الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

وقد يناسب الاستفتاء والفتوى في النساء سابقة التسوية السابغة بين الذكر والأنثى في الأعمال وأجورها ، كما هما يفسّران المعنيّ من اليتامى أنهن أو منهن النساء الخليات من الأزواج المتوفى عنهن آباءهن ، ومن ثم تفسير للعدل المفروض بينهن في عديد الزواج.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧).

الاستفتاء هي طلب الفتيّ من الرأي القويّ ، واستفتاء الرسول بحقه لا يعني إلّا طلب الوحي فيما يطلبون ، نازلا عليه من قبل أو ما ينزل قضية السئوال فلذلك يقول (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) لا «أنا أفتيكم فيهن» صرفا لأية فتوى عن رسول الله إلى الله.

ولأن الاستفتاء في النساء تعم مسألة الزواج بهن ومواريثهن وسائر حقوقهن حيث كانت هي محور السلب والإيجاب بين الجاهلية الظالمة والشرعة العادلة ، إذا ف (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى ..) ، ف (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) هي الآيات في اوّل النساء بشأن التسوية بينهن وبين الرجال حيث (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وإعطاء حقوقهن كبيرات ويتيمات : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) والإقساط في اليتيمات المسموح زواجهن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وهذه مما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ، أي المنقطعات عن الآباء وعن الأزواج حيث لا مدافع عنهن صامدا (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) من صدقات ونفقات ومواريث (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ).

ذلك (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) يتامى أم سفهاء (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً

٣٦١

مَعْرُوفاً) (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) كبارا كالنساء اليتيمات المعنيات ب (يَتامَى النِّساءِ) أم صغارا : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) هناك (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) هنا.

وحصيلة تلكم الفتي بحق يتامى النساء والمستضعفين يتامى وسواهم ، أن حقوقهم لا تذهب هدرا بضعفهم وصغرهم ويتمهم ، بل هم ـ بأحرى ممن سواهم ـ يظلون تحت ظل الله ورعايته ، ولا سيما اليتامى الذين تفوق حقوقهم حقوق من سواهم!.

وهكذا نستوضح المعنيّ من (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أن من المعني هنا من «اليتامى» ـ (يَتامَى النِّساءِ) فنتأكد أن اليتم لا يختص بعدم بلوغ النكاح ، بل والنساء المتوفى عنهن آباءهن وهن غير متزوجات أو المتوفى عنهن أزواجهن ، هن (يَتامَى النِّساءِ) ـ حيث تعني النساء اليتامى باضافة الصفة إلى الموصوف ـ إذ كن في استغلال النكاح للذين قال الله عنهم (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) ومن ثم (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أيا كانوا ، ثم (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) كضابطة تحلّق على كل اليتامى صغارا أو كبارا : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً).

وفي نظرة أخرى إلى الآية أدبية هنا تحويل لأصل الفتوى إلى الله (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) كما فيمن سواهن وما سواهن من أحكام فتيّة تطاع في شرعة الله.

وكما «و» يفتيكم في (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ككلّ ، المحلّق على كل الأحكام الأنثوية بالنسبة لأنفسهن وأعراضهن وأموالهن وعشرتهن مع أزواجهن وسواهم ، ولا سيما ما يتلى (فِي يَتامَى النِّساءِ) كما سبقت في آية عديد

٣٦٢

الزوجات ، «و» في «المستضعفين» بصورة عامة و «من الولدان» فإنهم أبرز مصاديقهم ، و «يفتيكم» (أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أيا كانوا ، ذكورا وإناثا ، بنات ونساء.

فلقد تناولت هذه الفتوى ـ كما سواها في مختلف الحقول ـ تصويرا للواقع المترسب في الجماعة المسلمة من الجاهلية التي التقطه منها المنهج الرباني ، كما وتناولت التوجيه المطلوب الوجيه لرفع الحيوية الإسلامية تطهيرا لها من كل الرواسب الجاهلية.

ولقد كانت اليتيمة تلقى من وليها طمعا في مالها وغبنا في مهرها سواء تزوج بها لجمالها ام لم يتزوج بها لدمامتها فاستغلها لما لها.

وقد تعني (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) رغبتهم عن نكاحهن ضمن ما عنت من الرغبة في نكاحهن ، وعلى أي الحالين (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) زواجا وغير زواج ، فإن تزوجتموهن (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) من مال وعشرة صالحة وسائر حقوق الزوجية ، وإن لم تتزوجوا بهن ومنعتموهن عن الزواج رغبة في أموالهن أو في خدمتهن فقد جمعتم إلى الخيانة المالية خيانة نفسية حيث كتب الله لهن حرية الزواج وأنتم (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) من الزواج كما لا تؤتونهن حقوقهن المالية (١) ، ومما يفتيكم الله فيهن :

__________________

(١)الدر المنثور ٢ : ٢٣١ عن سعيد بن جبير قال كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال فيه لا يرث الصغير ولا المرأة فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا أنه لواجب ما عنه بدّ ثم قالوا سلوا فسألوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ ... فِي الْكِتابِ) في أول السورة (فِي يَتامَى النِّساءِ ..) قال سعيد بن جبير وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم ينكحها.

٣٦٣

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨).

(خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) كما (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) خوف عن واقع النشوز لا مستقبله المحتمل ، فإنه ليس إفسادا حتى يصلح هنا أو يعالج بمثلث العظة والهجر في المضجع والضرب هناك ، إنما هو النشوز المخيف على كيان العائلة أو إضاعة لحقه فقط وكما فصلناه على ضوء آية نشوزهن.

إذا فليس خوف النشوز احتماله ولا سيما بحق من لا يحتمل في حقه نشوز ، فالرواية القائلة بحق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيلتها الغائلة ناشزة (١) ذلك! وليس الدفاع عن النشور مما يختص بالبعولة : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) بل (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.).

وهنا «جناح» سلب للجناح المزعوم بحق المرأة المظلومة كما تقوله الجاهلية الظالمة أن ليس لها أية فاعلية في الدفاع عن حقوقها في حقل الزوجية وكأنها ـ فقط ـ متاع أو حيوانة لا يحق لها ما للإنسان من حقوق.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٣٢ ـ أخرج ابن سعد وابو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ الى من هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يا رسول الله يومي هو لعائشة فقبل ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالت عائشة : فأنزل الله في ذلك (وَإِنِ امْرَأَةٌ ..).

٣٦٤

ومن إصلاحها ـ كاصلاحه ـ أن تعظه وتهجره في المضاجع أو أن تضربه أخيرا إن استطاعت أمرا بمعروف ونهيا عن منكر ، ولكنها لموضع ضعفها وعدم إمكانيتها لمثلث الإصلاح لم تؤمر به صراحا ، بل أجمل عن إصلاحها إياه فأدمج في إصلاحه : (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أمرا لهما أن يتعاونا في ذلك الإصلاح ، دون إفساد ولا تفارق (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) مما سواه.

وهنا «إعراضا» بعد «نشوزا» يعني واقع الانقطاع عن تكاليف الزوجية أن تذروها كالمعلقة ، ف «نشوزا» هو الرفع عن تطبيقها كاملة أن يأتي ببعض ويترك بعضا ، ف «إعراضا» هو تمام النشوز و «نشوزا» هو بعضه بجامع التخلّف والترفّع عن واجبات الزوجية عشرة ونفقة أماهيه.

ومن الإصلاح بينهما أن يتراضيا على التخفيف عن حقها مغبّة بقاءها بحالها دون طلاق ، فقد كان يخيّل إلى الزوجين أن المصالحة على حق من حقوق الزوجية محرمة لأنها ثابتة عليهما كما هي ثابتة لهما ، فلا جناح ـ منعة عن الفراق ـ أن يتصالحا عن بعض حقوقها (١).

وعلى أية حال فلا بد من إصلاح النشوز المخيف من الزوجين أو أحدهما ، بمحاولة كريمة تقضي عليه أو تخففه.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٨ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال سألته عن قول الله تبارك وتعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ ..) فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها : إني أريد أن أطلقك فتقول له : لا تفعل إني أكره أن تشمت بي ولكن أنظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعني على حالتي وهو قوله تبارك وتعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) وهو هذا الصلح.

وفيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال سألته عن قول الله جل أسمه (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ ..) قال : هذا يكون عنده المرأة لا تعجبه فيريد طلاقها فتقول له أمسكني ولا تطلقني وأدع لك ما على ظهرك وأعطيك من مالي وأحللك من يومي وليلتي فقد طاب ذلك كله.

٣٦٥

ذلك «والصلح» خير مطلق كما هو خير من الطلاق ـ استئصالا للنشوز ـ وخير من النشور ، فهو في مثلث من الخير ف «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما» (١).

فالحقوق الأنثوية التي يصلح الصّلح عليها صالحة للصلح ، وأما التي لا يصلح فلا.

ولأن الصلح خير فلا يصلح من أحدهما شح يصد عن الصلح ولكن (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) والحرص على المشتهيات مالا ومشاعر مترسية في الحياة الزوجية ، أو تعرض اسباب تستثير ذلك الشح الدفين في نفس الزوج على زوجته ، فقد يكون تنالها عن شيء من صداقها أو نفقتها أو ليلتها ـ إن كانت له زوجة أخرى ـ فإرضاء لهذا الشح تستبقى معه عقدة النكاح ، حيث يسمح لها التنازل عن حقوق لها مفروضة عليه لصالحها.

ففي خوف نشوز البعل على الزوجة المحاولة الصالحة للصدّ عنه تنازلا عما يجوز من حقها ، وعلى بعلها أن يتسامح معها فلا يشحّ في استئصال حقوقها إبقاء عليها فلا يطلقها.

ولأن الرجل أقدر من المرأة على تخفيف شحّه ، وهي المسكينة تظل تحت ظله ورعايته ، فعليه أكثر مما عليها من التنازل في الصلح وحتى إذا كانت هي الناشزة فضلا عن نشوزه :

(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) هتافا صارخا للنفوس المؤمنة ألا تطيش في جوّ الإصلاح ، ثم ولا يعني الإصلاح إلا وسط

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٣٣ ـ أخرج الحاكم عن كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : ...

٣٦٦

الأمر بين الأمرين ، دون انحياز إلى جانب والآخر قاحل بلا نصيب ، فالإحسان هو العطف إلى جانب الزوجة والتقوى هي عن الإجحاف بها عدلا في الإصلاح.

إحسانا بحقها وتقوى الله في مصالحتها ، دون أن يحكمه الشح فيما يشتهيه فيفتدي بها لشهوته ، بل عليه ملازمة الإحسان بحقها وتقوى الله في الحقوق التي قررها بينهما.

ولأن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها فلا يتطلب من البعولة العدل بين النساء في الحب والرغبة ، بل الواجب هو العدل في القسم والنفقة :

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢٩).

«لن» هنا لا تحيل العدل المفروض بين النساء (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) كما يقول قوّالون ، إنها تحيل سماح تعدد الزوجات لأن طليق العدل بينهن مستحيل ، بل الآية تقتسم العدل إلى مستحيل غير مفروض وهو العدل في الحبّ ، وإلى مفروض وهو سائر العدل عمليا في حقل القسم والنفقة.

وميل الرجل «عن» و «إلى» بين نساءه قد يكون قلبيا لا حول عنه فغير محظور(١) أم هو عملي كل الميل ، استئصالا عن بعض وإيصالا إلى

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٨ علي بن إبراهيم عن أبيه عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال : سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال له أليس الله حكيما؟ قال : بلى هو أحكم الحاكمين قال : فأخبرني عن قوله عز وجل (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أليس هذا فرض؟ قال : بلى قال : فأخبرني عن قوله عز وجل (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل الى المدينة الى أبي عبد الله (عليه السّلام) فقال : يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة؟ قال ـ

٣٦٧

بعض (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ظاهريا الى الباطني (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) لا ذات بعل ولا خلية تتزوج ، بل ميلوا بعض الميل وهو الحب غير المستطاع التسوية فيه بين المحبوبين.

فالعدل في القسم والنفقة هو واجب بين النساء بطبيعة الحال ، وعند خوف نشوز البعل يأتي دور الإصلاح ، صدا عن فورة النشوز وثورته إلى تطليقها أو أن يذرها كالمعلقة ، فتتنازل هي عن بعض حقوقها عليه ، وأما أن يصلحا على أن يذرها كالمعلقة فصلح محظور منكور يخالف كتاب الله وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

(وَإِنْ تُصْلِحُوا) بينكم وبين أزواجكم في نشوز مخيف منكما أو من أحدكما «وتتقوا» الظلم في الإصلاح فإنه إفساد من ناحية أخرى ، فإن هضم كافة الحقوق الأنثوية من الزوجة مصالحة لإبقائها في الزوجية إفساد لها وطغوى عليها.

ولكن (إِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) غفورا عما تفلّت بالمصالحة من حقوق الزوجة ، رحيما ما كان الإصلاح غير مفرّط بحقها أن يذرها كالمعلقة ، فإنما قدر المستطاع من الطرفين ، فلا يجبر الرجل على غشيان امرأته المرغوب عنها قدر غشيانه امرأته المرغوب فيها ، فإنه غير مستطاع كما التسوية في الحب ، ثم المستطاع غير المرغوب الذي يصعب عليه تطبيقه هو مورد الإصلاح

__________________

ـ نعم جعلت فداك لأمر أهمني ان ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء قال : وما هي؟ قال فأخبره بالقصة فقال له أبو عبد الله (عليه السّلام) أما قوله عز وجل «فانكحوا ...» يعني في النفقة وأما قوله (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ...) يعني في المودة فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال : «والله ما هذا من عندك» وفيه في تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في الآية قال : في المودة.

٣٦٨

على القدر المتوافق عليه.

فغير المستطاع عن بكرته غير مفروض ، والمستطاع المرغوب لا نزاع فيه ، إنما المستطاع غير المرغوب فيه هو المتصالح عليه خوفا عن الفراق أو أن يذرها كالمعلقة ، وهنا «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» (١).

فحين تخشى المرأة أن تصبح مجفوّة حيث تؤدي هذه الجفوة والجفاء إلى الطلاق ، فليس جناح (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) وسطا بين الطلاق وكامل حقوق الزوجية.

فالصلح ينسم على القلوب المتقلبة التي دبت فيها الفجوة والجفوة نسمة من ندى الإبقاء على صلة الزوجية.

فالله الذي فطر الإنسان على ما فطر يعلم ميوله الطائلة ، فخطم عليها خطاما لتعديلها ، فحين يميل قلب الإنسان إلى زوجته الجديدة الشابة الجميلة ، ميلا لا حيلة في محوه أو تعديله ، فالإسلام هنا لا يحاسبه على ذلك الميل الذي هو قضية فطرته إذ لا يملك القضاء عليه ، بل هو يقرّه عليه أن (لَنْ تَسْتَطِيعُوا ..) ولكنه يأمره بما يستطيعه من مظاهر العشرة (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٣٣ عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ... وفي تفسير الفخر الرازي ١١ : ٦٨ وروى ان عمر بن الخطاب بعث الى أزواج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمال فقالت عائشة : الى كل أزواج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث عمر بمثل هذا فقالوا : لا ، بعث الى القرشيات بمثل هذا والى غيرهن بغيرة فقالت للرسول ارفع رأسك وقل لعمر : ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعا.

٣٦٩

ظاهره إلى باطنه ، فتحرم الأخرى عن كل حقوق الزوجية (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ).

ذلك ولقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعدل بين نساءه فيما يملك فكان يقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (١).

ذلك فيما أمكنت العدالة المستطاعة ، فأما إذا يخافان أن ألّا يقيما حدود الله أو يخاف هو أو تخاف هي فهنا يأتي دور الفراق رغم أنه أبغض ، للفراق عن ترك حدود الله لولا الطلاق ، فالإسلام ليس ليمسك علقة الزوجية بالسلاسل والأغلال مهما بلغت بها الحال تحليلا للحرام وتحريما للحلال ، فإنما يمسكها بالمودة والوئام ، أو يفرقها بالرحمة والحنان ، ولا عليهما أن يخافا فقرا أو ثغرا في الحياة بعد الفراق :

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) (١٣٠).

(يُغْنِ اللهُ كُلًّا) من حيث المال والحال أم والعيال (مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ) منذ خلق الخلق «واسعا» في القدرة والرحمة «عليما» بمواضع الحاجة.

إن الزواج الصالح يغني كلا من الزوجين ، فقد يخيّل إليهما أن الفراق يفرّق عنهما غناه الى عناه ، فهنا الله يعد المتفرقين بحكمه أنه يغنيهما بسعته ، بديلا عما يخشيان فراقه عنهما.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٣٣ ـ أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة قالت كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

وفي نور الثقلين ١ : ٥٥٩ عن الصادق عن آبائه (عليهم السّلام) أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقسم بين نساءه في مرضه فيطاف بينهن وروى أن عليا (عليه السّلام) كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى.

٣٧٠

فمن يطبّق واجبه في النكاح والفراق يغنيه الله تعالى ويعوّضه خيرا (١) وأما الذي يترك واجبه فلا عدة له من الله إذا كان ظالما فليستعد لوعده تعالى

ذلك! فقد نرى القرآن يحافظ على العدل ما أمكن للمكلفين ، إدراجا في درجاته حتى إذا خيف الظلم فحظرا حظرا.

فواجبات الزوجية هي ثابتة على عاتق الزوجين ، إلّا أن يتصالحا في التجافي عما يجوز التجافي عنه والتنازل فيه ، ومن ثم الطلاق إذا لم يجدا إلى الوفاق ـ حفاظا على حدود الله ـ سبيلا ، فأما الوفاق على دوام الزوجية تركا لبعض حدود الله فلا.

وليس التنازل في الإصلاح إلّا في الحقوق الصالحة للتنازل عنها ، دون حدود الله الثابتة ، فالتنازل عن حق المضاجعة الذي يخلّف التخلفات الجنسية ، وعن حق النفقة الواجبة الذي يخلف حرجا يوردها إلى موارد الهلكة نفسيا أو خلقيا ، وما أشبه هذه وتلك ، إن المصالحة عليها إفساد من نوع آخر لا يجبر أي كسر ، بل ويلزم المكسور على الكسر.

إنما المصالحة تختص بالحقوق التي ليس في تركها أو التخفيف عنها مشكلة أخرى محظورة في شرعة الله كتقليل المضاجعة والنفقة وما أشبه مما تتحمله الزوجة إبقاء على حياة الزوجية ، تقديما للأهم على المهم بشأنها.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٩ في الكافي بإسناده الى ابن أبي ليلى قال حدثني عاصم بن حميد قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) فأتاه رجل فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله (عليه السّلام) فسأله عن حاله فقال له اشتدت بي الحاجة قال ففارق ثم أتاه فسأله عن حاله فقال أثريت وحسن حالي فقال أبو عبد الله (عليه السّلام) إني امرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز وجل (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى ... وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وقال (إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).

٣٧١

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (١٣١).

«وقد جمع الله ما يتواصى به المتواصون من الأولين والآخرين في خصلة واحدة وهي التقوى أن اتقوا الله وفيها جماع كل عبادة صالحة وبها وصل من وصل إلى درجات العلى»(١).

فلأنه تعالى له ـ فقط ـ لا لسواه ما في السماوات وما في الأرض ، لذلك فله الوصية بالتقوى ولا تضره الطغوى حيث لا يخرج ما في السماوات وما في الأرض بها عن ملكه وملكه ، (وَكانَ اللهُ) قبل خلقكم وبعده «غنيا» عن تقواه «حميدا» في غناه ، فسواء عليه أن يتقى أو يطغى عليه ولا يضره كيدهم شيئا من ملكيته ومالكيته.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ١٣٢.

لقد كررت في هاتين ملكيته تعالى ومالكيته تأشيرا عشيرا لحق وصايته وتقواه أنهما لزام أن (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وأن كفر الخلق ليس يمس من كرامة ألوهيته في غناه وحمده ، وأنه الوكيل على كل شيء لا سواه.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) ١٣٣.

فليس له فيكم حاجة ولا عليه منكم من ضرر ، ف (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) عن الوجود «ويأت» بخلق «آخرين» يعبدونني لا يشركون بي شيئا «وكان الله

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٩ عن مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) مستدلا بهذه الآية.

٣٧٢

على ذلك قديرا» ولكنه لم يفعل ذلك حيث يأمن بأسكم وهو يريد ليبتليكم في هذه الأدنى.

ف (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٤ : ٢٠).

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ١٣٤.

فأحسن بمن يريد ثواب الآخرة وأعقل به حيث يعطى ثواب الدنيا مزرعة للآخرة وليست مزرئة عليها ، وأقبح بمن يريد ثواب الدنيا وأجهل حيث يحرم ثواب الآخرة ولا يعطى من ثواب الدنيا إلّا كما يريد الله ف (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ٢٠).

ف «من كانت الآخرة همته كفاه الله همته من الدنيا ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس» (١).

ذلك وقد يعني (ثَوابَ الدُّنْيا) فيما عناه أجر الدنيا على الصالحات ، نظرة

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٦٠ في كتاب الخصال جعفر بن محمد عن أبيه عن آباءه عن أمير المؤمنين (عليهم السّلام) قال : «كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضا كتبوا ثلاثا ليس معهن رابعة : ...» وفيه في نوادر الفقيه روى عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السّلام) قال : الدنيا طالبة ومطلوبة فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه منها ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى توفيه رزقه.

٣٧٣

للأجر العاجل على صالح العمل للآجل (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وهو الذي يؤتي مريد الثواب كما هو الصالح الصواب ، فإن أعطي قليلا في العاجل فله كثير الآجل ، أو إن يحرم عن ثواب العاجلة فله كل ثوابه في الآجلة ولا يرضى العاقل بثواب العاجلة عن الآجلة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) طلبات المريدين ثواب الدنيا «بصيرا» بما يصلح لهم ويصلحهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ

٣٧٤

وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ

٣٧٥

لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (١٤٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ١٣٥.

هنا رباط عريق بين هذه الآية وما تقدمها من الأمر بالقسط في اليتامى والنساء ، والمصالحة في حقل الزواج ، فآية الشهادة هذه ضابطة ثابتة في كافة حقولها دونما استثناء.

٣٧٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥ : ٨).

معاكسة التعبير بين الآيتين في (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) و (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) تفرض على الذين آمنوا القوامية لله في الشهادة بالقسط والقوامية بالقسط في الشهادة لله ، فهما معا قضية الإيمان بالله (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) تقديما لحق الله على باطلكم أو ما ترونه حقا لكم وهو باطل في ميزان الله.

والخبران المتعارضان في جواز الشهادة على الوالدين وعدم جوازه (١) معروضان على نص الوجوب في الآية (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ولا يقبل ذلك النص تقيدا بالميت منهما حيث الشهادة لله والقوامية بالقسط لا تتقيد بحال دون حال ، والأكثرية المطلقة من الشهادات هي على الأحياء ، و (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) تختص بالمشهود عليهم الأحياء ترحّما على فقير وانتفاعا من غني ، وإتباع الهوى المحظور في حقل الشهادة كما في سائر الحقول لا يقبل

__________________

(١) من الأخبار الموافقة للآية الكريمة خبر علي بن سويد عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال كتب أبي في رسالته الي وسألته عن الشهادة لهم : فأقم الشهادة لله ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم فإن خفت على أخيك ضيما فلا «الوسائل باب الشهادات ب ١٩ ح ٣).

وفي نور الثقلين ١ : ٥٦١ عن تفسير القمي قال أبو عبد الله (عليه السّلام): ان للمؤمن على المؤمن سبع حقوق فأوجبها أن يقول الرجل حقا وإن كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحق وخبر داود بن الحصين أنه سمع الصادق (عليه السّلام) يقول : «أقيموا الشهادة على الوالدين والولد ..» (الوسائل).

ذلك وأما الرواية الأخرى فلم نجدها بخصوصها اللهم إلا نقلا كما في النهاية في خبر لا تقبل شهادة الولد على والده ، ومثله في الفقيه ، وفي الخلاف نسب ذلك الى أخبار الفرقة.

أقول : ولو كانت هنالك أخبار متواترة بالمنع لطردت لمخالفة القرآن.

٣٧٧

التقيد بحال دون حال كما اللّي في الشهادة أو الإعراض عن حق الشهادة محظوران على أية حال.

فنص الآية من جهات عدة يطرد الرواية المختلقة في المنع عن الشهادة على الوالدين ، مهما أفتى بها من لا يؤصّل القرآن بل ويستأصله في الأحكام وسواها!.

وهنا يتقدم (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) على (شُهَداءَ لِلَّهِ) حيث الشهادة الصالحة لله في كل حقولها تتطلب القوامية بالقسط ، كما هناك معاكسة التقدم لمكان أن الشهادة بالقسط تتطلب قوامية لله ، فتلك الشهادة الصالحة الكريمة هي من خلفيات القوامية لله بالقسط.

والقسط هو فضل فوق العدل ، وقد فرضه الله تعالى في القوامية والشهادة لله ، وهما من قضايا الإيمان الصالح.

ثم (شُهَداءَ لِلَّهِ) هنا كما (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) هناك هي الشهادة بأمر الله لوجه الله ، وقد تعم تلقي الشهادة لله وإلقاءها لله ، شهادة طليقة لحضرة الربوبية دونما رعاية إلّا حق الله لا سواه ، ولا يعارض حقّ الله حقّ أحد سواه فضلا عن باطله أن تترك تلقي الشهادة وإلقاءها لنفسك أو الوالدين.

إذا ف (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) حالكونكم (شُهَداءَ لِلَّهِ) كما في سائر الحالات(١).

(وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا يبرّر ترك الشهادة لله أن المشهود عليه أوله غني يستفاد منه أو فقير يستفيد ، والشهادة تمنع تلك الفائدة عن الغني أو للفقير ف «إن يكن» المشهود

__________________

(١) نصب «شهداء» اما على الحالية أو الوصفية ل «قوامين» أم هي خبر ثان ل «كونوا».

٣٧٨

عليه أوله (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) لست أنت أولى بهما حفاظا على مصلحة لهما (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) فإنه هو وليهما ووليكم وهو الآمر أن تكونوا شهداء لله لا لأهوائكم أو مصلحيات تهوونها (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) عن الشهادة لله ، أو عن أن تعدلوا في الشهادة لله (وَإِنْ تَلْوُوا) في الشهادة ليّا لغني أو فقير «أو تعرضوا» عن الشهادة لله (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) لا تخفى عليه خافية.

فلا غنى المشهود عليه أوله يبرّر اللّيّ في الشهادة له أو عليه أو الإعراض عنها طمعا في غناه مهما ينفق في سبيل الله ، ولا فقره بالذي يبرّر الشهادة لصالحه سلبا أو إيجابا ترحما عليه (١) ففي لي الشهادة أو الإعراض عنها حين تكون على

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٦١ في كتاب الخصال عن أبي عبد الله (عليه السّلام) «ثلاثة هم أقرب الخلق الى الله تعالى يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه الى أن يحيف على من تحت يديه ورجل مشى بين إثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعرة ورجل قال الحق فيما له وعليه» وفيه عن الخصال عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليهما السّلام) ان لله تعالى جنة لا يدخلها إلا ثلاثة رجل حكم في نفسه بالحق.

وفي الدر المنثور ٢ : ٢٢٤ ـ أخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال نزلت في النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان حلفه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير».

أقول : «كان حلفه مع الفقير» لا يعني أنه أراد أن يحكم للفقير لفقره تعطفا عليه قبل أن يسمع الى الطرفين ، فإنما كانت رجاحة ـ لو كانت ـ في نظره لمجرد الفقر فأزال الله عنه تلك الرجاحة ووجهه الى حاق الحق ، ولم يكن ليحكم إلا بالحق ، فإنما هو من قبيل أياك أعني وأسمعي يا جاره.

ذلك! وإذا كان بعيثه عبد الله بن رواحة لا ينحرف عن الحق قيد شعرة فهل هو ينحرف أو يحاول ، فقد بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة حسب عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد فتح خيبر ، ان حاول اليهود رشوته ليرفق بهم فقال لهم : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ولأنتم والله أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم فقالوا : «بهذا قامت السماوات والأرض» ـ

٣٧٩

نفسه أو الوالدين والأقربين تقديم للنفس ومن يتعلق بها على الله وذلك إشراك بالله أو إلحاد في الله ومشاقة في دين الله.

وترك الشهادة الحقة على الوالدين خوفة عن عقوقهما إيجاب لعقوق الله وحطم لحقوقه ، وهل الوالدان إلهان من دون الله حتى تراعيهما في التخلف عن شهادة الله تقديما لهما على الله؟ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أن تقدّم خلق الله على الله!.

أجل وإن القوامية بالقسط شهادة لله لا سواه أمانة كبرى في كل حال ومجال ، يتساوى في حق الشهادة له أو عليه المؤمن وسواه والقوي والضعيف ، الغني والفقير ، العدو والصديق ، حيث الشهادة حسبة لله وتعامل مع الملابسات المحيطة بكل عناصر القضية ، تجردا عن كل تميل أو هوى أو مصلحية إلا رعاية حق الشهادة لله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أو التعطّف على قوم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) في الشهادة «اعدلوا» على أية حال لكم أو عليكم ، لعدوكم على حبيبكم أماذا (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وليسود العدل والتقوى كل مجالات الحياة وجلواتها.

ذلك رغم صعوبة المزاولة لحق الشهادة عمليا ، فإن إدراكها مرّ ومحاولتها فضلا عن مزاولتها أمرّ ، ولكن المنهج الإيماني يجنّد النفوس المؤمنة أن تخوض

__________________

ـ أقول : وهذه حقيقة ينبغي أن تتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جرت وبالإجراءات القضائية التي استحدثت ، وبالأنظمة والأوضاع القضائية التي نمت وربت فتعقدت ، فيحسبون أن هذا كله أحرى بتحقيق العدالة وأضمن مما كانت في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة في تلك القرون الخالية البعيدة ، وان الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة.

وليس معنا هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات ولكن للروح التي وراءها أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها.

٣٨٠