الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

المفروض تقييد طاعته بما هو طاعة الله ، وقد قيّد ما هي أدنى منها بما قيد : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما).

ثم لا نجد في القرآن تصريحة ولا تلميحة تقيّد طاعة أولي الأمر منكم بأيّ من القيود ، إذا فجزم الأمر بطاعة أولي الأمر ـ كما في طاعة الله والرسول ـ ذلك الجزم مما يجزم أنهم هم المعصومون بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الحاملون رسالته الى الأمة كما هو حملها عن الله دون أي قصور أو تقصير.

وعناية المجمعين من أهل الحل والعقد من علماء الإسلام غير واردة حيث الإجماع المطبق المطلق ضرورة يعرفها كل مسلم ، ولا فارق بين الضروريات الإسلامية بين كونها بإجماع الاطباق أم سواه.

فكما لا دور لطاعة المسلمين في الضروريات الإسلامية ، فكذلك الأمر في المجمعين المطبقين ، ثم الإجماع غير المطبق ليس معصوما عن الخطأ فكيف يطاع طليقا دون تقيد.

فلا بد ـ إذا ـ أن تعني (أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أشخاصا خصوصا كما عرفهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ثم (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) توصّل الرسول بعد الله رسالة عنه في كافة المنازعات الأحكامية زمنيا وروحيا ، فشيء (أُولِي الْأَمْرِ) المتنازع فيهم بين المؤمنين بهذه الرسالة ، داخل في «في شيء» وقضية الرد في أمرهم الى الله تبين أنهم هنا وفي آيات تناظرها هم الحاملون لرسالة الرسول ، وهم ورثة الكتاب بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ

١٤١

سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥ : ٣٢).

ثم قضية الرد الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما تواتر عنه أنهم هم أولوا الأمر منكم لا سواهم (١) «إذ قرن الله طاعتهم بطاعته كما قرن طاعته (ص)

__________________

(١) لقد تواتر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والائمة من آل الرسول أن «أُولِي الْأَمْرِ» هنا هم عترته المعصومون (عليهم السّلام) ولكل دوره الخاص في الإمرة النيابية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ففي نور الثقلين ١ : ٤١٦ عن الكافي عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله عز وجل (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فقال : نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، فقلت : إن الناس يقولون؟ فما له لم يسم عليا وأهل بيته (عليهم السّلام) في كتابه عز وجل؟ قال فقال قولوا لهم : إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسر ذلك لهم ، ونزل عليه الزكاة ولم يسم لهم من أربعين درهما درهم حتى كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسر ذلك لهم ونزل الحج فلم يقل لهم طوفوا أسبوعا حتى كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسر ذلك لهم ونزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ونزلت في علي والحسن والحسين (عليهم السّلام) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علي (عليه السّلام) : من كنت مولاه فعلي مولاه وقال : أوصيكم بكتاب الله عز وجل وأهل بيتي فإني سألت الله عز وجل أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك وقال : لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، وقال : إنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة فلو سكت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يبين من أهل بيته لا دعاها آل فلان وفلان ولكن الله عز وجل أنزل في كتابه تصديقا لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السّلام) فأدخلهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الكساء في بيت أم سلمة فقالت أم سلمة؟؟ ألست من أهلك؟ فقال : إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي ..

وفيه عن عيون الأخبار في باب ذكر مجلس الرضا (عليه السّلام) مع المأمون في الفرق بين العترة والأمة حديث طويل يقول فيه (عليه السّلام) وقال عز وجل في موضع آخر (أَمْ يَحْسُدُونَ

١٤٢

ـ الناس ..» ثم رد المخاطبة في أثر هذا الى سائر المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهما ـ الى قوله (عليه السّلام) في شأن ذي القربى ـ : فما رضيه لنفسه ولرسوله رضيه لهم وكذلك الفيء ما رضيه منه لنفسه ولنبيه رضيه لذي القربى كما أجراهم في الغنيمة فبدأ بنفسه جل جلاله ثم برسوله ثم بهم وقرن سهمهم بسهم الله وسهم رسوله وكذلك في الطاعة قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فبدأ بنفسه ثم برسوله ثم بأهل بيته.

ذلك شذر قليل من طريق أصحابنا وقد تواترت الرواية من طريق إخواننا في نزول هذه الآية في علي والائمة من أهل البيت (عليهم السّلام) ، وممن أوردها أو أخرجها أبو حيان الأندلسي في تفسير بحر المحيط ٣ : ٢٧٨ والنيسابوري في تفسيره ٥ : ٧٥ بهامش الطبري ، والمير محمد صالح الكشفي الترمذي في مناقب مرتضوي ٥٦ نقل عن ابن مردويه في المناقب عن الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) إن المراد من اولي الأمر بلإصالة علي بن أبي طالب وغيره بالتبع ونقل عن فخر الدين الرازي في تفسيره عنه (عليه السّلام) ان المراد منهم الاثنى عشر ونقل عن كشف الغمة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سألنا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أولي الأمر فقال : أولهم علي ثم الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ثم جعفر بن محمد ثم موسى به جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم محمد بن الحسن حجة الله في أرضه.

ومنهم أبو بكر بن مؤمن الشيرازي في رسالة الإعتقاد كما في مناقب الكاشي ، والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة ١١٦ روى عن المناقب بسنده عن سليم بن قيس الهلالي قال سمعت عليا (عليه السّلام) يقول ـ الى أن قال ـ : وأما أدنى ما يكون العبد به ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عز وجل عباده بطاعته وفرض ولايته قلت : يا أمير المؤمنين (عليه السّلام) صفهم لي قال : الذين قرنهم الله تعالى بنفسه وبنبيه فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ») فقلت له جعلني الله فداك أوضح لي فقال : الذين قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه الله عز وجل إليه : إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي أن تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين وجمع مسبحته ولا أقول كهاتين وجمع مسبحته ـ

١٤٣

بطاعة نفسه تعالى وتقدس ، قرنا مثلثا مشرّفا لا يعني إلّا الطاعة الطليقة عن أي قيد ، وليس الخطاب في «تنازعتم» إلا للأمة دون أولي الأمر كما هو دون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم ، إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وغير المعصومين من القادة هم دائما في تنازع هو لأقل تقدير تنازع القصور ، وكثيرا ما هو تنازع التقصير ، فكيف تؤمر الأمة بطاعتهم الطليقة على قصور لهم أو تقصير!!

ذلك ، وان كان طليق الأمر قد يشمل أولي بعض الأمر كأمراء الجيش المنصوبين من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والعلماء الربانيين زمن الغيبة الكبرى حيث يصدرون عن كتاب الله وسنة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكن طاعتهم أولاء مشروطة بعدم معصيتهم في أمرهم لله ف «إنما الطاعة في المعروف» (١).

__________________

ـ والوسطى فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلوا ، وروى في المناقب عن تفسير مجاهد أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (عليه السّلام) حين خلفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمدينة قال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتخلفني على النساء والصبيان فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى أخلفني في قومي وأصلح.

وروى في المناقب عن الحسن بن صالح عن جعفر الصادق (عليه السّلام) في هذه الآية قال : أولوا الأمر هم الائمة من أهل البيت (عليهم السّلام).

(١) الدر المنثور ٢ : ١٧٧ ـ أخرج ابن أبي شبية وأحمد وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري فقال : بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علقمة بن بجزر على بعث أنا فيهم فلما كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي وكان من أصحاب بدر وكان به دعابة فنزلنا ببعض الطريق وأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم فقال لهم أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا : بلى ، قال : فما أنا آمركم بشيء إلا صنعتموه؟ قالوا : بلى ، قال : أعزم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار فقام ناس فتحجزوا ـ

١٤٤

ذلك ولكن المصداق الأصدق لتلك الطاعة الطليقة هم الائمة من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، لمكان ردف أولي الأمر هنا بالرسول كما ردف هو في تلك الطاعة الطليقة بالله.

ومما يروى عن أول أولي الأمر علي أمير المؤمنين (عليه السّلام): «ولما دعانا القوم الى أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفرق المتولي عن كتاب الله وقال الله سبحانه (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فردّوه الى الله أن نحكم بكتابه وردّوه الى الرسول أن نأخذ بسنته فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به ، وإن حكم بسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنحن أولى بها.

«وارددا الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فالرد الى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة» (١).

__________________

ـ حتى إذا ظنّ انهم واثبون قال : احبسوا أنفسكم إنما كنت أضحك معهم فذكروا ذلك لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن قدموا فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : من أمركم بمعصية فلا تطيعوه.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن علي (عليه السّلام) قال بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سريّة واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال فأغضبوه في شيء فقال : إجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا ، قال : أوقدوا نارا فأوقدوا نارا ، قال : ألم يأمركم أن تسمعوا له وتطيعوا؟ قالوا : بلى ، قال : فأدخلوها فنظر بعضهم الى بعض وقالوا إنما فررنا الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذكروا له ذلك فقال : «لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف».

(١) نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي عنه (عليه السّلام).

١٤٥

ثم طاعة الله في كتابه تعم النصوص والظواهر المستقرة من العمومات والإطلاقات وأضرابهما ، فتخصيص العام الكتابي وتقييد مطلقه خارج عن طاعة الله في كتابه اللهم إلّا في مخصّص لا ينافي العام أو مقيد لا ينافي المطلق كما في العمومات والإطلاقات التي نعلم بيقين عدم إرادة الاستغراق منها فلنفتش عن مخصصات ومقيدات نخصص بها أو نقيد هكذا عمومات وإطلاقات ، شرط الاطمئنان بصدورها عن مصدر العصمة.

فنص العموم والإطلاق في القرآن وظاهرهما المستقر لا يخصص أو يقيد بالخبر ، لا سيما إذا كان القيد بحيث لا يزيدهما عبارة أم يقل ، حيث الظاهر هنا كما النص لا يجوز تحويله الى خلافه.

ذلك ، وكذلك (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) تحلق على كل أقواله وأفعاله وتقريراته كرسول ، فمثلث السنة داخلة في نطاق فرض الطاعة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

هذا ، وكما الطاعة الطليقة هذه مستفادة من فرض الأسوة : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٣٣ : ٢١).

ومن الآداب المستفادة من إفراد ذكر الله في خاصة طاعته وجمع الرسول وأولي الأمر منكم ، أنه لا يجوز الجمع بينه تعالى وبين خلقه في الذكر فضلا عن سواه مهما كان رسولا فضلا عن سواه وقد ندد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمن قال : «من أطاع الله والرسول فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى» بقوله : «بئس الخطيب أنت هلا قلت من عصى الله وعصى رسوله»؟ (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٠ : ١٥٠ روي أن واحدا ذكر عند الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال :

١٤٦

وأما (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في آيات دون فصل بتكرار الأمر ، فقد يجبر وصلها فصل الرسول عن استقلاله بجنبه تعالى أنه «رسوله» ليس يقول أو يفعل إلا رسالة لا أصالة.

فلا مرجع أصيلا في الأمور المختلف فيها والمتنازع عليها إلا الله تعالى شأنه : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٤٢ : ١٠) ثم الى الرسول المحدّث عن الله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) حيث السنة الرسولية هي مبينة للقرآن وشارحة له غير شارعة ، وليس يزيل الخلاف والتنازع إلا الحامل لحق الواقع وواقع الحق ، فلو أن أولي الأمر يشمل غير المعصومين لما أنتج الرجوع إليهم زوال الخلاف لأنهم هم أنفسهم في خلافات قاصرة أم مقصرة ، وذلك يؤكد تأكيد القرآن والسنة للرجوع الى المعصومين بعد الله ورسوله.

ولا ينافي ذلك الإختصاص ضرورة الرجوع الى العلماء الربانيين زمن غياب المعصومين وحين لا تتيسر الطاعة المعصومة كما في زمن الغيبة فليكن أمر المؤمنين شورى بينهم فتتبع الشورى من الرعيل الأعلى من ربانيي الأمة الإسلامية ، وهذه قيادة ووحدوية مهما حملها جماعة من أهلها ، فالاتّباع للأكثر من رأى الشورى إتّباع لأحسن القول كما فصلناه على ضوء آية الزمر.

و «ذلك» العظيم العظيم من الرد الى الله والرسول «خير» لكم يقابل شرا يحمله عدم الرد الى الله والرسول (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) مأخذا هو خالص الوحي ومالا هو صالح الحياة الإيمانية في النشآت الثلاث.

ذلك ، فما قد يختلق على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن «لا تسبوا السلطان فإنهم فيء الله في أرضه» (١) علينا أن نسب مختلقه على الرسول ،

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٧٨ ـ أخرج البيهقي في الشعب عن أبي عبيدة الجراح قال : سمعت رسول الله ـ

١٤٧

فإن الله هو الذي يسب السلطان الجائر ويلعنه فكيف ينهى عن سبه ، وما هو إلا فرية وقحة على الله ، ويكأن الله له ظل الظلم خلافا لشرعته!.

وأما «السلطان ظل الله في الأرض» ففيه تلحيقة «يأوي إليه كل مظلوم» فالسلطان العادل الحاكم بحكم الله هو ظل الله حيث يأوي إليه كل مظلوم ، دون سائر السلاطين الآوي إليهم كل ظالم.

فهذه هي الآية الرئيسية في فرض الطاعة الحقة بأبعادها ومن ثم التنديد بالمتحاكمين إلى الطاغوت وهو بقرينة المقابلة لمثلث الطاعة المفترضة عبارة عن كل طاعة متخلفة عنها :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) ٦٠.

هنا إرادة التحاكم الى الطاغوت محكومة بأنها خلاف الإيمان بهذه الرسالة فضلا عن واقع التحاكم فأضل سبيلا وأنكى وبيلا.

والطاغوت هو المبالغ في الطغيان وهي دركات كما الطاعة المثلثة درجات ، ذلك!فهل المتحكمون على المؤمنين بالسيف والنار وبالزور والغرور هم أولاء من أولي الأمر الذين افترض الله علينا طاعتهم؟ وإرادة التحاكم إليهم ضلال بعيد؟!.

وأوضح مصاديق المريدين للتحاكم الى الطاغوت هم المنافقون ثم ضعفاء الإيمان ، وقد تحاكموا الى الطاغوت بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تطبيقا لهذه الملحمة القرآنية الناظرة الى المستقبل مع الحال (١) ، اختلاقا لخلافة

__________________

ـ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : لا تسبوا ..

(١)نور الثقلين ١ : ٤٢٢ في تفسير علي بن إبراهيم في الآية نزلت في الزبير بن العوام فإنه نازع رجلا ـ

١٤٨

خلاعة خلاف من انتصبه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وكذلك كل أولئك الذين يطيعون غير المعصومين ، حيث الطاعة العاصمة عن الزلل هي مثلثة الطاعة على طول الخط ، وهي زمن غياب المعصومين ليست إلا على ضوء الكتاب والسنة اجتهادا أو تقليدا صالحا.

وليس التحاكم ـ فقط ـ في الخلافات الشخصية الراجعة الى حكام الشرع (١) بل والتحاكم في سائر الأحكام الشرعية ، فكما الرجوع الى غير العدول من القضاة تحاكم الى الطاغوت ، كذلك وبأحرى الرجوع في شرعة الله ككل إلى الذين لا يحكمون بالقرآن والسنة ، تحكيما لآراءهم على شرعة الله.

فحكم الطاغوت ساقط ماقت مهما كان حقا (٢) حيث التحاكم إليه تقرير

__________________

ـ من اليهود في حديقة فقال الزبير : ترضى بابن أبي شيبة اليهودي؟ وقال اليهودي : ترضى بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله هذه الآية ... (وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا).

وفي الدر المنثور ٢ : ١٧٩ ـ أخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهودي الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودعاه المنافق الى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال تعال نتحاكم الى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر قضى لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يرض بقضائه فقال للمنافق أكذلك؟ قال : نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت هذه الآية.

(١) المصدر ١ : ٤٢١ عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته الى حكام أهل العدل فأبي عليك إلا أن يرافعك الى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم الى الطاغوت وهو قول الله عز وجل : ألم تر ..

(٢) المصدر مقبولة عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن رجلين من أصحابنا تكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان أو الى القضاة أيحل ذلك؟ فقال : من ـ

١٤٩

لمنصبه وتغرير لعينه على عيون الناس فيحسبونه حقيقا لذلك المنصب.

فالراية رايتان راية حق وراية باطل ف «من رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت» (١).

ولا تعني راية الضلالة إلّا ما تنحو منحى الحق المرام ، مهما كان خليص الباطل أو خليطا من الحق والباطل ، فالأمر بالمعروف التارك له والناهي عن المنكر الفاعل له ، والداعي الى الخير النائي عنه ، والحاكم غير الصالح للحكم زمنيا أو روحيا ، في حقل القضاء أم سواه ، إنهم ككل رافعون راية الضلالة مهما اختلفت دركاتها.

ذلك ، ومصبّ التنديد في الآية ـ الأصيل ـ هم المنافقون ، مهما شملت كافة المتحاكمين الى الطاغوت تأويلا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) ٦١.

(ما أَنْزَلَ اللهُ) هو القرآن ، و «الرسول» هو الرسول بوحي السنة وإنه هو الحاكم بكل ما أنزل الله كتابا وسنة ، و «تعالوا» من التعالي الارتفاع عما كانوا إلى أرفع منه وأعلى ، و (يَصُدُّونَ عَنْكَ) بديلا عن «يصدون عما أنزل الله وعنك» إنه يحكم عرى التحاكم الى الرسول في أحكام الكتاب والسنة ، فإنه هو الأول في التذكير بالكتاب : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

وبذلك يبقى المنهج الرباني القرآني ـ وعلى ضوءه السنة الرسالية ـ يبقى مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات ومعضلات وأقضية أمّاهيه من

__________________

ـ تحاكم الى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به ...

(١) نور الثقلين ١ : ٤٢١ عن أبي جعفر (عليه السّلام)

١٥٠

مجهولات ومستحدثات أبد الدهر في الحياة الإسلامية المجيدة ، ولا حلول لها إلّا الكتاب والسنة.

فلا حاجة ـ إذا ـ الى اختلاق أصول يتوصل بها الى المجاهيل حيث الكتاب والسنة لم يبقيا على أثر مما تحتاج إليه الأمة إلا وقد بيناه.

وهنا «صدودا» دون «صدا» للتدليل على جمعية الصد ، تقديما لأعذار جاهلة قاحلة تصد عن الرسول أن يحكم في المحاكمات.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) ٦٢.

هذه الآية تلمح أن البعض ممن رضوا بالتحاكم الى الطاغوت دون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاءوه بعد ما أصابتهم مصيبة حكم الطاغوت معتذرين حالفين بالله (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) : إحسانا الى الكتابي غير المسلّم ، وتوفيقا بين الإسلام والشرعة الكتابية.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) ٦٣.

(يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من التحاكم الى الطاغوت ، أنه يحكم لصالح هذا المسلم المغتصب حق اليهودي بما يأخذ من الرشا وليس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممن يأخذ الرشى.

وحتى إذا لم يعن ذلك المسلّم الأكل بالباطل بذريعة الرشا ، فأصل التحاكم الى الطاغوت تركا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو ضلالة ، فتلك إذا ضلالة على ضلالة.

وهنا (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أمر بالإعراض عن زائد التنديد بهؤلاء المخطئين ،

١٥١

اتجاها الى إصلاح الحال ما ساعد المجال ب «عظهم» عظة بالغة تبلغ بهم الى صالح الإيمان (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) لا قولا في أسماعهم ، بل «في أنفسهم» ـ (قَوْلاً بَلِيغاً) في بعدية : بعد هو صالح القول ، وآخر هو الواصل الى أنفسهم.

فقد يكون القول صالحا في حد نفسه ولكنه غير بالغ الى الأنفس فلا يفيد ، أم طالحا بالغا الى الأنفس فإضلال ، والقول الرسالي يجمع بين البلوغين في القول ؛ أنه بالغ في حد نفسه ، وبالغ الى الأنفس ، والكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.

ثم (قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) ليست لتختص بالمنافقين مهما نزلت بشأنهم ، فإنها مسئولية الداعية الربانية على مدار الزمن الرسالي مهما كانت الأنفس درجات في تقبل الدعوة ، فلكلّ قول في أنفسهم بليغا الى شغافها ، محلقا على كل كيانها حتى تعيش الأنفس المدعوة قول العظة وعظة القول البليغة.

ومن الشروط الرئيسية في بليغ القول الى الأنفس تحققه في نفس الداعية بصورة معلنة ، إضافة الى بلاغته منطقيا وعظة سابغة بالغة تبلغ النفوس غير المختوم عليها ، أو قد تفتح المختومة غير المحتومة في ختمها.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤).

ليس الرسول أيا كان إلّا مطاعا بإذن الله ، فكما أن رسالته هي بإذن الله ، بالوحي ـ المأذون ـ إليه من الله ، كذلك طاعته ليست إلّا بإذن الله ، دون تعدّ عن طوره ، فقد أرسل كل رسول ليطاع رسالة بإذن الله في طاعته.

١٥٢

أجل ، وليس الرسول مطاعا ثانيا لعباد الله بعد الله ، فإنما يحمل رسالة الله ، فهو مطاع في رسالته الإلهية كما يأذن به الله.

«لو» هنا إحالة بالنسبة للبعض من هؤلاء المتحاكين إلى الطاغوت أن يأتوه مستغفرين واستبعاد لآخرين ، أن يغفر الله لهم ، وهي مع الوصف تجويز لذلك الاستغفار أو إيجاب فيما لا يكفي استغفارهم ، إما لظلمهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أم لعظم الظلم ، ف (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) تعم ترك طاعة الله ورسوله بالمحاكمة إلى الطاغوت تركا للرسول ، فهي تعم كل ظلم بالنفس الشامل للظلم بالغير لا سيما إذا كان هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ثم «جاءوك» مهما اختصت زمن حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمجيء إلى حضرته ، ولكنها تعم كل حياته الرسالية إلى حياته الرسولية ، وهي منذ ابتعاثه إلى يوم القيامة.

ثم مجيئه بعد موته هو التشرف لزيارته عند المكنة (١) او استحضاره في

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٢٣ في الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : إذا دخلت المدينة فأغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها ثم تأتي قبر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ الى أن قال ـ : اللهم إنك قلت (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وإني أتيت نبيك مستغفرا تائبا عن ذنوبي وإني أتوجه الى الله ربي وربك ليغفر ذنوبي.

وفيه في كتاب المناقب لابن شهر آشوب إسماعيل بن يزيد بإسناده عن محمد بن علي (عليهما السّلام) انه قال : أذنب رجل ذنبا في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتغيب حتى وجد الحسن والحسين (عليهما السّلام) في طريق خال فأخذهما فاحتملهما على عاتقه وأتى بهما النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : يا رسول الله إني مستجير بالله وبهما فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى رد يده الى فيه ثم قال للرجل اذهب فأنت طليق فأنزل الله تعالى هذه الآية.

١٥٣

القلب عند عدم المكنة ، وهذه الزوايا الثلاث مشمولة على الترتيب ل «جاءوك» دون ريب لأنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرانا ويسمعنا بعد موته كما كان قبل موته لأنه من شهداء الأعمال لا يعزب بإذن الله عنه أي عازب من قال أو حال او أعمال ، وإلّا فكيف يشهد بها يوم يقوم الأشهاد.

ثم الأصل في ذلك المجيء للاستغفار عن ظلم النفس هو (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) ولأنهم بعيدون عن الله فهم بحاجة في تحقيق كامل الاستغفار إلى شفاعة الرسول ، ولأنه هو الذي ظلم في شأن نزول الآية فليشفّع استغفار الرسول لهم إلى استغفارهم ، فهم هنا بطبيعة الحال يتطلبون إلى الرسول أن يستغفر لهم الله بعد ما استغفروا هم أنفسهم لأنفسهم.

عندئذ (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) يتوب عليهم برحمته الشاملة في شفاعة الاستغفار ، فليس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مجرد واعظ يلقي كلمته ويمضي ، لتذهب في الأثير دونما أي سلطان في الأنفس كما يقول المخادعون عن طبيعة الرسالة والرسول ، أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول «الدين».

وترى لماذا النقلة من (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ) ـ وهي قضية «جاءوك» إلى (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)؟ قد تكون تثبيتا لأن الرسالة هي الدخيلة في شفاعة الاستغفار وهي هنا ذات بعدين : نفس الرسالة وهي مقام الزلفى إلى الله ، وأن الرسول هو المعصي هنا في تحاكمهم إلى الطاغوت فلا يتوب الله عليهم باستغفارهم ما لم يستغفر لهم الرسول.

فشفاعة الاستغفار هنا ذات بعدين ، زلفى الشفيع إلى الله ، وأنه هو صاحب الحق المنكوب هنا في رسالته.

وترى الآية تختص في شفاعة الاستغفار بما ظلم الرسول في رسالته دون

١٥٤

سائر الظلم؟ و (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) تحلّق على كل تخلف عن شرعة الله ، ظلما بالرسول أو سواه ، أم عصيانا لا يحمل ظلم الغير ، ثم (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) بما أنه رسول ، لا فقط الرسول المظلوم.

فليست شؤون نزول الآيات بالتي تختص الآيات بمواردها ، فإنما العبرة بطليق النص دون خصوص المورد ، بل والمورد هنا أعم من ظلم الرسول (١).

إذا فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو كأصل بين الشفعاء وسيط في الاستغفار عن أي ظلم لمكانته العليا عند الله.

ولأن ظلم الرسول عصيان لله وعصيان للرسول ولا سيما في التحاكم إلى الطاغوت ، وقد يقبل التوبة بتلك الشفاعة الكريمة ، فبأحرى سائر الظلم وسائر الذنوب أن تقبل التوبة عنها ، فباب التوبة إلى الله مفتوحة بمصراعيها إذا قدّمت شروط قبولها المسرودة في الذكر الحكيم.

وترى ان الله ليس بقابل التوبة عن عباده إلّا إذا جاءوا الرسول واستغفروا الله واستغفر لهم الرسول؟ وآيات التوبة طليقة ككل ، وليست هذه اليتيمة لتقيدها كلها بشريطة الشفاعة!.

أجل ولكن التأكد من قبول التوبة مشروط بشفاعة الاستغفار من الرسول ، وكما كان مشروطا في مجال آخر بعمل السوء بجهالة والتوبة من قريب ، فالتائب من قريب عن ذنب بجهالة يتوب الله عليه ، وكذلك مطلق التائب عن ذنب بعلم مهما كان من بعيد إذا جاء الرسول فاستغفر الله واستغفر له الرسول.

ثم ترى هل تعدوا شفاعة الاستغفار إلى الائمة من آل الرسول (صلّى الله

__________________

(١) كما ورد في الحديث الثاني في شأن نزولها عن علي بن الحسين (عليهما السّلام).

١٥٥

عليه وآله وسلّم)؟ أجل وعلى هامش الرسول دونما استقلال لهم وجاه الرسول ، فقد تقول «اللهم صل على محمد وآل محمد وبحقهم علي اغفر لي» وما أشبه ، دون أن تفرد آله وتتركه نفسه.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥).

هذه شروط ثلاثة لواقع الإيمان : ١ (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ٢ (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ٣ (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

فلأن قرار النفس هي مقر الإيمان فليحكموك فيما شجر بينهم قضية الإيمان بهذه الرسالة القدسية (ثُمَّ لا يَجِدُوا) مهما فتشوا «في أنفسهم» وقلوبهم وكل خطرات أنفسهم «حرجا» وضيقا «مما قضيت» ثم «ويسلموا» لكل قضاءك وأمرك ونهيك «تسليما» طليقا دونما شرط (١).

أجل «فلا» إيمان لهؤلاء الأنكاد المتحاكمين إلى الطاغوت ، «وربك» الذي رباك بهذه التربية القمة الفائقة التصور «لا يؤمنون» صالح الإيمان (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) كرسول من الله (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) واختلط من أحكام زمنية أو روحية

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٢٣ في أصول الكافي قال أبو عبد الله (عليه السّلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ثم تلا هذه الآية ثم قال (عليه السّلام) : فعليكم بالتسليم.

وفيه عن الكافي عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قلت له : إن عندنا رجلا يقال له كليب فلا يجيء عنكم شيء إلا قال : أنا أسلّم فسميناه كليب تسليم ، قال : فترحم عليه ثم قال : أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال : هو والله الإخبات قول الله عز وجل (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ).

١٥٦

حيث الرسالة القدسية بسناد الكتاب والسنة هي مرجع كل التشاجرات «ثم» بعد تحكيمك حتى (لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) مهما كان عليهم ، وحتى «يسلموا» لقضاءك «تسليما» طليقا رفيقا (١).

وإذا كانت هذه الثلاث وجاه رسول الله شروطا في واقع الإيمان بالله ، فبأحرى أن تكون شروطه وجاه حكم الله رجاحة الأصل على الفرع ، وفضيلة المرسل على الرسول.

ومما يستفاد من (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى) أن الإيمان بالله وبشرعته لا يكفي ما لم يحكمّ رسول الله فيما شجر بينهم ، ف «وما اختلفتم فيه من شيء فردوه إلى الله» وذلك التحكيم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحصران مرجع

__________________

(١) في الدر المنثور ٢ : ١٨٠ عن أم سلمة قالت : خاصم الزبير رجلا الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقضى للزبير فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته فأنزل الله (فَلا وَرَبِّكَ ...).

وفيه أن عروة بن الزبير حدث عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى رسول الله في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر بي فأبي عليه فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اسق يا زبير ثم أرسل الماء الى جارك فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن كان ابن عمتك فتلوّن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع الى الجدر ثم أرسل الماء الى جارك واسترعى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للزبير حقه وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل ذلك أشار على الزبير برأى أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما احفظ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأنصاري استرعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحب هذه الآية نزلت في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ ..).

وفيه أخرج ابن المنذر عن جريح قال : لما نزلت هذه الآية قال الرجل الذي خاصم الزبير وكان من الأنصار : سلمت.

١٥٧

المشاجرات في كتاب الله وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأصالة الكتاب وهامشية السنة.

فكما التارك لكتاب الله المقبل إلى السنة غير مؤمن بشرعة الله ولا معتصم بحبل الله جميعا ، كذلك المقبل إلى الكتاب التارك للسنة ، فهما ـ إذا ـ الأصلان الأصيلان في كل وارد وشارد من المشاجرات في كل حقولها ، دون أي مرجع آخر مختلق بين الطوائف الإسلامية شيعية وسنية اماهيه.

وهنا نرى في مثلث الإيمان سيرة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) على صورتها ، ف (لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) تحمل «لا إله» ثم (يُحَكِّمُوكَ ... وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) تحملان «إلا الله» وهكذا نرى في واقع الكلمة التوحيدية في كافة الأقوال والأحوال والأعمال أنها تضم كلا السلب والإيجاب.

ولا تختص هذه الآية بالمنافقين الصامدين على نفاقهم ، بل هي شاملة لهم وللمنافقين الذين يطبّقون هذه الثلاث بعد تخلفات كما حصل ، وكذلك ضعفاء الإيمان المتحرجون أحيانا من حكم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

إذا فهذه الثلاث تشمل هؤلاء الثلاث دونما اختصاص بكتلة دون أخرى مهما كانوا دركات.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦).

(اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ـ أَوِ ـ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) هما من البليات التي نكب بها المتخلفون من اليهود ، و «لو» هنا لمحة إلى استحالة هذه البلية وأمثالها في هذه الأمة المرحومة ، وهي في نفس الوقت تنديدة شديدة بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت أن (لَوْ أَنَّا كَتَبْنا ... ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم الفرقة الثالثة من الذين (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ..) و «ان من أمتي لرجالا الإيمان

١٥٨

اثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» (١) وهؤلاء القليل هم من أولئك الأكارم مهما اختلفت الدرجات (٢).

وقد يتقبل الله منهم توبتهم بعد حوبتهم إذا رجعوا إلى واقع الإيمان ، تطبيقا لشروطه الثلاثة الماضية دون أن يحمّلوا بأن (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ).

(وَلَوْ أَنَّهُمْ) وهم الثلّة المنافقة منهم دون القلة المؤمنة بالعظة (لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من تطبيق شروطات الإيمان (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) يقابل شرا لهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) على الإيمان المدعى ، والأشد هنا مجارات معهم إذ لم يكن لإيمانهم أي شد حتى يصبح أشد تثبيتا.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨).

«وإذا» تحقيقا لما يوعظون به ، سواء من هؤلاء المتخلفين ـ وبأحرى ـ السالكين مسالك الإيمان دون نكول ولا أفول (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨١ ـ أخرج ابن جرير وابن إسحاق السبيعي قال : لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ..) قال رجل لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : إن من أمتي ..

وفيه عن زيد بن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال ناس من الأنصار : والله لو كتبه الله علينا لقبلنا الحمد لله الذي عافانا فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : الإيمان أثبت في قلوب رجال من الأنصار من الجبال الرواسي.

(٢) المصدر ـ أخرج ابن أبي حاتم عن شريح بن عبيد ال : لما تلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الآية أشار بيده الى عبد الله بن رواحة فقال : لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل.

١٥٩

على عظيم ما فعلوا من الوعظ في مثلثه السامي ، ثم (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) تحقيقا حقيقا رفيقا لاستدعاء الهداية في الصلاة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

فأصل العظة الأصيل هو طاعة الله والرسول كما ابتدأت به آية فرض الطاعة المثلثة.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩).

آية وحيدة في القرآن كله تعرّف بالذين أنعم الله عليهم بمواصفات أربع كقمة عليا ، حيث نهتدي في دعاء الهداية إلى صراطهم (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (١).

أترى (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) الموعود بهذه المعية المشرّفة هو كل من أطاع الله ورسوله مهما كانت قليلة؟ وليست تكفي هكذا طاعة لهدي الصراط المستقيم (٢).

«يطع» بالصيغة المضارعة دون «أطاع» تلمح صارحة إلى استمرارية الطاعة ، وأنها سنة المطيع في حياته الإيمانية ، مهما فلت عنه فالت وابتلي بلمم عن جهالة مغفورة.

وتلك الطاعة محلقة على كافة الحقول الحيوية عقيدية وثقافية وخلقية وعملية أمّاهيه(٣)؟.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥١٥ في كتاب معاني الأخبار عن الإمام الحسن (عليه السّلام) في قول الله عز وجل : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي قولوا : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال الله عز وجل : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ ...).

(٢). كما فصلناه على ضوء آية الحمد فراجع الفرقان (١ : ١١٧ ـ ١٣٣).

١٦٠