيمانهم ـ من أجر ، لذلك يدركهم النص : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) فما تفضيل المجاهدين عليهم بدرجة مما يحرمهم عن حسناهم الموعودة قدر إيمانهم.

فللإيمان وزنه وقيمته على أية حال ، مع تفاضل أهله حسب الدرجات عقيديا وعمليا ، نهوضا بقضايا الإيمان وتكاليفه.

وهنا نعرف تماما أن القاعدين ليسوا هم من المنافقين ، بل هم من المؤمنين غير السابقين الى الجهاد بفرضه الكفائي ، والقرآن يستحثّهم تلافيا لذلك

٢٦٩

التقصير غير المحظور ، وتلاقيا مع المجاهدين السابقين في صفوف السباق فيكونوا معهم من الرفاق.

وقد يقتسم المؤمنون وجاه أي جهاد في سبيل الله الى قسمين إثنين كما في الآية ثم فيهم انقسامات.

فالمجاهدون في سبيل الله بين من يجاهد بنفسه دون ماله أو بماله دون نفسه أم يجاهد بنفسه وبماله فهم ثلاث.

ثم القاعدون الذين لا يجاهدون بنفس ولا بمال هم بين معذورين ، عن تقصير أو عن قصور ، وغيرهم ، ثم هم بين مضر بقعوده وغير مضر.

فالقاعد المعذور القاصر الذي لا يضر بقعوده جبهات الحرب أو يضر ، معذور ، والمعذور المقصر وغير المعذور المضر ، غير معذور ، وغير المعذور وهو لا يضر بقعوده هو معذور.

وهنا «لا يستوي» هو بين (الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بمعنييه ، فإن غير المعذور عن الجهاد المضر بقعوده غير موعود بالحسنى ، و (كُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) يخرج (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) غير المعذورين المضرين بقعودهم عن الجهاد.

(فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) وهم ـ بطبيعة الحال ـ (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) منهم بمعنييه فالقاعد عن الجهاد دون عذر ولا ضرر لا يستوي مع المجاهد ، فللمجاهد عليه درجة بجهاده ، ومهما لم يترك القاعد واجبه فقد ترك الراجح في حقل الجهاد.

وقد تعني «درجة» جنسها الشامل لعديدها لمكان تنوين التنكير اللّامح الى عظم «درجة».

٢٧٠

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) لمكان الإيمان ونية الجهاد ، ولكن السابق إليه بفرضه الكفائي حسناه أحسن من حسنى القاعد غير السابق إليه.

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) تفسيرا ل «درجة» أنها ليست قليلة صغيرة ، بل هي عظيمة ، وهنا تتجاوب «درجة» مع (أَجْراً عَظِيماً) عظما في عدّة وعدّة ، وقد بين في :

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ٩٦.

فقد عنت «درجة» (أَجْراً عَظِيماً) ثم عنت وإياها مثلث (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) و «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» (١).

أم تعني «درجات» لكلّ من القاعدين والمجاهدين فإن كلا درجات ، وتفضيل المجاهدين ـ ككل ـ على القاعدين ـ ككل ـ هو بفضل الجهاد درجة ، ولكن مع الوصف (لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٣ : ١٦٣) (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦ : ٨٣).

أفليس المجاهد في سبيل الله بنفسه دون ماله ، والمجاهد بماله دون نفسه ، والمجاهد بماله ونفسه ، ثم كلّ حسب درجات عمله ونيته ، أليس هؤلاء درجات.

__________________

(١) في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : .. ، وعن الأعمش عن عمرو ابن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من رمى بسهم فله درجة فقال رجل : يا رسول الله وما الدرجة؟ فقال : إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام.

٢٧١

أو ليس القاعدون أولوا الضرر وغير أولي الضرر ، ثم كلّ حسب نيته وطويته ، درجات ، إذا فتفضيل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بدرجة ، لا يعارض (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) فإنها تشمل درجة التقابل بينهما ودرجات كلّ بين قبيله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن يستحقه «رحيما» من يأهلها ، ما لم يكن الغفر والرحمة خلاف العدل.

ثم الجهاد في قول فصل ليس ملابسة طارئة من ملابسات الفترة المدنية ، لا سيما وأنه لا يختص بالقتال ، فالمؤمن حياته جهاد في كل قضايا الإيمان الحركية.

أجل ، وإنه ضرورة تصاحب ركب هذه الدعوة السامية على مدار الزمن الرسالي ، وليس كما توهمه بعض أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات فكان لا بد له من حفظ التوازن من قوة قاهرة يهاب منها ، كيف وقد أمر بقتال الكفار المشاغبين إزالة لكل فتنة : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (٨ : ٣٩) (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (٣ : ١٢٧).

فالحياة الإسلامية حياة جهادية سلبا للفتن وإيجابا لصالح الحكم العالمي المحلّق على كل المكلفين ، وليس كما يتقوله بعض النسناس أن الإسلام دين السيف الشاهر التوسّعي ، إنما هو سيف للحفاظ على النواميس ، وتثبيت المتاريس دفاعا عنها وإصلاحا للناس.

فالجهاد ـ إذا ـ فطرة وجبلّة إسلامية وليست ملابسة وقتية ومصلحية طارئة ، فلقد كان يعلم الله أنه أمر يكرهه الطغاة البغات ، أصحاب الشهوات والسلطات الجهنمية.

ويعلم أن الشر متبجح لا يدع الخير ليوجد أو ينمو ، فالخير بمجرد نشوءه

٢٧٢

خطر على الشر فضلا عن نموه ، فلا بد للخير من قوة دفاعية على طول الخط ليحافظ على نفسه وعلى أنفس المستضعفين وليكون الدين كله لله.

ولا بد أن يكون للخير أسلحة مكافحة في كافة الحقول النضالية ثقافية وعقيدية وخلقية وسياسية واقتصادية وحربية : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٨ : ٦٠).

ذلك فضل الجهاد في سبيل الله ويلحقه القعود عن عذر دون إضرار بصف المجاهدين وأما القاعدون أولوا الأضرار ، المتخلفون عن ركب الجهاد دونما أعذار ف :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) ٩٧.

إن المستضعف في الأرض في أيّ من حقوله ولا سيما العقيدي والعملي ، ليس معذورا في استضعافه بشرف هذه الكلمة البراقة ما دامت حجة الحق له بالغة أم هي بمتناوله ، فإنما يوزن بأبعاد استضعافه وأسبابه.

فالمستضعف في دينه ، الذي بإمكانه ترك بلد الاستضعاف الى غيره حفاظا على إيمانه ، أو الذي بإمكانه الاستقامة على إيمانه استعانة فيه بطاقات ذاتية وغيرها ، إنه لا يعذر بتقصيره حيث ظلم نفسه بقعوده وتخاذله أمام المستكبرين ، وليس هو من القاعدين أولي الضرر حتى يسوى بالمجاهدين ، ولا غير أولي الضرر ولا الإضرار حتى تشمله الحسنى ، بل هو من القاعدين أولي الإضرار بأنفسهم وبالمجاهدين.

و «المستضعف» لغويا هو من طلب ضعيفا أو وجد ضعيفا ، وهذه شيمة

٢٧٣

المستكبرين انهم يرون من سواهم ضعفاء أمامهم فيستضعفونهم طلبا للضغط عليهم وحملهم على ما يريدون.

ثم المستضعفون هم ثلاث فرق ، فرقة أقوياء صامدون في إيمانهم وليست لهم عدّة وعدّة في حساب المستكبرين ، فلا يؤثر فيهم عامل الاستكبار وعملائه ، بل ويزادون أمامهم صمودا في إيمانهم ، وهم الرعيل الأعلى من أهل الله من المقربين والسابقين وأصحاب اليمين ، وقد تعنيهم : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ..).

فهم أولاء أقوياء وليسوا ضعفاء حتى يرجعوا أغوياء ، فإنما طلب ضعفهم من قبل المستكبرين ، إذ ليس عندهم عدّة ولا عدة من مظاهر القوة.

وتقابلهم تماما فرقة أخرى هم الضعفاء في ايمانهم تحصيلا أو حاصلا تقصيرا في مبادئه وتطبيقاته ، فيستضعفهم المستكبرون أن يجدوهم ضعفاء ، فيجدوا فيهم آمالهم المضللة ضغطا عليهم في ضلالات عقيدية وعملية أماهيه وهم المعنيون به (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ..).

وثالثة هم عوان بينهما ، تعنيهم (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ..) فإنهم ضعفاء عن قصور مطلق أم خليط منه ، ومن تقصير في إبقاءهم في جوّ الاستكبار (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) ولا سيما الآخرين منهم ، حيث الأولون «الولدان» الذين يعيشون قصورا طليقا لا حول عنه ليسوا من المذنبين ، فالعفو عنهم عفوي ، خلاف العفو الأول فإنه رحمة زائدة في عساه وواقعه.

ف «ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه»(١)إنما هو الذي أسلم نفاقا (٢) أو وفاقا ولمّا يدخل الإيمان في قلبه بأسره

__________________

(١) نهج البلاغة عن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السّلام).

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٠٦ عن ابن زيد في الآية قال لما بعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وظهر ـ

٢٧٤

أم بصورة مطمئنة له ، فقد يستضعف لضعف إيمانه ، وعليه الهجرة بدينه حفاظا عليه إلّا ألا يجد حيلة ولا يهتدي سبيلا.

وقد يروى عن الصادق (عليه السّلام) قوله سنادا الى هذه الآية «بعد أن أمر بالكلام بما ينفع ولا يضر فإن لم تجد السبيل إليه فالانقلاب والسفر من بلد الى بلد وطرح النفس في بوادي التلف بسير صاف وقلب خاشع وبدن صابر قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ..) (١).

وقد نزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ..) فيمن تخلفوا عن مهجر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأكثروا سواد المشركين على رسول الله فقتلوا في الحرب (٢) مما يؤكد أن المقام في مقام الكفر الذي يضعف ساعد الإيمان

__________________

ـ ونبع الإيمان نبع النفاق معه فأتى الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجال فقالوا يا رسول الله : لولا انا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله ، فكانوا يقولون ذلك فلما كان يوم بدر قام المشركون فقالوا : لا يتخلف عنا احد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معهم فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة ، فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ..) ثم عذر الله أهل الصدق فقال : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ..).

(١) مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السّلام).

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٠٥ عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله هذه الآية وفيه عنه قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم وقتل بعض فقال المسلمون قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية قال : فكتب الى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه ـ

٢٧٥

ويقوي ساعد الكفر مما لا يساعده الإيمان ولا يسامح عنه ، فحكمه حكم الكفر ، وكما تجب محاربة المسلمين الذين تترس بهم الكفار وهم بإمكانهم الهجرة عنهم.

وترى المتخلفين عن الهجرة المكثرين سواد المشركين على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولمّا يتوفوا ، إنهم لا توبة لهم؟ النص يفرض لهم جهنم المأوى وسوء المصير إذا توفوا بحالتهم البئيسة :

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فالذين يتوفون وهم تائبون ليسوا من أصحاب الجحيم ، وهكذا يعالج القرآن نفوسا بشرية طائشة ، هادفا الى استجاشة عناصر خيّرة تتحرى الحق وهم جاهلوه ، مطاردا عوامل التناقل عن الهدى.

ومشهد الاحتضار مما ترتجف له النفس ، احتفازا لتصور ما فيه وما يحويه والملائكة يتوفونها وهي ظالمة.

والتوفي هو الأخذ وافيا ، دون أن يتفلت منهم روح ولا جسم ردا على تقوّل القائل : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠) وترى «توفاهم» ماضية تختص بمن توفاهم من ذي قبل؟ ولا يختص ذلك التوفي بزمن دون زمن!.

«توفاهم» هي مخففة عن «تتوفاهم» ولو كانت ماضية لكان الأفصح

__________________

ـ الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) .. فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فأخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.

٢٧٦

«توفتهم» كما (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦ : ٦١) ، (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ..) (٤٧ : ٢٧).

ثم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...) (١٦ : ٢٨) و (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (١٦ : ٣٢) قرينة صالحة هي الأخرى ترجح مضارعة الصيغة ، حيث تعني تداوم المصاغ له ، وهو ذلك التوفي على مدار الزمن.

و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) تعم كل ظلم حيث الظلم بالغير يعود الى نفس الظالم بتبعته ، فهم هنا أعم ممن ترك المهاجرة فظل ضالا بالاستضعاف ، أم وأضل من سواه ف (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (٧ : ٤٥).

ومن لطائف اللمحات في (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أنها تخرج التائبين حال التوفي إذا كانوا صادقين ، فليس التائب عن ذنبه أيا كان وأيان من (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حيث التوبة فرض وخلافها ظلم على ظلم.

ولو قال «ظالمي غيرهم» لم يشمل إلّا الظالم غيره حال توفيه ، ولكنه يعم كل ظالم نفسه حال توفيه وهو غير التائب ، حيث التوبة رحمة واجبة على نفس الظالم أيا كان ، إذا ـ فصالح التعبير هو (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) كما هنا دون «الظالمين» أو «ظالمي غيرهم» حيث القصد عدم حالة التوبة الصالحة حال التوفي.

ففي اللحظة الأخيرة من حياة التكليف ولات حين مناص وقد فات يوم خلاص ، والملائكة يتوفونهم ظالمي أنفسهم باستجواب حاسم قاصم (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) وأنتم ظالمون لا تفيقون عن الغفوة ولا تستيقظون عن الغفلة ، (فِيمَ كُنْتُمْ) من مكان ومكانة ومكنة لإصلاح أنفسكم وقد كنتم تعلمون أن أمامكم

٢٧٧

عقبة كئودة لا بد من الورود عليها.

ذلك وقد كانوا في ميوعة وضياع ، يخيّل إليهم أنهم كانوا يحسنون صنعا أو يعذرون حيث هم مستضعفون.

(قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) وجدونا ضعفاء لا أنصار لنا يناصرونا ، فتحكّموا علينا بضعفنا إذ لم نكن نملك من أمرنا شيئا ، فاضطرونا لإكثار سوادهم بنا على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يحررونا لكي نلتحق بسائر المسلمين ، فنحن إذا معذورون.

وهنا نتأكد أن «فيم» تشمل المكانة الى المكان والحالة الروحية والعملية ، حيث (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) تشملها.

(قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ..) وقد كان لكم أن تهاجروا دار الظالمين المستكبرين فلم تفعلوا ، واثاقلتم الى الأرض تقديما لأموالكم ومصالحكم الوطنية ، وابتعادا عن مضاعفات الهجرة الى الله وملابساتها.

و «فيها» هنا دون «منها» إذ لا معنى للمهاجرة من (أَرْضُ اللهِ) ككلّ ، لسكنة الأرض ، إذا فنطاق المهاجرة إنما هو «فيها» : بضمنها ، وقضيتها لكل ساكن في كنف من أكنافها مضطهدا في إيمانه ، أن يهاجر منها الى كنف آخر لا اضطهاد فيه أو يقل ، إذا فليست المهاجرة إلّا ضمن (أَرْضُ اللهِ) من هنا الى هناك.

أجل ، فقد سلمتم أنفسكم تحت أنيار الاستضعاف وكانت لكم فسحة الهجرة الى سائر أرض الله الواسعة حتى توفاكم الملائكة ظالمي أنفسكم (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) وهل ترى إن تلك المحادثة الاستجواب هي قبل

٢٧٨

الموت بلحظة؟ والملائكة لا تكلم المكلف في حياة التكليف ولا سيما الظالم نفسه! ثم (فِيمَ كُنْتُمْ) تنحّي كينونة التكليف الماضي ، إذا فهي منذ لحظة اللّاتكليف ، كما «كنا» تؤيدها ، ولو أنهما كانت في أخريات لحظات حياة التكليف لكانت التوبة واردة لمن يتوب توبة واقعية كما في قسم من آيات التوبة.

إذا فتلك المحادثة هي بعد توفيهم مما يدل على الحياة البرزخية ، وتلك هي من مساءلات القبر يعني بعد الموت ، لا ـ فقط ـ القبر التراب.

فقد تبدء المسائلة منذ اللحظة الأولى بعد الموت ، دون تأجيل لها الى مواراته في القبر ، فقد يغرق المكلف أو يحرق أو لا يدفن فليس له قبر ، أو ليس له سؤال القبر!.

هنا (أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) وكما في ثانية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) (٣٩ : ١٠) وثالثة : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٢٩ : ٥٦).

هذه الثلاث تؤكد لنا سعة أرض الله لتقوى الله فرارا عن طغواه ، فليهاجر المؤمن المستضعف فرارا بإيمانه وقرارا لإيقانه.

فالمستضعف المقصر غير معذور على أية حال فلا يعذر بلغة الاستضعاف بحال كما (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٣٢) (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٤ : ٣٣).

ذلك هو المستضعف المقصر وقد يعبر عنه القرآن بالضعيف في نفسه حتى

٢٧٩

تمكن المستكبر من استضعافه : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٠ : ٤٨) ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (١٤ : ٢١).

فالمستضعف الضعيف في نفسه مقصرا هو المحكوم عليه بما قصر ، دون القاصر مهما كان له تقصير مّا أم لم يكن له تقصير :

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) ٩٨.

فالمكلفون من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا للمهاجرة عن دار المستكبرين ، هم ليسوا من الموعودين بالعذاب.

وعلّ الاستثناء هنا منقطع حيث الماضون (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) ولم يكونوا في الحق مستضعفين ، بل كانوا ضعفاء في أنفسهم مقصرين في ضعفهم.

أم هو متصل حيث المستضعف بين مقصّر في استضعافه وقاصر ، فالأولون هم المقصرون والآخرون قاصرون.

ثم (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) هما متوافقان في عذر القصور ، ومتفارقان في أن «حيلة» هي العملية السرية للفرار عن دار المستكبرين ، فإنها من أصل الحيلولة بين أمرين وغلب استعمالها في الحيلولة الخفية.

فهم لا يستطيعون حيلة للحيلولة بينهم وبين أنفسهم ، فرارا الى أرض

٢٨٠