الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦)

هنا رباط عريق بين هذه الآيات الأولى المنددة بالإشراك وبين مشاقة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث المشاقة هذه ـ هي في الحق ـ مشاقة الله ، فمشاقة في الألوهية ، فشق منها لله وشق آخر لغير الله! ، (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ـ (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٢٢ : ٣١).

ذلك هو الإشراك بالله بوجه عام فكيف إذا (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) مهما حلّق الشرك (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) فإنه هو رأس الزاوية في كل إلحاد وإشراك؟

عله لأن واجهة هذا العتاب هم عبدة الملائكة وقد حسبوهم إناثا : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) (١٧ : ٤٠)؟ ولكن أنوثة الملائكة قبل ألوهتهم مندّد بها في القرآن أشد تنديد ، فكيف تعتبر في لفظ القرآن واقعا ثم يندد ـ فقط ـ بألوهتها ، ثم الملائكة المعبودة ليست (شَيْطاناً مَرِيداً)!

وعلّه لأن المقصود هنا هو اللات ـ وهي مؤنث «الله» ـ والعزى ـ وهي مؤنث العزيز ـ ومنات الثالثة الأخرى ، أم وما كانوا يسمونه لكل حي : أنثى بني فلان ، لتأنسهم بالأنثى وإن في الاسم دون المسمى؟.

لكنها كذلك ليست في الحق إناثا مهما سموها وسنّوها في التخيلة الجاهلة العمياء الخواء ، ثم (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) تحلّق على كل معبود من دون الله إناثا وذكورا أم حيوانا وجمادا!.

٣٤١

قد تعني «إناثا» كافة الطواغيت والأصنام وغيرهما ممن يعبد من دون الله حتى من الملائكة والنبيين ، فإنها ككل تشترك في المعني من «إناثا» كأصل ، حيث الأنثى هي في الأصل المنفعلة سميت بها الأنثى لانفعالها في كل حقولها الحيوية ولا سيما في أنوثة الجنس.

والمعبودون من دون الله كلهم منفعلون ببعضهم البعض ، والكل منفعل بفاعلية الله سبحانه وتعالى ، فما سوى الله كله إناث بهذا المعنى الأصيل ، فكيف تتخذ له فاعلية الربوبية المطلقة غير المنفعلة حيث لا يتغير بانغيار المخلوقين.

أجل و (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٢ : ٧٤) (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٢٥ : ٣).

ذلك ، ولأن كل دعوة شركية ناشئة من إضلال الشيطان ف (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وهو قائد كافة القوات الشيطانية في الجنة والناس أجمعين مهما عبدته جماعة بصورة رسمية وآخرون يعبدون من دون الله من دعاهم إليه الشيطان.

وعلّ «إناثا» تعني ثالوث الأنوثة في المعبودين من دون الله ، أنوثة الادعاء والتسمية ، على هامش أنوثة الانفعالية الشاملة لما سوي الله معبودا وسواه.

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (١١٨).

لعنه الله إخبار من الله عن لعنه حين دحره بما عصى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٨ : ٧٨) أم وإنشاء لا من الله بل انه آهل لدعاء

٣٤٢

اللعنة عليه ، فهي ـ إذا ـ لعنة على لعنة إنشاء إلى اخبار ، أن على العباد أن يستمروا في لعن ذلك اللعين.

ثم «الواو» هنا عاطفة على (لَعَنَهُ اللهُ) ، أنه بعد ما لعن (قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ ... قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١٥ : ٤٠).

وهل استطاع أو يستطيع أن يغويهم أجمعين إلا المخلصين المعصومين؟ كلّا حيث قال الله ردا عليه : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) ، فما هو نصيبه المفروض في أخذه الوعيد العتيد؟.

هل إن نصيبه المفروض فقط هو من جمعهم كما قال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)؟.

وهو مرضوض في نصيبه المفروض بما منعه الله! أم هو ـ فقط ـ (مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)؟ وقد لا يتبعه عبد لأنه مؤمن بالله ولكنه تعرضه لمم هو من إغواء الشيطان!.

قد يعني من «عبادك» جمع النصيبين ، نصيب من جمعهم وهم الغاوون المحسوبون بحسابه ، ونصيبا من الآخرين غير المخلصين حيث يبتلون أحيانا بفسوق وهم ليسوا من الغاوين.

فمن النصيب المفروض من جمعهم الملحدون في الله والمشركون بالله ، والمتخلفون عن شرعة الله ، وهو يحسبون أنفسهم مؤمنين بالله ، كما منهم المعبودون من دون الله ، فلهم ـ إذا ـ نصيب مما لله!.

٣٤٣

فهنالك ثالوث من النصيب المفروض : عابدون من دون الله ومعبودون ومتخلفون عن شرعة الله ، وعلى الهامش من يعرضهم لمم أم زاد من المؤمنين بالله.

إذا ف (نَصِيباً مَفْرُوضاً) يشمل كافة التخلفات عن سلك العبودية الوحيدة غير الوهيدة لله ، جليلة وقليلة.

ذلك! وهذا النصيب المفروض المرفوض يرتكن على قواعد أربع وكما يحيط بهم الشيطان من جوانب أربع :

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (١١٩).

١ «ولأضلنهم» وهم الغاوون الضالون وهو يزيدهم ضلالا على ضلال ، فليس يقوى الشيطان على إضلال إلّا على الضال أن لم يوفقه الله لدفع الضلال دونما استقلال في الإضلال بل هو استغلال في جو الضلال.

فالاستقلال في الإضلال يعني عدم الإذن التكويني من الله في ذلك الإضلال وعدم ضلال الذي يضله ، ثم الاستغلال أن المضلل ضال في نفسه ثم هو يضله بإذن من الله.

إذا فلا بد في مزيد الضلال أن يكون المضلّل ضالا في نفسه حتى يضله الله سماحا للشيطان أن يضله (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (١٤ : ٢٧) (كَذلِكَ يُضِلُّ (١) اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٤٠ : ٣٤) (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤).

هنالك لا يصدّ الله الشيطان أن يضل بل يرسله لكي يضل الضال عقوبة على ضلاله:

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٧) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا

٣٤٤

أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣) (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٤٣ : ٣٧).

فليس للشيطان استقلال في الإضلال ، اللهم إلا في ضلال من يضله بإذن الله وهو استغلال ، وكما لا حادث سواه إلا بما يأذن الله ، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.

٢ «ولأمنينهم» والتمنية هي إلقاء الأماني الكاذبة الشهية في قلوب الغاوين ، وهي تورث الحرص والأمل وهما رأس زوايا الخطايا على الإطلاق.

وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله : «يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان إتباع الهوى وطول الأمل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة» ـ و «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل».

هنالك يقطع الرجاء عمن ابتلي بالأمنيات الكاذبة الطائلة فلذلك (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٥ : ٣) (١).

هنا الإضلال والتمنية من فعل الشيطان في ظرف الضلال فالإذن من الله ، ثم الأمر قولا وفعلا :

٣ (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) والبتك هو القطع ، وليس قطع آذان الأنعام بمجرده من أمر الشيطان وفعله إذ قد تقطع علامة لها كيلا تضل ، إنما هو القطع علامة على التحريم ، أو نسكا في عبادة الأوثان.

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الفرقان تجد فيه تفصيلا حول طول الأمل.

٣٤٥

ولقد كانوا يقطعون آذان البحيرة وهي الوالدة خمسة خامسها ذكر ، فيحرمونها على أنفسهم شرعة من عند أنفسهم يفترونها على الله ، وكذلك ف : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥ : ١٠٣).

٤ (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) وترى ما هو المعني من خلق الله هنا وما هو تغييره؟.

لا ريب أن تغيير خلق الله بصورة طليقة ليس من أمر الشيطان وفعله ، بل وبعضه مأمور به محبور كالختان وقطع سرة الوليد عن أمه وإزالة الشعر عن العانة وتحت الإبطين ، وقصر الشعر من الرأس واللحية تجميلا أما هيه.

إذا فالقصد من خلق الله هو خلق خاص ومن تغييره ايضا تغيير خاص لا يعرفان إلّا بنص من الكتاب أو السنة.

فمن الكتاب (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠) كما وفي الباقري (عليه السّلام) «دين الله» (١) حيث يعم دين الفطرة والشرعة.

و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) نفيا للجنس يعم واقع التبديل تحويلا للفطرة ذاتيا إلى غير ما خلقت فهو إنباء عن عدم إمكانيته ، ثم محاولة التغيير تخلّفا عن أحكام الفطرة وقضاياها فهو إنشاء لمحظوره ، والمعنيان معنيّان من استغراق السلب.

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٤١٦ ـ العياشي عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في قوله الله تعالى (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) قال : أمر الله بما أمر به ، وفيه عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السّلام) في الآية قال : دين الله.

٣٤٦

ومن أضل الإضلال تبديل الفطرة عما فطر عليها ، فمنه مقدور ومنه غير مقدور ، فالمقدور من تبديلها هو تغييرها أن تكسف بطوع الأمنيات والأهواء ، كما و «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى» فتغيير الفطرة عما فطرت عليها ، وتغيير العقل الذي يعقل عنها عن صالح عقلها ، وتغيير الصدر عن شرحها ، وتغيير القلب عن اتجاهه إلى الله ، كل ذلك من تغيير خلق الله ، والفطرة هي رأس الزاوية في هذه الغيارات الشيطانية.

فقد خلق الله الفطرة الإنسانية ركيزة للاتجاه إلى دينه ، والعقل ليعقل عنها ويعقل عن آيات الله آفاقية وأنفسية ، والصدر مكانة لحصالات العقل ، والقلب لحصالات الصدر ، ثم الفؤاد ليتفاّد بنور المعرفة الحصيلة من هذه المقامات المتدرجة الروحية ، فتغييرها إلى ما يغاير خلقها اتجاها ومسيرا ومصيرا هو من أعظم تغيير لخلق الله.

وذلك التغيير ليس تغييرا أصيلا لا يمكن تبديله إلى ما كان ، إنما هو تضليل لها عن أهليتها لسلوك سبيل الله.

ومن تغيير خلق الله نسبة خلق إلى غير الله إشراكا في الخالقية ، ف (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣١ : ٢٥).

ومنه نسبة الشرعة إلى غير الله والشارع هو الله لا سواه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ..) (٤٢ : ١٣) (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢ : ٢١).

ومنه نسبة الآيات الرسولية أو الرسالية إلى رسل الله أنها من عند أنفسهم تكوينا أو تشريعا ، ـ مهما كان توكيلا أو تخويلا ـ والمكوّن والمشرع ليس إلّا الله لا سواه.

٣٤٧

فهذه الغيارات لخلق الله واقعيا كما يستطاع أو اختلاقا ، كلها مشمولة ل (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ).

ومنه تأنث الذكور في الملابس والمظاهر والأعمال ، ومنه عكسه أن تتظاهر الأناث بالذكورة ، وذلك يشمل الملابس الخاصة لكلّ ، وخاصة الأعمال والرغبات ، فمن أنوثة الرجال ان يوطئوا كما من ذكورة الإناث المساحقة.

وهل تشمل «فليغيرن» حلق اللحى للرجال تشبها بالنساء؟ قد تشمل لأنه تغيير لخلق الله مهما كان وقتيا ، فإن الله خلق الرجال هكذا والنساء بخلافهم في نبت الشعور على الوجوه وعدمه ، فحلق اللحى دون إبقاء تغيير لخلق الله.

أم لا تشمل تحريما ، إما لأن أمر الشيطان بتغيير خلق الله يعم المحرم والمرجوح ، ولكن قضية المقام تهديدا للعباد هي التغيير المحرم.

أم ولأن أمر اللحية من المسائل العامة البلوى فلا بد لها من نصوص في الكتاب أو السنة ، دون أن يكتفى لها بذلك الإطلاق الطليق الرقيق ، والروايات الآمرة بإعفاء اللحى تجمع بينه وبين فتل الشوارب لأنه تشبّه باليهود ، فقد يحرم لذلك الجمع بينهما ، وأما إعفاءهما أو حلقهما معا فغير مشمولين لها ، بل وكذلك الجمع إذ مضى دور التشبّه بهما حيث الناس أصبحوا سواسية في المظاهر والملابس إلّا الشواذ ، فلا دليل على حرمة حلق اللحى مهما كان الأحوط الأشبه عدم حلقها.

ثم ومن تغيير خلق الله ما هو مسموح أو راجح حسب ثابت الكتاب أو السنة ، ومنه محرم كذلك كالتي قدمناها وأشباهها ، ومنه مشكوك كحلق اللحية وقضية الأصل إباحته.

٣٤٨

فمن تغيير خلق الله المحرم الإجباب والإخصاء (١) وتعقيم الرحم

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٢٣ ـ أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن خصاء الخيل والبهائم ، قال ابن عمر فيه نماء نماء الخلق ، وفيه عن ابن عباس قال نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن صبر الروح واخصاء البهائم ، وفيه عن أبي ريحانة قال نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن عشرة عن الوشر والوشم والنتف وعن مكالعة الرجل الرجل بغير شعار وعن مكالعة المرأة المرأة بغير شعار وأن يجعل الرجل في أسفل ثوبه حريرا مثل الأعلام وان يجعل على منكبه مثل الأعاجم وعن النهي وعن ركوب النمور ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان ، وفيه أخرج أحمد عن عائشة قالت كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يلعن القاشرة والمقشورة والواشمة والمستوشمة والواصلة والمتصلة ، وفيه أخرج احمد ومسلّم عن جابر قال زجر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن تصل المرأة برأسها شيئا ، وفيه أخرج احمد والبخاري ومسلم عن اسماء بنت أبي بكر قالت أتت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) امرأة فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عروسا وانه اصابتها حصبة فتمزق شعرها أفأصله فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعن الله الواصلة والمستوصلة.

أقول : ما ثبت من هذه المذكورات حرمتها فهي والا فلا تدل الآية عليها إلا بتوسعة شاملة لا تتحملها ، وهنا روايات أخرى من طرق أصحابنا تبين المحظور عن غير المحظور فبعد ما يروى مثل ما عن معاني الاخبار بسنده عن علي بن غراب عن جعفر بن محمد (عليهما السّلام) عن آبائه (عليهم السّلام) قال : لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النامصة والمنتمصة والواشرة والموتشرة والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة».

بعد ذلك نرى ما رواه عبد الله بن الحسن قال سألته عن القرامل قال وما القرامل؟ قلت صوف تجعله النساء في رؤوسهن ، قال : «إن كان صوفا فلا بأس وإن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة والمستوصلة ...» حيث تدل على المرجوحية ، وفي رواية سعد الإسكاف قال : سئل أبو جعفر (عليهما السّلام) عن القرامل التي يضعها النساء في رؤوسهن يصلن شعورهن؟ قال : لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها ، قال فقلت له : بلغنا أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعن الواصلة والمستوصلة فقال : ليس هناك إنما لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الواصلة التي تزني في شبابها فإذا أكبرت قادت النساء إلى الرجال فتلك الواصلة.

ثم أقول : وإذا كان التزين تمويها للرجال بشأن زواجهم بهن فهو محرم ككل ، واما تزين المرأة دون ـ

٣٤٩

والصلب عن بكرتهما ، أم وزرق النطفة من غير جماع ، ولا سيما في رحم غير الحليلة ، ولا سيما المحارم.

وبصيغة جامعة قد يعني «خلق الله» (صِبْغَةَ اللهِ) تكوينا وتشريعا ، فالأصل هو الحظر عن أي تبديل لخلق الله وصبغته إلّا أن يدل دليل على حلّه ، أو يكون من المسائل العامة البلوى كحلق اللحية ولا نص بحقها في الكتاب ولا السنة ، فلا هي معلومة الحظر فطريا ولا شرعيا فلا محظور فيه مهما كان الاحتياط حسنا.

هذه هي الفخاخ الأربعة للشيطان ، لا يتصيد بها إلّا أولياءه الغاوين : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).

فهم أولاء الأوغاد الأغباش يدعون الشيطان ويستوحونه ويستمدون منه مربع الضلال المبين ، فيندفعون بما يدفعهم إلى أفعال قبيحة وشعائر سخيفة من نسج الأساطير المستطيرة.

ذلك ، وقد قرر القرآن المعركة الرئيسية الصاخبة بين الإنسان والشيطان ، كفاحا صارما لقبيل الإيمان قبال اللّاإيمان ، وقوفا تحت راية الرحيم الرحمان في مواجهة الشيطان وحزبه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠).

«يعدهم» الوعود المقلوبة المغلوبة ، ويمنّيهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية والمتاهة من لذة كاذبة وسعادة موهومة ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف ،

__________________

ـ تمويه فليس محظورا بل هو محبور حيث أمرن بالتزين لبعولتهن ، مثلما في تحف العقول عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن المرأة تحف الشعر عن وجهها؟ قال : لا بأس.

٣٥٠

والتمنية هنا ليست إلّا على مدار الوعد ، فهو يمنيهم تصديقا لوعده وتثبيتا حتى يرتكنوا إليه فيصمدوا له.

وتلك هي حالة استغواء واستهواء مدروسة شيطانية تنحرف بها الفطرة والعقلية الإنسانية لولاها لمضت قدما في طريقها المسلوكة المعروفة كما فطرها الله.

ولأن الشيطان غرور ف (ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) يغرهم فيما يوعدون بفتل حباله واختلاف فخاخه واستدراج فرائسه التي لا تبقى لهم إلّا جبلات مطموسة مركوسة التي تظل ضالة سادرة لا تنفيّئ ، متفلتة لا تتلفت إلى علم أو هدى ، أو كتاب منير (١).

__________________

ـ قال علي بن غراب النامصة التي تنتف الشعر والمنتمصة التي يفعل ذلك بها والواشرة التي تشر أسنان المرأة والموتشرة التي يفعل ذلك بها والواصلة التي تصل المرأة بشعر امرأة غيرها والمستوصلة التي يفعل ذلك بها والواشمة التي تشم في يده المرأة أو في شيء من بدنها وهو أن تغزر بدنها أو ظهر كفها بإبرة حتى تؤثر فيه ثم تحشوها بالكحل شيء من النورة فتخضرّ والمستوشمة التي يفعل بها ذلك».

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٢ في أمالي الصدوق باسناده إلى الصادق جعفر بن محمد (عليهما السّلام) قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا : يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال : نزلت هذه فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا ، قال : لست لها ، فقام آخر فقال مثل ذلك فقال : لست لها ، فقال الوسواس الخناس أنا لها قال : بماذا؟ قال : أعدهم وامنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال : أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة.

أقول : نص الآية أن (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) هو في الأصل من الشيطان الأصل ، وقد تعني هذه الرواية شورى شيطانية يرأسها الشيطان الاول فيدير أمر الشورى كقائد لها.

وفيه عن تفسير العياشي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حديث طويل يذكر فيه ما أكرم الله به آدم (عليه السّلام) وفي آخره فقال إبليس : رب هذا الذي كرمت علي وفضلته وإن لم تفضلني ـ

٣٥١

ذلك كيده اللعين للغاوين ، وأما عباد الله المخلصون والمخلصون فلم يؤذن له في مساسهم فهو إزاءهم ضعيف نحيف كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين وسبيه الأمين.

(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (١٢١).

«أولئك» الغاوون الشاردون السادرون ، الذين أوقعوا أنفسهم في فخاخ الشيطان فلم يجدوا محيصا (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) في الأخرى كما آووا إليها في الأولى (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) هناك كما لم يجدوا هنا ، جزاء وفاقا ولا يظلمون نقيرا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢).

(.. سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) هناك كما أدخلوا أنفسهم هنا جنات (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) خلاف وعد الشيطان غرورا (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً).

أجل وكما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «فإن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة الله وخير الملل ملة إبراهيم وخير السنن سنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن ..» (١).

__________________

ـ عليه لم أقو عليه؟ قال : لا يولد له ولد إلا ولد لك ولدان ، قال رب زدني ، قال تجري منه مجرى الدم في العروق قال رب زدني قال تتخذ أنت وذريتك في صدورهم مساكن ، قال رب زدني قال : تعدهم وتمنيهم (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

(١)الدر المنثور ٢ : ٢٢٤ ـ أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر قال خرجنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غزوة تبوك فأشرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ... ـ

٣٥٢

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣).

هنالك أماني شيطانية مكشوفة بصورة رسمية لعباد الشيطان بما يسوّله لهم ، ثم هنا أماني مغطّاة بغطاءات كتابية من شرعة الله ، فأهل كل شرعة له أمنية الإختصاص برحمة الله بمجرد انتسابه إلى تلك الشرعة ، وكأنها دون شروط سياج عن كافة العقبات والعقوبات ، فعمل السوء ـ إذا ـ لا يسيء إليه بسناد ذلك السياج.

وهنا الله يستأصل هذه الأماني من مسلمين وسواهم من كتابيين وسواهم ، أن «ليس» الجزاء واللّاجزاء (بِأَمانِيِّكُمْ) لأنكم مسلمون (وَلا أَمانِيِّ

__________________

ـ فأصبح بتبوك فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإن اصدق الحديث ... وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدى هدى الأنبياء وأشرف الموت قتل الشهداء وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وخير العلم ما نفع وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة يوم القيامة ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا وأعظم الخطايا اللسان الكذوب وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل وخير ما وقر في القلوب اليقين والارتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية والغلول من جثاء جهنم والكنز كي من النار والشعر من مزامير إبليس والخمر جماع الإثم والنساء حبالة الشيطان والشباب شعبة من الجنون وشر المكاسب كسب الربا وشر المآكل أكل مال اليتيم والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع والأمر بالآخرة وملاك العمل خواتمه وشر الروايا روايا الكذب وكل ما هو آت قريب وسباب المؤمن فسوق وقتال المؤمن كفر وأكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه ومن يتأل على الله يكذبه ومن يغفر يغفر له ومن يغضب يغضب الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتبع السمعة يسمع الله به ومن يصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله اللهم اغفر لي ولأمتي قالها ثلاثا استغفر الله لي ولكم.

٣٥٣

أَهْلِ الْكِتابِ) لأنهم أهل كتاب ، وإنما (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) منكم ومن سواكم.

فحين يقول إسماعيل لأبيه الصادق (عليه السّلام) : يا أبتاه ما تقول في المذنب منا ومن غيرنا؟ يقول (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (١).

نعم! وإن السوء يجزى به في الدارين أو في إحداهما ما لم يكفر عنه أو يتاب ويستغفر فإن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له.

فكل الأمم في «يجز به» سواسية سواء ، والأمنيات المفضلة بعضها على بعض كلها منثورة هباء ، فإن ذلك قضية عدل الله.

ثم الجزاء فيما لم يستغفر عنه قد يكتفى به يوم الدنيا ، ف «ما يصيب المؤمن وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته (٢)

وهذه شريطة الإيمان وكرامته ، وأما الكافر فقد يجمع عليه جزاءه لما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٣ في عيون الأخبار في باب قول الرضا (عليه السلام) لأخيه زيد بن موسى حين افتخر على من في مجلسه باسناده إلى أبي الصلت الهروي قال سمعت الرضا (عليه السلام) يحدث عن أبيه أن إسماعيل قال الصادق (عليه السلام) : ...

وفي الدر المنثور ٢ : ٢٢٥ ـ أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب بيننا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن اوله بالله منكم وقال المسلمون نحن اولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله هذه الآية.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٢٧ عن أبي هريرة وأبي سعيد انهما سمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ...» أقول : وهذا المعنى رواه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيمن روى أبو بكر وعائشة وجماعة آخرون.

٣٥٤

بعد موته إذ لا كرامة له على الله ويجزى على ظلمه قبل موته مزيدا.

وليس كل ما يصيب المؤمن دليلا على ذنبه المكفّر به ، فإن المصائب تتواتر على الأمثل فالأمثل ف «ما أصاب رجلا من المسلمين نكبة فما فوقها ـ حتى ذكر الشوكة ـ إلا لإحدى خصلتين : إلا ليغفر الله من الذنوب ذنبا لم يكن ليغفر الله له إلا بمثل ذلك ، أو يبلغ به من الكرامة كرامة لم يكن يبلغها إلا بمثل ذلك» (١).

فذلك النص الصارم يردّ مختلف الأمم عن أمانيهم إلى العمل وحده على ضوء الإيمان بإسلام الوجه لله بكل الوجوه ظاهرة وباطنة :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤).

وتلك ـ إذا ـ هي حياة طيبة لا غبار عليها كما في أخرى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٢١ : ٩٤).

فلا فارق بين ذكر وأنثى في كيان العمل وقدر الجزاء إلّا بقدر الإيمان وعمله ، كما لا فارق بين أمة وأمة في أصل الجزاء بقدره (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

__________________

(١) المصدر أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن بريدة الاسلمي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : ...

وفيه أخرج ابن سعد والبيهقي عن عبد الله بن إياس بن أبي فاطمة عن أبيه عن جده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : أيكم يحب أن يصح فلا يسقم قالوا كلنا يا رسول الله قال : أتحبون أن تكونوا كالحمير الضالة ـ وفي لفظ الصيانة ـ الا تحبون أن تكونوا اصحاب بلاء واصحاب كفارات والذي نفسي بيده إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه بالبلاء ليبلغ به تلك الدرجة».

٣٥٥

وقد نفت (لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) ما كان يخيّل ـ من اللّاسواء بين العاملين الصالحات أو الطالحات ـ إلى هؤلاء الطائفيين في أمانيّهم الكاذبة الخواء ، وما خيّل من الفارق بين ذكر وأنثى كما كانت تزعمه القدامى الهنود ومصر وسائر الوثنيين أن النساء لا ثواب على حسناتهن أم هو أقل ، أو أن الكرامة والعزة هما فقط للرجال كما زعمته فرقة من اليهود والنصارى ، ويزعمه مجاهيل من المسلمين وسواهم.

ثم (مِنَ الصَّالِحاتِ) تبعيضا دون تحليق على كل الصالحات توسعة ربانية لمن آمن وعمل صالحا : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٢ : ٦٢).

ولو انحصر دخول الجنة بالمؤمن العامل كل الصالحات لكانت الجنة خالية إلّا عن شذر قليل هم المقربون والسابقون ، وانحسرت حتى عن العدول من المؤمنين فإن لهم لمما.

ذلك ، وليست الجنة ـ مع الوصف ـ لأهلها على حدّ سواء ، فقد يخرج من النار إلى الجنة ، أو يدخل الجنة بلا نار ولكنها على حدّه ومستحقه (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥).

والدين هو الطاعة ، فمن حسن الطاعة الموافقة العلمية والعقيدية لحق الله وشرعته ، ومن ثم حسن الموافقة العملية الصالحة المتبنية الإيمان والنية الصالحة ، ف (مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) جارحة وجانحة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في كلا الوجهين (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) موحدا «حنيفا» معرضا عما يخالف التوحيد الحق وحق التوحيد (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) كأنه خلّ في ربه حيث أسلم له وجهه

٣٥٦

بكل وجوهه ، ناسيا نفسه ونفسياته ، ذاكرا ربه على أية حال.

ذلك (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٣١ : ٢٢) وقد يروى عن رسول الهدى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما سئل عن الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١).

ومن خلة إبراهيم خليل الرحمن ما بدا منه حين علّق على المنجنيق فجاءه جبريل (عليه السّلام) فقال : كلّفني ما بدا لك قد بعثني الله لنصرتك فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة إلا إليه» (٢).

فقد سماه الله خليله لأنه لم يسأل أحدا شيئا قط ولم يسأل شيئا قط فقال لا (٣).

__________________

(١) في المجمع في هذه الآية وروى أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سئل عن الإحسان فقال ...

(٢) نور الثقلين ١ : ٥٥٤ في كتاب الاحتجاج للطبرسي حديث طويل عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول فيه قولنا : أن إبراهيم خليل الله فانما هو مشتق من الخلة أو الخلة فأما الخلة فانما معناها الفقر والفاقة وقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا وذلك لما أريد قذفه في النار فرمى المنجنيق فبعث الله إلى جبرئيل فقال له : أدرك عبدي فجاءه فلقيه في الهواء فقال : كلفني ما بدا لك قد بعثني الله لنصرتك فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل إني لا اسأل غيره ولا حاجة إلا الله فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه إذا لم ينقطع اليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم باسرار لم يكن خليله؟

وفيه في عيون الاخبار في باب ما جاء عن الرضا (عليه السّلام) من العلل باسناده إلى الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال سمعت أبي يحدث عن أبيه (عليهما السّلام) انه قال : انما اتخذ الله عز وجل ابراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا ولم يسأل أحدا قط غير الله.

(٣) المصدر ٥٥٥ في الكافي عن معاوية بن عمار عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : «ا إن ابراهيم (عليه السلام) كان أبا أضياف فكان إذا لم يكونوا عنده خرج يطلبهم ـ

٣٥٧

ذلك! «ولئن اتخذ الله إبراهيم خليلا فقد اتخذ الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) حبيبا» (١) وأين حبيب من خليل! ولأن الخلة درجات فخلة الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلى الدرجات (٢) وقد قال الله : «لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي»(٣).

ولقد كانت هذه حلقة صارحة صارمة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء ، ذات الأهمية الكبرى في تصليح العقيدة من ناحية وفي استقامة العملية من أخرى.

ذلك ، ولأن الكون كله لله خلقا وتدبيرا فهو العادل كل العدل فيه بلا منازع ولا رشى :

__________________

ـ واغلق بابه وأخذ المفاتيح يطلب الأضياف وانه رجع إلى داره فإذا هو برجل او شبه رجل في الدار فقال يا عبد الله بإذن من دخلت هذه الدار؟ قال دخلتها بإذن ربها يردد ذلك ثلاث مرات فعرف ابراهيم انه جبرئيل فحمد ربه ثم قال : أرسلني ربك الى عبده من عبيده يتخذه خليلا قال ابراهيم فأعلمني من هو أخدمه حتى أموت؟ قال : فأنت هو ، قال : مم ذلك؟ قال : لأنك لم تسأل أحدا ...

(١) المصدر في الاحتجاج عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل في مكالمة بينه وبين اليهود وفيه قالوا : ابراهيم خير منك ، قال : ولم ذلك؟ قالوا : لأن الله تعالى اتخذه خليلا ، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أن كان إبراهيم (عليه السلام) خليلا فأنا حبيبه محمد.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٣٠ ـ أخرج الحاكم وصححه عن جندب انه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قبل أن يتوفى : أن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.

وفيه أخرج الطبراني عن سمرة قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : أن الأنبياء يوم القيامة كل اثنين منهم خليلان دون سائرهم ، قال : فخليلي منهم يومئذ خليل الله ابراهيم».

(٣) المصدر عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ثم قال وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي».

أقول : ولئن اصطفى الله إبراهيم بالخلة وموسى بالكلام فقد اصطفى محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرؤية وهي المعرفة القمة التي لا تسامى ولا تساوي وهي مقام «أو أدنى» بعد «دنى».

٣٥٨

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦).

فله الحيطة الشاملة بما في السماوات وما في الأرض من إسراره وإعلانه ، وهو القادر العليم الرحيم ، فأينما وجد إسلام الوجه مع الإحسان واتباع ملة التوحيد ، فهنالك الجنة (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ

٣٥٩

فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤)

هذه تكملة لما بدأت به السورة من حقل الأنوثة المظلومة في الجاهلية الجهلاء ، وسائر الضعاف من الولدان واليتامى ، وإقامة للبيت العائلي على كرامة شطري النفس الواحدة ، وإصلاح لما قد يتشجر بينهما قبل استفحاله.

٣٦٠