الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

و «اختلافا» (عن) حاق الحق الثابت الذي لا حول عنه ، وعن الواقع والصالح لحيوية المكلفين كأكملها ، وعن قضية الفطرة السليمة والعقلية غير الدخيلة ، وعن متطلّبات كل زمن إلى آخر زمن التكليف.

و «اختلافا» فيها «بين» السنن المسرودة فيه بتضاد أو تناقص أو تناقض ، بل هو الالتيام والالتحام التام بكل وفق ووئام.

فمادة الاختلاف بأي معنى كان وفي أي حقل من حقوله مسلوب عن القرآن بصورة مستغرقة طليقة.

وسلبية واحدة من هذه الاختلافات هي مستحيلة بالنسبة لما كان من عند غير الله مهما كان من أعلم العباقرة في أي حقل من حقول العلم والمعرفة ، فضلا عن السلبية الطليقة.

ومهما كانت الأنظار والأفكار في تفهّم معاني القرآن درجات ، ولكنها تلتقي في أظهر المظاهر القرآنية وهي ظاهرة عدم الاختلاف فيه لو أعطوا التدبر فيه حقه.

وكل ما يخيّل الى القاصرين أو المقصرين بحق القرآن من تهافت واختلاف ، إنه يذبل ويزول بالنظر السليم الى القرآن نفسه دون حاجة الى توجيهات خارجية وتكلفات.

ذلك مع أن القرآن ناظر الى كافة الحقائق جلية وخفية ، وعلى ضوء تقدم العلم نراه لا اختلاف فيه بين هذه الحقائق ولا قيد شعرة ، مما لا يستطيع على طرف منها أي عبقري!.

و (اخْتِلافاً كَثِيراً) هو لزام كلام غير الله ، فالقيد توضيحي وليس احترازيا يعني أن في القرآن اختلافا قليلا ، كلا لا قليلا ولا جليلا ، مما يؤكّد

٢٠١

ربانيته ، دون أي احتمال لتدخّل العلم غير الرباني في إصداره.

وكما الفارق بين صنع الله وصنع من سواه بيّن كالشمس في رابعة النهار ، كذلك الفرق بين كلامه المتحدّى به وكلام الخلق ، والقرآن متحدّ بكل أبعاده لفظيا ومعنويا كلّ كتابات الأرض من عباقرة الكتاب النوابغ ، ولم يأت حتى الآن ولن ، من يسامي كلامه كلامه ، أو يستطيع انتقاضه أو انتقاصه في أدب اللفظ أو حدب المعنى.

وحقا إنه لا نجد مظهرا من مظاهر التكوين والتدوين في الكائنات كلها ، يظهر فيه ساطع الربوبية الإلهية كمثل المظهر القرآني العظيم ، فلا يساوى ولا يسامى في أية ظاهرة من آيات الله على مدار الكون بأسره ـ لا تكوينيا ولا تشريعيا ـ فلا دليل على ربانيته الوحيدة غير الوهيدة كمثل القرآن ، وقد عرّف نفسه بأنه شهادة قمة تدل على الله لأنه أنزل بعلم الله:

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ٢٠) : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦) : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣) ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤٨ : ٢٨).

وهكذا نسمع ربنا يجعل القرآن شهادة على ربانيته كأفضل شهيد ، وكأنه هو تعالى يشهد بنفسه المقدسة عند خلقه ، وفي الحق لو أن الله ظهر بذاته لخلقه ما كان أظهر مما أظهر ربانيته بقرآنه المجيد وفرقانه الحميد.

ذلك ، وعلى ضوء الدلالة القرآنية على الربوبية ، هو دليل قاطع على

٢٠٢

الرسالة المحمدية كأفضل وأدوم الآيات القاصعة الناصعة على هذه الرسالة السامية ، وكما يقسم بحكمة القرآن الحكيمة عليها : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

إذا فالقرآن هو نور الأنوار ، وكفى به شاهدا ودليلا على كل ما أراد الله أن يقوله للمكلفين من عباده ، دون حاجة الى شاهد آخر يشهد معه ، بل فيه الكفاية الوافية : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٩ : ٥٢).

ذلك! فهل ترى بعد أن القرآن غير مفهوم إلّا أن يفهّمه المعصوم نبيا أو إماما ، ولا تفهم النبوة وسائر العصمة إلا به؟ فالمدلولات اللفظية القرآنية لائحة لكل من عرف اللغة ، مهما كانت الإشارات واللطائف والحقائق ومنها التأويلات بحاجة الى معدات أخرى ليست هي لكل من اتقن اللغة.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) ٨٣.

تنديدة أخرى بالمجاهيل من المسلمين وجاه التكتيكات الحربية أنهم إذاعة فإضاعة بالنسبة لأمر من الأمن أو الخوف ، من الأسرار التي لا تذاع إلّا بأمر من الرسول كقيادة عليا ، وأولي الأمر منهم كقيادات جزئية مقررة من القائد الأعلى.

ذلك وبصورة عامة إذاعة الأسرار فردية وجماعية محظورة في شرعة الله (١)

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٢ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) يقول : إن الله عز وجل عيّر أقواما بالإذاعة في قوله (وَإِذا جاءَهُمْ ..) فإياكم والإذاعة.

٢٠٣

اللهم إلّا باستنباط الصالح أو الأصلح في أية إذاعة ، هما راجعان الى أولي أمرها المخصوصين بها.

صحيح أن مورد الآية هو إذاعة أمر من الأمن أو الخوف ، ولكنها بصورة عامة تحذيرة عن أية إذاعة ، وإرجاع في الأمور المشتبه فيها الى الرسول والى أولي الأمر الذين افترض الله طاعتهم ، وهم ـ ككل ـ الذين ولوا الأمر أو أمرا من أمور الشرعة من ناحية الرسول وأفضلهم المعصومون من خلفاءه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٢ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده الى محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السّلام) حديث طويل يقول فيه : ومن وضع ولاية الله وأهل الاستنباط علم الله في غير أهل الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر الله عز وجل وجعل الجهال ولاة أمر الله والمتكلفين بغير هدى وزعموا أنهم أهل الاستنباط علم الله فقد فضلوا وأضلوا أتباعهم فلا يكون لهم يوم القيامة حجة ، وقال أيضا ـ بعد ان قرء : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) «فإن يكفر بها أمتك فقد وكّلنا أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به فلا يكفرون بها أبدا ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به وجعلت أهل بيتك بعدك علما على أمتك وولاة من بعدك واستنباط علمي الذي ليس فيه كذب ولا إثم ولا زور ولا بطر ولا رياء.

وفيه في تفسير العياشي عن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) كتابا يذكر فيه : اقرأ ما سنح لهم الشيطان اغترهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم ، وفيه : بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحير ورد ما جهلوه من ذلك الى عالمه ومستنبطه لأن الله يقول في محكم كتابه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يعني آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم الذين يستنبطون منهم القرآن ويعرفون الحلال والحرام وهم الحجة لله على خلقه.

وفي ملحقات أحقاق الحق ٣ : ٥٤٢ في الآية عن الشعبي عن ابن عباس في تفسير مجاهد إن الآية نزلت في علي حين استخلفه في مدينة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وفي ابانة الفلكي انها نزلت حين شكا أبو بردة من علي كما في غاية المرام ٤٣٣.

٢٠٤

وهنا (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) قد تعني الرادين الى الرسول والى أولي الأمر فإنهم هم المستنبطون الأمر المختلف فيه من إذاعة أمر وسواها ، ولا يحصل لهم علم إلا بذلك الرد.

وقد تعني معهم الرسول وأولي الأمر ، ولكن «منهم» المبعضة تجعل البعض منهم غير عالم بالاستنباط ، وهم ـ مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ أحرى بالاستنباط ، بل والمعصومون لا يستنبطون فإنهم على علم بما علمهم الله ، و «لعلمه» لمحة الى الجهل قبل الاستنباط ، اللهم إلا أن يعم الاستنباط بالوحي والإلهام.

أو تعني كل مستنبط للأمر المختلف فيه رادا ومردودا إليه ، حيث «منهم» تشملهما ، فمن المسلمين من لا يعني أي استنباط ، ومنهم من يستنبط بالوحي كما الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو بالإلهام كالائمة من آل الرسول (عليهم السّلام) أو بالكتاب والسنة كأولي الأمر غير المعصومين ، وهؤلاء الثلاث هم المردود إليهم.

ثم الرادون الى الرسول وأولي الأمر منهم يستنبطون الأمر بواسطتهم أولاء الأكارم.

فاستنباط الأمر المجهول في شرعة الله واجب المؤمن قضية المعرفة الإيمانية وتطبيق الواجب ، وهو في الدرجة الأولى على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمعصومين من عترته (عليهم السّلام) ، ثم على الرعيل الأعلى من العلماء المؤمنين زمن غيبة المعصومين (عليهم السّلام).

وعلى من لا يستطيع على الاستنباط الردّ إليهم ، وهو الرد الى الكتاب والسنة بوسيط أولي أمر الشرعة ومدراء الشريعة : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ

٢٠٥

الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩ : ١٨).

واستنباط أولي الأمر المعصومين هو استنباط معصوم بما أراهم الله كما الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن ثم يأتي استنباط غير المعصومين من أولي أمر الشرعة بدرجاتهم ودرجاته ، وذلك في زمن الغيبة ليس إلا (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) فلا أمر في القيادة الزمنية والروحية إلّا بشورى بين أولي الأمر.

والاستنباط هو طلب النبط وهو الماء المستنبط في الأرض ، محاولة للحصول عليه ، وكذلك الأمر في كل الأمور الإسلامية التي هي حياة الأمة الإسلامية ، لا بد لأولى الأمر استنباطها من الثقلين : كتاب الله وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فالأمور الظاهرة لا تستنبط ، فإنما الخفية هي التي تستنبط بمصادرها الآهلة لها ، وما من أمر تحتاج إليه الأمة إلّا وقد بينه في كتابه وسنة رسوله ، وعقلية الكتاب والسنة على مدار الشورى بين الرعيل الأعلى من الأمة الإسلامية زمن الغيبة ، هي المرجع لكل وارد وشارد وكما تنطق بذلك متواتر الكتاب والسنة.

ف (أُولِي الْأَمْرِ) هنا غير أولي الأمر في آية الطاعة المثلثة الطليقة ، فهم هنا أعم من المعصومين (عليهم السّلام) في زمنهم ، ومن الرعيل الأعلى زمن الغيبة حيث (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ، وذكر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هنا دون الله تذكير بأن الرد إليه هو الرد إلى الله ، وإن الرد الى الله وهو الرد الى كتابه لا ينتج بيان كثير من جزئيات الأمور المختلف فيها ، فإنما بيانه الى الرسول الشارح لكتاب الله ، المستنبط إياه ولا سيما في تأويلات الأحكام.

ومن الفوارق بين الفريقين من أولي الأمر واجب انتصاب الأولين بنص

٢٠٦

خاص ، والآخرون هم المنطبق عليهم نصوص ولاية الأمر كزمن الغيبة.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) منكم وقليلا من الإتّباع ، ففضل الله ورحمته هما الفاصلان عنكم إتباع الشيطان عن بكرته.

ومما جاءهم من أمر الأمن انهزام المشركين في أحد في بداية الأمر فأذاعوه فسبّب تحلّل الرماة عن قواعدهم المقررة ، ومن أمر الخوف إذاعة قتل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث أضاعتهم جموع ، وكذلك الدعاية المضادة الضالة في بدر الصغرى من قبل أبي سفيان حيث بسطت الخوف والدهشة بين الناس كيلا يخرجوا الى الحرب ، ولم يسلم منها إلا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقليل معه كالإمام علي (عليه السّلام) ومن نحى نحوهما ، وهكذا الأمر في كل إذاعة فيها إضاعة دونما استنباط صالح (١).

ف «قليلا» هنا هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذين ظلوا معه محاربين ، وما أثرت فيهم دعاية مضادة إلّا إيمانا : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤ : ١٧٥).

كلام فذّ حول الاستنباط :

تفريع «لعلمه» على (يَسْتَنْبِطُونَهُ) دليل حجية العلم الحاصل

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨٦ عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساءه دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصا ويقولون طلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساءه فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق نساءه ونزلت هذه الآية في (وَإِذا جاءَهُمْ ..) فكنت أنا استنبطت هذا الأمر.

٢٠٧

بالاستنباط ، شرط ألّا يتخطى مصدره الكتاب والسنة القطعية ، وهنا يتأيّد عدم حجية الظن بصورة طليقة ، فظاهر الكتاب ـ المستقر ـ فضلا عن نصه ، يفيد العلم ، وكذلك السنة القطعية وهي الملائمة للكتاب أم ـ ولأقل تقدير ـ غير المخالفة له لا نصا ولا ظاهرا مستقرا.

ذلك ، فحتى إذا تردد المستنبط من الكتاب والسنة فالاحتياط الذي هو دوما طريق النجاة علم يحافظ على حكم الله.

ذلك ولأن تطبيق أحكام الله فرض على المكلفين ، فالعلم بها فرض عليهم تمييزا للمفروض عن المرفوض ، فالأحكام الضرورية معلومة بالضرورة دون استنباط ، ولكن غير الضرورية المختلف فيها بين الأنظار يجب الاستنباط فيها ما استطاع إليه سبيلا سليما ،

وإلّا فتقليد المستنبطين الصالحين حسب المستفاد من آيتي (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) و (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) ٨٤.

«فقاتل» يا رسول الهدى (فِي سَبِيلِ اللهِ) «لا تكلّف» بواقع القتال إلّا نفسك ، ثم من سواك ، فإنما لهم منك بلاغ الأمر (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) وأما أن تكلفهم تحميلا لواقع القتال فلا عليك ، فإنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر.

«قاتل وحرض .. عسى الله أن يكف» بمواصلة القتال والنضال (بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولا دور ل «عسى» الترجّي في ذلك الكف إذا كان كفاح في

٢٠٨

المؤمنين في سبيل الله ، كفا بإذن الله ، ولئن خفتم بأس الذين كفروا ف (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً).

وفي نظرة أخرى الى (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) نتعرف الى مدى مسئولية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقل القتال أن لو لم يكن إلّا نفسه لكان واجب القتال عليه ثابتا لا حول عنه ، ولم يكلف هكذا ـ فيما نعرف ـ إلّا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على حد قول الله تعالى هذا ، وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١) ثم «فقاتل» هنا محفوفة بأمرين اثنين يكلفانه ما لم يكلف أحد من العالمين ، من سابق هو تباطئ المؤمنين عن القتال ، ولا حق هو (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) فأنت أنت الأصل يا رسول الهدى في معارك الشرف والكرامة ، إن تهاون غيرك في القتال «فقاتل» أنت بشخصك الشخيص (فِي

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨٧ ـ أخرج ابن سعد عن خالد بن معدان أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : بعثت الى الناس كافة فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم فان لم يستجيبوا لي فإلي وحدي ، وفيه عن البراء لما نزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) قال لأصحابه : قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا.

وفي نور الثقلين ١ : ٥٢٣ في أصول الكافي بإسناده الى مرازم عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : إن الله كلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يكلف به أحدا من خلقه ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه وإن لم يجد فئة تقاتل معه ولم يكلف هذا أحدا من خلق لا قبله ولا بعده ثم تلا هذه الآية.

وفيه في تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) قول الناس لعلي (عليه السّلام) إن كان له حق فما منعه أن يقوم به؟ قال فقال : إن الله لم يكلف هذا إلا إنسانا واحدا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) فليس هذا إلا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال لغيره (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره.

٢٠٩

سَبِيلِ اللهِ) إذ (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) كرأس الزاوية الرسالية ، ثم (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) وبهذه القطعية في التكليف رسوليا ورساليا (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..).

ولقد خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى بدر الصغرى وكان أبو سفيان واعده اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت هذه الآية فخرج (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما معه إلا سبعون رجلا ولم يلتفت الى أحد ولو لم يتبعه لخرج بنفسه تطبيقا لأمر ربه.

وهنا نتعرف الى مدى الشجاعة المحمدية التي لا قبل لها حيث يؤمر وحده لقتال المشركين ، فمهما كان الجهاد فرض كفاية على المؤمنين فإنه فرض عين على هذا النبي العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فيا لنبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينذاك من موقف مجرح محرج أن يصل التباطؤ عن القتال لحد يؤمر النبي بنفسه لحضور المعركة مهما كان وحده ، وفي الحق إنه أحرج المواقف التي مضت على الرسول الأمين والمؤمنين.

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) ٨٥.

مورد الشفاعة الحسنة والسيئة هنا هو القتال في سبيل الله ، ولكن النص يشمل كل شفاعة حسنة أو سيئة في كافة الأحوال ، وشفاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كل الحقول الرسالية ، تعليما وعظة وتحريضا وأمرا ودعاية هي قمة الشفاعات الحسنة (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ).

فكما الجائي بالحسنة له أجر والجائي بالسيئة عليه وزر ، كذلك المتعاون معهما والشفيع لهما شريك معهما في أجر الحسنة ووزر السيئة ولا ينقص أولاء من أجورهم أو أوزارهم شيء.

٢١٠

ولماذا «شفاعة حسنة ـ أو ـ سيئة» دون «شفاعة في حسنة ـ أو ـ سيئة»؟.

لأن الشفاعة في حسنة أو سيئة تعم الشفاعة الحسنة والسيئة في كل منهما ، فقد يشفع شفاعة سيئة في حسنة وهي شفاعة سيئة.

وترى ماذا تعني «منها» في جزئيها؟ فهل إن «من» جنسية أو تبعيضية؟ ومن ثم «ها» الى م ترجع؟ وظاهر المرجع هو حسنة أو سيئة شفيعة وكل منهما راجع الى صاحبه تماما لا جنسا ولا بعضا!.

المرجع فيهما هو الحسنة أو السيئة المشفع لهما ، المعروفة من الحسنة أو السيئة الشفيعة لها ، وهذا استخدام لطيف ما ألطفه يجعل الحسنة أو السيئة المشفع لها كأنها الشفيعة نفسها.

ثم «من» قد تكون تبعيضية تعني البعض من تلك الحسنة أو السيئة قدر شفاعته لها ، ففي الحسنة بعضا من عشر أمثالها وقد عبر عنه بنصيب منها وهو الحظوة الخاصة قدر الشفاعة ، وفي السيئة بعض من مثلها وقد عبر عنه بكفل ـ أي عضو ـ منها.

أم هي جنسية تعني نصيبا أو كفلا من جنس كل منهما ، فإن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) تعم الحسنة الشفيعة الى الحسنة المشفع لها ، كما و (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) تعمهما.

فكما لفاعل الحسنة أو السيئة ثواب أو عقاب قدر استحقاقه ، كذا للشفيع في كل منهما قدر استحقاقه عطاء حسابا أو جزاء وفاقا ولا يظلمون فتيلا.

وقد عرفنا الفرق بين نصيب وكفل أن النصيب هو الحظ الخاص بالحسنة والكفل يعمها والسيئة وهنا هو السيئة ، ثم «نصيب» فرد من الكلي و «كفل»

٢١١

جزء من الكل ، فإن قسما من عشرة أم عشرة مماثلة ليس جزء ، وكفل منها إمّا هو جزء أو مماثل لوحيد الجزاء.

ثم كل من (شَفاعَةً حَسَنَةً) أو «سيئة» تعم قولة أو فكرة بارزة أو عملية أماهيه من مظاهر الشفاعات ، في سلب أو إيجاب ، ف (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) في سبيل فعل معروف أو ترك منكر بأية ظاهرة من مظاهرها (لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) في ترك معروف أو فعل منكر (لَهُ كِفْلٌ مِنْها).

ف «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به فهو شريك»(١).

وترى شفاعة حسنة أو سيئة تختص بالتي تحقق الحسنة أو السيئة فلا تنفع أو تضر فيما لا تتحقق حسنة أو سيئة؟.

«شفاعة» وهي جعل نفسك شفعا حسنا أو سيئا لفاعل حسنة أو سيئة ، هي طليقة في كل خير أو شر ، فمحاولة الخير خير مهما لم يتحقق ، إذا فالشفاعة فيه شفاعة حسنة ، ثم محاولة الشر شر مهما لم يتحقق فالشفاعة فيه شفاعة سيئة.

أترى التعامل مع كل حسنة أو سيئة هو شفاعة حسنة أو سيئة مهما كنت معينا فيها أو معاونا ، إذا فبيع العنب لمن تعلم أنه يعمله خمرا وما أشبه من إعانة هو داخل في شفاعة سيئة؟ أم ليست هي شفاعة حسنة ولا سيئة؟.

إنه ـ بطبيعة الحال ـ شفاعة سيئة لأنه إعانة عليها وتقديم لها ، فالروايات

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٤ في كتاب الخصال عن أبي عبد الله عن آباءه عن علي (عليهم السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

٢١٢

المتعارضة في الحل والحرمة معروضة على الآية فتصدق المحرّمة (١) وإذا كان غارس العنب والتمر للتخمير ملعونا فبأحرى بايعه ممن يعلم أنه يعمله خمرا ، وعلى أية حال فآية التعاون (لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وآية الشفاعة السيئة ، تتجاوبان وتتعاونان في التحريم.

ذلك ، ولا تختص حرمة الشفاعة السيئة بحقل دون آخر ، ولا تحدّد بما تنوي السيئة ، فإنما أن تشفع في محرّم ، فيه أو في مقدمات له ، نويت أمّا نويت ، فإنما موضوع الحرمة (شَفاعَةً سَيِّئَةً) ما صدقت شفاعة ، أن لك دخلا في فعل المحرم عالما أن المشفوع له يأتي به.

فبيع السلاح لأعداء الدين (٢) وطباعة كتب الضلال ، وإيجار المساكن (٣)

__________________

(١) مما يدل على الحرمة مكاتبة ابن أذنية عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال : لا ، ورواية عمرو بن حريث عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال : «لا» (الكافي ٥ : ٢٢٧)

ومن الدالة على الحل خبر أذينة قال : كتبت الى أبي عبد الله (عليه السّلام) عن رجل له كرم يبيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال : إنما باعه حلالا في الأبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه ، (الكافي ٥ : ٢٣١) ورواية أبي كهمش قال سئل رجل أبا عبد الله (عليه السّلام) الى أن قال : هوذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا(الكافي ٥ : ٢٣٢)

(٢) أقول وهذه فرية وقحة على الإمام المعصوم! ، وتعارضها رواية الحلبي عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا؟ قال : «بيعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب الي ولا أرى به بأسا» (التهذيب ٢ : ١٥٥ والإستبصار٣ : ١٠٥).

وفي رواية الحضرمي عن الباقر (عليه السّلام) في حديث «فإذا كان الحرب بيننا فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك» (الكافي ٥ : ١١٢) ووصية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السّلام) «يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة أصناف .. بائع السلاح من أهل الحرب» (الوسائل باب ٨ ما يكتسب به رقم ٧).

(٣) كما في خبر جابر سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ ـ

٢١٣

والحمولة لحمل المحرم أو حمل محرم وما أشبه ، كل ذلك تشمله (شَفاعَةً سَيِّئَةً).

ذلك (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) وهي من القوت ، فالإقاتة هي إيتاء القوت ، فلكل شيء قوت كما يستحقه ، وكذلك لآتي الحسنة والسيئة ولمن يشفع شفاعة حسنة أو سيئة ، و «على» هنا تضمّن معنى العلوّ الحياطي حفاظا على كل شيء حقه من قوته.

والكفل هنا هو النصيب الرديء كما النصيب هو الجيد ، وقد تلمح (كِفْلٌ مِنْها) أن الشفاعة السيئة كفيلة بوزرها ، ولكن الشفاعة الحسنة فيها نصيب من فضل الله وأقله عشرة أمثالها : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).

والشفاعة الحسنة والسيئة تعم العمل الجادّ الى القول المحرّض عليه الى الدعاء والى الدعوة والدعاية ، فكل قولة أو حالة أو فعلة هي شفيعة حسنة أو سيئة هي مشمولة للآية.

ف «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك» (١).

وهل للنية الحسنة والسيئة أيضا نصيب أو كفل؟ قد لا تكون النية من

__________________

ـ فقال : «حرام أجرته» (الكافي ٥ : ٢٢٧) ، وأما مصححة ابن أذينة قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن الرجل يؤاجر سفينة أو دابة لمن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير؟ قال : «لا بأس» (الكافي ٥ : ٢٢٧) فهي مطروحة بمخالفة آيتي التعاون والشفاعة السيئة.

(١) تفسير الفخر الرازي ١٠ : ٢٠٧ روى أبو الدرداء أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...

٢١٤

الشفاعة ، فإنها التي تشفّع بعامل الحسنة أو السيئة إعانة في التحصيل ولا أثر لنية الغير ـ ولا أي تحصيل ـ للغير ، ثم نية السيئة لا عقاب عليها مهما كان لنية الحسنة نصيب.

وكما أن الشفاعة الحسنة درجات والشفاعة السيئة دركات ، كذلك الفرق بين الشفاعة المعاونة في حسنة أو سيئة اشتراكا في العمل ، وبين الشفاعة الخارجة عن العمل دعوة أو دعاء أو دعاية أو إمدادا بقال أو حال (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) يقيت كل نصيب وكفل حسب الاستحقاق مهما كان بينهما فارق الفضل والعدل.

ودور آية الشفاعة هذا هو دور الوسيط بين (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) و (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أن التكليف الخاص بالنفس لا يمنع عن التكليف بتحريض الغير فإنه شفاعة حسنة فيها نصيب للشفيع كما في السيئة كفل.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) ٨٦.

ترى ما هو دور آية التحية والسّلام بين آيات القتال اللّاسلام؟ ، علها نسمة رخية إشارة قاعدة الإسلام الأساسية أنها السّلام ، فالإسلام هو ـ كأصل ـ دين السّلام وليس فرض القتال فيه كفرع إلّا لإقرار السّلام في الأرض.

فحتى إذا حياكم عدوكم المقاتل جنحا للسلّم فاجنح لها وأجنح منه ، وذلك من رد التحية بأحسن منها ، فضلا عن الإخوة في الإيمان الذين حياتهم السّلام قضية حق الإسلام.

وهكذا كانت سنة السّلام بين المتعادين أن العدو إذا أصبح مسالما أبدى السّلام تدليلا على أنه سلّم وسلام ، فإذا رد السّلام بالسلام فتسالم ووئام.

٢١٥

ذلك وقد قرر الإسلام للتحية والسّلام قرارات تصفوية تكملة للناقص منها وتوسعة للفظ التحية الى كل وقائعها بنطاق واسع تشمل كافة الحيويات الإسلامية ، وكما اختص لفظية التحية بالسلام دون سائر التحيات التي لا تفي بمعناه.

لقد كانت في الجاهلية تحيات العبودية والذل فقابلها الإسلام بتحية الحرية والعز وخصها لفظيا بالتسليم لأنه لقاء سليم : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) (٢٤ : ٦١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) (٢٧).

ولم يفرق بين العالي والداني في بداية التسليم ، بل هو من العالي أعلى ومن الداني أءدب ، ثم وحدّ كيفية التسليم على المؤمنين بشرف الإيمان ووئام الإسلام.

والتحية تفعلة من الحياة فهي تقديم حيوية لفظيا ك «حياك الله» وأفضله «السلام عليكم» أو عمليا كهدية تهدى أو هداية تهدي ، فكلّ حيوية تحيّا لفظيا في إخبار أو دعاء ، أو عمليا كسائر الهدايا الحيوية مادية ومعنوية ، فأقل الواجب تجاهها ردها والفضل فيه أحسن منها ، فمن يهديك هدى فعليك ـ إن استطعت ـ أن تهديه هدى يفقدها ، أو أحسن منها أو ـ لأقل تقدير ـ أن تشكره على ما هدى.

والتحية اللفظية الإسلامية هي السّلام بدائيا ودعاء الرحمة عند العطاس (١) والآيات المتواردة في تحية الإسلام في كل النشآت تختصها بالسلام

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٥ في كتاب الخصال فيما علم امير المؤمنين (عليه السّلام) أصحابه : إذا عطس أحدكم فسمتوه قولوا : يرحمكم الله وهو يقول : يغفر الله لكم ويرحمكم قال الله (وَإِذا حُيِّيتُمْ ...).

٢١٦

والسّلام فقط ولأنه من أسماء الله ، وقد تحمل إخبارا بالسلام وإنشاء لدعاء السّلام ، مثلث من السلام تحمله تحية السّلام وليس كذلك أية تحية لفظية.

ذلك ولكنه لا يمنع من كون حياك الله وأضرابها من تحية تحية يجب ردها أو أحسن منها ، فكيف تخرج التحية في صيغتها الخاصة عن طليق «تحية» وتختص بالسلام ، وإن كان هو أفضل درجاتها؟.

وإنما لم يأت «إذا سلم عليكم» بدلا عن (حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) حيث القصد طليق التحية سلاما وتحية لفظية أو عملية.

وكما السّلام عليكم تحية وحياك الله تحية ، كذلك صبحكم الله ومساكم الله بالخير تحية ، وكتابتها كلها تحية ، والإشارة لها وعمل مشير إليها ، كل ذلك تحية وواجب الرد يشملها كلها ما صدقت «تحية» دون اختصاص بالسلام مهما كان أفضل التحيات.

والتحية العملية تشمل الهبة والهدية والإشارة والقيام للاحترام ، أم أية عملية تعتبر تحية من تقدمات فضيلة إلّا إذا كانت محظورة فلا رد لها؟ كمن يهدي زوجته لزميله وعوذا بالله! وإنما التحية المحبورة.

وكما يؤثر عن الإمام الحسين (عليه السّلام) أن جاءت جارية بطاقي ريحان فقال لها : أنت حرة لوجه الله فقيل له في ذلك فقال : أدبنا الله تعالى فقال : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) وقال : أحسن منها إعتاقها» (١).

ف «السّلام» من أسماء الله الحسنى (٢) ، وقد تعني «السّلام عليك» فيما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٢٤ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب وقال أنس ... فقلت له في ذلك فقال : ...

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٨٩ ـ أخرج البخاري في الأدب عن أنس قال قال النبي (صلّى الله عليه وآله ـ

٢١٧

تعنيه : الله عليك ، يعني : برحمته وفضله وكرمه وحفظه وهدايته ، دعاء هو خير دعاء.

و «السّلام عليك» إخبارا يفرّح المسلّم عليه ويطمئنه أنك لا تعني من مواجهته إلا سلاما سلاما وكما في الجنة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٥٦ : ٢٦) و «السّلام عليك» إنشاء يفرّحه أنك تدعوا له بالسلام من الله السّلام.

وهكذا نسمع ربنا يختص «السّلام» بتحية الإسلام في كل النشآت : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٦ : ٥٤) ـ (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٧ : ٤٦) ـ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (١٠ : ١٠) (١).

ذلك وكما الله نفسه يحييّ أهل السّلام بالسلام : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٣٧ : ٧٩) (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١٣٠) وعلى الجملة (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨١) و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (١٣ : ٢٤) (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٢٠ : ٤٧) (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢٧ : ٥٩) (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٣٦ : ٥٨).

__________________

ـ وسلّم): «إن السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض فأفشوا السلام بينكم ، وفيه مثله عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإضافة» فإذا سلّم المسلّم على المسلّم فقد حرم عليه أن يذكره إلا بخير.

(١) المصدر عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفشوا السلام بينكم فإنها تحية أهل الجنة ...».

٢١٨

ذلك ، وكما وأن داره دار السّلام : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٢٧) ـ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (١٠ : ٢٥).

وكل تحيات الرسل والنبيين والصالحين سلام : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) (١١ : ٦٩).

ذلك! فالتحية بما لم يحيي به الله محظورة ، وتحيته تعالى فقط هي محبورة مشكورة : «ألم تر الى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ..» (٥٨ : ٨) فإنها تنديدة شديدة بهؤلاء العصاة البغات المنافقين.

إذا فالتحية اللفظية بداية وإجابة هي السّلام ، بفارق الرجاحة في الإجابة أن تكون أحسن منها بداية إلّا ألا يجد أحسن منها (١) ومن الأحسن منها لفظية أن يسلّم جوابا عن حياك الله حيث الأحسن تعم اللفظ والمعنى ، بل وكيفية السّلام وحالته (٢) فأقل الواجب هو رد التحية نفسها ، ثم الأحسن منها في مثلث اللفظ والمعنى والحالة ، ومنها إضافة المصافحة والمعانقة (٣) الى أصل

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٨٨ بسند حسن عن سلمان الفارسي قال جاء رجل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : السّلام عليك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال وعليك السّلام ورحمة الله ثم أتى آخر فقال : السّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته ثم جاءه آخر فقال : السّلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته فقال له الرجل بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي فقال إنك لم تدع لنا شيئا قال الله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فرددناها.

(٢) المصدر عن الحسن أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه.

(٣) نور الثقلين ١ : ٥٢٥ عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : إن من تمام التحية للمقيم المصافحة ـ

٢١٩

التحية وكما كانت سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة الهدى (عليهم السّلام).

وكما الأحسن منها إجابة فضيلة ، كذلك نفس التحية البادءة (١) فهما إذا درجات.

وهنا تساءلات عدة حول سنة السّلام وفرض رده ، بإجاباتها على ضوء القرآن والسنة.

١ هل يجب أو يجوز رد السّلام على غير المسلّم ، أم يختص بالمسلّم؟ «حييتم» بصيغة الغياب تغيّب خصوص المسلّم عن دوره الخاص وتعمم فرض الرد على كل تحية ، فما صدقت «تحية» ـ أيا كان المحيّي والتحية ما لم تكن مرفوضة ـ وجب الرد حسب النص ، كواجب المبادلة بين الآداب ، فإذا لم

__________________

ـ وتمام التسليم على المسافر المعانقة.

(١) المصدر أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة أن رجلا مر على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في مجلس فقال : سلام عليكم فقال «(صلى الله عليه وآله وسلم) : عشر حسنات ، فمر رجل آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله فقال : عشرون حسنة فمر رجل آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال : ثلاثون حسنة»

أقول : وفي نور الثقلين ١ : ٥٢٥ عن الصادق (عليه السّلام) مثله في درجات السّلام.

أقول : فلا أحسن من «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» اللهم إلا زيادة ألفاظ لا دور لها في الحسن ، وقد يستفاد ذلك الحد من (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ) (١١ : ٤٨) و (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (١١ : ٧٣) وحاصل جمعها هو التحية الكاملة التي لا أكمل منها وإضافة «غفرانه» فيما رواه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الجهني أنه قال : أربعون قد لا تعني إضافة فإن مغفرته من رحمته وبركاته وقد يروى عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : مر أمير المؤمنين (عليه السّلام) بقوم فسلّم عليهم فقالوا : عليك السّلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه ، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) : لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم ، إنما قالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.

٢٢٠