الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

عارما أو كفرا جاهرا ، أم ارتدادا عن أصل الإيمان.

ولا نجد آية في القرآن أشد تنديدا من (مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ..) حيث جمع فيها بين الخلود في الجحيم والغضب واللعنة والعذاب الأليم ، وما هذه إلا على رؤوس الضلالة.

بل ولا نجد خصوص اللعن إلّا على الكافرين : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٣٣ : ٦٤).

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١).

ألا يا شرعة القرآن العظيم ما أسمحك وأيسر منهجك وأنور مبلجك ومدخلك ومخرجك ، على ما فيك من تكاليف واسعة شاسعة قلّ من يطبقها كما هيه.

فهذه الشرعة الأخيرة ـ على ترامي أطرافها وسعة أعرافها ليست لتغفل في الوقت ذاته ضعف الإنسان وقصوره وتقصيره ، ولا تجهل دروب نفسه ومنحناها.

لذلك تراها تعالج كسر المكلفين بسماحات صالحة مصلحة لهم ، فهناك رحمة الله الواسعة تدرك القاصر وترحم الضعيف وتعطف الكثير الكثير على موارد التقصير حين لا تعنّت ولا عناد ، وإنما (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ..).

ولولا التكفير عن السيئات بترك الكبائر ، او التوبة عن الكبائر ، أم والشفاعة ، لولا هذه الثلاث لتحرّج كثير من المؤمنين الذين تتفلت عنهم سيئات صغائر وكبائر ، ولأيسوا رحمة الله وهو أخطر على كتلة الإيمان من مثلث الغفران بأسبابه.

٢١

وهكذا يداوينا ربنا كيلا ننجرف في هوّات الخطيئات ، ولنعش على ضوء الإيمان بين الخوف والرجاء.

هنا «سيئاتكم» وجاه (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) هي الصغائر ، فهي ـ إذا ـ مكفرة بترك الكبائر (١) كما وهي كل المعاصي حيث تفرد : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) (٤٣ : ٢١) ـ (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ..) (م : ٨١).

والكبائر هي جملة «كل ما وعد الله عليه النار» (٢) وتفصيلا هي مفصلة في الذكر الحكيم بذلك الوعد ، معروفة من أسلوب النهي والوعد والتكرار في الحظر ، ومن مقابلتها بالصغائر : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٧ : ٤٩) ـ (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٤ : ٥٣) (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) (٤٩ : ٧) فلا بد أن العصيان هو الصغيرة ثم الكفر كبيرة عقيدية والفسوق كبيرة عملية.

وقيلة القائل إن الله أخفى الكبائر بين الصغائر حتى تترك جميع المعاصي سياجا على الكبائر إنها قيلة عليلة لأنها غيلة من الله على عباده الضعاف وحيلة لا تصلح إلا من العاجز عن تدبير أمر خلقه ، ولا رحمة في ذلك الوعد حين لا

__________________

(١) راجع الجزء السابع والعشرين من الفرقان ص ٤٤٠ ـ ٤٤٥ تجد فيه تفصيلا آخر حول الكبائر والصغائر.

(٢) نور الثقلين ٥ : ١٦٤ عن ثواب الأعمال بإسناده الى عباد بن كثير قال : سألت أبا جعفر (عليهما السلام) عن الكبائر فقال : .. وفيه ١ : ٤٧٣ عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) في الآية قال : من اجتنب ما أوعد الله عليه النار إذا كان مؤمنا كفر عنه سيئاته ، وفي نهج البلاغة عن علي (عليه السّلام): «ومباين محارمه من كبيرا وعد عليه نيرانه أو صغيرا رصد له غفرانه.

٢٢

تعرف الكبائر بأعيانها حتى تجتنب بغية تكفير الصغائر ، ولا تجد إلا القليل القليل من المؤمنين التاركين لكل المعاصي حتى اللمم.

ذلك ، بل إن وعد الرحمة هذه تشجيع على الفحص لتعرف الكبائر وكما نعرفها من آياتها التي تحويها بقرائنها الظاهرة.

و (مُدْخَلاً كَرِيماً) الموعود لمجتنبي الكبائر علّه هو مثلث النشآت دنيا وبرزخا وعقبى.

وقد تعم «كبائر» العقائدية إلى العملية حيث النهي يعمهما كلفظة الكبائر ، فالتكفير ـ إذا ـ ضابطة سارية المفعول في كافة الكبائر المنهية ، ما لم تصبح الصغائر بالإصرار فيها كبائر.

وذلك التكفير الخاص باجتناب الكبائر يلغى فيه شرط التوبة ، وعلّ نفس ترك الكبائر وعدم الإصرار في السيئات هو نفسه حالة التوبة والندم ، وإلّا لكان يزداد في سيئاته فيصبح ممن (كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١).

ذلك ، ولكن الكبائر بحاجة في تكفيرها إلى توبة ثم شفاعة أماهيه من مكفرات في الدنيا أو الآخرة.

أترى أن تكفير السيئات بترك الكبائر تشجيع عليها أو أنها لا تعتبر محرمات؟ كلّا! بل هو تشجيع على ترك الكبائر ، وما من مؤمن إلا وقد يقترف سيئة ، فالحكمة الربوبية الصالحة التربوية تقتضي هكذا تكفير سياجا على الكبائر ، وهياجا على تضبيط النفس عن حرمات الله ، ودفعا عن اليأس عن رحمة الله وروحه.

فلا يعني ـ إذا ـ تكفير السيئات انها غير داخلة في المحظورات ، فإنما ذلك التكفير في عداد الإثابة على ترك الكبائر ، والسيئات غير المكفرة هي سيئات كما

٢٣

لمقترفي الكبائر حيث يعذب بهما لولا التوبة الصالحة.

ذلك كما وأن فتح باب التوبة في سائر المعاصي ليس فتحا لباب الاقتحام فيها ، إنما ذلك حكمة تربوية لمن ابتلاهم الله بالنفس الأمارة بالسوء ، ورحمة عليهم كيلا يتورطوا في العصيان حين لا تكفير بتوبة أو سواها.

وترى التكفير باجتناب الكبائر يعني ـ فقط ـ اجتناب كل الكبائر؟ قد تعني مقابلة «سيئاتكم» ب (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) تكفير كل سيئة تجتنب كبيرته ، فمن يجتنب الزنا تكفر عنه نظرة شهوة ، ومن يجتنب الشرك يكفر عنه الرئاء ، اللهم إلّا عن المصرّ في السيئات : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٣ : ١٣٦) وهذه قضية قابلة جمع الكبائر بجمع السيئات ، فالتارك لكل الكبائر تكفر عنه كل سيئاته ، فالتارك لكلّ تكفر عنه سيئتها المناسبة لها إن حصلت منه ، أم أية سيئة يناسب تكفيرها اجتناب تلك الكبيرة كما يعلم الله ، تأمل.

وتكفير الصغيرة بترك الكبيرة هو طبيعة الحال في ميزان الله رحمة تربوية لعباده الضعاف المجاهيل ، فالسيئة التي تظلم القلب قدرها ، يمحي ظلامها ترك الكبيرة قدرها وذلك معنى إذهاب الحسنات السيئات ، ثم وتبديل السيئات حسنات.

أم تعني طبيعة الحال في اجتناب الكبائر مهما تفلتت عنه كبيرة بطبيعة الحال ، والاجتناب تكلّف الجنب عن الكبائر ، وقد يتفلت في لمم ، فالكبيرة المتروكة دون تكلف لعدم وسائلها لا تعد من المجتنبة ، والنص «ان تجتنبوا»

٢٤

دون «ان تتركوا» فقد تكفر سيئات مجتنب الكبيرة ولا تكفر سيئة لتارك الكبيرة دون تكلف وجهاد.

فالمجتنب للأكثرية المطلقة او الساحقة من الكبائر يقال له مجتنب الكبائر ، والكبيرة المتفلتة داخلة في نطاق اللمم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٥٣ : ٣٢) وإذا كان ترك كل الكبائر ضمانا لتكفير صغيرة واحدة فقليل قليل هؤلاء الذين تشملهم هذه الرحمة ـ الواسعة! وكثير كثير ـ إذا ـ من لا يهمه فعل الكبائر حيث التوبة على أية حال مقبولة مهما كانت لها شروطها.

فالحكمة التربوية في قرار المذنبين بمقر الخوف والرجاء والجهاد في ترك كل كبيرة كبيرة تقتضي أحد الوجهين في المعني من اجتناب كبائر ما تنهون عنه.

وقد تصل رحمة التكفير الى قمتها المرموقة وهي تبديل السيئات حسنات بعد إذهابها : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١ : ١١٥) ـ (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٥ : ٧٠).

وكما أن ترك الكبائر كفارة للصغائر ، كذلك فعل كبائر الحسنات كالصلاة في (أَقِمِ الصَّلاةَ ...) والصدقات إبداء وإخفاء : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢ : ٢٧١) ـ (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..) (٥ : ١٢).

٢٥

ذلك وكما التوبة تكفّر كل السيئات كبيرة وصغيرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ...) (٦٦ : ٨).

وقيلة القائل إن المعاصي كلها كبائر حين ينظر إلى العاصي في نهاية الذل والمعصي لا يتناهى في العز ، هي قيلة عليلة ، حيث النظر هنا إلى المعاصي نسبة إلى بعضها البعض حتى تنقسم إلى كبائر وصغائر ، ثم في النسبة إلى الله قد تصبح الصغيرة كبيرة حين يؤتى بها هتكا لساحة الربوبية ، والكبيرة ـ بجنبها ـ صغيرة حين يؤتى بها بجهالة ومع الأسى وحالة الاختجال.

فلا صغيرة فيما يؤتى بها هتكا لساحة الربوبية كما لا كبيرة فيما يؤتى بها جهالة.

فانما المقابلة بين الكبيرة والصغيرة ، هي حسب مبدء الصغر والكبر ، إن بينهما فبينهما ، وإن بالنسبة للمعصي فبالنسبة له ، وفي المختلفين مبدء ينظر إلى بعد العصيان أيا كان.

ثم الآتي بصغيرة هتكا لساحة الربوبية هو آت بكبيرتين أولاهما نفس الهتك ، والآتي بكبيرة دون هتك آت بكبيرة واحدة ، كما الآتي بكبيرة هتكا لساحة الربوبية آت بثالوث الكبيرة!.

ولأن مكفرات المعاصي عدّة ومنها التوبة والشفاعة ، فهما ـ إذا ـ لأهل الكبائر الشاملة للصغائر المتكررة حيث يصدق عليها الإصرار ف «لا كبيرة مع التوبة ولا صغيرة مع الإصرار».

لذلك نسمع رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : «ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ثم تلا هذه الآية (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٤٥ ـ أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس سمعت النبي (صلّى الله ـ

٢٦

وبما أن (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) لا تختص باقتراف كبائر السيئات ، فقد تشمل ترك كبائر الحسنات كما دلت عليه آيات وروايات ، فقد تصبح ترك كبائر السيئات كفارة لصغائرها ، وفعل كبائر الحسنات كفارة عن ترك صغائرها (١).

ولأن الكبائر نسبية وهي دركات (٢) فترك الكبائر ـ إذا ـ درجات ، وتكفير

__________________

ـ عليه وآله وسلّم) يقول : ..

(١) المصدر أخرج جماعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري إن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جلس على المنبر ثم قال : والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصطفق ثم تلا : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ...

أقول : الكبائر السبع هي أكبر الكبائر التي تعد غيرها بجنبها صغائر ، وقد ذكرت عشرات من الكبائر في بعض الأحاديث كما يروى عن أبي عبد الله (عليه السّلام) (راجع ج ٢٧ الفرقان ص ٤٤١).

(٢) ففي بعض الروايات انها سبع كما في الدر المنثور ٢ : ١٤٦ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هن يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قال : الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وفيه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثله ولكنه بدل السحر بالإنقلاب الى الأعراب ، وفيه أخرج علي بن جعد في الجعديات عن طيلة قال سألت ابن عمر عن الكبائر فقال سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : هن تسع بزيادة والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا وعقوق الوالدين.

فهذه ـ إذا ـ عشر ، وفيه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسأله رجل ما الكبائر؟ قال : الشرك بالله وقتل نفس مسلمة والفرار يوم الزحف.

أقول : ولأن أكبر الكبائر نسبي كنفس الكبائر فلا تعارض بين عديد الكبائر وكما فيه أيضا عن أبي بكرة قال قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ، وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ـ

٢٧

سيئاتكم ـ أيضا ـ درجات حسب الدرجات ولا تظلمون فتيلا.

وللكبائر ثالوث من الأبعاد قد تجتمع وقد تفترق ومن هنالك تختلف الدركات ، فالأقنوم الاوّل وهو الأرذل من الكبيرة هو الإشراك بالله والكفر ومهانة ساحته جلت عظمته في العصيان ، والثاني كبر العصيان عمليا أمام سائر العصيان ، والثالث جوّ العصيان إذا كان مقتضيا لتركه رافضا عن فعله زمانا أو مكانا او كيانا ، والجامع بين هذه الثلاث هو أكبر الكبائر ، ثم الاثنتين منها ، ثم واحدة ، ومن ثم الصغائر في كل هذه الجهات ، وبين أكبر الكبائر وأصغر الصغائر متوسطات كبائر وصغائر (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ).

و (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ـ على الإطلاق ـ هي في الحقل العقيدي مطلق الكفر بالله إشراكا وسواه الشامل للكفر بأنبياء الله واليوم الآخر والكفر بضروريات الشرعة الإلهية.

وفي الحقل العملي قتل النفس والزنا واللواط وشرب الخمر والربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وكما في قسم من أحاديثنا.

فهذه الآية بالنسبة للحقلين هي في مجرى الآية : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨) مهما كانت آية الكبائر أوسع موردا منها حيث تعم الكفر إلى سواه ، كما يعم

__________________

ـ ابن عمرو وإنه سئل عن الخمر فقال سألت عنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : «هي أكبر الكبائر وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في عداد الكبائر : واليمين الغموس»

وفيه عن ابن عباس قال سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما الكبائر؟ فقال : الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن مكر الله.

٢٨

الكفر السابق على الإيمان إلى اللّاحق بعد الإيمان حيث الخطاب موجه إلى الذين آمنوا فاللاحق هو الأصل ويلحقه السابق.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢) التمني من المني : التقدير ، والمنّي هو المقدر به خلق الحيوان كما المنيّة هي الأجل المقدر له ، فالتمني ـ إذا ـ هو تطلب المقدّر لغير المتمنين ، غير المقدّر للمتمني ، تقديرا تكوينيا أو تشريعيا.

و (ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) تعم تفضيلي التكويني والتشريعي ، فتلك ـ إذا ـ فضيلة غير مكتسبة ، فإنما هي محتسبة قضية الحكمة الربانية.

ولأن تمني ما فضل الله به بعضكم على بعض دونما سعى للحصول عليه قدر المستطاع والمكنة ، ودون سؤال عن الله أن يؤتيه كما آتاه غيره ، لأن ذلك التمني يخلف التحسّد البغيض على من فضل عليه ، فالعمل الجاد الكاد لإزالة فضله ، حيث يصاحب الاعتراض على الله ، لماذا فضل ـ من فضل ـ عليه وحرمه (١) لذلك يؤكد النهي عن التمني هنا ، والسعي حسب المستطاع في آية

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٤٧٤ في المجمع عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أي لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة أو المرأة الحسناء كان لي فإن ذلك يكون حسدا ولكن يجوز أن يقول : اللهم أعطني مثله ، وعن كتاب الخصال فيما علم أمير المؤمنين (عليه السّلام) أصحابه في كل امرء واحدة من الثلاث : الكبر والطيرة والتمني فإذا تطير أحدكم ليمض على طيرته وليذكر الله عز وجل وإذا خشي الكبر فليأكل مع عبده وخادمه وليحلب الشاة وإذا تمنى فليسأل الله عز وجل وليبتهل إليه ولا تنازعه نفسه الى الإثم ، وعنه عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال رسول الله ـ

٢٩

السعي (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) والسؤال من فضل الله ، فان حصل بهما على ما فضل به عليه ، وإلا تعبّر على مرضات الله ، مسلما لله مستسلما لأمر الله حيث الحكمة البالغة ـ دون ضنة ـ هي المقتضية لتفضيل بعض على بعض ومنه التفضيل في الرزق : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (١٦ : ٧١) ومنه الرحمة الروحية : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢ : ١٠٥) ـ (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٣ : ٧٣) ـ (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (١١ : ٣).

وبصورة شاملة وحكمة كاملة هو القاسم رحمته دونهم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ

__________________

ـ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من تمنى شيئا وهو لله تعالى رضى لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه ، وفيه عن أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من لم يسأل الله عز وجل من فضله افتقر، وعنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أدع ولا تقل ان الأمر قد فرغ منه ان عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئا فسل تعط ، إنه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه ، وفيه عن تفسير العياشي عن إسماعيل بن كثير رفع الحديث الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : لما نزلت هذه الآية (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) قال أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ما هذا الفضل أيكم يسأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك؟ فقال علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أنا اسأله فسأله عن ذلك الفضل ما هو؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إن الله خلق خلقه وقسم لهم أرزاقهم من حلها وعرض لهم بالحرام فمن انتهك حراما نقص له من الحلال بقدر ما انتهك من الحرام وحوسب به.

وفي الكافي وتفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعرض لها بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قول الله عز وجل : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وروي ما في معاه عن أبي الهذيل عن الصادق (عليه السّلام) والقمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر (عليه السّلام).

٣٠

رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢).

فلما ذا ـ إذا ـ تمنّي ما فضل الله به بعضكم على بعض من نعم روحية أماهيه ، وهو بين مالكم؟؟؟ إليه سبيل بالسعي كما (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) وما لا سبيل اليه في الحكمة العالية فالتسليم ، وما التمني إذا إجهادا للنفس وإبعادا لها عما يحق ويجب أمام الله وأمام خلقه بما فضّل!.

وليس الفضل غير المكتسب بالذي يفضّل صاحبه على غيره في حساب الله في النشأتين ، فلا الرجولة تفضل أعمال الرجال على النساء ولا الأنوثة ترذل اعمال النساء أمام الرجال ، بل : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فلا فضل للفضل غير المكتسب إلا بما اكتسب بسببه أو سواه ، والتارك لاكتساب الفضل من الفضل أدنى من تاركه دون وسيط الفضل ، والآتي بالفضل دون وسيط ذلك الفضل أعلى من الآتي به بوسيط ذلك الفضل و «أفضل الأعمال أحمزها».

صحيح أن كلا من الرجال والنساء يفضّل على قسيمه في قسم من المعطيات الربانية ، ثم هما مشتركان في ثالث ، إلا أن المهم في هذه الثلاث قدر الاكتساب وقدره ، دون أصل الفضل غير المكتسب ف (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

و «مما اكتسبوا ـ اكتسبن» دون «ما اكتسبوا» قد ينظر إلى نصيبهم في الأولى ، وأما الأخرى «فيجزاه الجزاء الأوفى» فليس الناتج عن الاكتساب بارادة الله قدر الاكتساب ، إنما قدر الصالح في حساب الله لخلقه والمصالح الحيوية لهم فردية وجماعية.

٣١

و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠) (١).

(وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أن يؤتيكم كل النصيب مما اكتسبتم أم وزيادة ، دون سؤال بلا سعي فيما له يسعى ، ولا سؤال عما لا يمكن أو لا يكون ، أو لا يصلح لكم فإنكم لا تعلمون و (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فلا تعلّموا الله بكدكم وشدكم وجذركم ومدكم ، بل (سْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) كما أمر وكما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سلوا الله من فضله فان الله يحب أن يسأل» (٢).

ومن ذلك التمني القاحل تمني النساء ما للرجال من خاصة الأحكام ، وتمني الرجال ما للنساء من خاصة (٣) تدخّلا في التشريع بمختلف أحكامهما ، فلكلّ دوره في واجبه ليس للآخر كما للكل دور في الواجبات والمحرمات المشتركة.

__________________

(١) راجع الفرقان ١٥ : ١٢٢ ـ ١٢٩ تجد تفصيل المعني من هذه الآيات.

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٤٩ ـ أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ...

(٣) المصدر أخرج جماعة عن أم سلمة انها قالت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «تغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل فنستشهد وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله الآية»وفيه عن ابن عباس قال : أتت امرأة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت يا نبي الله «للذكر مثل حظ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل» أفنحن في العمل هكذا إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة؟ فأنزل الله (وَلا تَتَمَنَّوْا ...) فإنه عدل مني وأنا صنعته.

٣٢

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦)

٣٣

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٣٣).

«ولكلّ» من الرجال والنساء (جَعَلْنا مَوالِيَ) يرثونهم (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وهما الأصل في الإيراث والميراث (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) بعقد الزواج كالزوجين : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٤ : ٢١) واحتمال ثان في «أيمانكم» أنها جمع اليمين الجارحة حيث تضرب صفقة البيع بها ، وهي هنا إتمام اليمين الحلف باليمين الجارحة.

ثم وثالث هم الموصى لهم كما تعنيهم آية الوصية نصا وتأويلا ، ورابع هم الاخوة بالإيمان حيث تآخيتم معهم بها في الجاهلية ، والاخوة بالإيمان والمهاجرة ، والآخران نسخ حقهما بآيات المواريث.

فقد تعم كضابطة : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) هؤلاء وأضرابهم ، ولكلّ دوره في حقل ذلك النصيب الحسيب ، كل بحساب على ضوء شرعة الله ، دون فوضى اللاحساب.

وهنا خامس هو ولي ضمان الجريرة أن تتوالى مسلما يضمن جريرتك حيث يعقلك في

المناصرة والممانعة والتوارث ، وهو يرث بعد فقد كل الوارثين ، ولا يرث معهم ، اللهم إلا الأزواج ، والضمان ان كان من طرف واحد فواحد وان كان من الاثنين فاثنان ، وهو كعقد التأمين الشايع اليوم.

ثم وسادس هو كل من عقدتم بينكم وبينه عقدا فأدوا إليه ما يستحقه بذلك العقد عليكم.

وذلك المسدس معنيون ب (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) مهما نسخ من نسخ بآيات المواريث والوصايا.

٣٤

فالموالي هنا هم الذين يلونكم نسخة ثانية طبق الأصل في حياتكم وبعد مماتكم ، والأصل منهم موالي النسب كما (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ثم موالي السبب وهم الأزواج ، ومعهما موالي الاخوة الإيمانية : (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) كعامة الظروف ، وبالنسبة لحقل الميراث (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) حيث تدل على سابق الولاية في الميراث لحقل الإيمان والمهاجرة ، ثم الموالي بعقد الإيمان في الجاهلية إذا كانوا الآن مسلمين.

ف (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قد تكون استئنافا فصلا لهم عن الموالي ، أم عطفا على «موالي» انهم ايضا من موالي الميراث والجمع أجمع وأجمل.

وقد تعني (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ـ في خصوص إخوة الإيمان بالأيمان ، وبعد نسخ الميراث بها بآيات المواريث ـ تعني «نصيبهم» من الأخوّة الإيمانية في غير الميراث ، أم وبالوصية.

و (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) في آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) قد آتتهم نصيبهم بعد نسخ الميراث بالأخوة والمهاجرة ، معروفا بالوصية ومعروفا إذا حضروا القسمة ، وبأحرى معروفا في حياتكم ، و (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) خطاب في اصل للمورثين أن يؤتوهم نصيبهم بهبة أم وصية ، وليس خطابا للورثة والأوصياء ، اللهم إلّا بالنسبة للزوجين والموصى لهم.

فالزوجان والموصى لهم يؤتون نصيبهم إرثا ووصية ، والذين عقدت أيمانكم من غيرهما يؤتون نصيبهم بهبة وإيصاء لهم ، أم وسائر النصرة حين لا يتحمل المال ، وعقد الأخوة الذي كان من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين المؤمنين لا يعدوه إلى سواه ، وعقد الميراث الذي كان في الجاهلية منسوخ في الإسلام ثم لا عقد عليه فيه وكما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله

٣٥

وسلّم) قوله : «كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا عقد ولا حلف في الإسلام نسختها هذه الآية» (١).

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤)

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أتراهم هم الأزواج فقط قوامون على زوجاتهم؟ وطليق التعبير يعم قبيل «الرجال» ككل أنهم قوّامون على قبيل النساء ككل ، مهما كانت هذه القوامية في حقل العائلة أبرز في كل ملامحه من سائر الحقول ، ولأن البيئة الزوجية هي التي تتبنى سائر البيئات.

ثم «قوامون» مبالغة في القيام والقيمومة لصالح النساء ، وهي الرقابة الصالحة عليهن والحراسة الفالحة عن تفلتهن وتخلفات لهن ، وعن قصورات وتقصيرات ، وعن أطماع سراق الجنس فيهن.

وتلك القوامية القيمة تعم الناحتين : التكوينية والتشريعية ، حراسة دائبة على كونهن وكيانهن وكرامتهن في كل الحقوق والحاجيات الأنثوية.

فالرجال ـ إذا ـ هم حراس على النساء في كل متطلّبات الحياة ، لأنهم

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٥٠ ـ أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : والذين عقدت أيمانكم ، قال : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

٣٦

أقوى منهن عقليا وبدنيا وفكريا ، والحراسة تتطلب هذه الثلاث لتصلح للحراسة والاحتراث.

وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تلك الحراسة «المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان لها مال؟ قال : وإن كان لها مال ثم قرء الآية» (١)

__________________

(١) روح الجنان لأبي الفتوح الرازي قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ... وفيه عن أبي هريرة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها اطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرء الآية.

وفي تفسير الصافي ١ : ٣٥٣ عن العلل عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سئل ما فضل الرجال على النساء؟ فقال : كفضل الماء على الأرض فبالماء تحيى الأرض وبالرجال تحيى النساء ولو لا الرجال ما خلقت النساء ثم تلا هذه الآية : إلا ترى كيف يحضن ولا يمكنهن العبادة من القذار ، والرجال لا يصيبهم شيء من الطمث».

وفي تفسير ابن كثير ٢ : ٢٧٥ ـ ٢٧٧ عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها واطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت».

وفي الدر المنثور ٢ : ١٥٣ ـ أخرج البيهقي عن اسماء تبت يزيد الأنصارية انها أتت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو بين أصحابه فقالت : بأبي أنت وأمي اني وافدة النساء إليك واعلم نفسي لك الفداء انه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي : ان الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك وانا معشر النساء محسورات مقصورات قواعد بيوتكم ومقضي شهواتكم وحاملات أولادكم وانكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله وأن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا اثوابكم وربينا لكم أولادكم فما نشارككم في الأجر يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فالتفت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال : هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما ـ

٣٧

و «إنما المرأة لعبة من أتخذها فلا يضيعها» (١) وعلى الجملة في شأنهن : «إن المرأة ريحانه وليست بقهرمانة» (٢) فإنما الرجل هو القهرمان عليها والقوام ، فعليه الحراسة التامة قدر المستطاع بشأنها.

وهذه القوامة ليست لتفضل قبيل الرجال على قبيل النساء ، فلو لم تكن للنساء فضيلة تجب الحفاظ عليها ما قررت على الرجال تلك القوامة القويمة على النساء ، و (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) لا تفضلهم عليهن لمكان المباعضة الطليقة في «فضل الله» فهما ـ إذا ـ وحدة ذات أبعاض ، فضّلت البعض على البعض ، كما فضلت الأخرى على الأولى من ناحية أخرى حسب الفاعليات والقابليات والمصلحيات.

و «هم» هنا في التفضيل تعمهما ، وتعمية البعض المفضل تلمح الى معاكسة في ذلك التفضيل الفضيل ، فكما فضّل الرجال في قبيل من الفضائل على النساء كذلك النساء فضلن في قبيل آخر من التفضيل عليهم ، فلو لا هذه المعاكسة في التفضيل لكان حق التعبير «بما فضلهم الله عليهن» دون «بعضهم على بعض» ف «هم» تعمهما لمكان بعضهم على بعضهم ، وتذكير الضمير ليس إلّا للتغليب.

__________________

ـ ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا فالتفت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليها ثم قال : انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته وإتباعها موافقته تعدل ذلك كله فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا!.

(١) عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(٢) في نهج البلاغة عن علي (عليه السّلام) وفي الكافي عن عبد الله بن كثير عن الصادق (عليه السّلام) عنه (عليه السّلام) وباسناده عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام) في رسالته إلى ابنه.

٣٨

ولأن الرجال بإمكانهم الحفاظ على فضلهم بأنفسهم دون النساء ، لقوتهم وضعفهن ، ولكرامتهن في أمانة العفاف ، لذلك كلّف الرجال المفضّلون بالقوة العقلية والبدنية بالحفاظ على النساء المفضلات بفضائل الأنوثة التي ليست للرجال ، حفاظا عليهن من ناحية ، وعليهم من أخرى لأنهن أمهات أولادهم ، وحافظات أماناتهم غيّبا وحضورا.

وإضافة الى فضيلة القوة العقلية والبدنية للرجال حيث تتطلب القوامية على النساء ، (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) هي زاوية ثالثة تفرض عليهم تلك القوامة حفاظا على نواميسهم(١).

وحين لا يقوم الرجل بتلك القوامية قاصرا أو مقصرا ، فهو ناشز عن شأن الرجولية قاصرا أو مقصرا ، وقد تعاكس حينئذ الولاية ، أو تتهاوى حين لا قوامية من الطرفين.

فلا ولاية طليقة للرجال ، لأنهم ـ فقط ـ رجال ، على النساء ، إنما هي على غرار القوامية الصالحة ومداها.

وتلك القوامية تتطلب منهن الطاعة الصالحة ، اللهم إلّا في غير صالح أو في منكر ، وهذه هي الدرجة المعنية لهم عليهن بعد تماثل الحقوق بينهما :

__________________

(١) وقد ورد في شأن نزولها أن امرأة سعد بن الربيع بن عمر نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : افرشته كريمتي فلطمها فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ارجعوا فهذا جبرئيل أتاني وانزل هذه الآية فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : أردنا امرا وأراد الله امرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص.

أقول : وردت قريبا منها وفي معناها روايات ، وقد نسخت الآية سنة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المستفادة من قاعدة الاعتداء بالمثل ، فلم يفعل النبي محظورا.

٣٩

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢ : ٢٢٨).

فلا تعني «بما فضل الله ـ و ـ درجة» ـ فيما عنت ـ فضيلة لهم عليهن في الأعمال وفي ثواب الآخرة ، ف (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧).

فلا يفضل ذكر على أنثى في عمل وثواب بذكورة ، ولا ينقص فيهما من أنثى بأنوثة ، فإنما جعلت القوامية الرجالية على النساء حفاظا على الكرامتين.

ذلك وبصورة عامة هذه القوامية محلّقة على كل الحقول الجماعية في الكتلة المؤمنة ف (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٩ : ٧١).

وتفضيل أعمال الرجال على النساء في الأولى أو الأخرى بمجرد فضل الرجولة على الأنوثة إنه تفضيل رذيل وتضييع للمساعي : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (٣ : ١٩٥).

وليس تفضيل الرجال بما فضلوا كتفضيل النساء بما فضلن إلا قضية الحكمة الربانية كما (اللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (١٦ : ١٧) (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢) ف (لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

٤٠