الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

الإسلامي ، ولو أن المشي أصبح أكثر السير لانقلبت المسيرة عما فوق الألف كيلو مترا إلى خمسة وعشرين.

ومهما اختلفت روايات المسيرة في «بياض يوم» أو «يوم» أو «يوم وليلة» فليست هي إلّا أربعا وعشرين ساعة مجموعة الليل والنهار ، حيث «يوم» تعني المجموعة لأن اللفظ الخاص بالنهار هو النهار كما الليل هو الليل ، ولا تعني «بياض يوم» إلّا القسم الذي تعوّد المسافرون أن يسيروا فيه وهو بياض اليوم إذ كانوا ـ في الأغلب ـ يستريحون ليلا ويسيرون نهارا (١).

وقد نتأكد أن المسيرة هي لقدر المجموعة بتعليل واجب القصر في المروي عن الإمام الرضا (عليه السّلام): «إنما وجب القصر في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل فوجب القصر في مسيرة يوم ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم فلو لم يجب في هذا اليوم فما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما» وكما نتأكد أنها «الغالب على المسير وهو أعظم السير» (٢).

إذا فالغالب على المسير وأعظم السير هو المعيار في قدر المسيرة على أية حال ، دون استجرار للوسائل السابقة إلى الزمن اللاحق ، كما لا تستجر اللّاحقة إلى السابق ، وإنما لكل زمن الأصل هو «الغالب على المسير وأعظم السير» وهو الآن يجتاز ألف كيلو مترا حيث إن أعظم المسير هو الباصات والغالب على المسير فيها لأقل تقدير ستون كيلومترا ، وهي مضروبة على ثلثي

__________________

(١) قد أفردنا رسالة بشأن القصر والإفطار باللغة العربية «متى نقصر من الصلاة» وأخرى بالفارسية «نماز مسافر با وسائل امروزى».

(٢) وهي صحيحة فضل بن شاذان عن الرضا (عليه السّلام) وقد مضت بهذين النصين

٣٠١

ساعات اليوم تصبح ٩٦٠ وهذا أقل قليل من التقدير دون أن نقف على حدّه (١).

ولا يرد علينا السؤال : أما كان يعلم النبي وأهل بيته المعصومون (عليهم السّلام) أن المسيرة تتقدم ، فلما ذا قرروا فيما قرروه ثمانية فراسخ؟.

حيث الجواب أنهم لعلمهم بذلك التقدم قرروا الأصل هو المسيرة بالأغلبين سيرا ومسيرا ، وإنما الثمانية إمارة مقطعية زمنية قرروها ما دامت المسيرة بالقوافل ، وكما نقرر اليوم ألفا من الكيلو مترات لحد القصر.

وفيما إذا سئلنا كيف تختصون أنتم الجدد بهذه الفتوى اليتيمة التي لا قائل بها ، والعلماء ـ قديما وحديثا ـ مجمعون على تقدير الثمانية؟.

نقول : إن قدامي العلماء لم يفتوا بالثمانية إلّا لأنها كانت المسيرة ، وكان الحدان في ذلك الزمان سيان ، وأما الآن وقد اجتازت المسيرة عشرات أضعاف الثمانية فلا يصح الجمود عليها جرّا للمسيرة السابقة بثمانيتها إلى اللاحقة التي أصبحت عشرات أضعافها ، وما هي إلا كجر الجمل بشعرة.

ذلك ، ولم تسبق سابقة الفتوى في المفروض اختلاف الحدين أن الحد هو الثمانية مع أن المسيرة أكثر منها ، اللهم إلّا تخييرا بينهما ، أم فتوى بالمسيرة كيفما كانت أو احتياطا بالجمع بين القصر والإتمام بين الحدين ، أم شذرا بأصالة الثمانية بتخيّل قليل الفرق بين الحدين حيث يسامح كما في حد الترخص بين سماع الأذان وخفاء الجدران (٢).

__________________

(١) لأن معدل السير الأكثري هو (٨٠) كيلو مترا ، والأكثر الآن من ساعات السير ثلاثة أرباع وهي (١٨) ساعة ومضروبهما / ١٤٤٠ كيلومترا ، فلينظر إلى الحد الاكثري وهو بين الحدين ـ / ١٠٠٠ كيلومترا.

(٢) ففي الحدائق الناضرة ١١ : ٣٠٥ : لا خلاف ولا اشكال في الاكتفاء بالسير كما تكاثرت به ـ

٣٠٢

وقد نستطيع دعوى الإجماع على تقدم المسيرة لأنهم رووا رواياتها الدالة على أصالتها ولم يأولوها أو يعترضوا عليها ، ولأن اختلاف التقدير هكذا ما كان ـ في الأكثر ـ يخلد بخلد.

فلم تكن المسألة مطروحة بين الفقهاء ، فلو كان إجماع فإنما هو على أصالة المسيرة ، ثم ولو كان إجماع على الثمانية المتخلفة عن المسيرة فهو مردود بمخالفة الكتاب والسنة ، إذ لا دور للإجماع في أصله ، فضلا عما يخالف الكتاب والسنة! فإنهما الأصلان الأصيلان في أحكام الله.

وفيما نسأل أن الأصل في الرباعيات هو الثنائية وقد زاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخريين في الحضر (١) فالأصل هو الثنائية حتى يتأكد

__________________

ـ الأخبار وكذا لا اشكال فيما لو اعتبرت المسافة بالتقدير فوافق السير.

انما الاشكال فيما لو اختلفا فهل يتحير في العمل على أيهما كان أو لزوم القصر ببلوغ المسافة بأحدهما أو أنه يقدم السير لأنه اضبط او يقدم التقدير احتمالات استظهر أولها في المدارك والظاهران وجهه ورود النص بكل منهما ، واحتمل في الروض تقديم السير ، قال : لأن دلالة النص عليه أقوى إذ ليس لاعتبارها بالأذرع على الوجه المذكور نص صريح بل ربما اختلفت فيه الاخبار وكلام الأصحاب وقد صنف السيد السعيد جمال الدين أحمد بن طاووس كتابا مفردا في تقدير الفراسخ وحاصله لا يوافق المشهور ، ولأن الأصل الذي اعتمد عليه المصنف وجماعة في تقدير الفراسخ يرجع إلى اليوم ، لأنه استدل عليه في التذكرة بان المسافة تعتبر بمسير اليوم للإبل السير العام وهو يناسب ذلك.

ويظهر من الذكرى تقديم التقدير ولعله لأنه تحقيق والآخر تقريب أقول : لا ريب ان الاعتبار بكل منها جيد بالنظر إلى دلالة النصوص المتقدمة عليهما إلا أن الاشكال في التقدير من حيث الاختلاف في تفسير الفرسخ كما عرفت من اضطراب كلامهم في الميل والرجوع إلى الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في موضع الاشتباه طريق السلامة والله العالم».

(١) نور الثقلين ١ : ٥٤٢ في الكافي عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : لما عرج برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن والحسين زاد ـ

٣٠٣

واجب الزيادة ، وليست إلّا في غير السفر ، فحين نشك في حد سفر القصر فالأصل هو الأصل الثنائية.

نجيب أنه لا أصل لتلك الزيادة ، إذ ليس للرسول زيادة ولا نقيصة في فرائض الله فإنه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ولم يستثن عن الرباعية إلّا السفر المردّد بين الأقل والأكثر فيعاكس الأصل والنتيجة وجوب الرباعية حتى نقطع بواجب التقصير.

وهنا فروع :

الأولى : المناط في أغلب السير وأعظم المسير هو المتداول في القطر الذي تسكنه ، دون سائر الأقطار ، كما المناط في القوت الغالب الذي تتبناه زكوة الفطرة هو الغالب في البلد الذي تعيش فيه ، ولأن البلاد في كل دولة متشابهة في وسائل السير وأغلبيتها ، بل وفي كل الأقطار ، لذلك لا نجد اختلافا في أغلبية الوسائل على الأغلب.

الثانية : إذا تساوت وسائل السير برية وبحرية وجوية ، فلكلّ حسبه من

__________________

ـ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبع ركعات شكرا لله خارجا فأجاز الله له ذلك وترك الفجر ولم يزد فيها شيئا لضيق وقتها لأنه يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار فلما أمره بالتقصير في السفر وضع عن أمته ست ركعات وترك المغرب لم ينقص منها شيئا.

أقول : وكيف يسبق الرسول في زيادة الركعات ثم يمضيها الله تعالى ، وإنما الزيادة لو كانت هي من الله في البداية كما في المصدر عن عيون الأخبار في باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان انه سمعها من الرضا (عليه السّلام) فإن قال : فلم قصرت الصلاة في السفر؟ قيل : لأن الصلاة المفروضة أولا انما هي عشر ركعات والسبع انما زيدت فيها بعد فخفف الله عنه تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلا يشتغل عما لا بدّ له من معيشته رحمة من الله تعالى وتعطفا عليه إلا صلاة المغرب فإنها لم تقصر لأنها صلاة مقصرة في الأصل ... أقول : وهذه مقدمة الصحيحة التي مضت في اصالة المسيرة والغالب على المسير وأعظم السير.

٣٠٤

مسيرة يوم ، إذ لا مرجح في البين حتى يكون الراجح هو الأصل.

الثالثة : المعيار في الأسفار الجوية هو بين نقطتي الصعود والهبوط ، فهو منحني السير دون اختصاص بالقدر الأفقى ، حيث العمودان المنحنيان صعودا وهبوطا داخلان في السير الجوي.

الرابعة : المعيار في الأغلبين هو البلد الذي تسافر منه دون خصوص الوطن ، فإذا كان الأغلبان في الوطن ألفا وفي البلد الذي تسافر منه أقل منه أو أكثر فهو المناط دون الوطن ، فإن اجتمعت بلاد في مسيرك تختلف فيها الأغلبية فالمعيار هو المجموع.

فإذا كانت الغلبة في وطنك مع الوسائل البحرية ثم نزلت بلدة تكون الأغلبية فيها بالقوافل ، ثم إلى بلدة تكون السيارات هي سيدة الموقف ، ثم إلى بلدة السيدة فيها الطائرات ، فالمعيار ـ إذا ـ هو مجموعة السيدات في مختلف المواقف لمسيرك ، فإذا كانت المجموعة مسيرة يوم فقصر وإلا فلا قصر.

فأربعة وعشرون ساعة هي مجموعة السير بأغلب وسائله ، واحدة أو أكثر ، وليس المناط ما تركبه أنت.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ١٠٢.

٣٠٥

هذه هي صورة صلاة الخائف في جماعة ، سواء أكانت صلاته قصرا لسفر أم تماما ، وكأبرز الائمة الذين يصلون بالمؤمنين هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) هؤلاء الخائفين في أرض المعركة (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ، حيث الصلاة المقامة في أرض المعركة لا تختص بقسم خاص.

(فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) قياما لإقام الصلاة معك (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) معهم (فَإِذا سَجَدُوا) هؤلاء المصلون السجدة الآهلة للركعة وهي السجدتان «فليكونوا» هم أولاء «من وراءكم» أنتم الطائفة الثالثة المراقبة ، وتراه كونا خارج الصلاة حيث يكتفى لهم بركعة واحدة كما في رواية (١)؟ أم كونا

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢١١ عن أبي هريرة نقل القصة التالية بشأن نزول الآية إلا انه قال : وأن جبرئيل أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم فيكون لهم ركعة ركعة ولرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ركعتان.

وفيه عن يزيد الفقير سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما؟ قال : الركعتان في السفر تمام انما القصر واحدة عنه القتال ، بينا نحن مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فصلّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جلس فسلم وسلم الذين خلقه وسلّم أولئك فكان لرسول الله ركعتين وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ..).

وأخرج مثلهما عن سالم عن أبيه وعن حذيفة وعن أبي هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

٣٠٦

خارج الجماعة فليكفوا صلاتهم بركعة أخرى ، حيث الفرقة الباقية من المحاربين يراقبون كما في أخرى؟.

كونهم من وراءكم أنتم المراقبين ثم (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) ليست لتدل إلا على انقطاع صلاة الطائفة الأولى جماعة لا أصلا ، وقصر الأربع الى ركعة واحدة قصر قاصر لا يقتضيه الخوف ، فإنما يقصر الخوف هنا ركعتين إبقاء في الرباعية للأخريين ، ثم وقصرا عن الجماعة في الثانية رعاية لمن لم يصل بعد وحياطة من العدو ، وقد تظافرت الروايات بشأن الركعتين سنة وشيعة (١) فقد افترقت الجماعة المسلمة في أرض المعركة

__________________

ـ ومن طريق أصحابنا ما روى عن أبي جعفر (عليهما السّلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلّى كذلك لعسفان.

وعن ابن بابويه سمعت شيخنا محمد بن الحسن يقول : رويت انه سئل الصادق (عليه السّلام) عن قول الله عز وجل (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ...) فقال : هذا تقصير ثان وهو أن يرد الرجل ركعتين إلى ركعة(الحدائق الناضرة ١١ : ٢٦٧ ، أقول : «ولعلها صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال .. في الركعتين تنقص منهما ركعة».

(١) لقد تظافرت الروايات من طريق الفريقين بإن صلاة الخوف ركعتان وهي المعول عليها لتظافرها وموافقتها لقضية الخوف بالقدر المحتاج إليه.

ففي الدر المنثور ٢ : ٢١٢ ـ أخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلّم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من طريق صالح بن خوات عمن صلّى مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة تجاه العدو فصلّى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصلوا تجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلّم بهم.

وفيه أخرج عبد بن حميد والدار قطني عن أبي بكرة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلّى بأصحابه صلاة الخوف فصلّى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلّم فتأخروا وجاء الآخرون فصلّى بهم ـ

٣٠٧

__________________

ـ ركعتين ثم سلّم فكان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اربع ركعات وللمسلمين ركعتان ركعتان» أقول : عموم «تقصروا من الصلاة تشمل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأحرى ، فالصحيح هو الصورة المتقدمة ، وقد تعني «أربع ركعات» انه صلّى مرتين لطائفتين.

وقد روى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الركعتان للمأمومين ابن مسعود وفيها فقام هؤلاء مقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ، ومثله جابر وابن عباس وعلي (عليه السّلام) في قوله (عليه السّلام): صليت صلاة الخوف مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ركعتين ركعتين إلا المغرب فإنه صلاها ثلاثا.

وفيه أخرج البزاز عن علي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في صلاة الخوف : امر الناس فأخذوا السلاح عليهم فقامت طائفة من ورائهم مستقبلي العدو وجاءت طائفة فصلوا معه فصلّى بهم ركعة ثم قاموا إلى الطائفة التي لم تصل وأقبلت الطائفة التي لم تصل معه فقاموا خلفه فصلّى بهم ركعة وسجدتين ثم سلّم عليهم فلما سلّم قام الذين قبل العدو فكبروا جميعا وركعوا ركعة وسجدتين بعد ما سلّم.

ومن طريق أصحابنا ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : صلّى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأصحابه في غزاة ذات الرقاع ففرق أصحابه فرقتين فأقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه فكبر وكبروا فقرأ وانصتوا فركع وركعوا فسجد وسجدوا ثم استمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائما فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلّم بعضهم على بعض ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكبر وكبروا وقرأ وانصتوا وركع فركعوا وسجد وسجدوا ثم جلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتشهد ثم سلّم عليهم فقاموا ثم قضوا لأنفسهم ركعة ثم سلّم بعضهم على بعض وقد قال الله لنبيه (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ..) ثم قال : فهذه صلاة الخوف التي امر الله عز وجل بها نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال : من صلّى المغرب في خوف بالقوم صلّى بالطائفة الاولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين.

وفي صحيح عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السّلام) انه قال : إذا كانت صلاة المغرب في الخوف فرقهم فرقتين فيصلي بفرقة ركعتين ثم جلس بهم ثم أشار إليهم بيده فقام كل انسان منهم فيصلي ركعة ثم سلموا وقاموا مقام أصحابهم وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ودخلوا في الصلاة وقام ـ

٣٠٨

حفاظا على جماعة الصلاة الى ثلاث : فرقة مراقبة معنية من الخطاب في «وراءكم» وفرقة صلت ركعة ثم (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) ثم (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) ثم الثلاث ككل (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) في كل الأحوال الثلاث ، حيث تعني «ليأخذوا» كل أصحابها ، والحذر هو العدة الفكرية والعملية في الحظر عن العدو.

إذا فلم تفت من الخائف إضافة الى الركعتين الأخريين إلا حالة الجماعة في ثانية الأوليين ، وذلك فيما إذا كانت الجماعة ميسورة دون تخوّف عن أية وقفة ، وإلا فليصلوا فرادى حالة الحراك : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ..).

فلصلاة الخوف في كل مجالاتها قصر هو قضيتها ، قصرا من الركوعات والسجودات إذا لزم الأمر ، أم قصرا من الركعتين جماعات وفرادى حين لا تخوّف عن ركوعات وسجودات ، وقصرا عن جماعة الركعة الثانية في الجماعات.

ولا قصر عن الركعات إلّا في الرباعيات (١) اللهم إلّا في الركوعات

__________________

ـ الإمام فصلّى بهم ركعة ثم سلّم ثم قام كل رجل منهم فصلّى ركعة فشفعها بالتي صلّى مع الإمام ثم قام فصلّى ركعة ليس فيها قراءة فتمت للإمام ثلاث ركعات وللأولين ركعتان في جماعة وللآخرين وحدانا فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة وللآخرين التسليم».

(١) المصدر أخرج الدار قطني والحاكم عن أبي بكرة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلّى بالقوم في الخوف صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرف وجاء الآخرون فصلّى بهم ثلاث ركعات فكانت للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ست ركعات وللقوم ثلاث ثلاث ، وفيه عن علي (عليه السّلام) قال : صليت صلاة الخوف مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ركعتين ركعتين إلا المغرب فإنه صلاها ثلاثا ، وفي الوسائل في الصحيح عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : صلاة الخوف المغرب يصلي بالأولين ركعة ويقضون ركعتين ويصلي بالآخرين ركعتين وتقضون ركعة.

٣٠٩

والسجودات قضية الخوف والحفاظ على النفس.

ذلك «وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر الذي لا خوف فيه» كما في الصحيح (١).

ذلك : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) وهما سلاحان اثنان تقية عن العدو إذ (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) فلا يكفي مجرد أخذ الأسلحة دون أخذ الحذر كما لا يكفي أخذ الحذر دون أخذ الأسلحة.

ذلك حين لا عذر عاذرا عن حمل الأسلحة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) تخفيفا عن حملها حالة الصلاة وسواها لكن (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) على أية حال حيث لا تعذرون فيه بحال (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢) فذلك العذاب المهين للكافرين مما يهين بأسهم فلا يخيّل الى المؤمنين أن لهؤلاء قوة قاهرة يخاف منها ، فإنما أخذ الحذر منهم لكيلا يميلوا عليكم ميلة واحدة فتصبح لهم قوة قاهرة.

وهكذا يهين الله كيد الكافرين في الأولى والأخرى ، وليهوّن على المؤمنين مطاردتهم بكل صبر وصمود.

فالتيقظ في النفس والتحفظ من العدو في أرض المعركة مفروض على المناضلين حتى حالة الصلاة فضلا عن غيرها ، حيث الغفلة تمكّن العدو منهم.

ولا يمنع فرض الصلاة عن مراقبة العدو ، فانها فرض في فرض ، وابتعاد

__________________

(١) وهو صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال قلت له صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعا؟ قال : نعم وصلاة الخوف ...» (الوسائل الباب ١ من صلاة الخوف والمطاردة».

٣١٠

عن كيد الشيطان في صلاة الرحمن ، فيا له من حنان لكتلة الإيمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ومن هنا نعرف مدى وجوب الحفاظ على النفس من العدو أيا كان وإن استلزم القصر من عمود الدين ، فضلا عن سائر الواجبات ، اللهم إلّا التي هي أهم من النفس كالحفاظ على أصل الدين وكيان المسلمين.

ذلك ولأن الصلاة سلاح من أسلحة المعركة ، صلة بالله وسيلة لإرعاب أعداء الله وتثبيتة أن المؤمنين يحاربون لأجل إقام الصلاة وسائر الصّلات بالله ، وليعرف العدو أنهم لا يهابونهم في أرض المعركة فلا يتركون صلاتهم تخوفا منهم مهما قصروا منها حفاظا عن كيدهم.

وذلك التوازن في تنظيم سلاحي الصلاة والسلاح مع أخذ الحذر ، استثارة لحاسة الحذر ، وسكب لفيض الثقة ، وهو طابع المنهج المبلج القرآني لتربية النفوس المؤمنة وترقية الصف الإسلامي السامي في مواجهة العدو الماكر الحاكر.

فكما لا بد للمناضل من تنظيم أسلحته النارية والتكتيكات الحربية ، كذلك عليه تنظيم سلاح الصلاة وصلاحها حالة الحرب كيلا تفوت ولا تفوّت ، فليقصر منها كما يناسب طبيعة المعركة وجوّها.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ١٠٣.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ) وأديتم هذه «الصلاة» المقصور منها حالة الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) في كل حالاتكم وحركاتكم وسكناتكم في ثكناتكم الحربية وسواها (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) جبرا من قصر الصلاة وكسرها إذ كنتم تعذرون.

٣١١

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) فلا خوف ولا سفر ، فإن سفر القصر دون خوف ليس مطمئنا كما الخوف ، فقد تلمح (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) بإلحاق سفر القصر بالخوف ، وإلا لكان صحيح العبارة «فإذا زال الخوف».

فالاطمئنان اثنان ، اطمئنان للروح عبارته «زال الخوف» واطمئنان للجسم وعبارته «استقررتم» وقد تجمعهما «اطمأننتم» عن خوف الروح وعدم استقرار الجسم.

ذلك ، وكما أن اطمئنان الروح هنا محدد بسكون النفس عن خوف العدو الفاتن وما أشبه ، كذلك اطمئنان الجسم محدد بسكون الجسم عن مسيرة يوم بأعظم السير والغالب على المسير.

إذا فلا مطاردة بين (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) والسنة المفترضة القصر من صلاة المسافر مسيرة يوم.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة الحاضرة دون المقضية ، أقيموها شاملة الشرائط كاملة ، وكيف تكفي الصلاة المقصورة السابقة عن المقامة التامة ، وهلّا أجلت حتى تقام كاملة فعجلت ناقصة؟.

ذلك ل (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ـ «كانت» على مدار الزمن الإيماني (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بالله «كتابا» ثابتا مفروضا «موقوتا» لها وقت مقرر محدّد لا يعجّل عنه ولا يؤجّل ، فإن لكلّ من الفرائض اليومية وقتها مهما ضاقت أو وسعت ، فلا يصح تأجيلها مقامة تامة بديلة عن تعجيلها في وقتها الموقوت لها ، فالقصر من الصلاة حالة الخوف وأي عذر عاذر أكمل من إقامتها بعد وقتها ، ف «لا تترك الصلاة بحال» من الأحوال.

ففاقد الطهورين أو المتيمم والخائف والمريض ، هؤلاء يصلون كما

٣١٢

يستطيعون وتجزي عنهم ولا يسمح لهم تأجيلها عن وقتها الموقوت لها رجاء إقامتها بكل واجباتها ، فمتى زالت أسباب الرخصة في صفة من صفاتها عادت الى صفتها المفروضة ، مقامة كما فرضت أول مرة.

فكون الصلاة كتابا موقوتا لا يقضي بعدم وجوب قضاء فائتها حيث الوقت وقتان أصيل وبديل ، ومن الدليل على البديل ـ مؤيدا بالسنة القطعية ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) في وجه من وجوهها وهو «حين تتذكر» إن نسيتها في وقتها أو تناسيتها.

وتوجيه «موقوتا» ب «موجبا» (١) ـ ردا على القول إنها محددة الوقت فلا قضاء لها بعد وقتها ـ لا يزيد إلّا مشكلة على مشكلة ، فإن سليمان هذه المختلفة الزور هالك حالك على أية حال ، حيث ترك الحاضرة وله مجال ، فلا تنحل مشكلته بتفسير الموقوت بالموجب ، حيث الموجب مستفاد من «كتابا» ولا تعنيه «موقوتا» لغويا ، فهو لغو من القول تلغى به اللغة وتلغى العصمة الرسالية

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٤٥ في الفقيه وقال الصادق في الآية «موقوتا» : مفروضا ، وفيه عن العلل عن أبي جعفر (عليهما السّلام) في الآية (كِتاباً مَوْقُوتاً) قال : موجبا ، انما يعني بذلك وجوبها على المؤمنين ولو كانت كما يقولون لهلك سليمان بن داود حين أخر الصلاة حتى توارت بالحجاب لأنه لو صلاها قبل ان تغيب كان وقتا وليس صلاة أطول وقتا من العصر.

وفيه عنه (عليه السّلام) في الآية يعني مفروضا وليس يعني وقت فوتها إذا جاز ذلك الوقت ثم صلاها لم يكن صلاته هذه مؤداة ولو كان ذلك كذلك لهلك سليمان بن داود حين صلاها لغير وقتها ولكن متى ما ذكرها صلاها. وفيه عن الكافي عن داود بن فرقة قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال : كتابا ثابتا وليس ان عجلت قليلا أو أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضيع تلك الاضاعة فإن الله عز وجل يقول لقوم (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وفيه عن أبي جعفر (عليه السّلام) أي موجوبا.

٣١٣

لسليمان ، إذ لم تعن «ردوها علي» رد الشمس إذ لا ذكر لها ولا لمحة من ذي قبل ، إنما المذكور «الصافنات الجياد» وهي التي «طفق» سليمان لها (مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) وليس للشمس سوق وأعناق!.

ولقد هلك مختلق هذه الرواية على أهل العصمة ولم يهلك سليمان القرآن والله المستعان.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ

٣١٤

عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥)

٣١٥

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ١٠٤.

لقد نزلت هذه الآية وثانية في آل عمران بشأن جرحى الحرب عند الهزيمة العظيمة في أحد تأمرهم بملاحقة المشركين دون أي وهن هو طبيعة حال الانهزام (١).

فأنتم المناضلون الجرحى المفروضة عليكم الصلاة على تخوف في أرض المعركة ، لا تفتكروا أن الصلاة والهزيمة تسمحان لكم أن تهنوا في ابتغاء القوم (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) على أية حال ـ صلاة وغير صلاة ـ على جراح وغير جراح :

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٣ : ١٤٠) وحين لا يجوز الوهن في ابتغاء القوم وأنتم جرحى فبأحرى وأنتم أصحاء ، حكم صارم غير محصور بحالة ولا محسور ، ولا هو مقيد بشأن النزول.

ولماذا تهنون في ابتغاء القوم والألم في النضال شرع سواء بينكم ولكم فضل القوة الروحية عليهم (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) ومن ثم قوة الله العليم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٤٦ في تفسير القمي أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما رجع من وقعة أحد ودخل المدينة نزل عليه جبرئيل (عليه السّلام) فقال : يا محمد ان الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ولا يخرج معك إلا من به جراحة فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مناديا ينادي : يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها وأنزل الله على نبيه (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) ... فقال عز وجل : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ..).

٣١٦

الحكيم حيث فرض عليكم الجهاد بعلمه فيما يحصل وحكمته لما يحصل ، وإن لكم (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ).

فهذه عديدة من كلمات الله تضع حاسمة الخطوط الرئيسية في المعركة ، كاشفة عن الشقة البعيدة والمشقة العتيدة بين جبهتي الصراع.

ذلك ، فحين يصر العدو الكافر الماكر على مواصلة الحرب فما أجدر المؤمنين على مواصلتها وبأحرى وأشد إصرارا ، تصبّرا على آلامها ، واستئصالا لفتنهم قدر المستطاع.

فسبيل الضفّة المؤمنة ـ إذا ـ الاحتمال على أية حال دونما انهيار ولا فرار مهما تعلم أنها تألم ف (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ)!.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) كيف اعتلاج المشاعر واختلاج المحاور «حكيما» في أمره الإمر بشأن الجهاد الصامد ، والنهي عن الحياد الهامد البائد المائد.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) ١٠٥.

على ضوء هذه اليتيمة المنقطعة النظير نعرف مدى حاكمية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين الناس ، حاكمية هي في الأغلبية الساحقة في الحقول السياسية والجماعية والحربية أماهيه من دون الأحكامية المتعودة ، حيث الحاكم في الحقل الأحكامي هو الله بكتابه وسنة نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

__________________

(١) وقد وردت روايات بشأن نزول هذه الآيات مما أوجبت التنديد الشديد المديد بالذين أرادوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون للخائنين خصيما ويجادل عن الذين يختانون أنفسهم وهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، وهم أولاء الذين يكسبون إثما ثم يرمون به بريئا ـ

٣١٧

فهنالك إراءة ربانية لهذا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إضافة الى القرآنية العامة ، إراءة خاصة في تأويل الأحكام الشرعية ، هي له خاصة أو من علّمه من خلفاءه المعصومين ، وخاصة أخرى هي بسنته الثابتة غير المفرقة ، وثالثة هي بما أراه الله كافة المصالح الملزمة الحيوية الإسلامية ، فهو ـ إذا ـ حاكم رباني بين الناس بما أراه الله ، لا رأى له من سواه.

والمحور الأصيل مما يحكم به الرسول بين الناس هو الكتاب ف (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) كأصل في هذا الكتاب ، وكفرع على ضوء سائر الوحي.

__________________

ـ ويريدون أن يضلوا الرسول بما ضلوا وهم يشاقون الرسول بعد ما تبين لهم الهدى.

ففي نور الثقلين ١ : ٥٤٧ عن تفسير القمي في الآية كان سبب نزولها أن قوما من الأنصار من بني أبيرق اخوة ثلاث كانوا منافقين بشير ومبشر وبشر فنقبوا على عم قتادة بن النعمان وكان قتادة بدريا وأخرجوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا فشكى قتادة ذلك إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا رسول الله ان قوما نقبوا على عمي وأخذوا طعاما كان أعده لعياله ودرعا وسيفا وهم أهل بيت سوء وكان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل فقال بنو أبيرق لقتادة : هذا عمل لبيد بن سهل فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال : يا بني أبيرق أترمونني بالسرق وأنتم اولى به مني وأنتم المنافقون تهجون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتنسبونه إلى قريش لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم فداروه وقالوا له : ارجع يرحمك الله فإنك بريء من ذلك فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة وكان منطيقا بليغا فمشى إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا رسول الله ان قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف ونسب فرماهم بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لذلك وجاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له : عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة وعاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة ورجع إلى عمه وقال : يا ليتني مت ولم أكلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد كلمني بما كرهته فقال عمه : الله المستعان ، فأنزل الله في ذلك على نبيه هذه الآيات إلى (بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

٣١٨

ولقد أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليحكم بين الناس ـ كأصل ـ بالقرآن ، كسائر الرسل بسائر الكتب ، حيث (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ..) (٢ : ٢١٣).

ولو أن (بِما أَراكَ اللهُ) هي نفس (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) لكان الصحيح الفصيح (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) كما (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ..) (٤٢ : ٧).

ذلك ، وليس الحكم القضاء في الدعاوي وسائر الأحكام في مختلف الحقول ، غير المنصوصة في القرآن ، ليست هذه مما أنزل إليه في نص الكتاب أو ظاهره ، اللهم إلّا في تأويله اتساعا علميا له بالأحكام ، وفي سنته تفصيلا لكافة الأحكام ، وفيما أراه الله رؤية معرفية تجعله حاكما طليقا بين الناس في كل قليل وجليل ، فلا يخطأ في أي حكم بيانا وتطبيقا ، كما لا يخطأ في الأحكام القضائية والسياسية والحربية أمّاهيه ، مما لا نص لها في الكتاب والسنة.

فكما (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) هي وحيه الأصيل ، كذلك (بِما أَراكَ اللهُ) هي وحي له آخر يحلق على سائر الوحي ، إذا فكل أحكامه عاصمة معصومة بما أراه الله ، حتى في الأقضية الخاصة.

ف «إنا» بجمعية ربانية الصفات «أنزلنا» ـ «بالحق» ـ «إليك» ـ «بالحق» ـ «الكتاب» بالحق ، فذلك الإنزال هو في مثلث الحق الثابت الذي لا حول عنه ، ولماذا؟ :

(لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) حكما في كافة البينونات السياسية والاقتصادية

٣١٩

والثقافية والعقيدية والخلقية والعملية ، فردية وجماعية ، إزالة لكل بين وبون عن ذلك البين وبماذا؟ :

(بِما أَراكَ اللهُ) وتراها إراءة بصرية؟ وليس الحكم ـ فضلا عن مادته ـ مبصرا! أم إراءة عقيدية؟ وقد كان يعتقد كل ما أنزل الله عليه وينزله قبل إنزاله!.

أم عرّفك الله؟ وهذا هو الصحيح ، وهذه من الحكمة النازلة عليه مع الكتاب : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (٤ : ١١٣) فلا بد وأنها حكمة مع القرآن مهما كان القرآن نفسه أصل الحكمة لحد أصبح برهانا للرسول لا مرد له : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥٤ : ٥).

ولقد كفت (بِما أَراكَ اللهُ) برهانا ساطعا على أنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما كان ليحكم إلّا بإراءة ربانية ، دون الرؤية العقلية أم رؤية الشورى أماهيه ، إنما هي عقلية الوحي الصارم لا سواه ، كما وفي عشرات من الآيات ما تعني : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (٦ : ٥٠) (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) (٧ : ٢٠٣) (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (١٠ : ١٥).

وليس يعني هذه الإراءة الربانية أنه سبحانه فوض إليه أمرا من التكوين أو التشريع ، اللهم إلا تفويضا في أن يحكم بما أراه الله وحيا وكما فوض الى خلفاءه المعصومين أن يحكموا بما أراهم رسول الله بوحي من الله (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٤٧ في أصول الكافي عن محمد بن سنان قال قال أبو عبد الله (عليه السّلام): لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى الائمة (عليهم السّلام) قال الله عز وجل (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ـ

٣٢٠