الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

٧ إن المسيح يعتبر شهيدا على أهل الكتاب ما دام فيهم ؛ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فكيف يكون شهيدا عليهم يوم القيامة أنهم آمنوا به قبل موتهم وليس هو فيهم؟.

٨ (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) دليل بقاء اليهود والنصارى إلى يوم القيامة فكيف هم مؤمنون به قبل موتهم؟.

٩ قضية التأكد لعدم قتله وصلبه عدم موته حتى يؤمن به أهل الكتاب إيمانا اختياريا ، وأما إيمانهم الاضطراري به قبل موتهم فلا يمتّ بصلة لتأكيد السلب.

١٠ لا نرى أي يهودي يؤمن بالمسيح قبل أن يموت ، ولو آمن به لم ينفعه إيمانه (١) وهذه عشرة كاملة تؤيد وتؤكد أن الكتابيين الكائنين قرب موت

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٧١ عن تفسير القمي عن شهر بن حوشب قال قال لي الحجاج يا شهر! آية في كتاب الله قد اعيتني فقلت أيها الأمير أية آية هي؟ فقال : قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) والله أني لأمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد فقلت أصلح الله الأمير ليس على ما تأولت قال كيف هو؟ قلت : إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلّا من آمن به قبل موته ويصلي خلف المهدي قال : ويحك أنّى لك هذا ومن أين جئت به؟ فقلت : حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام فقال : جئت والله بها من عين صافية.

وفي الدر المنثور ٢ : ٣٤١ ـ أخرج الفرياني وعبد بن حميد وصححه عن ابن عباس في قوله (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) قال : خروج عيسى بن مريم ، وفيه عنه في (قَبْلَ مَوْتِهِ) قال : قبل موت عيسى ، وفي ثالث عنه يعني أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى سيؤمنون به» وفيه أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : إذا نزل آمنت به الأديان كلها ، وفيه أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : إذا نزل عيسى (عليه السّلام) لم يبق يهودي في الأرض إلّا آمن به فذلك حين لا ينفعهم الإيمان ، وأخرج مثله ابن جرير عن أبي مالك والحسن.

٤٤١

المسيح (عليه السّلام) سوف يؤمنون به.

وقد يعم ذلك الإيمان إيمان اليهود أنهم ما قتلوه وما صلبوه وإن لم يؤمنوا به تماما ، وتلائمه (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) حيث تلمح ببقاء اليهود ـ وإن قليلا ـ إلى يوم القيامة ، فقد ينقسم الإيمان به قبل موته إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ ليؤمنن به كامل الإيمان وقضيته الإيمان بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث يرون المسيح (عليه السّلام) يصلي وراء المهدي (عليه السّلام) ، وهذا هو الإيمان الصالح فإن وقفة الإيمان على المسيح أيا كان غير مقبول إذ قضيت نبوته.

٢ (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أن يدخلوا في حزبه ، فيصبحوا مسيحيين حقيقيين ، وهذا أقل من الأوّل.

٣ (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أنه ما قتل وما صلب وهم جماعة من اليهود الذين لا يؤمنون به كالأول او الثاني ، فإنما يؤمنون بانه (ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) حيث يرونه يصلي وراء المهدي (عليه السّلام) ، وهذا أقل من الأولين. ومن ذلك توافق اليهود والنصارى في زماننا على أن المسيح (عليه السّلام) لم يصلب ، مهما كان توافقا سياسيا أم دينيا.

ذلك وقد يروى عن رسول الهدى (عليه السّلام) قوله : يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ويفيض المال وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين واقرؤا إن شئتم (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) موت عيسى بن مريم

٤٤٢

(عليهما السّلام) (١) و «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم» (٢).

فليكن إمام المسلمين حينذاك أفضل من المسيح حتى يكون إمامهم دون المسيح ، فهل هو إلا المهدي القائم من آل محمد (عليهم السّلام)؟! وكما في رواية أخرى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «.. فإذا هم بعيسى فتقام الصلاة فيقال له تقدم يا روح الله فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم ..» (٣). و «تقدم أنت فصل بنا» (٤) مما يدل أنه يصلي خلف إمام

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٤٢ ـ أخرج ابن مردوية عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يوشك ... ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

(٢) المصدر أخرج أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي في الأسماء والصفات قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) : ..

(٣) المصدر أخرج أحمد عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم): يخرج الدجال في خفقة من الدين وأدبار من العلم ـ إلى قوله (صلّى الله عليه وآله سلّم) ثم ينزل عيسى فينادي من السحر فيقول يا أيها الناس ما يمنعكم من أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون : هذا رجل حي فينطلقون فإذا هم بعيسى فتقام الصلاة ... فإذا صلوا صلاة الصبح خرجوا إليه فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء فيمشي إليه فيقتله حتى أن الشجرة تنادي يا روح الله هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحد إلّا قتله».

(٤) أخرج معمر في جامعه عن الزهري أخبرني عمرو بن سفيان الثقفي أخبرني رجل من الأنصار عن بعض أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله سلّم) قال ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) الدجال ـ إلى أن قال ـ : فينزل عيسى عند صلاة الفجر فيقول له أمير الناس تقدم يا روح الله فصل بنا فيقول : إنكم معشر هذه الأمة أمراء بعضكم على بعض تقدم أنت فصل بنا فيتقدم فيصلي بهم فإذا انصرف أخذ عيسى حربته نحو الدجال فإذا رآه ذاب كما يذوب الرصاص فتقع حربته بين تنروته فيقتله ثم ينهزم أصحابه فليس شيء يومئذ يجن أحدا منهم حتى أن الحجر يقول : يا مؤمن هذا كافر فاقتله والشجر يقول : يا مؤمن هذا كافر فاقتله.

٤٤٣

المسلمين فهل هو إلّا الأفضل من المسيح (عليه السّلام) وهو المهدي من آل محمد (عليهم السّلام).

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ

__________________

ـ أقول : قصة نزول المسيح متواترة من طريق الفريقين لا نكير لها ، وهي تؤيد أنه حي حتى الآن دون ريب.

٤٤٤

وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧٠)

٤٤٥

«فبظلم» عظيم ما أعظمه (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) راجعين عن حاق الشرعة التوراتية (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) تضييقا عليهم حتى يفيقوا عن غفوتهم ، فقد حرم الله عليهم «بظلم» ـ و (بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) حيث جمعوا بين عصيان العقيدة الصالحة وعصيان العمل الصالح فكفروا (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وذلك جمع بين عذاب في الدنيا وعذاب الآخرة.

هذه الظلامات الأربع وهي التخلفات الرئيسية عن شرعة الله أصلية وفرعية هي التي سبّبت تحريم طيبات عليهم ككل ، كافرين وعصاة ومؤمنين ف (اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).

أجل وطيبات أحلت لهم هي : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٥ : ١٤٦).

بلى ولأنهم جاسية قلوبهم ، غليظة أكبادهم ، لا يحنون رؤوسهم إلا للمطارق أو نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة كأنه واقع بهم.

هذه هي الأكثرية الظالمة الصادة عن سبيل الله الآكلة الربا وأموال الناس بالباطل.

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢).

(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) لا يعني فقط علماءهم فإن منهم ـ بل وأكثرهم ـ (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

٤٤٦

ولا فقط اتقياءهم غير العلماء إذ قد يضلّلهم العلماء السوء فيضلون عن جهالة ، ولو كان القصد هنا الأتقياء لكانت الصيغة السائغة نفس «الأتقياء».

بل هم الجامعون بين الرسوخين في علم الإيمان عن علم ، فهم النافذون في المعرفة الكتابية والحالة الإيمانية بما عرفوه من كتاب الله.

ذلك ف «المؤمنون» هم سائر المؤمنين الكتابيين الماشين في ظلال الراسخين في العلم منهم ، فهم المقلدون صالحي علماءهم (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قرآنا وسنة (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وهو كل كتابات الوحي قبل القرآن.

هذا هو الطرف الأصيل عقيديا لإيمانهم ، جامعا لمجامع الإيمان أصليا وفرعيا ، ومن ثم تفصيل تقديما لأصيل أعمال الإيمان على أصيل الإيمان.

ولماذا «المقيمين» نصبا وبعدها مرفوعان اثنان؟ قد يعني نصبها رفعها بين سائر مظاهر الإيمان بمعنى : أخص بالذكر بين المؤمنين ككل (الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ).

فلا يعني اختصاص إقام الصلاة بين سائر بنود الإيمان ، بل هو اختصاص بين أعمال الإيمان.

ثم (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فإنهم في الأكثرية الطليقة من ذكرهم يردفون بالمقيمين الصلاة.

ومن ثم تفصيل لأصل الإيمان ككل (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وعدم الإختصاص هنا بعد الإختصاص في (الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) لأن عادم الإيمان بالله واليوم الآخر عادم لأصل الإيمان فلا مورد إذا لاختصاصهم بين «المؤمنون».

فما أرتبه ترتيبا رتيبا رطيبا أن يقدم (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) ثم التابعون لهم : «المؤمنون» وفي حقل الإيمان يتقدم عمل الإيمان في أفضل

٤٤٧

مظاهره : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ثم الزكاة التالية لها (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ثم يفسر عقيدة الإيمان بعد ما فسر عمله كأفضله : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والنتيجة ككل «أولئك» الأكارم في شطري الإيمان بشرطيه عقيديا وعمليا (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).

أجل ، فالعلم الراسخ في القلب هو قلب العلم ولزامه راسخ الإيمان ، وهو العلم المستقر الذي لا يشوبه جهل أو جهالة في مواد الإيمان عقيديا وعمليا.

واما العلم والمعرفة غير الراسخة في القلب فقد تتأرجف وتنقلب كفرا وجحودا أعاذنا الله منه ، اللهم إلّا المعرفة السالكة سبيل الكمال تأييدا من ذي الجلال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

ولكي يعلم أن الوحي سلسلة موصولة واحدة من إله واحد مهما اختلفت فيه بعض المظاهر ينبهنا ربنا :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣).

فالوحي الرسالي في أصله واحد مهما تكثر في فصله ونسله قضية مختلف الحاجات والظروف ، وهنا (النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) يعم إلى سائر اولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى ، من دونهم من أصحاب السمو الرسالي كإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود ، فهؤلاء التسعة هم في الدرجة الثانية من الوحي ، ومن ثم من (لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ومن ثانية الدرجة الثانية اثني عشر نبيا ذكروا في سائر القرآن ، ويعرف محتد كلّ في رسالته ونبوته من الآيات التي تحمل ذكراهم بهداهم.

٤٤٨

وذكر نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أولا وهو آخرهم مبعثا لأن القصد ذكر النبوة الأصيلة التي يرأسها نبينا ، ومن ثم نوح وهو أوّل النبيين من أولي العزم مهما سبقه نبي كادريس ، والمشابهة بين الوحي إلى اوّل النبيين الأصلاء وآخرهم تعني أنهم سلسلة موصولة واحدة من منبع واحد ، موكب واحد يترائى على طريق التاريخ الرسالي المتواصل المتآصل ، يضم هذه الصفوة المختارة من شتى الأقوام وشتى البقاع في شتى الأمصار والأعصار.

ذلك وفي هذا التشبيه الجماعي : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) حيث الممثل به كل وحي رسالي قبل الوحي إلى نبينا ، فيه دليل أنه «جمع له كل وحي» (١) بلا إبقاء ، فقد أوحى إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كل ما أوحى الى كل أنبياءه ورسله وله زيادة تحمل خلود رسالته.

ذلك لأن أقل ما يحمله هذا التشبيه كمّ الوحي وكيفه ، ومن ثم كم وكيف هما رمز الخلود في هذه الرسالة الأخيرة.

وترى كم عديد (رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)؟ المستفاد من آيات النبوة والرسالة؟ ان عديد الرسل أكثر بكثير من النبيين ، مهما اختلفت الروايات في عدد كلّ منهم.

و «الأنبياء» في بعضها تعمها بتأويل كونها جمعا لكلا النبىء والنبيّ لا سيما وأن الرسل فيها أقل ذكرا بينهم ، فالمعني منهم أصحاب الرسالات العظيمة أنبياء وسواهم (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٧٣ في تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السّلام قال : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) فجمع له كل وحي.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٣٤٦ ـ أخرج بعدة طرق عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) كما الأنبياء؟ قال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا قلت يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال ثلاثمائة وثلاثة ـ

٤٤٩

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤).

«من قبل» هنا تعني قبل هذه الآية ، ثم (لَمْ نَقْصُصْهُمْ) تعم من قصهم الله عليه من بعد ومن لم يقصصهم لا قبل ولا بعد ، حيث القرآن ليس كتاب القصة كأصل ، وإنما يقص من تأريخ الصالحين والطالحين ما يصلح عبرة لهذه الأمة.

وقد يلمح تخصيص موسى (عليه السّلام) بالذكر هنا بأنه يحمل أهم النبوات بعد نبينا ، وقد أدرج إبراهيم وعيسى وقبلها نوح درج سائر النبيين المذكورين.

وليس تكليم الله موسى كما يكلم خلق خلقا فقد «كلم موسى تكليما بلا جوارح وأدوات ولا شفه ولا هوات سبحانه وتعالى عن الصفات.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥).

قصصنا أم لم نقصص «رسلا» هم سواء في كونهم (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) كما حمّلوا ، وذلك التبشير والإنذار الرسالي (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ

__________________

ـ عشر جم غفير ثم قال يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيت ونوح وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بقلم وأربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك.

أقول : وفيه في حديث أبي أمامة عنه (صلى الله عليه وآله سلم) «وخمسة عشر» بدلا عن ثلاثة عشر.

وفيه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ابن مريم ثم كنت أنا بعده».

أقول : لعله يعني أكابر من أوحى إليهم لا كلهم.

٤٥٠

الرُّسُلِ) إذ كانوا يحتجون على الله لو لا الرسل : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤) ـ (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٨ : ٤٧) (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥) (١).

صحيح أن العقل رسول في الأنفس كما الشعور في أنفس الحيوان مهما اختلفت الدرجات ، ولكنما المسؤولية التي تحملها رسالة الوحي الآفاقية لا يحملها رسول العقل ، فلا يهلك بعذاب الاستئصال من لم يأتهم رسول مهما كانوا مسئولين بما يحمله رسول العقل ويحمّلهم إياه.

ومن ثم فنفس الضلال لولا رسالة الوحي خزي وذل لمثل الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ، فمع الغض عن سلب المسؤولية لولا الرسالة ، هنا حجة لهم على الله لماذا لم يرسل رسلا (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) «ولا أحد أحب إليه العذر من الله ولذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين» (٢).

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) قادرا على إرسال الرسل فلما ذا لا يرسل «حكيما» في مادة الإرسال ونوعيته فلما ذا لا يرسل ، فعزته تعالى وحكمته حجة عليه من الناس لو لم يرسل رسلا مبشرين ومنذرين ، ولذلك كله :

«فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبيائه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم

__________________

(١) لتفصيل البحث حول حجة الرسالة راجع تفسير هذه الآية في سورة الأسرى ج ١٥ الفرقان.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٣٤٨ ـ أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) لا احد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر ...

٤٥١

منسي نعمته ويحتج عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات القدرة ، من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، وأحداث تتابع عليهم ، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل أو حجة لازمة ، أو محجة قائمة ، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ، ولا كثرة المكذبين لهم ، من سابق سمى له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ومضت الدهور وسلفت الآباء وخلفت الأبناء إلى أن بعث الله نبيّه محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

وصحيح أن لله الحجة البالغة في الآفاق والأنفس بما منحهم من الفطر والعقول ، ولكنه سبحانه رحمة لعباده ، وتقديرا لكون خلقه في أحسن تقويم ، ولغلبة الشهوات على ذلك الحسن القويم ، اقتضت رحمته التي كتبها على نفسه أن يرسل إليهم (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) يذكرونهم ويبصّرون محاولة استنقاذ فطرهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات التي هي حجابات عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الآفاق والأنفس.

ودور العقل بين رسالات الوحي الآفاقية والأنفسية هو دور الوسيط بين الفطرة والشرعة الربانية ، وكما أمرنا بإقامة وجوهنا للدين حنفاء (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (٣٠ : ٣٠).

فبالفطرة والعقل تعرف شرعة الله ، ثم في تجاوب صالح بينهما يتعرف إلى مرماها ومغزاها ، دون استقلالية بجنبها ولا استغلالية بها ، فإنما هو التسليم السليم أمام وحي الشرعة الربانية ، المكملة لوحي الفطرة والعقلية الإنسانية.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٧٦ في نهج البلاغة قال (عليه السّلام) : فبعث ..

٤٥٢

إن شرعة الله تستنقذ العقلية الإنسانية وفطرتها مما يرين عليهما من ركامات الشهوات والقصورات والتقصيرات ، وترسم لهما منهج التلقي الصالح الصحيح.

وليس دور العقل دور الحاكم بجنب الشرع ، فبعد أن يتأكد من صحة صدور الشرعة عن الله فليس دوره إلّا التفهّم عنها بصورة صالحة والتسليم لها تماما دون التقحّم عليها.

وإن رسالات السماء كلها تخاطب العقول التي تتبنى الفطر ، لكي تعقل وحي الله تماما فتتكامل به وتتصاعد إلى المراقي السامقة التي تتجاوب مع أحسن تقويم.

فالعقل الإيماني السليم هو الوسط بين إفراط التأليه للعقل الإنساني لحد يحق له إبطال شرعة الله ، وبين تفريط الإلغاء له عن بكرته فعليه أن يصدق كلما يعرض عليه من وارد وشارد مهما يرفضه او لا يفرضه.

كلا! إنه رسول الوحي في الباطن ليتلقى وحي الشرعة من رجالات الوحي بعد ما عرف صدقهم بآيات الرسالة الصادقة.

فليس للعقل ان ينتقص شرعة الله أو وينتقضها ، فإنما عليه أن يتفهمها لكي يطبقها ، وليس فرض تسليمه لها انتقاصا له ، بل هو تحديد لدوره كما حده الله ، فلأن العقل محدود غير طليق وشرعة الله نازلة بعلم الله الطليق غير المحدود ، فليكن الأصل هو شرعة الله ، ولها تخطئة العقل واستكماله ولا عكس.

وليس ما يتم بالرسالة ـ عن طريق العقل نفسه ـ ليتم بغيرها ، فضلا عن العقل نفسه ، فالتاريخ البشري على طوله لم يسجل لنا أن عقلا واحدا من العقول

٤٥٣

الكبيرة النادرة الناضجة النابغة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية بالرسالة ، لا في تصورات عقيدية ، ولا في خلق ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع لذلك النظام.

فلا نجد أي فيلسوف عبقري لامع بمستوى أدنى رسل الله في التصور الصالح عن الكون ومعرفة المكون والشرعة التي بلّغها العالمين.

فالخلخلة وعدم الاتزان والتوازن هي الطابعة الدائمة العشيرة للحياة العقلية المنفصلة عن رسالة الوحي ، مهما تلمّعت العقول والعلوم وتضخمت في بعض جوانب الحياة حيث تنطفي جوانب أخرى وقد يذوب تلمّعها بعد حين.

وأما رسالة الوحي ف (لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)!.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦).

دور «لكن» هنا إضراب عما يتقولون في نكران وحي القرآن كقولتهم نزّل علينا كتابا من السماء ، أن القرآن بنفسه دليل وحيه الصارم من سماء الرحمة الربانية دونما حاجة إلى شهادة أخرى غير نفسه.

وانه لا شهيد أشهد من الله ولا شهادة لله أشهد من كتاب الله ، إذا فالله هو الشهيد بين الرسول والمرسل إليهم فهل ترى من باقية؟ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ..) (٦ : ١٩) ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣).

أجل (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) فالقرآن شهيد على وحيه لما يحوى من علمه ، حال

٤٥٤

(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) بما أنزل حيث الرسالة الملائكية مشهودة فيه ولكن (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) في كتابه الحكيم.

ثم و «بعلمه» تشمل كل علمه لولا «أنزله» فقد تتحدد «بعلمه» ب «أنزله» بالممكن إنزاله إلى خلقه مما يلمح بإن الله أنزل من علمه في القرآن ما يمكن إنزاله إلى خلقه ، فهو ـ إذا ـ ما سوى العلم المختص بساحة قدسه تعالى.

وهنا اضافة «علم» إلى نفسه المقدسة دليل أنه يعني علمه الفعلي دون الذاتي الذي هو هو ، فالخلق محرومون عن علمه الذاتي وكذلك علمه الرباني الذي به خلق ما خلق ودبر ما دبر ، إذا ف «علمه» قد يشمل كل ما سوى علمه الذاتي وعلمه الفعلي الرباني الذي يتميز به عن خلقه (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٧٤ في كتاب التوحيد عن علي (عليه السّلام) كلام طويل وفيه : كلم موسى ..

وفيه عن التوحيد بإسناده إلى محمد بن الجهم عن أبي الحسن (ع) حديث طويل وفيه يقول حاكيا عن موسى في قومه : يخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه.

وفيه عن علي (عليه السّلام) حديث طويل يقول فيه وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات : وكلام الله ليس بنحو واحد ، منه ما كلم الله به الرسل ومنه ما قذفه في قلوبهم ومنه رؤيا يريها الرسل ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله فاكتف بما وصفت لك من كلام الله فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإن منه ما تبلغ رسل السماء رسل الأرض.

وفيه عن كتاب الإحتجاج روى عن صفوان بن يحيى قال سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) فأستأذنته فأذن له فدخل فقال أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى (عليه السّلام) فقال : الله اعلم ورسوله بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية؟ فأخذ أبو قرة بلسانه فقط فقال : إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السّلام) سبحان الله مما تقول ومعاذ الله لموسى (عليه السّلام) فقال : الله أعلم ورسوله بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية؟ فأخذ أبو قرة ـ

٤٥٥

وهنا (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) اشارة الى موضع شهادته في كتابه انه علمه الصارم الطليق وكما تحدى به (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (١٧ : ٨٨) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٤).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) (١٦٧).

الكفر اللازم دون تعد بصدّ عن سبيل الله ضلال قريب ، وهو قريب إلى الهدى ، ولكنه المتعدي (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) وهو غريب عن الهدى ، حيث تعرق الكفر وتعمق فلا طريق لصاحبه إلا طريق جهنم :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (١٦٨).

حيث أضافوا إلى ظلمهم أنفسهم بكفرهم ظلمهم إلى من سواهم حيث صدوهم عن سبيل الله ، فقد سدّت عليهم طرق الهدى كما سدوها على الحائرين ، اللهم :

__________________

ـ قائل فاعل ، قال : كيف ذلك؟ قال : كلام الخالق للمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ولا يلفظ بشق فم ولسان ولكن يقول له كن فكان بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس.

٤٥٦

(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩).

وهذا جزاء وفاق حيث فتحوا طريق جهنم إلى أنفسهم وسواهم خلودا في الكفر والصد عن سبيل الله ، فهم ـ إذا ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ما دامت ومن ثم الموت المطلق المطبق خمودا مع خمود النار فلا نار ـ إذا ـ ولا أهل نار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧٠).

(.. قَدْ جاءَكُمُ) محققا دون ريب «الرسول» كأنه هو الوحيد في رسالة الوحي ، إذ يحمل كل رسالات الوحي وزيادة «بالحق» ـ «جاءكم بالحق ـ الرسول بالحق ـ بالحق من ربكم» جيئة عظيمة في مثلثها ، مجيئا بالحق ، رسالة بالحق ، بالحق من ربكم ، فقد يحمل إليكم كل الربوبيات التربوية من ربكم ، محلّقة على كل الحاجيات عرض المكان وطول الزمان.

و «الحق» الذي جاء به من ربكم هو الرسالة القرآنية السامية بما مع نفسه المقدسة من قمة عليا في العصمة التامة والبلاغ الرسالي ، فهو بما جاء به حق طليق لا حول عنه ولا نظرة لما فوقه إذ لا فوق له.

صحيح أن كافة رسل الله يجيئون بالحق من الرب ، ولكنه حق محدّد لردح من الزمن يتحول إلى جديد وجديد هو سديد لزمنه ، ولكن ذلك الحق الأخير لا حدّ له ولا جديد بعده ، بل هو جديد سديد لكل زمان ومكان ، لكل جن وإنسان أم أيا كان.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) آمنوا بذلك الحق الجديد يكن خيرا لكم من كلما قبله ، مهما كان كل حق من ربكم ، ولكنه أحق بالإيمان وأحرى.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا) بذلك الحق فلن تضروا الله شيئا ولن تنقصوا من ملكه

٤٥٧

شيئا (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

فلا يطلب منكم الإيمان بحق أم ذلك الحق ليتحقق ملكه ، أو علمه وحكمته ، فلا تنفعه طاعة من أطاعة ولا تضره معصية من عصاه ، فإنما الإيمان هو (خَيْراً لَكُمْ) لا لله ، فإنما (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وذلك الحق من حاقّ الرحمة فلا يريد منكم في الإيمان به إلّا (خَيْراً لَكُمْ).

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ

٤٥٨

فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦)

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١).

٤٥٩

هنا جولة أخيرة في هذه السورة مع النصارى بعد الجولة السابقة مع اليهود والصيغة فيهما واحدة هي (يا أَهْلَ الْكِتابِ) نبهة لهم أن الشرعة الكتابية بعيدة في أصلها عن هذه التخلفات.

وهنا يقضي على أسطورة «ثلاثة» من لاهوتهم العقائدي المختلق ، حيث يضاهي أساطير الوثنيين من قبل وكأنه ترجمة أو ترجمان لها على سواء.

وهذه الثلاثة هي الأقانيم المسيحية التي اختلقوها مهما اختلفوا فيها ، أنها أجزاء إله واحد مثلثة الأقانيم ، أم إن الله ثالث ثلاثة والآخران منبثقان من ذاته و (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٧٣).

أم إن المسيح وأمه إلهان اثنان : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ..) (٥ : ١١٧) (١).

__________________

(١) كما تصرح الكنيسة الكاثوليكية : «كما أن المسيح لم يبق بشرا كذلك مريم أمه لم تبق من النساء بل انقلبت وينوسة أي إلهة ، لذلك تراهم كثيرا ما يحذفون أسماء الله مثل (يهوه) من كتب المزامير ويثبتون مكانها اسم «مريم» كقوله : «احمدوا الله يا أولاد فالكاثوليك لأجل إظهارهم عبودتهم لمريم طووا هذا من الزبور وبدلوه إلى : احمدوا مريم يا أولاد.

وهذه الكنيسة كلما صلّي فيها مرة واحدة بالصلاة الربانية (آبانا الذي في السماوات) يصلّى فيها بالصلاة المريمية عشرون مرة كما يكتبه الأب عبد الأحد داود الآشوري العراقي في كتابه الإنجيل والصليب.

ويقول جرجس صال الإنجليزي في كتابه مقالة الإسلام ص ٦٧ ـ ٦٨ ردا على الإسلام عند ما يذكر ـ

٤٦٠