الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

يتأدب المسلّم بأدب يبدأ به غير المسلّم كان ذلك مزرءة على الإسلام وإبعادا لغير المسلّم عن التقرب الى حظيرة الإسلام ، ولقد كانت الآداب والأخلاق الإنسانية والإسلامية السامية هي التي تجلب الناس الى الإسلام بفعل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذين آمنوا معه.

ذلك وكما نسمع ربنا يأمر بالسلام على الجاهلين فضلا عن الرد عليهم : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٢٥ : ٦٣) ـ (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٢٨ : ٥٥).

ذلك وحتى بالنسبة للذين لا يؤمنون فضلا عمن يرجى إيمانه : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٤٣ : ٨٩).

وكذلك بالنسبة للمشركين كما قال إبراهيم لأبيه آزر : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (١٩ : ٤٩).

ولم تنسخ في القرآن سنة السّلام بداية وردا على غير المسلمين ، مهما حرض عليه بالنسبة للمسلمين : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٦ : ٥٤) ـ (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٢٠ : ٤٧) ـ (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢٧ : ٥٩) ، وليس هذا إلّا اختصاص الفضيلة دون أصل السنة بدء وردا.

ولا محظور معنويا في أدب الشرعة الربانية في السّلام على غير أهل الإسلام ، فإخباره إنباء أنه ليس منا عليكم إلّا السّلام ، دعوة الى السّلام هنا والى دار السّلام ، ف «إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا» (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨٩ ـ أخرج الطبراني والبيهقي عن أبي إمامة سمعت رسول الله (صلّى الله عليه ـ

٢٢١

والأخبار الناهية عن السّلام على غير أهل الإسلام مطروحة بمخالفة القرآن أو مؤولة الى المحاربين (١).

ذلك ، ثم ودعاءه استدعاء السّلام عليهم من الله أن يهديهم ويغفر لهم ، إنما مورده من لم يتبين أنه عدو لله ومن أصحاب الجحيم ف : «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين أنه عدو لله تبرء منه ..» (٩ : ١١٣).

فمن تبين لك أنه عدو الله وفي النهاية هو من أصحاب الجحيم لم تسلّم عليه سلام الدعاء الاستغفار ، وأما سائر السّلام بداية وردا فلا محظور ، بل هو فرض محبور مشكور ، اتّباعا لعموم النص واتباعا للأدب الإسلامي السامي ، اللهم إلّا بالنسبة للمحارب حيث السّلام عليه إخبارا كذب وهو دعاء استغفار ،

__________________

ـ وآله وسلّم) يقول : إن الله ...

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٦ كخبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «لا تبدءوا أهل الكتاب بالتسليم وإذا سلموا عليكم فقولوا : وعليكم» وخبر سماعة قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن اليهودي والنصراني والمشرك إذا سلموا على الرجل وهو جالس كيف ينبغي أن يرد عليهم؟ فقال : يقول : عليكم» وعن ابان بن عثمان عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : تقول في الرد على اليهود والنصراني : سلام ، وفيه في كتاب الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السّلام) قال : لا تسلموا على اليهود ولا على النصارى ولا على المجوس ولا على عبدة الأوثان ولا على موائد شراب الخمر ولا على صاحب الشطرنج والنرد ولا على المخنّث ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات ولا على المصلي ذلك لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السّلام لأن التسليم من المسلّم تطوع والرد فريضة ، ولا على آكل الربا ولا على رجل جالس على غائط ولا على الذي في الحمام ولا على الفاسق المعلن بفسقه».

أقول : الجمع هنا بين مقطوع الحل من السّلام ومشكوكه مما يدلنا على عدم الحرمة فيها ككل.

٢٢٢

وذلك خلاف السنة الإسلامية ، اللهم إلّا على المحارب غير المتأكد كونه من أصحاب الجحيم.

وعليه تحمل الأحاديث الناهية ، فإن طليق آيات الجواز سلاما على الكفار وردا عليهم يطلق الجواز إلّا فيما يستثنى بدليل الكتاب.

ف (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٠ : ٩) ومن بسيط البر ووسيطه السّلام وسائر التحيات بداية وردا.

ثم التحية الممنوعة بالنسبة لهؤلاء المحاربين ـ أيضا ـ ليست محظورة إلّا ما كانت توليّا وموادّة ومحابة وخلاف القضية المأمور بها والمنهي عنها بالنسبة لهم ، ف (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...) (٥٨ : ٢٢).

٢ هل يكتفى ب «عليكم السلام» إذا كان في السّلام مزيد عليه ك «ورحمة الله»؟ كلّا! فإن أقل الفرض في الرد «أوردوها» وهو رد المثل ، والفضل في (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها).

٣ وهل يجب رد مجرد «السّلام» دون «عليكم» إذ جرد البدء عنه؟ طبعا نعم لأنه تحية مقدرة المتعلّق.

٤ وترى المسلّم أولى بالله أو الراد ولا سيما بأحسن منه؟ طبعا البادئ في كل خير أولى مهما كان بدءه سنة والرد فريضة ف «من بدأ بالسلام فهو أولى بالله

٢٢٣

ورسوله» (١) وقد كانت من سنته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) البدء بالسلام.

٥ ومن هو الأولى ببدء السّلام إضافة الى كل أولى؟ يقول رسول السلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير وإذا مر بالقوم فسلم منهم واحد أجزأ عنهم وإذا رد من الآخرين واحد أجزأ عنهم» (٢).

٦ ما صدقت عليه «تحية» لفظية أم كتبية ، أو عملية : مالية وسواها ، يجب ردها أو الأحسن منها ، اللهم إلّا التي لا يستطيع المحيّى عليه ردها كالهدايا المالية أو العملية ، فلا يجب ردها إلا قدر المستطاع ، فمن يحييك بهدية مالية وأنت لا تستطيع ردها ، فبقدر المستطاع ، أم عليك أن تبدل الهدية بمثلها وهو مستطاع لكل أحد إذ لا يكلفه الرد إلّا ذلك التبديل ببديل ، اللهم إلّا المحرج أو الشاق المعسر ، أو الفقير المدقع المحتاج الى هذه الهدية ف (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

٧ رد السّلام فرض على الفور ما صدق الرد الأديب لمكان «فحيوا» فإن

__________________

(١). الدر المنثور ٢ : ١٨٩ ـ أخرج الحكيم الترمذي عن أبي إمامة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

وفيه أخرج البيهقي عن الحارث بن شريح أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : إن المسلّم أخو المسلّم إذا لقيه رد عليه من السّلام بمثل ما حياه به أو أحسن من ذلك ، وإذا استأمره نصح له وإذا استنصره على الأعداء نصره وإذا استنعته قصد السبيل يسره ونعت له وإذا استغاره أحد على العدو أغاره وإذا استعاره الحد على المسلّم لم يعره وإذا استعاره الجنة أعاره ، لا يمنعه الماعون ، قالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وما الماعون؟ قال : في الحجر والماء والحديد ، قالوا : وأي الحديد؟ قال : قدر النحاس وحديد الفاس الذي تمتهنون به قالوا فما هذا الحجر؟ قال : القدر من الحجارة.

(٢). المصدر أخرج البيهقي عن زيد بن أسلّم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...

٢٢٤

أخّر أثم ووجب فورا ففورا والاعتذار عن التأخير ، فإن فيه إساءة أدب بمن حياك.

٨ يجب إسماع الرد ما استطاع له سبيلا وبأية سبيلا ممكنة غير محرجة ولا مخرجة عن المتعوّد في رد التحية.

٩ رد السّلام واجب على أية حال وإن كان في الصلاة ولكنه يقتصر على رده دون زيادة على الأشبه ، ناويا به الدعاء دون الإخبار ، تجنبا عن الزيادة في الصلاة إلا قدر الواجب غير المنافي للصلاة ، وقد تختص (بِأَحْسَنَ مِنْها) بغير الصلاة التي لا يجوز فيها الكلام إلا بذكر الله والدعاء ، ورد السّلام دعاء يجمعهما ، نعم إذا حياك ب «حياك الله» فليس الإجابة كماهيه ، إنما هي السّلام عليكم وهي أحسن منها فإنّ ردها بنفس الصيغة محظور على أية حال فضلا عن الصلاة التي هي خير موضوع!.

١٠ يجب الرد باللغة المفهومة للمسلّم ، فإن لم يعرفها رد بما يفهمه أنه ردّ بقرينة وأية إشارة أخرى تجعل رده ردا أديبا للتحية.

١١ لا يجوز السّلام على الله فإنه لغو دعاء وإنباء ، ومس من كرامة الربوبية ، فإنما السّلام «على» مجاله من سوى الله إلّا من استثنوا ، وهو «من» طليق يشمل الله وخلقه ، ولكنه من الله إخبار ، حيث الدعاء منه مستحيل ، اللهم إلّا إذا أول بموقف الدعاء ، ولا موقف له للمدعوّ ، فهو ـ إذا ـ من الله غير دعاء.

ثم التحيات الإسلامية السليمة هي إضافة الى الأدب الصالح ، توثق علاقات المودة والقربى بين المؤمنين ، وكذلك بينهم وبين من سواهم تأليفا لقلوبهم الى الإيمان.

٢٢٥

ذلك ، فضلا عن الإخوة في الإيمان الذين نزغ الشيطان بينهم ، فإن السلام يبزغ على نزغ الشيطان وينزعه مما بينهم تجديدا لجديد الألفة الإيمانية ، ولذلك يعتبره رسول السّلام من خير الأعمال ، فقد سئل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أي العمل خير؟ قال : تطعم الطعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف (١).

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) تحية وردا لها مثلها أو أحسن منها أماذا من أشياء الأعمال والأحوال والأقوال ، فلا يفلت عن حسابه شيء في كونه وكيانه.

وقد يعني (بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) كل حسن في قالة أو حالة أو فعالة ، فمن يسلّم عليك ببشاشة وجه فعليك ردها بنفس البشاشة أو أحسن منها ، فليراع في الرد الحسن كما وكيفا ، قالا وحالا وأعمالا.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)٨٧.

«ليجمعنكم» كلّ المكلفين ومنافقين وكافرين (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإنه يوم الجمع العام ، دون البرزخ أو الدنيا اللذين لكل منهما دوره الخاص بأصحابه الخصوص.

وهنا الجمع «الى» دون الجمع «في» رغم أنه ظرف الجمع ، للتدليل على أنه منتهى الجمع الشامل دون النشأتين الأوليين.

فجمع المكلفين يجمعون (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وليوم الجمع القيامة : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) (٣ : ٢٥) (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ

__________________

(١). أخرجه البخاري في صحيحه.

٢٢٦

التَّغابُنِ) (٤٦ : ٩).

وذلك الجمع الجامع (لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شبهة تعتريه في كل الحقول العقلية والواقعية والمصلحية أماهيه ، ثم (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) وهو المحدث مرارا وتكرارا عن حديث الجمع يوم الجمع.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨).

هذه وآيات بعدها تختص «المنافقين» بفرقة منهم خاصة تجب قتالهم كما الكافرين أو هي أشد ، حيث كانوا يؤلّبون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويؤذونه حتى قام خطيبا فقال : «من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني» (١).

__________________

(١). الدر المنثور ٢ : ١٩٠ عن زيد بن ثابت أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج الى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول: لا فأنزل (فَما لَكُمْ ..) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنها طيبة تنفي الخبث كما تعني النار خبث الفضة.

وفيه عن ابن معاذ الأنصاري أن هذه الآية نزلت فينا ، خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس فقال : من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قتلناه وإن كان إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكن عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عباد منافق تحب المنافقين فقام محمد بن مسلم فقال : اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يأمرنا فننفذ لأمره فأنزل الله (فَما لَكُمْ ..).

وفيه عن ابن عباس قال : إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس وإن المؤمنين لما ـ

٢٢٧

ذلك! سواء منهم من تخلف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يهاجر معه ولا بعده وتعامل مع المشركين ضده (١) أمن كتب إليه من مكة أنهم أسلموا وكان ذلك منهم كذبا (٢) أمن أتوه بالمدينة فأسلموا ومكثوا معه ما

__________________

ـ أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين اركبوا الى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماءهم وأموالهم فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت (فَما لَكُمْ ـ الى قوله ـ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم فإن تولوا قال : عن الهجرة وفيه أخرج أحمد بسند فيه انقطاع عن عبد الرحمن بن عوف ان قوما من العرب أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء بالمدينة حماها فأركسوا خرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم قالوا أصابنا وباء المدينة فقالوا : ما لكم في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسوة حسنة فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا انهم مسلمون فأنزل الله الآية.

(١). المصدر عن مجاهد في الآية قال : قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون وقائل يقول : هم مؤمنون فبين الله نفاقهم فأمر بقتلهم فجاءوا ببضايعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي وبينه بين محمد حلف وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عهد.

(٢) لمصدر عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنهم قد أسلموا وكان ذلك منهم كذبا فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة دماءهم حلال وطائفة قالت دماءهم حرام فأنزل الله (فَما لَكُمْ ..).

ومن طريق أصحابنا كما في المجمع عن الباقر (عليه السّلام) نزلت في قوم قدموا الى المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا الى مكة لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ثم سافروا ببضايع المشركين الى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون وقال آخرون انهم مشركون فأنزل الله فيهم هذه الآية.

(أقول : أظهروا الشرك لا يلائم كونهم منافقين ، و (حَتَّى يُهاجِرُوا) ـ دليل أنهم بعد لم يهاجروا ـ

٢٢٨

شاء الله ثم ارتكسوا (١) أمّن سواهم من المنافقين المؤلبين على الرسول والمؤمنين معه ، متربصين بالإسلام دوائر السوء.

ومهما دلت (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) في الآية التالية على أنهم هم المتخلفون عن الهجرة مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكنها تشمل في (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) لفظا وفي التالية جريا ، كلّ هؤلاء المنافقين الخطرين بأشده على الإسلام والمسلمين.

هنا «فئتين» حال عن المجرور في «لكم» : ما لكم حالكونهم في المنافقين فئتين ، فئة مسايرة معهم مصابرة ، وجاه فئة ماضية على أمر الله ورسوله مقاتلة و (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٣٣ : ٣٦).

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) والركس هو الانقلاب على الوجه إلى الدبر ، فالإركاس هو الإقلاب كذلك ، فقد أركسهم الله إلى جاهر كفرهم بما كسبوا في نفاقهم العارم ، وأركسهم إلى أحكام الكفار بعد إذ كانوا بظاهر إسلامهم بأحكام المسلمين.

__________________

ـ فتصدق الرواية القائلة أنهم الذين تخلفوا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(١). المصدر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن نفرا من طوائف العرب هاجروا الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا ثم ارتكسوا فرجعوا الى قومهم فلقوا سرية من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعرفوهم فسألوهم ما ردكم فاعتلوا لهم فقال بعض القوم لهم نافقتم فلم يزل بعض ذلك حتى فشى فيهم القول فنزلت هذه الآية ، وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج الى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول : لا ـ هم المؤمنون فأنزل الله «فما لكم ..» فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد.

٢٢٩

وقد تعني «أركسهم» ثالوثة المنحوس ، قلبا لقلوبهم عن الهدى كيلا يهتدوا أبدا ، وقلبا لهم إلى أحكام الكفار ، وقلبا إلى جحيم النار ، وكل ذلك «بما كسبوا».

ولا يعني (يُضْلِلِ اللهُ) هنا وأيا كان إلّا عدم التوفيق لهم أن يهتدوا بعد ، وأن يكلهم الله إلى أنفسهم ، ويختم على قلوبهم بما ختموا وزاغوا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) وهو الذي ظل مع الرسول ردحا منافقا ولكنه ضل وأضل كثيرا فأضله الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بما ضل وأضل (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهدى ومخلصا عن الردى.

ذلك! فالفئوية والتميّع في الصف الإسلامي خطر على الإسلام والمسلمين ، لا سيما في الدولة الجديدة الإسلامية ولمّا تقم على سوقها ، المحتاجة الى اجتياح المتسربين الدخلاء عن صفّه الرصين المتين ، فلا دور ـ إذا ـ للتسامح والإغضاء عن هؤلاء الحماقى اللعناء.

وليس قولهم مقالة يقولها المسلمون بما يقيلهم بينما هم يظاهرون أعداء الإسلام ، فقد كفروا جهارا بعد ما أسلموا نفاقا إذ لا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٨٩).

مواصفة لهؤلاء المنافقين ثالثة ، بعد ما أركسهم الله وأضلهم بما كسبوا : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) فهم أولاء أعداء الله وأعداء رسوله والمؤمنين :

٢٣٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ... إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٦٠ : ١ ـ ٢).

ذلك (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) : إخوة في الإيمان ، فإنهم لا إيمان لهم (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) دون قولة الإسلام فقط والسّلام ، فإنما الظاهرة الباهرة لإيمانهم المدّعى ـ إن ادّعوا ـ أن يهاجروا في سبيل الله» لا أن يظلوا في مساكنهم مع أعداءكم متواطئين ، ولا أن يهاجروا في سبيل المطامع والمصلحيات الدنيوية كما هاجرت جماعة منهم ومكثوا مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم ارتكسوا ، ولا أن يهاجروا في سبيل وسطى ، لا إلى الله ولا إلى الطاغوت ، إنما (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ (١))

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن تلكم المهاجرة الهاجرة عن الكفر ، وظلوا على ارتكاسهم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنّ في حياتهم خطرا حاضرا على الإسلام (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا) توالونه كإخوة في الإيمان (وَلا نَصِيراً) مهما يتخذ بعض الكافرين نصيرا وهم غير المحاربين ولا المعادين.

ذلك! وبصورة طليقة «إن لشياطين الإنس حيلة ومكرا وخدائع ووسوسة بعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يروا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والإنكار والتكذيب فيكونون سواء كما وصف الله (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) (١).

وإن أخطر المخاطر من المنافق والكافر أن يود الكفر للمؤمن كما هو كافر ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٧ في روضة الكافي بإسناده الى أبي عبد الله (عليه السّلام) حديث طويل يقول فيه: ...

٢٣١

فهو بطبيعة الحال يحاول في ارتداد المؤمنين عن إيمانهم ، فلا علاج لهم إلّا مهاجرتهم في سبيل الله أو قتلهم في سبيل الله.

وترى غير المهاجر في سبيل الله منهم ، أو والمهاجر غير المقاتل منهم ، هما كما المقاتل يقاتل؟ : لا ـ

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠).

فهاتان الطائفتان من هؤلاء المنافقين (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) اللهم إلا إذا فتنوا المؤمنين والفتنة أشد وأكبر من القتل ، فالمحايد منهم تاركا لكلتا الحربين حارة وباردة لا يقاتل أو يقتل ، سواء أكان من (الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) الهدنة ، فلم يجيئوكم أنتم للمقاتلة ، «أو جاءوكم» حال أنهم (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) عن القتالين (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) أنتم المؤمنين (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) الكافرين ، فلا هم لكم ولا عليكم ، وإن كانوا (لَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) ولكنهم الآن محايدون ، إذا (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) وإن كانت مهاجرة ليست في سبيل الله.

هنا يقتسم الحكم الثنائي السالف ، فالأوّل مسلوب وهو (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثاني ثابت وهو (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) وليست في هذه السلبية سبيل عليهم فإنما هي في إيجابية قتلهم وقتالهم.

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ

٢٣٢

فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١).

هؤلاء «آخرين» يتلون بعض الشيء تلو الأوّلين ، فهم «يريدون» محايدة الطرفين «أن يأمنوكم» أنتم المؤمنين (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) الكافرين ، ولكنهم غير مستمرين في هذه الإرادة العوان ، إذ (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) حربا حارة أو باردة عليكم (أُرْكِسُوا فِيها) انقلابا عما أرادوا إلى ما يريده الأعداء الأصلاء ، إذا (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) عن فتنتهم حربا أو فتنة أخرى (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عنكم ـ إذا ـ (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

والثقف هو الملاحقة حذقا في إدراك الشيء ، فاعملوا كل حذق في إدراكهم أينما كانوا (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) سلطة عليهم بإبادتهم التي تبين قوة الحق على الباطل ، ذلك ، فالقرآن لا يأمر بمحاربة غير المحارب أيا كانت عقيدته وعمله ما لم يعمل دعاية على المسلمين أو طعنا في الدين.

فالقرآن لا يدع الكفار يفتنون المؤمنين عن الدين وقضاياه ، ولا يحملهم على الإيمان ، فيتسامح معهم ما تسامحوا المؤمنين دون إكراه على الدين ، فيسمح لهم أن يعيشوا في ظل نظام الإسلام لا له ولا عليه ، والنظام الإسلامي ـ إذا ـ مسئول عن الحفاظ على حياتهم وحيوياتهم كما للمسلمين ما التزموا بشرائط الذمة.

فهنا تسامح صالح وليس تميّعا بإعطاء كامل الحرية لغير المسلمين أن يعتدوا عليهم وهم تحت ظلهم!.

فالمواد الأساسية للتسامح الإسلامي مع غير المسلمين هي أن «يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم عنكم» فلا لكم ولا عليكم ، إذا فهم أحرار

٢٣٣

أينما كانوا وأيّا كان دور المسلمين وبلادهم.

وإلقاء السلّم في هذا الوسط وسط يكفل طرفيه ، فإلغاءه إلغاء للأمان وإلقاءه تضمين للأمان ، وليكن إلقاءه بيّنا كإلغائه ، ففي محتمل الأمرين يقف المسلمون على الحياد المحتاط ، فإن برز الإلغاء (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وإن برز الإلقاء فأمنّوهم كما أمنّوكم.

وليس يقبل الإسلام إلقاء السلّم طليقا أيّا كان ، وإنما هو السلّم التي لا تتحيف حقا من حقوق الداعية والدعوة والمدعوين في أرجاء البسيطة ، أن تزال كل العقبات والعقوبات من طريق البلاغ للدعوة الإسلامية العالمية في ربوع المعمورة كلها.

وهكذا نرى صفحات من صفح الإسلام عن غير المسلمين بسماحته وتغاضيه في مجالاته الصالحة ، بجنب ما نرى حسمه الجادّ لكل جذور الفتنة والفساد فسحا لمجال الاهتداء للذين يريدون الهدى.

ذلك هو الإسلام العوان بين طليق التشدد وطليق التميع والترقق.

فأما حين يأتي المتشددون الآخذون الأمر كله عنفا وحماسا واندفاعا وشعارا بلا شعور فليس هذا هو الإسلام.

كما حين يأتي المتميّعون المعتذرون عن القتال في سبيل الله فيجعلون الأمر كله سماحا وسلما وإغضاء وعفوا حتى عن المهاجمين المفتتنين ، كذلك ليس هو الإسلام ، إنما هو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

٢٣٤

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ

٢٣٥

الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ

٢٣٦

وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠)

وإذا كان قتال غير المسلم ـ المسالم ـ محظورا فما ذا ترى في قتال المسلّم وقتله ، فلا خطأ هنا ولا عمد ، أخذا بالحائطة الكاملة الشاملة كيلا يتفلت عن مؤمن أن يقتل مؤمنا.

وفي قتل المؤمن خطأ موارد ثلاث في كلّ حكمه الخاص سدا لفراغه ، وصدا عن تكرره ، تكريسا لكل الاهتمامات للحفاظ على النفوس المحترمة البريئة.

وأما قتل المؤمن تعمدا فلا يذكر هنا إلّا مثناه ، فثانيه أنه لإيمانه ، فللعوان بينه وبين قتله خطأ عوان من الأحكام في النشأتين.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ..).

«ما كان» تضرب إلى أعماق الزمن الرسالي ، فلا يسمح الإيمان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عن قصد وتعمد ، لإيمانه أم لبواعث أخرى مهما كان بينهما بون ، وقد تتكفل «لإيمانه» الآية التالية.

ولأن الخطأ يقابل العمد فهو ـ إذا ـ ما سوى العمد ، ثم قد يكون خطأ محضا كأن يرمي حيوانا أو كافرا مهدور الدم فأصاب مؤمنا (١) فذلك الخطأ الذي

__________________

(١) ومما يدل عليه صحيحة فضل بن عبد الملك على رواية الصدوق عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنه قال : إذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد ، قال : وسألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفارة أهو أن يتعمد ضرب رجل ولا يتعمد قتله؟ فقال : نعم ، قلت : رمى شاة فأصاب إنسانا قال : «ذلك الخطأ الذي لا شك فيه عليه الدية والكفارة» (الفقيه باب القود ومبلغ الدية رقم ٢).

وصحيحة أبي العباس وزرارة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : «إن العمد أن يتعمد فيقتله بما ـ

٢٣٧

لا شك فيه ، أم شبه عمد كأن يريد ضربه فقتله دون تقصّد لقتله ولكن إذا ضربه بما يقتل عادة فلا يصدّق في عدم قصده ، فإن ضربه بما لا يقتل عادة فقتل صدّق في عدم قصده ، إلا إذا كانت كيفية الضرب قاتلة وذلك في مقام الإثبات.

واما الثبوت فقصد القتل كاف في العمد إذا قتل مهما كانت الآلة مما لا تقتل عادة(١).

واما إذا قتله ـ مترددا بين كفره وإيمانه ـ لكفر ، حيث يظن كفره ، فهو قتل عمد لإنسان وليس عمدا لقتل مؤمن ، فهو محرم لعدم التأكّد من جواز قتله ، خطأ مقصرا في الموضوع والحكم ، أم وأحدهما ، فلا قصاص فيه لعدم تمحضّه في العمد ، وفيه عتق رقبة ودية مسلمة إلى أهله.

وترى من هو المؤمن الذي ما كان لمؤمن أن يقتله إلا خطأ؟ إنه ـ بوجه عام ـ هو الذي يقرب الإيمان مهما شك في صدقه ف (لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً).

وأما المقطوع كذبه كمقطوع النفاق فلا يدخل في نطاق «مؤمنا» لا يحل قتله ، ولكنه لا يدل على جواز قتله ، لا وحتى المشرك غير المحارب كما تقدم هنيئة ، وكما ـ بأحرى ـ لا يحل قتل المشكوك في إيمانه وكفره.

فهنا (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) هي كضابطة ثابتة في حقل الإيمان ، فأما أن تثبت حل قتل غير المؤمن أيا كان فلا ، اللهم إلّا بدليل ، كما

__________________

ـ يقتل مثله والخطأ أن يتعمده ولا يريد قتله يقتله بما لا يقتل مثله والخطأ الذي لا شك فيه أن يتعمد شيئا آخر فيصيبه» (التهذيب باب القضايا في الديات رقم ٢٢).

(١) كما في الصحيح عن رجل ضرب رجلا بعصى فلم يرفع عنه حتى قتل أيدفع الى اولياء المقتول؟ قال : «نعم ولكن لا يترك يعبث به ولكن يجاز عليه بالسيف» (التهذيب ٢) ٤٨٩).

٢٣٨

الدليل على جواز قتل المؤمن قصاصا أم حدا آخر.

فالضابطة في كل النفوس هي الحرمة مهما كانت بالنسبة لنفوس المؤمنين أحق وأحرى.

فكما (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ) لا تسمح لغير المؤمن قتلا ، كذلك (مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) لا تسمح لغيره قتيلا ، كما أن قتل مؤمن خطأ غير مسموح فيما قصّر حكما أو موضوعا.

أترى بعد «إلّا خطأ» تعم كافة الأخطاء محظورة وغير محظورة؟ كمن يقتل الذي يظنه كافرا دونما حجة على كفره إلّا ظنا ، فإنه لم يقتل ـ إذا ـ مؤمنا متعمدا ، إذ لم يتأكد من إيمانه ، ولم يقتله ـ كذلك ـ لإيمانه! إن شمول الاستثناء لشبيه العمد كهذا قد يجعله حلّا ، ف «خطأ» في غير المحظور مستثنى متصل ، وفي المحظور منفصل ، ثم (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) يشمل الخطأين في واجب الدية.

أم هو متصل فيهما و «إلّا خطأ» لا تحلل الخطأ المحظور ، وإنما يجعله واردا بحق المؤمن المخطئ في محظور ، ومهما كان الإيمان قيد الفتك ولكن المؤمن ليس معصوما ، أو عادلا إلا نزرا.

إذا ف «إلا خطأ» في المحظور ، هي ك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) حيث لا يحلّل وصف الإيمان حالة السكر ، وكذلك لا يحلّل الإيمان الخطأ المحظور ، وإنما هو واقع في حقل الإيمان ، وليس قتل المؤمن متعمدا واقعا فيه في بعدية ، ولا سيما إذا كان لإيمانه فخروج عن أصل الإيمان ، و «ما كان» لا يعني إلا الحرمة المغلّظة في قتل المؤمن لإيمانه أو على علم بإيمانه ، وأما «خطأ» فقد تشمل قتل المؤمن دون علم بإيمانه ، ظنا منه أنه كافر فهذا

٢٣٩

محظور محرّم ولكنه ليس فيه قصاص ، إنما القصاص فيما إذا قتل مؤمنا عارفا إيمانه.

فكما المؤمن يقتل المؤمن خطأ محضا أو غير محظور مطلقا ، كذلك قد يقتل المؤمن خطأ محظورا كما حصل زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونزلت هذه الآية بشأنه(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٩٢ ـ أخرج ابن جرير عن عكرمة قال كان الحرث بن يزيد بن نبيثة من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي جهل ثم خرج مهاجرا الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره فنزلت هذه الآية فقرأها عليه ثم قال له قم فحرّر.

وفيه أخرج بن جرير عن ابن زيد في الآية قال نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء الى شعب يريد حاجة فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه السيف فقال : لا إله إلا الله فضربه ثم جاء بغنمه الى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فذكر ذلك له فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا شققت عن قلبه فقال ما عسيت أجد هل هو يا رسول الله إلّا دم فقال فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه قال كيف بي يا رسول الله قال فكيف بلا إله إلا الله قال فكيف بي يا رسول الله قال فكيف بلا إله إلا الله حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدء إسلامي قال ونزل القرآن وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ـ حتى بلغ ـ إلا أن يصدقوا ـ قال : إلا أن يضعوها.

وفيه أخرج الروياني وابن منذر وأبو نعيم معا في المعرفة عن بكر بن حارثة الجهني قال كنت في سرية بعثها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاقتتلنا نحن والمشركون وحملت على رجل من المشركين فتعوذ مني بالإسلام فقتلته فبلغ ذلك النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فغضب وأقصاني فأوحى الله إليه (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ..) فرضي عني وأدناني ، وفي تفسير الفخر الرازي ١٠ : ٢٢٧ روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول : انه أبي ، فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فلما سمع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك ازداد وقع حذيفة عنده فنزلت هذه الآية.

٢٤٠