الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٨ : ٥).

ذلك ، والقتال ـ كآخر الدواء الكيّ في سبيل سلب الظلم وإيجاب العدل هو قتال في سبيل الله ، تحقيقا للسلب والإيجاب في كلمة التوحيد ، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفر والسفلى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (٣ : ١٢٧).

إذا فكل قرية فيها مؤمنون مستضعفون تحت وطأة الظلم الفاتك الحالك ، هي مشمولة ل (هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) دون اختصاص بمكة المكرمة ، وعلى سائر المؤمنين قتال أهلها ما استطاعوا تخليصا للمستضعفين ، حكما صارما لا حول عنه على مدار الزمن الرسالي حتى يأتي دور صاحب الأمر الذي به تملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) ٧٦.

لأن القتال في سبيل الله هي سبيل الإيمان ، والقتال في سبيل الطاغوت هي سبيل الشيطان ، إذا (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) وهم المقاتلون في سبيل الطاغوت ، إمحاء للطغيان بعوامله.

وكيف نقاتل أولياء الشيطان ولهم كثير العدة والعدّة ، نقاتل ل (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ) منذ كوّن وإلى يوم الدين «ضعيفا» إذ لا حجة له إلّا دامغة ، وحجة الإيمان هي البالغة.

ثم وأولياء الشيطان يحاربون ما تضمن حياتهم بزهراتها وزهواتها ، وأنتم لا تربّصون في قتالكم إلّا إحدى الحسنيين ، ومهما كانت للباطل جولة فإن للحق دولة لهؤلاء الصامدين في وجوه الطغاة البغات.

١٨١

وترى كيف يكون كيد الشيطان ضعيفا وهو رأس الزاوية في كل ضلالة ، ثم النساء المتأرجفات بتلمذة الشيطان (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (١٢ : ٢٨)؟.

إن العظم لكيدهن ليس إلّا في تعبير «العزيز» الحضيض ، والضعف في كيد الشيطان هو عبارة الرحمن العزيز ، ثم إن عظمه ليس إلا نسبة الى سائر الكيد من الناس دون كيد الكائد الأصيل ، ومن ثم قد يجتمع الضعيف والعظيم ، فمهما كان كيد الشيطان عظيما فليس قويا بل هو ضعيف أمام الحجج البالغة الربانية (١).

فكيد الشيطان هو في نفسه ضعيف أمام حجج الرحمان ، مهما كان قويا وجاه من أتبع هواه وكان أمره فرطا.

أترى المقاتل في سبيل الله كأصل ، ولكن بخالجة الرياء أو خارجة الأهواء ، أو الغيرة والعصبية قومية أو عنصرية أو إقليمية أماهيه؟ تراه مقاتلا في سبيل الطاغوت؟ فليقاتل كما يقاتل أولياء الشيطان ، أم هو مقاتل في سبيل الله؟ و (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)!.

إنه عوان بينهما ، لا خالصا في سبيل الله ، ولا مالصا عنها في سبيل الطاغوت ، فهو لا يؤجر على قتاله ولا يقاتل بها ، بل ينصح لتكون نيته خالصة غير مالصة.

وقد تجمع (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا الى خلّص الإيمان مزيجه ما لم يكن إيمانا بالطاغوت ، ف (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) قد تشمل كل مؤمن مقاتل مهما خالجته

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٧ في أصول الكافي عن أبي ليلى قال سمعت أبا جعفر (عليهما السّلام) يقول : إذا سمعتم العلم فاستعملوه ولتتسع قلوبكم فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه فإذا خاصمكم الشيطان فأقبلوا عليه بما تعرفون فإن كيد الشيطان كان ضعيفا ، فقلت : وما الذي نعرفه؟ قال : خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل.

١٨٢

الرئاء وسواها من خالجة خارجة عن قمة الإيمان الخالص.

ولو اختصت مواصفة الإيمان بالمخلصين فقط خرج عن الدور الأكثرية الساحقة من المؤمنين إذ (ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) في الطاعة لا في العبودية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ٧٧.

لقد كانت جماعة مؤمنة في العهد المكي قائلة : «يا نبي الله كنا في عزّ ونحن مشركون فلمّا آمنا صرنا أذلة؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوّله الله الى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ ...) (١).

و «أيديكم» هنا تعم كافة القوات المدافعة ، ألسنة (٢) أم أسلحة أخرى يدافع بها ، اللهم إلّا في إصلاح بحكمة وموعظة حسنة.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨٤ عن ابن عباس إن عبد الرحمن بن عوف وأصحابه أتوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا : وفيه عن قتادة في الآية قال : كان ناس من أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم يومئذ بمكة قبل الهجرة يسارعون الى القتال فقالوا للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين وذكر لنا ان عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك فنهاهم نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك قال : لم أومر بذلك فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتال كره القوم ذلك وصنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى : قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا.

(٢) نور الثقلين ١ : ٥١٨ عن أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية قال : يعني : «كفوا ألسنتكم» أقول : وهذا تفسير بالمصداق الخفي الخفيف.

١٨٣

فكما أن على الأيدي أن تبسط عند المكنة والمصلحة ، كذلك عليها أن تكف في معاكسة الأمر (١) فسنة التقية جارية في ظروفها إيجابية وسلبية حفاظا على الأهم من قضايا الإيمان.

واللوم هنا موجه الى كل هؤلاء الذين يهمون ببسط أيديهم على الظالمين دون عدّة لهم ولا عدّة مكافئة ، ثم إذا حصلتا لهم وأمروا ببسط أيديهم كفوا أيديهم ، معاكسين كلا من الكف والبسط خلاف الصالح لكيانهم وخلاف شرعة الله (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) بعد ما كتب عليهم كف الأيدي (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لا كلهم فإن منهم مؤمنين واقعيين (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) النسناس المعتدين عليهم (كَخَشْيَةِ اللهِ) الذي (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) وهي منتهى الخشية (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) من الله ، ويا ويلاه! ويكأن هؤلاء الناس هم أشد بأسا من الله وتنكيلا.

وإن أشد الناس حماسا واندفاعا وتهوّرا في غير وقته وواقعه ، قد يكونون هم أشدهم جزعا وانهيارا وهزيمة في وقت الحماس الجادّ وواقعه ، وهم ممن قال

__________________

(١) المصدر ٥١٨ في روضة الكافي عن الفضيل عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : يا فضيل أما ترضون أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكوة وتكفوا ألسنتكم وتدخلوا الجنة ثم قرء (أَلَمْ تَرَ ..) أنتم والله أهل هذه الآية.

وفيه عن محمد بن مسلّم عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : والله للذي صنعه الحسن بن علي (عليهما السّلام) كان خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والله لقد نزلت هذه الآية (أَلَمْ تَرَ ..) إنما هي طاعة الإمام وطلبوا القتال (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) مع الحسين (عليه السّلام) (قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) نجيب دعوتك ونتبع الرسل ، أرادوا تأخير ذلك الى القائم (عليه السّلام)

وفيه في تفسير العياشي الحلبي عن الباقر (عليه السّلام) (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) قال : نزلت في الحسن بن علي (عليهما السّلام) أمره الله بالكف (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) نزلت في الحسين بن علي (عليهما السّلام) كتب الله عليه وعلى أهل الأرض أن يقاتلوا معه.

١٨٤

عنهم عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) «إذا كنتم في المجالس تقولون كيت وكيت وإذا جاء الجهاد فحيدي حياد»! ولا فحسب تلك الخشية المقلوبة المغلوبة بل «وقالوا» ربنا لم كتبت علينا القتال» كأنهم يوبخون الرب على تلك الكتابة الصالحة ، ويكأنهم أعرف بمصالحهم من الله! (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وقد أخرهم منذ العهد المكي الى أجل بعيد.

و «أخرتنا» قد تعني تأخير تلك الكتابة ، وتأخير أجل الموت الحاصل بتحقيقها ، وتأخير أجل الموت دون قتل الى المقدر لهم من الأجل وهو قريب مهما تأجّل.

وتأخير القتال الى زمن الدولة الأخيرة فإن كل آت قريب ، والثاني ملمّح له ب (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ومن ثم الثلاثة الأخرى ، فليست محاولة تأخير الأجل بالتخلي عن واجب القتال بالذي يحوّل الأجل المحتوم ، ثم الأجل المعلق بتحقيق أمر الله هو خير أجل بخير عمل والآجال كلها بيد الله ، فهي متجاوبة مع ما كتب الله فيوافق التكوين التشريع ، ومحاولة تأخير الأجل بترك ما فرض الله ظنا أن فيه الأجل ، إنها محاولة المعارضة لأمر الله ، وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

وحين لا يستطيع الإنسان أن يكف عن نفسه الآجال المعلقة بغير حوله وقوته ، فليرجح الأجل المعلق بتحقيق أمر الله ، قضية الإيمان بالله والتسليم لأمر الله ، بحول الله وقوة الله.

فإذا قدّر الموت بأجل محتوم أو معلق لوقت مّا فبأحرى أن يأتي حين تأتي بأمر الله ، لا عاصيا لله ، وإذا لم يقدر الأجل أيا كان في ذلك الوقت فلما ذا التأخّر عن القتال فيه؟.

(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) مهما طالت (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الله (وَلا

١٨٥

تُظْلَمُونَ) في الأولى والأخرى «فتيلا» فلا يأتيكم أجلكم بالقتال ظلما ، بل هو عدل محتوما ومعلقا.

فلئن علم المؤمن قتله في سبيل تحقيق أمر الله فنعمّا هو ، فضلا عما لا يعلم ، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.

والتنديد هنا ـ كما فيما مضى ويأتي ـ موجه الى مثلّث المنافقين وضعفاء الإيمان والذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، فالآخرون يقولون قولتهم على بساطة وجهالة ، والأولون بحيلة ومماكرة ، والأوسطون بقلة إيمان.

وقد تكون طبيعة الحال للمؤمن البدائي في الظروف الصعبة الملتوية المكية المعرقلة على صف الإيمان ، قد تكون تكوّن فيه ظاهرة الدفاع عن حق الإيمان المرضوض في حرم الله ، فهنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ولم ينج إلّا من رحمه الله ، وهم الفريق الآخر الذين قاتلوا لما أمروا بالقتال مهما كان منهم السباق الى القتال في العهد المكي وقد نهوا عنه.

ومن الحكم الحكيمة ـ اللّائحة لنا في كف الأيدي في الفترة المكية التي كانت لاذعة لا تطاق ، ولا سيما بالنسبة لهؤلاء الذين عاشوا حياتهم الهجمات البدائية فضلا عن الدفاعية ـ فمنها ما يلي :

١ إن الفترة المكية كانت هي رأس الزاوية التربوية الإيمانية ، إعدادا لطائل المصابرات والمثابرات أمام الخطرات والحرمانات ، تربية على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة ، تجردا عن الإنيات والعصبيات وضبطا للأعصاب في كل الأعتاب ، فلا تندفع وتهتاج لأول ظاهر من مظاهر الهياج والاندفاع ، وليتم الاعتدال في الطبيعة الإيمانية ، تربّيا على اتباع القيادة السليمة في كل خالجة وخارجة مهما كانت مناحرة للمألوف عنده والمعروف لديه.

١٨٦

٢ ذلك ولكي يعاكس الإسلام الحالة الجاهلية الدموية حتى عند الدفاع فضلا عن الهجوم ، فلا يتحول من مبدء دعوة صالحة الى ثارات وغارات تنسي معها مبدأ الدعوة الإسلامية السليمة.

٣ ومن ثم لو أذن ببسط الأيدي في العهد المكي لكان سببا لانتشاء معارك بيتية ، لاختلاف واختلاط الفريقين في جلّ البيوت ثم يقال : هذا هو الإسلام ، ولقد قيلت والإسلام أمر بالكف فكيف إذا أمر بالبسط ، ومن دعايات قريش في الموسم في أوساط القادمين للزيارة ، أن محمدا يفرّق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته ، فكيف إذا أمر ببسط الأيدي منازعة وقتالا بين الأهلين.

٤ ذلك ـ وكما في قوم نوح (عليه السّلام) ـ كان من يعلم الله من قسم من المعاندين أنهم أنفسهم سوف ينقلبون مؤمنين واقعيين ومن جنود الإسلام المخلصين.

٥ ثم النخوة العربية من عادتها أن تثور للمظلوم المحتمل للأذى دون مراجعة ، ولا سيما الأذى بحق كرام الناس الذين كانت لهم سوابق سوابغ ، فقد يغربل كف الأيدي عن الانتقام هؤلاء فتنتج تلك الغربلة مناصرين لهؤلاء المظلومين ينحازون الى جانبهم وقد يؤمنون كما آمنت منهم جماعات ، ومن مظاهرها نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.

٦ ومن وراء كل ذلك قلة عدد المسلمين وعددهم حينذاك وانحصارهم في مكة قبل أن تبلغ الدعوة بالغ الجزيرة ، ففي مثل هذه الظروف الملتوية المعرقلة على المجموعة المؤمنة المكتوفة الأيدي ، ترى ماذا كانت الحالة لو بسطت أيديها؟ في الحق إنها كانت بسطا لانمحاء الجماعة المؤمنة عن بكرتها ، إخفاقا لنائرتها

١٨٧

وحنقا لها قبل أن تتنفس ، ومحقا لجذورها ببذورها قبل أن تتنفّش.

ولقد عنى كف الأيدي حينذاك سلبا وإيجابا يتبنّيان كلمة التوحيد ، سلبا لاستلابهم بأسرهم وهم في بادئ أمرهم ، وإيجابا لما هم عليه من صامد الإيمان وتداومه ، وليعبّدوا طريقا سالكة الى تأسيس دولة الإسلام بعد الهجرة الهاجرة. (١) (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ٧٨ ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ٧٩.

(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣ : ١٤٩).

إنه لا يقدر الإنسان ـ أيا كان ـ أن يفر من الموت كأصل ، أما الأجل المحتوم فلا فرار عنه إطلاقا ، وأما الأجل المعلق على المعلوم أو المحتمل فعليه أن يفر منه حفاظا على أصل الأجل ، وأما المعلق على أمر الله تكوينا أو تشريعا أن شرع القتال وعلق الأجل عليها ، فكيف الفرار؟ (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٩ في تفسير العياشي عن إدريس مولى لعبد الله بن جعفر عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في تفسير هذه الآية (أَلَمْ تَرَ ... لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الى خروج القائم (عليه السّلام) فإن معه النصر والظفر قال الله (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى).

(٢) وقد يوجه ذهاب الإمام علي (عليه السّلام) الى المسجد يوم قتل على علمه بقتله أنه كان يعلم موته في نفس الوقت بمحتوم الأجل أو معلقه فكيف يفر عن الموت المحتوم ، فقد كان أحرى به ألا يترك جماعة الصلاة حتى تأتيه فيها الأجل المعلوم لديه.

١٨٨

ففيما يحتم الموت حسب الأسباب الظاهرة فالتجنب عنه مفروض حين لم تفرض عليه هذه الأسباب ، فإذا فرضت فالتجنب مرفوض ، وكذلك الأمر فيما يحتمل فيه الموت ، فالموت المحتّم أو المحتمل في حقل تطبيق الفرض فرض ، وهما في سائر الحقول ولا سيما في رفض الفرض أو اقتراف محظور محظور مرفوض.

وهنا الخطاب العتاب موجّه الى هؤلاء الذين كتب عليهم القتال فيرفضونها خوف الموت بأن الأجل المحتوم آت (أَيْنَما تَكُونُوا) دون معرفة منكم وخبرة ، ثم المعلق ـ كذلك ـ آت فيما لا حول عنه ولا حول ولا قوة ، فليعلق ذلك الأجل بعلقة أمر الله ونعما هو ، دون تعلّق بعصيانه فتعلق بغير أمره أم بعصيانه وبئسما هو.

فكما الحياة الإيمانية هي الكائنة بأمر الله ، فليكن كذلك الممات بأمر الله في شرعته ، وكما يأمر بتكوينه ، فعيش المؤمن مرضات الله في حياته ومماته ، فهو ـ إذا ـ حيّ على طول الخط ، كما العائش حياته ومماته في غير مرضات الله ميت على طول الخط.

فلا تعني (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) تركا لواجب الحذر والحيطة على النفس ما استطاع الإنسان إليه سبيلا ، فقد سبق أن أمر الله بأخذ الحذر ، ومنه الحذر عن الموت ببواعثه المرفوضة غير المفروضة ولا الراجحة ، وكما أمر بالحائطة في صلاة الخوف ، ونهى عن إلقاء النفس الى التهلكة! ولا يعني الفرار عن بواعث الموت ـ حتما أو احتمالا ـ غير المفروضة ، إلا الفرار عن الآجال المعلقة دون المحتومة.

ولو كانت الآجال ـ محتومة ومعلقة ـ معروفة لأصحابها لاختص الفرار بالمعلقة دون المحتومة ، فلأنها مجهولة فرض علينا الفرار عن كل بواعث الموت

١٨٩

حتما أو احتمالا عقلائيا ، اللهم إلّا ما فرض علينا الخوض فيها كالقتال في سبيل الله ـ أو رجّحه ـ ولكن الحياد فيها أيضا مفروضة ما لم يعن فشلا وتكاسلا وتخاذلا : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٣٣ : ١٦).

فعلى المقاتل في سبيل الله الحائطة الشاملة في أمرين : على نفسه ما وجد إليها سبيلا ، وعلى انهزام الكافرين ، تكريسا لكافة قواته واحتياطاته في كلا الأمرين ، دون أن يتهدر في أحدهما دون الآخر ، وإنما عليه تحصيل (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) تقديما أصيلا لحسنى الحياة الإيمانية بغلب المسلمين على الكافرين ، ثم الحسنى الأخرى في سبيل الأولى وكلتاهما «سبيل الله».

إن الموت كأصل شامل مدرك كل حي أينما كان (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) فلا يمكن الفرار عن أصل الموت بالتخلي عن القتال.

ولأن واقع الموت ليس إلّا بيد الله (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) فليكن أجله بأمر الله كما يأمر بالقتال ، فإن كان أجله المحتوم أو المعلق في القتال فنعما هو ، وإن لم يكن فنعما هو ، فقد يربح المقاتل (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) والتارك لفرض القتال يخسرهما الى إحدى السوأتين ، فحياته ممات كما ومماته ممات.

ذلك (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) تفريقا بين الله ورسوله كشيمة الكافرين : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٤ : ١٥٠).

ذلك! وجعلا للرسول عدلا لله وكأنه إله الشر وجاه الله إله الخير؟ وليس

١٩٠

الرسول إلا حامل الخير برسالته الربانية ، وليس مكوّنا لخير أو شر كما ليس مشرّعا ، فإنما هو بشر يوحى إليه بكل خير.

وهكذا كانوا يهدفون بقيلاتهم العليلات كهذه ، التطير بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ظنا أنه ـ وعوذا بالله ـ شؤم عليهم ، يأتيهم السوء من قبله ، فإن أجدبت السنة ، ولم تنسل الماشية أم قل نسلها ، أو إذا أصيبوا في حرب ، تطيروا به ، وحين يصيبهم خير نسبوه الى الله ، تفريقا بين الله ورسوله ، وتجريحا للقيادة الرسالية تخلصا من عبء التكاليف التي أرسل بها ومنها تكليف القتال ، وأمثال ذلك من سوء التصور الجاهل القاحل بساحة الربوبية والرسالة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!.

«قل» لهؤلاء المجاهيل المفترين على رسول الهدى أن الشر من عنده ، والمفترين على الله أن رسوله عدله في إصابة الشر والله هو مصيب الخير ، «قل كلّ» من الحسنة والسيئة المصيبة إياكم (مِنْ عِنْدِ اللهِ) قضية توحيد الربوبية ، فكما أن إصابة الخير لا بد وهي بإذن الله كذلك إصابة الشر ، ولكنهما في الأمور التكليفية كما يناسب الإختيار ، فمن يستحق الخير بما يقدمه يصيبه الخير ، ومن يستحق الشر يصيبه الشر (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يتقولونه من هذا القبيل ، أو يسمعونه من رسول الوحي تصليحا لأخطاءهم الجاهلة ، فليس ـ فقط ـ أنهم (لا يَفْقَهُونَ) بل (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) بسوء اختيارهم.

وهنا «عند» في كلتا الإصابتين تختص بالله دون مشارك من مصاب بهما أو سواه ، ف (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٦٤ : ١٢) (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) (٣ : ١٦٦) (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا) (٩ : ٥١).

١٩١

ذلك ، ومن ناحية أخرى ليست إصابة السيئة إلّا من نفس المصاب حيث يسبّبها (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) (٥ : ٤٩) و (لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (٣٥ : ٤٥).

وأما الحسنة فمهما كانت بما تقدمه من نفسك ولكنها من الله فإنه أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك من الله» (١).

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)

فالسيئة كيفما كانت هي من نفسك مبدء ثم من عند الله إبداء ، والحسنة هي من الله ومن عند الله مهما كنت مستحقها بما تقدمه بفضل الله إذا التوفيق لها والتشجيع إليها وتهيئة أسبابها الرئيسية كلها من الله ، فبأحرى أن يقال عنها «من الله» كما هي (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ف (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) مبدء وإبداء «والشر ليس إليك» مبدء مهما كان من عندك إبداء وجزاء وفاقا.

إذا فلا تناحر بين الآيتين فإن لكلّ مجالا دون ما للأحرى ، حيث الأولى تحقّق واقع كل مصيبة من عند الله ، أنها لا تحصل إلّا بإذن الله ، والأخرى تحقّق حقيقة أخرى ليست داخلة ولا متداخلة مع الحقيقة الأولى ، هي أنه تقدس وتعالى سنّ منهجا وشرعة ودل على نجدي الحسنة والسيئة ، فلناجد الحسنة حسنة من عند الله وهي من الله ، ولناجد السيئة سيئة من نفسه وهي من عند الله.

ف «كما أن بادئ النعم من الله عز وجل وقد نحلكموه فكذلك الشر من أنفسكم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٩ قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) قال الله : يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا وما أصابك من سيئة فمن نفسك وذاك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذاك اني لا اسأل عما أفعل وهم يسألون.

١٩٢

وإن جرى به قدره» (١).

ف «قد ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول : لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» (٢) وذلك ـ فقط ـ للعصاة.

ذلك (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) لا إلها ثانيا يصيب السيئة ، ولا موكلا من الله يفعل ما يشاء ، فإنما «رسولا» يحمل رسالة الله ودلالاته بهدي النجدين حسنة وسيئة ، لا محدثا بالحسنة أو السيئة كما الله.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ذلك الإرسال بألوهيته وكتابه وطبيعة الرسالة ، وإن الحسنة والسيئة إنما هما من عند الله مهما كانت السيئة من نفسك.

فهاتان الآيتان كالسابقة تنديدة شديدة بضعاف الإيمان والمنافقين المتقولين تلكم القولات الغائلات وكما في جماعة من أمة موسى (عليه السّلام) : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧ : ١٣١) فتشابهت قلوبهم وتخالطت قيلاتهم.

ومهما كانت «حسنة وسيئة» هنا ظاهرتان فيما يصيب الإنسان مما سواه من ملائمة لطبعه أو منافرة ، ولكنهما في طليق التعبير تشملان كل صادرة منه ككل واردة عليه من حسنة أو سيئة في الحق أو فيما يراه في نفسه ، وكلّ منهما ـ لفظيا ـ وصف لمحذوف معروف كالحال أو المصيبة.

والخطاب في «أصابك» مهما كان موجها إليه (صلّى الله عليه وآله

__________________

(١) فيه في كتاب التوحيد بإسناده الى زرارة قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : ...

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٨٥ ـ أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) قال : عقوبة بذنبك يا ابن آدم قال وذكر لنا ...

١٩٣

وسلّم) فلا يعنيه إلا كرسول يحمله الى العالمين دون أن يمس من كرامته أنه تصيبه سيئة من نفسه ، فإنه من عباد الله المخلصين وهو أول العابدين.

وقد تعني «من نفسك» من سوى الله سواء أكان هو المصاب كالعاصي والمقصّر الذي يصاب بما أصاب ، أم كان غيره الذي كنفسه أنه من خلق الله كما قال الله : (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢ : ٣٠) ذودا عن نفسه تعالى وتقدس أن يصيب أحدا بمصيبة دونما سبب منه أو من آخرين ، فالمصابون في سبيل الله إنما يصابون بما كسبت أيدي العصاة الطغاة ، وبما هم بحاجة الى ابتلاءات لتتكامل أنفسهم في البلاء (١) وقد

__________________

(١) في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال ذكر عند أبي عبد الله (عليه السّلام) البلاء وما يخص الله به المؤمن فقال : سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال : النبيون ثم الأمثل فالأمثل ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله فمن صح إيمانه وحسن عمله أشتد بلاءه ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاءه.

أقول : ومن أسبابه أن الإيمان كلما ازداد زاد المؤمن تطبيقا لشرائطه وقضاياه فيعارضه الأكثرية الساحقة غير المؤمنة فيبتلى إذا ببلاياهم.

وفيه عن الصادق (عليه السّلام): إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه.

وفيه عن الباقر (عليه السّلام) قال : إن الله ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة ويحميه من الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

وفيه عن الصادق (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب.

وفي العلل عن علي بن الحسين عن أبيه (عليهما السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ولو كان المؤمن على جبل لقيض الله عز وجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك.

وفي كتاب التمحيص عن الصادق (عليه السّلام) قال : لا تزال الهموم والغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا.

وفي النهج قال (عليه السّلام): لو أجني جبل لتهافت ، وقال : من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا.

١٩٤

فصلناه على ضوء آية الشورى.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (١) هذه ضابطة ثابتة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) في كلّ ما يفعل أو يترك أو يقول (٥٨) (فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) فإنه إذاعة عن الله دون إضاعة بزيادة ولا نقصان عن رسالة الله.

(وَمَنْ تَوَلَّى) عن طاعته وهو متولّ عن طاعة الله (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) إنما أرسلناك إليهم رسولا وليس الحفيظ برسالة وسواها إلّا الله لا سواه.

ذلك وهكذا طاعة الإمام المعصوم المنتصب بعد الرسول من قبل الله كما في آية أولي الأمر (٢) ورأس الزاوية في فرض الطاعة هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ف «لا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» لأن الله حسم به الإنذار والأعذار وقطع به الإحتجاج والعذر بينه وبين خلقه وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به ولا قربه إليه إلا بطاعته وقال في محكم كتابه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ..) فقرن طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته وكان ذلك دليلا على ما فوض

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢١ في كتاب الإحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) حديث طويل وفيه : وأجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من أصطفى من أمناءه فكان فعلهم فعله وأمرهم أمره كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

(٢) نور الثقلين ١ : ٥٢٠ في أصول الكافي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

١٩٥

إليه وشاهدا على من اتبعه وعصاه وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم» (١).

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ٨١.

هؤلاء المتخلفون ما هم عندك (يَقُولُونَ طاعَةٌ) وإن هي إلا قولة الطاعة المنافقة (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) وهو عصيان (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) ف : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) صفحا لا لهم ولا عليهم إلا تلميحا بأنهم ينافقون (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يدفع عنك كيدهم ويرد عليهم ميدهم.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ

__________________

(١) المصدر في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وهي خطبة الوسيلة يقول فيها : ...

١٩٦

وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ

١٩٧

أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١)

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ٨٢.

تنديدة شديدة موجهة الى هؤلاء المتخلفين في مثلثه ، بعد أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإعراض عنهم ، فقد يعرض عليهم الاحتكام الى القرآن نفسه بعد ما عارضوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليعرفوا الطاعة الصالحة غير المفرّقة ، وذلك من البراهين الواضحة على أصالة القرآن وفرعية السنة أولا ، وعلى إمكانية تفهّم القرآن حتى لهؤلاء الثلاث فضلا عن المؤمنين الواقعيين.

١٩٨

ذلك! فحكم التدبر في القرآن عام يشمل كافة المكلفين به شريطة معرفة لغته وإمعان النظر في معانيه ومغازيه.

ومما ينتجه التدبر في القرآن هو ربانية آياته البينات بأسرها لمكان التلائم التام بينها دون تفاوت لفظيا ولا معنويا ولا واقعيا ولا في أي حقل من حقول الحق المرام.

أجل والتناسق الطليق الرفيق الرقيق والعميق هو الظاهرة الباهرة التي لا يخطئها من يتدبر القرآن كقرآن ، مهما اختلفت العقول في إدراك مداها ، ولكنها ككلّ تدرك تماما أنها في تناسق وتوافق تام (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

ولا اختلاف في القرآن لا قليلا ولا كثيرا ، وطبيعة الحال في من سوى الله أيا كان هي التدرّج في الكمال وعدم الحيطة المطلقة على الحقائق على أية حال.

فالقرآن النازل طيلة الحياة الرسولية في مختلف الحالات الحرجة والمجالات المرجة ، في العهد المكي المتضيق والعهد المدني الرفيق ، ثم منذ الفتح ، ولا يوجد في آية أي اختلاف في قمة الفصاحة والبلاغة ، ولا في المعاني المرادة ، ولا بينها وبين الحق الواقع ، ولا الفطرة ولا العقلية الصالحة غير المزيجة ولا المريجة.

ذلك الكتاب لا ريب فيه أنه من رب العالمين ، فكما الشمس هي دالة بنفسها على نفسها بإشراقها ، كذلك شموس الآيات القرآنية هي بأنفسها براهين ساطعة على أنها ربانية المصدر والصدور ، دون أي تدخل لأية عقلية خلقية (١).

__________________

(١) راجع تفصيل ظاهرة عدم الاختلاف تحت عنوان «عدم الاختلاف فيه» في ج ١ ص ٢٣٦ ـ ٢٤٠ من الفرقان.

١٩٩

وهنالك آيات مع هذه تأمرنا بالتدبر في القرآن حقه ، فتاركه مقفل القلب مغفّل : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤٧ : ٢٤) ـ (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣٨ : ٢٩).

فالقلب المتدبر واللب المتذكر هما اللذان يتدبران القرآن ، وإن القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، ولا يتحدد القرآن بمعارفه الجمة بساذجة الأفكار ، فإنما لكل قلب قدر وعيه.

والتدبر تفعّل من الدّبر ، وهو في القرآن جعل كلّ آية دبر نظيرتها ودبر ما حوتها ، كما هي دبر التفكر الصالح فيها ، ليحصل من هذه الثلاث حق المعنى وواقع المغزى من كل آية آية ، حيث «الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه» (١).

وتدبّر ثان هو تواتر التفكر في القرآن بعد ذلك التدبر الثلاثي ، تحللا عن إصر كل أسر من أفكار سابقة حاصلة من غير القرآن ، بنظرة تجردية تعني استنباط مرادات الله تعالى دونما تحميل لعالقة الآراء.

و «اختلافا» بصيغة طليقة دون متعلّق خاص مما يستغرق السلب في أصل الاختلاف ، فهو «اختلافا» «من والى» : بداية ونهاية في الكمال ، أن يأتي كل كمال منه بعد نقص وكل أكمل منه بعد كامل ، فلا تجد فيه سنة التكامل بأسره.

و «اختلافا» (في) آياته مع بعضها البعض في بلاغه العبارة وفصاحة التعبير ، أن يبدو فيها القمم والسفوح والتوفيق والتعثّر والتحليق والهبوط والرفرفة والثقلة ، والإشراف والانطفاء.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٢ في نهج البلاغة قال : وذكر أن الكتاب .. فقال سبحانه (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

٢٠٠