الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

يستقم له في الموضع الذي أراد فحوله في موضع آخر فلم يستقم فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنار» (١) : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٦٣ : ٤).

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ١٤٣.

حالة جامعه جامحة للمنافقين (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) الذي سبق من إيمان وكفر.

والذبذبة هي الحركة الدائبة وتنقّلة مستمرة كذبذبة الساعة غير المستقرة على حال ، وقد تكون مركبة من «ذب ـ ذب» فكلما يميلون الى جانب يذبون عنه الى آخر ، فلأنه مكرور منهم دون ثبات فهم إذا (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) ثم (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) تفسر تلك الذبذبة الحائرة المائرة :

(لا إِلى هؤُلاءِ) المؤمنين باطنا الى ظاهر ، «ولا الى هؤلاء الكافرين» ظاهرا الى باطن ، فقد اقتسموا إسرارهم وإعلانهم بين الفريقين ، يعتذرون الى كلّ إن عرفوا حالهم أنهم لمنهم فإنما يسايرون عدوهم مستهزئين ، وذلك هو الضلال المبين.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بما ضل هو نفسه عن سواء الصراط (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) الى الهدى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) فقد ذبذبوا أنفسهم بين ذلك

__________________

ـ يمسي وهمه العشاء وهو مفطر ويصبح وهمه النوم ولم يسهر وإن حدثك كذب وإن ائتمنته خانك وإن غبت اغتابك وإن وعدك أخلفك».

(١) المصدر عن سعيد بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم): مثل المنافق ...

٤٠١

فأضلهم الله بأن ذبذبهم (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) حيث أذاقهم الله وبال أمرهم.

ذلك والذبذبة بين الحق والباطل هي نفاق عارم على أية حال ، مهما تسربت الى بعض المؤمنين البسطاء دون الفضلاء والوسطاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) ١٤٤.

لقد كان للأنصار بالمدينة في بني قريظة رضاع وحلف ومودة فقالوا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من نتولى؟ فقال : المهاجرين ، فنزلت الآية (١).

و «الكافرين» هنا تعم المنافقين وسائر الكافرين بل هم أولاء أكفر منهم وأضل سبيلا لتجسسهم في نفاقهم على المؤمنين واضلالهم بسطاءهم في عشرتهم اللئيمة.

فاتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين هو اتخاذ للشيطان وليا من دون الله وهذا سلطان مبين لله على هؤلاء.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ١٤٥.

الدرك هو الهابط كما الدرج هو الصاعد ، فكما للجنة درجات حسب درجات المؤمنين ، كذلك للنار دركات حسب دركات الكافرين : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (١٥ : ٤٤) وقد تكون أبوابها عمودية فوق بعض فأسفلها هو الدرك الأسفل فلأن (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) فليست النار فسحة واحدة فإن مختلف أبواب فسحة واحدة لا تخلّف مختلف العذاب ، فهي ـ إذا ـ أبواب سبعة سفل بعض أسفلها جحيم المنافقين ، فلأن المنافقين هم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١١ : ٨٦ والسبب فيه أن الأنصار ...

٤٠٢

في أهبط دركات الكفر هم ـ إذا ـ في الدرك الأسفل من النار.

وهذا مخصوص بالمنافقين الرسميين لأنهم (أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) دون من يوافقهم في بعض النفاق وهم مؤمنون.

وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله «معاشر الناس سيكون من بعدي أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون ، معاشر الناس إن الله وأنا بريئان منهم ، معاشر الناس إنهم وأنصارهم وأشياعهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار ولبئس مثوى المتكبرين (١).

هؤلاء المنافقون الذين عرّف الله بهم في بضع آيات وهددهم بما هدّدهم والى الدرك الأسفل من النار ، فهل لهم بعد من توبة؟ أجل :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) ١٤٦.

هنا الاستثناء يعم كل الكافرين منافقين وسواهم ، فليس باب التوبة مسدودة ما وجدت إليها سبيلا مهما كنت كافرا أو منافقا فضلا عن فاسق.

وهذه المعية المشرّفة لهم بالمؤمنين تتبناها قواعد أربع هي التوبة والإصلاح والاعتصام بالله وإخلاص الدين لله ، جبرا لكل كسر هو من خلفيات الكفر والنفاق في كل دركاتهما.

ذلك ولا نجد مربع التوبة إلّا هنا لأنه يواجه نفوسا منافقة مذبذبة متولية عن الله الى سواه فلا بد لها في سبيل التوبة أسباب زائدة على العاصمين الآخرين.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٦٧ في كتاب الإحتجاج عن النبي (صلّى الله عليه وآله سلّم) حديث طويل وفيه يقول: ..

٤٠٣

١ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن كفرهم نفاقا وسواه ، رجوعا الى الله بقلوبهم فأعمالهم دون خاوية الأقوال.

٢ «وأصلحوا» ما أفسدوا من أحوالهم وأحوال المؤمنين قدر المستطاع ، إذ لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها.

٣ (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) في تلك التوبة وذلك الإصلاح وفي سبيل الفلاح الى الله ، بعد ما اعتصموا بما سواه.

٤ (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) وطاعتهم «لله» ، بعد ما أخلصوه لما سواه ، فالإخلاص هو الأصل في كل عمل ف «أخلص دينك يكفك القليل من العمل» (١) و «طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تتجلى عنهم كل فتنة ظلماء» (٢) ف «ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (٣) و «قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليما ولسانه صادقا ونفسه مطمئنة وخليقته مستقيمة وأذنه مستمعة وعينه ناظرة ، فأما الأذن فقمع والعين مقرة لما يوعى القلب وقد أفلح من جعل قلبه واعيا» (٤)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٣٦ ـ أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) حين بعثه إلى اليمن أوصني قال : أخلص ...

(٢) المصدر عن ثوبان سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) يقول : طوبى ..

(٣)المصدر أخرج ابن أبي شيبة والمروزي في زوائد الزهد وأبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال : بلغني أن النبي (صلّى الله عليه وآله سلّم) قال : ما أخلص ...

(٤) المصدر أخرج أحمد والبيهقي عن أبي ذر أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) قال : قد أفلح ...

وفيه أخرج البيهقي عن أبي فراس رجل من أسلم قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) سلوني عما شئتم فنادى رجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) ما الإسلام؟ قال : إقام الصلاة وإيتاء الزكوة قال فما الإيمان قال : الإخلاص ، قال فما اليقين؟ قال : التصديق بالقيامة ، وفيه أخرج البزار بسند حسن عن أبي ـ

٤٠٤

أجل (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) (٣٩ : ٣) عن كل شوب (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (٣٩ : ١٤).

وللإخلاص لله بعدان اثنان ، خلقي بتقديم كافة المحاولات لكامل الإخلاص حسب المستطاع ، ورباني يتم إخلاص العبد فيجعله خالصا طليقا لله لا نصيب فيه لمن سواه والآخرون هم المعصومون ، والأولون يتطرقون طرق العصمة.

فإذا تحققت هذه الشروطات الأربع (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) والمؤمنون هنا هم الأصلاء في الإيمان الذين تعرقت فيهم وتقومت هذه القواعد الأربع.

فلأن هؤلاء التائبون الآئبون الى الله هم في بداية المسير ولّما تتحقق فيهم هذه القواعد ، (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الأصلاء وليسوا منهم.

ذلك وكما الطالبون لهديهم الصراط المستقيم هم (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) ما لم يصلوا الى ما وصلوه ، فإذا وصلوا فهم منهم وليسوا معهم.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) ١٤٧.

«ما» ذا (يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) ولا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه وأتاه «إن شكرتم» الله «وآمنتم» بالله (وَكانَ اللهُ) منذ كنتم

__________________

ـ سعيد الخدري عن النبي (صلّى الله عليه وآله سلّم) أنه قال في حجة الوداع : «نضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن إخلاص العمل لله والمناصحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعاءهم يحيط من وراءهم» وفيه أخرج النسائي عن مصعب بن سعود عن أبيه أن ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله سلّم) فقال النبي (صلّى الله عليه وآله سلّم) إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم.

٤٠٥

«شاكرا» لمن شكره «عليما» بما شكره.

إذا فليس العذاب إلّا منّا ، وليس انتقاما لربنا منا ولا دفاعا عن ساحة قدسه ، ولا شهوة التعذيب أو رغبة التنكيل أو التذاذ الآلام أو إظهار البطش والسلطان ، تعالى الله عن كل ذلك علوا كبيرا ، إنما هو تحقيق العدل بين عباده وكما : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣٩ : ٧).

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ

٤٠٦

تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ

٤٠٧

أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) ١٤٨.

«لا يحب» هي في العبارة الربانية عبارة أخرى عن «يبغض» إذ لا يخلو ربنا بالنسبة لأفعال عباده وتروكهم عن حب أو بغض ، حيث العوان بينهما دون حب أو بغض هو الجاهل ، أو غير المتولي ربوبية لما يفعل أو يترك ، فأما الرب الناظر البصير بكل مسير ومصير فهو إما محب أو مبغض يعنيان الثواب والعقاب.

فكما أن لكل مفروض ثوابا وعلى كل مرفوض عقابا ، كذلك في كل منهما حب من الله أو بغض لا يعنيان حالة كما في الخلق ، فإنما غضب الله عذابه كما أن حبه ثوابه.

و (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) تعم الجهر بسوء ما عمله عامله وهو مستور ، اغتيابا أم بحضرته أم جهرا بالقول السوء على المسيء غير ما فعل ، أم على ما فعل ، أم فرية عليه وبهتانا.

فالجهر بالسوء من القول على أية حال مبغوض عند الله مرفوض مهما اختلفت دركاته ، فالدعاء والدعاية الجاهرة بالسوء من القول محرمة اغتيابا أو بهتانا أو إيذاء ، ولا أجمع من (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) حيث تشمل كل إساءة قولية جاهرة بحق الآخرين ، حيث تؤذيه وتشجّع السامعين على السوء ، وعلى

٤٠٨

الجهر بالسوء ، وعلى من أسيئ إليه ، وهو في جملة جميلة نظيرة لهذه : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) (٢٤ : ١٩).

أجل ، وربّ كلمة عابرة لا يتحسب قائلها حسابا لما تحتها من خلفيات سوء ، أو شائعة عابرة لم يقصد بها إلّا فردا من الناس ، وهي كماهيه تترك في نفسية المجتمع وفي أخلاقهم وفي اختلاق جو مظلم آثارا مدمّرة حيث تتجاوز الآحاد الى المجتمعات.

واللسان الجاهر بالسوء من القول ليس وراءه عقلية إيمانية وتحرّج عما يحصد من سوء ، تدميرا للثقات المتبادلة حيث يخيّل إليهم غلب الشر رغم فرديته القليلة ، ووا ويلاه إن كان بهتانا لا أصل له.

فقالة السوء الجاهرة حين تنتشر تصبح كالمنشار ، تنشر قدر ما تنتشر ، فيهون عملية السوء في المجتمع المنشور فيه ، ويتعوّد الألسنة على الجهر بالسوء ، وتشجّع كوامن السوء باقترابه على اقترافه ، فهنالك الطامة الكبرى بخلفية الانحلال الجماعي والفوضى الخلقية ، بما لاكته الألسن الهرجة المرجة دون تحرّج.

فهذه السلبية الباتة هي من الأصول الخلقية العامة الإسلامية غير المستثناة اللهم : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فالمظلوم له جهر بالسوء انتصارا على ظالمه (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢ : ٤٢).

ذلك ، بل هو من شيم الإيمان حتى لا يشيع الظلم : (وَالَّذِينَ إِذا

__________________

(١) راجع تفسير الآية في الفرقان (١٨ ـ ١٩ : ٧٥) تجد فيه تفصيل القول ما يناسب آيتنا هذه.

٤٠٩

أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٤٢ : ٣٩).

والإنتصار له أبعاد عدة ، منها دفع الظلم ، ومنها فضح الظالم ليعرف فيتجنب فيضعف بذلك ساعده ومساعده ، «فلا بأس للمظلوم أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الإنتصار به في الدين» (١) معارضة للظلم بالظلم دونما اعتداء (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

وليس يختص الظلم بما يقال عليك من سوء فرية أو اغتيابا ، بل و «إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذبه فقد ظلمك»(٢).

بل و «إنه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله» (٣) وليس السماح هنا إلّا في الضيافة المقصرة المهينة دون القاصرة ، فحين تكون الضيافة ظلما واعتداء بالضيف عن تقصّد ، فقد يجوز فيه الجهر بالسوء من القول أنه لم يحسن ضيافتي ، أم فعل كذا أو كذا ، وأما الغافل الأبله غير القاصد ، أو الذي قدّم مستطاعه ولكنه لا يناسب شؤون الضيف ، فلا يسمح فيهما الجهر بالسوء من القول.

ذلك ، ومن الظلم استقضاء الحق فيما لا يجوز كأن تستقضي المديون

__________________

(١) مجمع البيان عن أبي جعفر الباقر عليهما السّلام : لا يحب الله الشتم في الإنتصار إلّا من ظلم فلا بأس .. وفي تفسير العياشي عن أبي الجارود عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : «الجهر بالسواء من القول أن يذكر الرجل بما فيه».

أقول : فهو في المستثنى منه الاغتياب كمصداق من مصاديق الجهر بالسوء ، وفي المستثنى نفس الاغتياب دون زيادة على ما فيه.

(٢) نور الثقلين ١ : ٥٦٨ عن تفسير القمي وفي حديث آخر قال : ...

(٣) المصدر وروي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنه الضيف ...

٤١٠

وليست له ميسرة وهو غير ظالم في دينه وتأجيله (١).

وأقل الإنتصار «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» (٢) عليه فإن الله سميع لدعاء المظلومين ولكن شرط ألا يستطيع دفعا لظلمه إلا الدّعاء ، ومن ثم إعلام الناس بظلمه ، ثم الأخذ على يديه لكيلا يظلم ، ف «الظالم والمظلوم كلاهما في النار» حين ينظلم المظلوم ولا يهتم في إخفاق نعرته وإخماد نائرته.

وقد تعني «من ظلم» ـ بمن عنت ـ الجهر بالسوء من القول على المظلوم الساكت وفي سكوته تشجيع للظالم ، وعلّه لذلك الشمول لم يقل «إلا ممن ظلم» حتى تشمل «على من ظلم» فليجهر بالسوء من القول عليه تنديدا به وتشنيعا لماذا لا ينتصر من ظالمه ولا يفضحه وإن في الجهر بالسوء من القول عليه ، أو تجهر بالسوء على ظالمه حين لا يستطيع المظلوم أن يجهر به حيث لا يجد له حيلة ولا يهتدي سبيلا.

فللمظلوم الجهر بالسوء من القول على ظالمه اعتداء بالمثل ، أو انتصارا عليه دعاية أو منعة عن ظلمه ، ولكنه إن عفى عنه ـ فيما يجدي العفو إعفاء عن ظلمه وإصلاحا له ـ فهو محبور مشكور.

__________________

(١) فعن الوافي والتهذيب بسندهما عن حماد بن عثمان قال دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السّلام) فشكى رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو فقال له أبو عبد الله (عليه السّلام) ما لفلان يشكوك؟ فقال يشكوني اني استقضيت منه حقي فجلس أبو عبد الله (عليه السّلام) مغضبا فقال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ أرأيت قول الله تعالى : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أترى أنهم خافوا الله عز وجل أن يجور عليهم لا والله ما خافوا إلّا الاستقضاء فسماه الله عز وجل سوء الحساب فمن استقضى فقد أساء.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٣٧ ـ أخرج الترمذي عن عائشة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) قال : من دعا ..

وفيه أخرج أبو داود عن عائشة أنها سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم): لا تسبخي عنه بدعائك.

٤١١

فقد يجب الجهر بالسوء على الظالم حين لا ينتهي أو لا تخف وطأته إلّا بذلك ، نهيا عن منكر الظلم ، وإن لم ينته ففضحا له حتى يعرف فيتجنب.

وقد يحرم إذا ازداده ذلك الجهر ظلما وعتوا ، وبينهما عوان انتصارا راجحا وإن في الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى.

ذلك (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) أقوالكم «عليما» بأحوالكم ، لا تخفى عنه خافية ، فهو عليم موارد الحظر والسماح للجهر بالسوء من القول ، دون أن ينغر بغرور ويحتال باحتيال هؤلاء الذين يجهرون بالسوء من القول على الأبرياء (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!

فحين يشك في الجهر بالسوء من القول أنه محظور أو محبور ، ويوشك أن يكون في الحق من المحظور فهو ـ إذا ـ محظور حيث الخارج عن الضابطة هو المقطوع كونه «ممن ظلم».

إذ لا بد في السماح لذلك الجهر إما من إصلاح ، أم اعتداء على الظالم مثل ما اعتدى ، وأما أن يطلق اللسان السوء على كل رطب ويابس علّه يستحقه فلا! حيث الضابطة الثابتة هي الحظر إلّا الخارج بقاطع البرهان.

وترى «من ظلم» تختص بالجاهر بالسوء إذا ظلم هو نفسه ، أم وإذا ظلم بما ظلم أهله ، أم وأظلم منه إذا ظلم الحق ، فقضية النهي عن المنكر الجهر بالسوء كسائر موارد السماح في الجهر بالسوء من القول حيث يدور الأمر بين مهم الجهر بالسوء محظورا ، والأهم منه وهو الظلم فإنه أشد محظورا.

إن الجهر بالسوء من القول على المبتدع في الدين والهاتك حرم المسلمين

٤١٢

مجاهرا في فسقه (١) ليس مرفوضا بل وهو مفروض سياجا على الحرمات وهياجا على ترك المحرمات.

ذلك ، والسماح مخصوص بخصوص المتجاهر به والابتداع دون المستور وغير الابتداع ، ثم وفي المتجاهر به يجوز الجهر بالسوء في نفسه حيث المتجاهر لا حرمة له فيما تجاهر ، ولكنه إذا خلف إشاعة الفاحشة فلا ، حيث السماح لاغتيابه نسبي لحقه ، فلا يضيع حق الجماهير المسلمة بسماح الجهر بسوء ما فعله.

وقد تعني «من ظلم» ـ لمكان حذف الجار ـ كلّا من «من ظلم ـ لمن ظلم ـ على من ظلم» ف «ممن ظلم» أن يجهر بسوء ما فعل به استنصارا له أم فضحا على الظالم ، و «لمن ظلم» حين هو قاصر أو مقصر في الجهر بالسوء وقضية الإنتصار للمظلوم وتضعيف الظالم الجهر بسوء ما فعل فعلى القادر على ذلك الجهر أن يجهر «لمن ظلم» لصالحه وبديلا عنه.

وعلى هامشه «على من ظلم» حين لا يجهر ويستمر في الانظلام الذي هو ظلم من واجهة أخرى فكما يجهر بالسوء على الظالم لأنه ظلم ، كذلك على المظلوم لأنه ظالم في سكوته على قدرته وإمكانيته.

__________________

(١) ففي رواية هارون بن الجهم إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة ، وفي أخرى : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ، ورواية أبي البختري : ثلاثة ليس لهم حرمة صاحب هوى مبتدع والإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه ، وصحيحة أبي يعفور في بيان العدالة : أن الدليل على ذلك أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته ، ورواية علقمة المحكية عن المحاسن : من لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان.

٤١٣

ومن موارد الفرض في الجهر بالسوء الظلم الجماعي ، فليفتضح مثل المبتدع في الدين ومن أشبه ، ومما يجوز فيه الجهر بالسوء قدر الضرورة التي تبيح المحظور :

١ نصح المستشير ، فإن مصلحة المستشير أقوى من الوقيعة الصالحة في المشار عليه فإن المشورة واجبة أو راجحة فلتكن الإشارة لصالح المستشير واجبة أو راجحة.

٢ النهي عن المنكر ، فإن تركه حفاظا على حرمة الآتي بالمنكر أنكر ، ففيما يترتب ترك المنكر على ذكره عند من يؤثر في تركه وجب ، ولكنه يقتصر على مورده دون جهر عند سائر الناس (١).

٣ دفع المبدع بفضحه حتى يحذر عنه الناس وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البرائة منهم أكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الإفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات (٢).

ذلك ولكنه ليس كل من تراه مبتدعا في خاصة رأيك ، وإنما هو الآتي بخلاف الضرورة الإسلامية الثابتة بالكتاب والسنة ، فالمسائل المختلف فيها بين علماء الإسلام ليست لتتخذ ذريعة لتهمة البدعة ، فإنه فوضى جزاف أن يرى كلّ ما يراه أنه هو الحق لا سواه ثم يرمي من سواه بالابتداع!.

__________________

(١) ومما يدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان قال جاء رجل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : إن أمي لا تدفع يد لامس فقال (صلّى الله عليه وآله سلّم) : أحبسها ، قال قد فعلت فقال (صلّى الله عليه وآله سلّم) فامنع من يدخل عليها ، قال : قد فعلت ، قال (صلّى الله عليه وآله سلّم) فقيدها فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله ...

(٢) الكافي بسنده الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) : ..

٤١٤

٤ جرح الشاهد الفاسق فإن رد شهادة الزور أوجب من الستر على شاهد الزور ، وذلك الرد هو قضية واجب النهي عن المنكر فتركه ـ إذا ـ منكر لا يبرره الستر عليه.

٥ دفع الضرر عن المغتاب فإن حفظ النفس وما ضاهاها أوجب من حفظ العرض وكما يروى في الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنه أمر عبد الله بن زرارة أن يبلغ أباه : اقرأ مني على والدك السّلام فقل له إنما أعيبك دفاعا مني عنك فإن الناس يسارعون الى كل من قربناه ومجدناه لإدخال الأذى فيمن نحبه ونقربه ويذمونه لمحبتنا ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عيّبناه نحن وإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا بميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود لمودتك لنا وميلك إلينا فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون ذلك منا دافع شرهم عنك يقول الله عز وجل : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) هذا التنزيل من عند الله والله ما عابها إلّا لكي تسلم من الملك ولا تغضب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله فأفهم المثل رحمك الله فإنك والله أحب الناس إليّ وأحب أصحاب أبي إلي حيا وميتا وإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر وإن وراءك لملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصبا ويغصب أهلها فرحمة الله عليك حيا ورحمة الله عليك ميتا (١).

هذه وما إليها من الجهر بالسوء من القول الذي يبرّره دفع الظلم بالظلم شخصيا أو جماعيا ، أو يفرضه تقديما للأهم على المهم ، ليست محظورة مرفوضة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٢٨٥ ح ١٦٣ في كتاب تلخيص الأقوال في تحقيق أحوال الرجال في ترجمة زرارة ابن أعين روى في الصحيح.

٤١٥

بل هي محبورة أم مفروضة حفاظا على الأهم الأحرى.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) ١٤٩.

هنا في المسرح امتداح للخير إبداء وإخفاء ، وامتداح للعفو عن سوء ـ وطبعا ألّا يكون إخفاء سوء أن يشجع المسيء على إسائته ـ (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً).

فالعفو عن السوء على قدرة هو في أصله مشكور ، إلّا أن يخلّف ذلك العفو سوء وقليل ما هو ، حيث الناس مفطورون على التأثر بالعفو والتحسّر على سوء فعلوه ، وهذه من أوسع أبواب التربية الربانية أن يواجه السوء بحسن على قدرة : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٤١ : ٣٤).

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ١٥٠ أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ١٥١.

من شروطات الإيمان بالله ـ الأصيلة ـ عدم التفرقة بين الله ورسله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢ : ٢٨٥) وبين الله ، ولا بينهم أنفسهم ، لأنهم كلهم يحملون رسالة الله دون تفرّق : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٦ : ١٥٩).

وهنا يعبر عن المفرقين بين الله ورسله إيمانا ببعض وكفرا ببعض ب (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) حيث التفرقة هذه كافرة ناكرة لله ، فإن الكفر برسالة من الله ، مزودة بآية من الله قاطعة ، إنه في الحق كفر بالله ، وإلّا فلما ذا الكفر برسالة منه ساطعة المنار؟.

٤١٦

والتفرقة بين الله ورسله دركات ، منها ادعاء الإيمان بالله والكفر بكل رسالات الله ، ارتياحا عن عبء التكاليف الإلهية مع الحفاظ على الإيمان المدعى كما يدعيه المشركون والموحدون غير الكتابيين.

ومنها دعوى الإيمان بالله وبالبعض من رسالاته دون بعض ، تهودا أو تنصرا ، أم ـ وعوذا بالله ـ دعوى الإسلام ونكران سائر الرسالات أم بعضها الأخر.

ومنها الإيمان برسالة البعض ودعوى ألوهية بعض كمن يؤلّهون المسيح (عليه السّلام) تفريقا بين هذا الرسول وسائر الرسل في كيان الرسالة.

ومنها الإيمان بعصمة البعض منهم دون بعض تدنيسا لساحة الرسالة على المأثومين في زعمهم.

ومنها الإيمان بالله وكل رسالاته ، اقتساما لشرعته الى مفروضة ومرفوضة ، كمن يدعى الإسلام ثم يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض كسائر أهل الكتاب الكافرين بالبعض الذي يبشر بمجيء الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (٢ : ٨٥) هذه وسائر التفرقات بين الله ورسله ، أو بين رسله ، أو بين رسالاته ، كلها من مخلّفات الكفر بالله ورسله مهما ادعوا الإيمان بالله أم وبرسله ، فكل كفر بوحدة الرسل فيما حمّلوه ووحدة الرسالة ، هو كفر بوحدانية الله ، وسوء تصور لقضيتها الرسالية الرسولية.

ولأن ذلك نفاق في الإيمان يشكّل خطرا عارما على بسطاء الإيمان ف (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) وكما هم أهانوا سماحة الإيمان وأظلموا ساحته.

٤١٧

هؤلاء المنافقون في ادعاء الإيمان (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) بشق العصا شطرين أو أخذها من الجانبين ، وليس هنالك إلا كفر طليق أو ايمان طليق مهما اختلفت الدركات أو الدرجات.

ذلك ، وقد تجري هذه المنافقة لكل من لا يسلم وجهه لله ورسالته تماما ، كالمؤمن بهذه الرسالة والناكر لاستمراريتها في المعصومين من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شرط أن يكون مقصرا ، فأما القاصر فهو خارج عن أحكامه إلا في الإشراك بالله إذ لا قصور فيه.

وترى الكفر فيه حق وباطل ليكون (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا)؟ الحق هنا لا يقابل الباطل ، وإنما تعني حاق الكفر وعمقه المتكامل فيه ، فحق الباطل هو حاقه وكامله دون إبقاء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ١٥٢.

هؤلاء الأكارم يعاكسون أمر الإيمان وجاه المنافقين فيه حيث لم يفرقوا أي تفريق في حلقات الإيمان ومتعلّقاته (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) فإذا تسرب منهم لمم من ذلك التفريق (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر من يستغفره ويرحم من يسترحمه.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) ١٥٣.

ذلك السؤال العضال نجده في المشركين : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (١٧ : ٩٣) واليهود : (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ

٤١٨

جَهْرَةً) لكي نراه ونسمعه يوحي إليك ، وأهل الكتاب ككلّ (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) ويكأن الله هو ساكن السماء حتى ينزل كتاب وحيه على رسوله منها ، وهل إن هذه السماء بكتابها أسمى من سماء الوحي البيّنة في القرآن العظيم ، فقد يأتي كتاب من السماء من الله أو سواها وليس في سموّه كوحي القرآن النازل من سماء الرحمة المتميزة الإلهية على قلب النبي الأمى.

فما ذلك السؤال وأمثاله إلّا نتيجة الجهل والنكران ، تعنتا على الحق وتعندا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) البعيد البعيد (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) يبين الحق صراحا ناصعا لا غبار عليه.

وهنا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) عرض لأجهل ما سأله أهل الكتاب في مسرح الكتاب ، إذا ف : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) يعمهم الى النصارى وسائر أهل الكتاب ، ولو عنت «أهل الكتاب» خصوص اليهود لجيء بخصوصهم دون طليق «أهل الكتاب» (١).

ولأن ذلك السؤال كان في خضمّ نزول القرآن في العهد المدني وهم كانوا يسمعونه ولا يرعونه ، فسؤالهم (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) نكران لوحي القرآن إذ لم ينزل جهارا من السماء ، انعطافا الى مكان من السماء وانحرافا عن مكانة القرآن الذي يحلق على الأرض والسماء!.

__________________

(١) الدر المنثور أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال جاء ناس من اليهود إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) فقالوا : إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله فائتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك فأنزل الله: (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ ـ إلى ـ بُهْتاناً عَظِيماً).

وفيه عن ابن جريح قال : إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد (صلّى الله عليه وآله سلّم) لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله فأنزل الله : يسألك أهل الكتاب.

٤١٩

وقد يعني (كِتاباً مِنَ السَّماءِ) ـ فيما عنى ـ كتابا من الله إليهم أن محمدا رسولي والقرآن كتابي (١) رغم أن القرآن نفسه دليل قاطع لا مرد له على الأمرين ، برهان لا يساوى ولا يسامى بأي برهان.

ثم كيف (سَأَلُوا مُوسى) والسائلون إياه هم الغابرون دون الحاضرين في (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ)؟ لأنهم كلهم ـ إلّا قليل ـ في سلك واحد وأقله كونهم راضين بما سأل وفعل أسلافهم ، وكما ينسب القرآن أفعالا من الغابرين الى الحاضرين بنفس السبب ، مما يدل على أن الراضي بفعل قوم هو منهم وكما (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) يعنى القاعدين مع الخائضين في آيات الله.

وهنا الإجابة ب (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) تنديدة شديدة وتهديدة أن ينالهم ما نال السائلين موسى (عليه السّلام) من أخذ الصاعقة إياهم ، «ثم» ولم ينتبهوا عن غفوتهم حيث (اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) استبدالا بالله العجل في رؤيته وعبادته ، (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) الحنث العظيم ـ لا عنهم ـ فلم نستأصلهم عن بكرتهم فإنما قلنا لهم (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تخفيفا عن ثقل الحنث ثم :

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) ١٥٤.

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) بكامله ترهيبا رعيبا «بميثاقهم» حيث ان سبب رفعه كان ميثاقهم الذي نقضوه أو أرادوا نقضه كما فصلناه في البقرة (٢) فاستحكمه الله بنتق الجبل فوقهم.

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) باب القدس «سجّدا» خضّعا لله (وَقُلْنا لَهُمْ

__________________

(١). ج ١ : ٤٤٧ الفرقان على ضوء الآية «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ..» (٦٤).

٤٢٠