الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

ذلك ، وكما (لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ ... وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) تؤكد على طليق الإيقاظ بكل وعظ ، ف (يُوعَظُونَ بِهِ) و «يطع» متجاوبتان في تداوم الطاعة لله والرسول وتداوم الاتعاظ.

وهنا في القواعد الأربع للمنعم عليهم نجد القاعدة القمة «النبيين» وهم بطبيعة الحال ليسوا ممن تعنيهم (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) حيث الرسل لا يطيعون أنفسهم ، ثم الثلاثة الآخرون هم القمة العليا ـ على درجاتها ـ ممن (يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) فهم يتلون تلو الرسول في كونهم من المنعم عليهم المستدعى هدي صراطهم ، فهم ـ إذا ـ خارجون عن المستدعين وعمن يطيع الله ورسوله هنا حيث تعني من دون القمة العليا من المطيعين الله والرسول.

صحيح أن الثلاثة الآخرين هم ايضا ممن يطيع الله ورسوله وفي قمتهم ، ولكن معية (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) مع هؤلاء بعد النبيين تجعلهم خارجين عن المعنيين بهؤلاء المطيعين.

وهنا «الرسول» مفردة تعني محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و «النبيين» تعني اولي الرفعة من الرسول الذين أوتوا الكتاب ، و «الرسول» هنا دون «النبي» للتدليل على رسالته إليهم كما إلينا ، وأن موقف الطاعة هو الرسالة الربانية.

وتعني «من يطع» فيمن عنتهم سائر النبيين المطيعين لله ولهذا الرسول ، حيث يصبحون معه كما صدقهم لما آمنوا به من قبل ويؤمنون ، ونصروه وينصرون.

و «الصديقين» هم من دون النبيين رسلا وسواهم كخلفاء الرسل والنبيين.

١٦١

والصديق صيغة مبالغة من الصدق ، صدقا في كل أقوالهم وأحوالهم وأعمالهم وتصديقا للنبيين ، مبالغين الذروة العليا في الصدق والتصديق.

صحيح أن «الصديق» بقول طليق يشمل كل صديق ، نبيا كإبراهيم (١٩ : ٤١) وإدريس (١٩ : ٥٦) ـ (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) أم من يحذوا حذوه في أعلى قمم الإيمان كمريم (عليها السّلام) (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (٥ : ٧٥) كذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ...) (٥٧ : ١٩).

إلّا أن قرن «الصديقين» هنا بالنبيين والشهداء والصالحين ، يجعلهم بعد النبيين ، وهو يشمل سائر المرسلين وكافة الخلفاء عنهم المعصومين ، أم ومريم الصديقة وبأحرى الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليهما ، فإنهما من ذروة الصديقين.

ثم «الشهداء» علّهم شهداء الأعمال ، الشاملة لغير هؤلاء الصديقين من كاملي الإيمان ، إذ لم تأت الشهادة في لفظ القرآن بمعنى الاستشهاد في سبيل الله.

ذلك ولكن طليق الشهداء يشملهم بمالهم من الزلفى عند الله ، الفائقة على سائر الصالحين : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٣ : ١٦٩). فهم ـ إذا ـ فوق الصالحين الذين لم يقتلوا في سبيل الله ، فهم ـ إذا ـ من هؤلاء الشهداء.

وقسم ثالث من «الشهداء» هم شهداء الحق بمالهم من مكانة معرفية وعملية في شرعة الله (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٣ : ٨٦) وهم الشفعاء الخصوص وكذلك سائر الشهداء لله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) (٤ : ١٣٥) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ

١٦٢

بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) (٥ : ٨).

فهم سائر المؤمنين العالين في درجات الإيمان قدر ما يصلح كونهم من أصحاب الصراط المستقيم ، الذين نتطلب هدي صراطهم في صلواتنا ليل نهار.

ف «الشهداء» في طليق القول مهما تعم كل شهداء الأعمال والمستشهدين في سبيل الله نبيين او صديقين وشهداء الحق ولكنهم هنا غيرهما لقرنهم بهما ، وكذلك «الصالحين».

فهذه المقارنة المربعة تجعل كلا من هؤلاء الأربع على حدّه ، مهما اجتمعت كل هذه المواصفات او بعضها في البعض من هؤلاء الأكارم.

وطليق «الشهداء» يشمل هؤلاء الثلاث مهما كانوا درجات ثلاث ، فالصالحون الذين ليسوا بشهداء بأيّ من هذه المعاني الثلاثة هم المعنيون ب «الصالحين» هنا.

فالأنبياء المستشهدون في سبيل الله وهم شهداء الأعمال وشهداء الحق ، وهم صديقون عند الله ، وهم صالحون ، هؤلاء هم أصدق مصاديق المنعم عليهم ، ويرأسهم خاتمهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (ماتَ أَوْ قُتِلَ).

والصديقون الشهداء في أبعادها الثلاثة وهم الصالحون القمة بعد النبيين ، هؤلاء في الدرجة الثانية ، والشهداء بأبعادها هم بعد هؤلاء الصديقين ، ثم الصالحون.

والائمة من أهل بيت الرسالة المحمدية هم مجمع الثلاثة الأخر ، فإنهم الصديقون الأوّلون بهذه الرسالة القدسية ، وهم الشهداء بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووسطاء بينه وبين الأمة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً

١٦٣

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢ : ١٤٣) فانه (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٢٢ : ٧٨) وهم المستشهدون في سبيل الله.

ثم وهم أصلح الصالحين بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، إذا فهم الذروة العليا بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأفضل من كافة النبيين والشهداء والصالحين.

فأول المنعم عليهم من أصحاب الصراط المستقيم هو أوّل العابدين وقد جمعت له الرسالات الإلهية وهو أفضل الصديقين والشهداء والصالحين ، ثم عترته المعصومون الجامعون لهذه المواصفات الثلاث ، ثم النبيون والشهداء والصالحون (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

ثم الصديقون الذين ليسوا بأنبياء وهم شهداء وصالحون كأفضلهم ، ثم الشهداء غير البالغين درجة الصديقين وهم أفضل الصالحين.

ثم الصالحون ، وهم ليسوا نبيين ولا في قمة التصديق والشهادة.

فلكل من هؤلاء الأربع درجات اجتمعت كلها في أهل بيت الرسالة المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ولماذا هنا «رفيقا» بإفراد؟ وقضية الأربع ، وكلّ مع ذلك جمع فهم جموع : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)!

علّه أدبيا لأن الرفيق تأتي للجمع كما المفرد ، ومن ثم معنويا لأنهم واحد في أصل النعمة وهي الصراط المستقيم مهما اختلفت درجاتهم ، كما الرسل والرسالات واحدة وهم وهي عدة ، لأنها سلسلة واحدة موصولة على مدار التاريخ الرسالي.

ولرؤوس الزاوية من مربع المنعم عليهم مكانتهم العليا وكما يذكر في الذكر

١٦٤

الحكيم عديد منهم هم : زكريا ـ يحيى ـ عيسى ـ إبراهيم ـ إسحاق ـ يعقوب ـ موسى ـ إسماعيل وإدريس : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا. أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (١٩ : ٥٨).

وطبيعة الحال في التدرج الى نعمة الصراط المستقيم أن يتطلب كلّ المزيد مما هو عليه ، فغير الصالح يتطلب صراط الصالحين ، والصالحون يتطلبون صراط الشهداء والشهداء يتطلبون صراط الصديقين والصديقون يتطلبون صراط النبيين والنبيون بسائر اصحاب الصراط والمتطلبين صراطهم يتطلبون صراط اوّل العابدين وهو نفسه يتطلب الدوام على صراطه والمزيد منه وكما أمره ربه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

فلا وقفة لعجلة التطلب في هدي الصراط المستقيم فإن حق المعرفة والعبودية لا نهاية لهما ، والعباد هم دوما سائرون إلى صراط فصائرون إليه ثم سائرون الى ما فوقه فصائرون ، وإلى ما لا حدّ له.

وليس طلب الهدي إلى الصراط المستقيم محددا بهذه الحياة القصيرة الزائلة ، بل هو بأحرى جار متواتر بعد الموت ثم القيامة الكبرى فإنما الدنيا مزرعة للأخرى فكيف تحرم في الأخرى عما زرعته في الأولى.

ثم الصديقون وهم الدرجة الثانية في ذلك المربع هم أهل بيت الرسالة المحمدية كأصدق مصاديقهم (١) مهما شملت سائر خلفاء النبيين رسلا

__________________

(١) لقد تواتر الحديث من طريق الفريقين أن عليا (عليه السّلام) هو أول الصديقين ومن طريق إخواننا نذكر زهاء أربعين من الفطاحل الذين نقلوا أو أخرجوا تفسير الصديقين بعلي (عليه السّلام) :

١٦٥

__________________

ـ منهم أحمد بن حنبل في الفضائل ١٦٥ ـ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : الصديقون ثلاثة حبيب البحار وهو مؤمن آل يس وحزقيل وهو مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) وهو أفضلهم.

ومنهم الثعلبي في تفسيره كما في العمدة لأبن بطريق ١١٢ عن عبد بن عبد الله قال سمعت عليا (عليه السّلام) يقول : إنا عبد الله وأخو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كلّ مفتر صليت قبل الناس سبع سنين.

ومنهم ابن المغازلي الواسطي كما في المعدة لأبن بطريق ١١٣ ، والرازي في تفسيره ٢٧ : ٥٧ ، وابن حجر الهيثمي في الصواعق ١٢٣ والكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي ٥٥ والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة ١٢٤ ، والواحدي في أسباب النزول ٦٤ ، وأبو نعيم الاصبهاني في «ما نزل في شأن علي» وفي كتابه «منقبة المطهرين» والسيد علي الهمداني في (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وابن المغازلي وابن فورك وإبراهيم الحمويني وصاحب خصائص علوي والماوردي والقشيري والثماني والنقاش والقفال وعبد الله الحسين كلهم على ما في اللوامع والزمخشري في الكشاف ١ : ١٦٤ والخازن في تفسيره ١ : ٢٤٩ وابن الأثير في أسد الغابة ٤ : ٢٥ والطبري في ذخائر العقبى ٨٨ وسبط ابن الجوزي في التذكرة ١٧ والكنجي في كفاية الطالب ١٠٨ والرياض النضرة ٢٠٦ والقرطبي في تفسيره ٣ : ٣٤٧ وغياث بن همام في جيب السير ٢ : ١٢ وأبو حيان في البحر المحيط وابن أبي الحديد في شرح النهج ١ : ٧ والهيثمي في مجمع الزوائد ٦ : ٣٢٤ والسيوطي في الدر المنثور ١ : ٣٦٣ وفي لباب النقول في أسباب النزول ٤٢ والشوكاني في فتح القدير ١ : ٢٦٥ والشبلنجي في نور الأبصار ١٠٥ والشافعي في مسنده ٢ : ٩٧ والبخاري في صحيحه ٦ : ١٢٠ ـ

١٦٦

وسواهم ، أم وغير الخلفاء كمريم وفاطمة الصديقة الكبرى سلام الله عليهما.

وهذه المعية اللّامعة ليست فقط في الحياة الدنيا ، بل وبأحرى في جنة المأوى وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١) ، ولا تعني أنهم في درجتهم ، بل هم ملحقون بهم تابعين.

ثم الطالبون لهدى صراط المنعم عليهم هم في بداية الأمر معهم ولمّا يصلوا إلى ما هم واصلون ، فإذا وصلوا فهم منهم ، فالواصل إلى درجة الصالحين هو منهم ومع الشهداء ، فإذا وصلوا إلى هدي الشهداء فهم منهم ومع الصديقين ، فإذا وصلوا إلى هديهم فهو منهم ومع النبيين ، فإذا أصبحوا منهم فهم منهم ثم

__________________

ـ وفي تاريخه الكبير ٢ : ٢٥١ والحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٨ وفي معرفة علوم الحديث ٣٢ وأبو نعيم الإصبهاني في «أخبار أصبهان» ١٣١ والأندلسي في تجريد التمهيد ١٨٥ والخطيب في تاريخ بغداد ٦ : ٢١٦ والواحدي في أسباب النزول ٢٧١ والبغوي في معالم التنزيل ٥ : ٢٢٥ والديلمي في كتاب الفردوس والسمعاني في مناقب الصحابة وابن العربي في أحكام القرآن ١ : ١٨٤ والذهبي في تلخيص المستدرك المطبوع بهامش المستدرك ٣ : ١٤٨ والنووي في رياض الصالحين والدشتكي في روضة الأحباب والشيخ محمد إدريس الهندي في التعليق الصبيح في شرح المصابيح ١ : ٤٠١ والسيد إبراهيم نقيب مصر في «البيان والتعريف» ٢ : ١٣٤ والسيوطي في بغية الوعاة ٤٤٢ ومحمد بن يبير علي أفندي في «الأربعين حديثا» ٢٦٤ ومحمد الأفكرماني في «شرح أربعين البتكوى» والآلوسي في روح المعاني ٢٢ : ٧٢ والسيد أبو بكر العلوي في رشفة الصادي والسيد علوي الحداد في «القول الفصل» ٢ : ٢٧٢ والقاضي عياض في الشفاء (ملحقات أحقاق الحق ٢٤٥ ـ ٢٧٠) (للعلم الحجة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي دام ظله).

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨٢.

١٦٧

يتطلبون صراطا فوقهم كصراط أوّل العابدين ، كما أنه يتطلب في «اهدنا» الثبات على صراطه والارتقاء منه إلى ما فوقه فالطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠).

«ذلك» البعيد المدى ، العريق الهدى من هدي الصراط المستقيم ولحوقا بأهله «الفضل» كل الفضل «من الله» لا سواه إلا كما سعاه ، فالله هداه كما سعاه (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) «عليما» بموارد فضله قابلية وفاعلية.

و «الفضل» هنا ذو وجهين اثنتين ، فهو مشار إليه وذلك معه مبتدء و «من الله» خبره ، أم هو الخبر والمشار إليه هو المتقدم ذكره من إيمان بشروطه ونعمة الصراط المستقيم والهدي إليه والمعية المشرفة للذين يطيعون الله والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معهم.

ف «الفضل» محلّى باللّام يستغرق كل فضل ، وهو خبر «ذلك» و «من الله» خبر له ثان أم وصف ل «الفضل».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ

١٦٨

لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ

١٦٩

الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١)

آيات متواصلة في فرض القتال في سبيل الله ، بعرض الحالة التي كان عليها المسلمون وقت نزولها ، تحريضا عريضا على الصمود في خطوط النار ضد

١٧٠

المحاربين في سبيل الطاغوت ، وقضاء على شطحات الأقوال المتسربة بين المؤمنين.

وإنها توحي بوجود جماعات منوّعة داخل الصفوف لم تنضج بعد أم لم تؤمن أو لمّا ، وهي في حاجة ماسة إلى حالة متراصة لتنهض بالمهمة الملقاة على عواتق الجماعة المؤمنة ، خوضا في معارك الشرف والكرامة عقائدية أو عسكرية أماهيه؟.

وهكذا يخوض القرآن كل المعارك مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية والمعسكرات المعادية في وقت واحد ، حيث يلتقط أناسا من سفح الجاهلية إلى القمم العالية الإيمانية.

ذلك ، ولكي لا نيأس نحن من أنفسنا حين نطّلع على مواضع الضعف فنترك العلاج ، وكيلا تبقى الجماعة المؤمنة الأولى ـ على كل فضائلها ـ مجرد حلم طائر في خيالنا ، لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها ، من السفح الهابط في المرتقي الصاعد إلى القمة السامقة المرموقة المرقومة علينا في الذكر الحكيم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (٧١).

وصية من القيادة العليا الربانية للذين آمنوا في حياتهم الإيمانية السامية أن يأخذوا حذرهم من الذين كفروا ، نفرا ثبات أو جميعا ، وإنها إستراتيجية للمعركة عالية المبنى غالية المعنى لا حول عنها في الحياة الإيمانية وجاه كل العراقيل والدوائر المتربصة بهم.

(خُذُوا حِذْرَكُمْ) ممن؟ من كل الأعداء ، المتجاهرين منهم والمنافقين المندسّين في صفوفكم وهم أخطر وأشجى على ساحة الإيمان ، ولا يختص الحذر بالأسلحة وكما قوبل بها (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (٤ : ١٠٢) أو أطلق

١٧١

في كل فتنة (احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) (٥ : ٤٩) (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (٦٣ : ٤) فتنة تفتن بكم عن طاعة الله وطاعة الرسول : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥ : ٩٢).

وليس أخذ الحذر ـ أيا كان ومن أيّ كان ـ تصورا خاويا عن الواقع ، إنما هو عمل جادّ يجعل المؤمنين في أمن مما يخاف منه ، ومنه (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً).

ففي فردية النفر متصيّد الأعداء المبثوثين في كل مكان ، ولا سيما إذا كانوا منبثين في قلب المعسكر الإسلامي ، فليكن النفر إلى الجهاد إما ثبات وإما جميعا.

والثبات جمع ثبتة : مجموعة ، فانفروا مجموعات تلو بعض في مختلف الوجهات للمعركة ، او انفروا جميعا لهجمة واحدة على الأعداء ، والأمر في كلا الأمرين إلى أولي الأمر في القيادة العسكرية إذا فلا يستهان بالعدو أيا كان ، وإنما يتحذر بكل وسائله ، تهيئا لدفع أسوء المحتملات ، كما (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ).

وقد تعني «ثبات» السرايا و «جميعا» العسكر (١) ولكن «حذركم» لا تختص بالأسلحة (٢) إلا كمصداق من مصاديق الحذر الشاملة لكل التكتيكات

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٦ عن المجمع روي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) أن المراد بالثبات السرايا وبالجميع العسكر.

(٢) المصدر عنه المجمع في قوله تعالى حذو حذركم قيل فيه قولان ـ الى قوله : والثاني أن معناه خذوا أسلحتكم ، سمي الأسلحة حذرا لأنها الآلة التي بها يتقى الحذر وهو المروي عن أبي جعفر (عليهما السّلام).

١٧٢

الحربية ، ومنها ما هو أهم من الأسلحة ، كصامد الإيمان ومعرفة الإستراتيجية الحربية والوحدة الكاملة الشاملة بين العسكر ، والسمع والطاعة لقوّاد القوات المسلحة.

فالحذر هو كل ما فيه الحذر ، وأخذه هو واقع الحضور بكل وسائله في كل المحاذر والمحاظر ، فلأن الإيمان على طول خطه هو متربّص الدوائر من فرق اللاإيمان ، فليأخذ المؤمنون حذرهم وكل أسلحتهم وجاه كافة المحاولات الكافرة في كل حقول المعارضات والمعاركات ، حربية أو عقيدية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية أماهيه ، وبكل سلاح يناسبه.

ذلك وليس النفر ثبات أو جميعا تخيرا طليقا في كل الحروب ، وإنما هما حسب مختلف الظروف والمتطلبات ، فإذا كانت الأعداد كثرة كثيرة وقائد كل القوات يستنهض المؤمنين فهنا (انْفِرُوا جَمِيعاً) لا سيما إذا كان القائد هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وإذا كانت الأعداء قلة تكفي بأسهم «ثبات» فثبات ، فالنفر ـ إذا ـ مقدر ـ عدة وعدّة وكيفية ـ بقدر العدوّ والعداء ، لا ناقصا عنه ولا زائدا عليه ، إلا قدر القادر على الذبّ والدفع ، خفافا وجاه الخفاف وثقالا وجاه الثقال ويجمعهما مكافحة غالبة على الأعداء : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٩ : ٤١).

وأخذ الحذر يعم الأخذ لحاضر الحذر غير المأخوذ بعد ، وغائبه أو عادمه ، فعلى المؤمنين المدائبة في إعداد القوات المكافحة قبيل الكفر المعادي على أية حال.

ثم و «حذركم» خطابا للمؤمنين تعم كل حذر هو قضية الإيمان والحفاظ عليه ، وذلك حكم عام موجه إلى المؤمنين أن عليهم تقديم كافة المحاولات

١٧٣

للحفاظ على كونهم وعلى كيانهم فرادى وجماعات ، دون اتكالية على الله بلا سعي وعمل جاد (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وليس «المقدر كائن» إلّا على قدر الأقدار الخلقية ، وإلا لبطلت كل المساعي المأمور بها ، المدعوّ إليها ، وبطل التكليف بأسره.

وهل المؤمنون هناك أو هنا ككل آخذون حذرهم في نفرهم ثبات أو جميعا؟ كلّا! :

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣).

التبطيء هي كثرة الإبطاء المتواتر لأنفسهم وسواهم ، فهناك تبطيء عن أخذ الحذر والنفر ثبات أو جميعا حذر الموت في المعركة ، ورغم النفر العام إليها ، وهنا التبطيء دون البطيء لتشمل بطوء المتثاقلين ـ إلى الأرض عن أرض المعركة ـ أنفسهم ، والذين يبطّئون من سواهم كما هم يبطئون.

«ليبطئن» صيغة مختارة سائغة لأداء معناها بكامله ، جامعة جرس اللفظ إلى جرس المعنى ، تصويرا لحركة نفسية معاكسة على القتال في سبيل الله ، تعثّرا وتثاقلا من المخذلين المثبطّين عن القتال ، ولا فحسب أنفسهم ، بل وأنفس الآخرين المتثبطين بهم ، الماشين معهم.

وهنا التأكيدات الأربع : «إن ـ لمن ـ ليبطئن» هي القواعد الأربع لصرح تثبيطهم عن القتال ، مما يقربها إلى كتلة النفاق العارم.

إنهم يبطئون متلكئين ولا يصارحون ، ليمسكوا العصا من وسطها ، جلبا للربح وبعدا عن الخسارة ، وهم لا يختجلون من مقالتهم هذه القالة : (قَدْ أَنْعَمَ

١٧٤

اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) حيث يحسبون هذه النجاة مع التخلف نعمة منسوبة إلى الله حيث تخلفوا عن أمره ، ويكأن الله ينعم على المتخلفين وينقم على المطيعين!.

وليس شمول خطاب الإيمان للمبطئين إلّا مسايرة معهم ومجاراة ، أم إنهم أو منهم من هم ضعفاء الإيمان ، مهما كان منهم منافقون.

وهؤلاء المبطئون ناظرون مصير النافرين (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) القتل أو الجرح أو الانهزام (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ) في ذلك التبطيء وكأنه من الله رغم أنه تخلّف عن حكم الله (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) للمعركة ، إذ كانت تصيبني كما أصابهم.

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) انتصارا في المعركة وغنائم أماهيه (لَيَقُولَنَّ ـ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ـ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) في المعركة «فأفوز» كما فازوا (فَوْزاً عَظِيماً) عناية إلى الغنيمة والإياب دون النصرة ، معاكسة لبغية المؤمنين الذين يرون النصرة فوزهم العظيم ، ومن ثم القتل دونه وهما الحسنيان المطلوبتان لهم.

وترى معترضة الجملة (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ) كيف وقعت في الأهون موقعا وهو موقع الفوز ، بتحسّر عدم الحضور له ، وموقع المصيبة أوقع وقعا عليهم بقولهم؟.

علّها لتشمل الموقع الأول وبأحرى ، فلو وقعت فيه لم تكن لتشمل الثاني ، فكلا القولتين القالتين غائلة مائلة عن حق الإيمان ، فإنهما يعاكسان قضية أخوة الإيمان مهما اختلفت دركاتهما.

فقضية الأخوة الإيمانية هنا أن الفائز من المؤمنين بفوز عظيم يعتبر فوزه

١٧٥

فوزا لسائر إخوته المؤمنين ، كما أن مصيبتهم مصيبة ، فهذه القالة المنافقة تدل على أن (لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ)؟ وليست «كأن» إلا مجاراة معهم لتجذبهم إلى قضية الإيمان.

فكيف بالإمكان أن يسمح الإيمان بهذه الخاطرة الخطرة المقلوبة أن تعتبر المصيبة على الاخوة في الإيمان نعمة إذا لم تصبه ، والفوز بالغنيمة فضلا وفوزا عظيما؟.

وإن هذه مصيبة عليهم دونهم نعمة عند الذين لا يتعاملون مع الله ولا يدركون حق الحياة ولا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطئ الأقدام في هذه الأدنى ، ولا يحسون أن البلاء في سبيل الله فضل كسائر النعماء.

فهم أولاء المبطئون عن معارك الشرف والكرامة ينظرون إليها نظرة عشواء عوراء ، أنها بين مصيبة وفوز ، وهي تحمل إحدى الحسنيين وكلتا هما فوز عظيم وفضل من الله ، وذلك هو الأفق السامق الذي يريده الله للمؤمنين أن يرفعهم إليه ، راسما لهم هذه الصورة المنفرة من سيرة نخرة نكرة للمندسّين في صفوفهم من المبطئين ، ليأخذوا منهم حذرهم كما يأخذونه من أعدائهم الجاهرين.

ولأن المودة الإيمانية توحّد بين المؤمنين لحد كأنهم شخص واحد ، فالقول (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) يجعلهم (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) فلهم التحسر والترح في إصابة الفضل ، والفرح في إصابة مصيبة ، وكلاهما فضل وهذه مجانبة وتفارق دون أية مودة ، وقضية الإيمان الفرح لفرح المؤمنين والترح لترحهم لأنهم كأطراف شخص واحد ، يحكمهم روح واحدة في أبدان عدة.

وهذه من شيمة النفاق مهما حصلت لضعفاء الإيمان ، المخاطبين بخطاب الإيمان.

وحقا «لو أن أهل السماء والأرض قالوا قد أنعم الله علينا إذ لم نكن مع

١٧٦

رسول الله لكانوا بذلك مشركين (١) أجل (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦) ، ذلك «ولكن الله قد سماهم مؤمنين بإقرارهم» (٢).

فكيف هم بعد مؤمنون ويحسبون الإصابة في سبيل الله نقمة ، وسواها نعمة ، فهل إن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينقم منه بما أدى واجبه في الجهاد وهؤلاء المبطئون ينعمون بما تركوا؟.

قولة هي لأضعف ضعاف الإيمان ، أو الذين أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، أو المنافقين الرسميين (٣) دون اختصاص بفرقة من هؤلاء الثلاث دون أخرى.

ذلك ، وكما المبطئون قد يبطئون أنفسهم جهالة أم وغيرهم عنادا ، فهم أولاء الثلاث تشملهم (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) إذ لا يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ٧٤.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٦ عن المجمع في الاية قال الصادق (عليه السّلام) : ...

(٢) المصدر في تفسير القمي في الآية قال الصادق (عليه السّلام): والله لو قال هذه الكلمة أهل المشرق والمغرب لكانوا بها خارجين من الإيمان ولكن الله قد سماهم مؤمنين بإقرارهم.

(٣) الدر المنثور ٢ : ١٨٣ ـ أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في الآية قال : هو فيما بلغنا عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ليبطئن قال ليتخلفن عن الجهاد فإن أصابتكم مصيبة من العدو وجهد من الجيش قال قد أنعم الله علي إذ لم لم أكن معهم شهيدا فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة ولئن أصابكم فضل من الله يعني فتحا وغنيمة وسعة في الرزق ليقولن المنافق وهو نادم في التخلف كان لم يكن بينكم وبينه مودة يقول كأنه ليس من أهل دينكم في المودة فهذا من التقديم يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما يعني آخذ من الغنيمة نصيبا وافرا.

١٧٧

أمر باتّ لا حول عنه بالقتال في سبيل الله ، ولا يأتمر به إلّا (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) تضحية بالفانية للباقية ف (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١) وأما الشاري الحياة الآخرة بالدنيا ، أم غير الشاري إحداهما بالأخرى فليس ليقاتل في سبيل الله.

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إحياء للحق واماتة للباطل «فيقتل» في هذه السبيل (أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يوم الأجر العظيم.

وإنما «يغلب» دون «يقتل» لأنه قد يقتل ولا يغلب ، ثم وليس القصد من القتال في سبيل الله القتل فاعلا أو مفعولا بل هو غلب الحق على الباطل قاتلا أو مقتولا ، إذا ف «يقتل» هي إحدى الحسنيين كما «يغلب» هي الحسنى الأخرى مهما قتل أو قتل ، أم لم يقتل ولم يقتل ، أو قتل وقتل ، والغاية القصوى من القتال في سبيل الله «أو يغلب» مهما قتل أو لم يقتل ، ولكنه إذا قتل فهو معهما ثلاث هم مشتركون في (أَجْراً عَظِيماً).

ولا معنى للقتال في حقل الإيمان إلّا (فِي سَبِيلِ اللهِ) دون سائر السبل المتخلفة عن سبيله ، من سبيل الغنيمة والسلطة والمجد شخصيا وقوميا وتوسيعا أيا كان ، إنما هي إعلاء كلمة الله وإخفاض كلمة الباطل سواء غلب أو غلب ، قتل أو قتل.

فالقتل فاعلا ومفعولا في سبيل غلب الحق على الباطل حياة ، والحياة في سبيل غلب الباطل على الحق ممات ، و «فوق كل بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله فإذا قتل فليس فوقه بر» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٧ في كتاب الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السّلام) أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ....

١٧٨

هنا (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) تجعل القاتل والمقتول في سبيل الله على حد سواء في (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) فالقتيل ـ إذا ـ غالب كما الغالب قاتلا وغير قاتل.

وإنما لم يأت «يغلب» بديلا عن «يقتل» لمحة الى أن القاتل في سبيل الله غير منهزم ولا مغلوب على أية حال ، فحين يوطن المناضل في سبيل الله نفسه على إحدى الحسنيين فلا يهم أبدا فرارا ولا وهنا ، لأنه يرى غلبه على أي الحالين.

وإنما قدم القتل على الغلبة حيث الأجر العظيم مضمون للقتيل في هذه السبيل إذ قضى نحبه ، وأما الغالب فقد تطرء عليه طوارئ السوء مما يحبط صالحات ويقللها.

فالقتل في سبيل الله هو أسلم للقتيل ، والغلب فيها أسلم للكتلة المسلمة ولكنه خطر على الغالب لزهوة أم طارئة أخرى تنقص من أجر الغلب العظيم.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ٧٥.

(وَما لَكُمْ) استنهاض للمثبطين عن القتال ـ لا المقاتلين ـ تند يدا بتبطيئهم عن القتال قضية نفاق أم ضعف إيمان أم إسلام قبل إيمان ، ف «ما لكم» تستنهض هؤلاء الثلاث ليلحقوا بصفوف المؤمنين المقاتلين لا سيما وأن أهليهم المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا هم ظلوا تحت نير الظلم والهوان ، فحتى ان لا يقاتلوا في سبيل الله مجرّدة ، فليقاتلوا في سبيله لنجاة الأهلين الملتصقين بهم فالقرآن لا يقضي على حكم الفطرة الإنسانية بالتضحية للأهلين ، وإنما يصفيه

١٧٩

الى واجهة الإيمان ، حيث يسبك كل الإيجابيات والسلبيات للمؤمنين في قالب التوحيد ، تهذيبا عن شوائب الأهواء والآمال الفاسدة ، فلذلك نرى هنا ردف سبيل الأهلين بسبيل الله! ومهما لم تصفوا نياتهم أولاء كما يحق في بداية الأمر ، فميادين القتال في سبيل الله هي مدارس تربوية تغير من إنيات المشاركين وتبلور نشاطاتهم.

هنا سبيل «المستضعفين» في سبيل الله مدمج في سبيل الله ، فلا تعني إلّا السبيل التي قررها الله للحياة الإيمانية ، حفاظا على أصل الإيمان وعلى (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) المؤمنين (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) وهي حينذاك مكة المكرمة (الظَّالِمِ أَهْلُها) حيث لا يسمحون حرية للإيمان ولا يسامحون كتلة الإيمان (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمرنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا.

فالقتال في سبيل تحقيق دعوات هؤلاء المستضعفين ـ الإيمانية ـ قتال في سبيل الله ، هجمة دفاعية على الظالمين بحقهم تحريرا لهم عن نيرهم المذل ، وتحريرا لحق الحرية للإيمان المدل.

ولقد دعى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل أن يخرجه ربه من هذه القرية الظالم أهلها فأخرجه (١) بعد ما ما أحرجه الظالمون فيها :

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٧ في روضة الكافي عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) قال في حديث طويل : وقد كانت خديجة (عليها السّلام) ماتت قبل الهجرة بسنة ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة فلما فقدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سئم المقام بمكة ودخله حزن شديد وأشفق على نفسه من كفار قريش فشكى الى جبرئيل ذلك فأوحى الله عز وجل إليه : أخرج من هذه القرية الظالم أهلها وهاجر الى المدينة فليس لك اليوم بمكة ناصر وانصب للمشركين حربا فعند ذلك توجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى المدينة.

١٨٠