الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

ذلك وكما يفضل مراجع الدين على المقلدين بفضل العلم ومن المقلدين من هم أفضل منهم في التقى ، فإنما ذلك فضل في المسؤولية أمام الآخرين حمّلها المفضلون ، فبقدر ما حملوها كان لهم فضل كما التابعون لهم فضل قدر اتّباعهم ، ثم الله شهيد على ما يعملون فيؤتي كلا قدر فضله في سعيه دون سعيه في فضله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

قوامية الرجال على النساء هي في صيغة أخرى ولايتهم عليهن حفاظا على كرامة الأنوثة وكرامة العائلة الأمينة ، فليست هذه القوامية والولاية للرجال على النساء إلا في حدود المصالح ، دون التأمّرات الخاوية والتعصبات الجافة الغاوية الهاوية ، إنما هي المصلحيات الأنثوية وعلى هوامشها الرجولية أن أصبح الرجال حراسا عليهن يحرسونهن عن قصورات وتقصيرات ، وعن سراق الجنس.

فتلك الولاية ليست على الإطلاق والفوضى الجزاف ، إنما هي كسائر الولايات الإسلامية على المولّى عليهم تابعة للمصالح ، دون أنانية وتأمّر كحظوة لقبيل الرجال بذلك التّراس والولاية ، وإنما عليهم الحفاظ عليهن بما حفظ الله كما عليهن الحفاظ عليهم بما حفظ الله ، دونما زائد على أمر الله ولا ناقص ، وما قواميتهم عليهن ولاية إلا كولاية كل قوي على ضعيف في ثقافة أو عقيدة أو خلق أو عمل صالح دونما فارق بين المؤمنين والمؤمنات ف (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وليست قوامية الرجال على النساء كضابطة دون معاكسة إلا للأكثرية الساحقة من الطاقات الرجولية الصالحة المصلحة ، ولا سيما قوة البنية البدنية والروحية والمالية.

وليس فحسب أن قوامية الرجال على النساء لا يفضلهم عليهن في حساب الله هنا ويوم الحساب ، بل وهذه المسؤولية حمل عليهم وبلاء قل من ينجح فيها

٤١

والساقطون كثير ، والنساء أقل مسئولية منهم فهن أنجح وميزانيتهن ـ إذا ـ أرجح ، وهن في يوم الحساب أفلح ف «إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر عقولهم» والرجال أعقل فمسؤولياتهم أعضل فحسابهم أدق وأشكل ولا يظلمون فتيلا.

وليس انقسام المسؤوليات بين قبيلي الرجال والنساء إلّا حسب المصالح الفردية والجماعية وقدر الأقدار النفسية والطاقات البدنية وحسب مختلف العقليات.

فالستر عن جمال الأنوثة واجب على النساء دون الرجال قضية السياج على عفافهن من سراق الجنس ولا سرّاق للرجال كما للنساء.

والنفقة واجبة على الرجال للنساء ، دون العكس للقوة والعقلية الراجحة فيهم دونهن ، وحفاظا على كرامتهن عن الخلط بالرجال في متسع الجماعات.

وليس عليهن جمعات ولا جماعات ولا كل ما يقتضي من تلكم الاختلاطات والضغطات رعاية لضعفهن وإبعادا لهن عن المخالطات ، وصرفا لهن الى المصالح المنزلية والتربوية للأولاد.

وليس لهن قضاء ومرجعية الفتوى مهما بلغن مبالغ العلم والتقوى قضية الانعطافات الأنثوية والعطوفات والتأثرات بمؤثرات قضية الرحمة الراجحة فيهن وأن تلك المناصب تقتضي جماع المراجعات والاختلاطات والمعاركات ، ولم يكتب عليهن الجهاد ـ وإن لم يمنعن عنه ـ لأنهن تلدن الرجال الذين يجاهدون ، فالأنثى مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها وكيانها العضوي والنفسي ، ولإعداد الرجال للجهاد وكل متطلبات الحياة البطولية ، فهي والدة ومربية أنفع منها مجاهدة مقاتلة ، على ضعفها وعدم تحملها المعارك الدموية ، التي يلقي الجندي بنفسها في أخطر مهالكها بمنفجر القنابل.

٤٢

فحين تحصد الحرب الرجال تبقى النساء محاور لإنتاج ذرية تعوض الفراغ ، وليس الأمر كذلك حين تحصد النساء مع الرجال ، فرجل واحد بإمكانه إنتاج ذرية كثيرة من نساء عدة ولا عكس ، فهن اللّاتي يملأن الفراغ الذي تتركه المقاتل بعد فترة من الزمن ، ولكن ألف رجل ولا آلاف لا يملكون أن يجعلوا امرأة واحدة تنتج معشارات ذلك النتاج.

وما هذا إلّا بابا واحدا من أبواب الحكمة الربانية في عدم فرض الجهاد على النساء ، صحيح أن قضية الاستنفارات العامة مشاركة النساء مع الرجال في الحروب كما شهدت بعض المغازي الإسلامية آحادا من النساء المقاتلات والمجرحات ، ولكنها ندرة نادرة ، بين كثرة قاهرة ، لا تحسب بشيء.

وعلى الجملة في قوامية الرجال على النساء في الأغلبية الساحقة تنظيم لمؤسسة الزوجية منعة عن كل احتكاك هي قضية الشركة في حقل واحد منزلي ، ردا الى حكم الله وردا عن حكم الهوى ، صيانة سليمة عن كل تفكّك وتفسخ وانحلال ، وحماية لها عن النزوات الأنثوية الطائشة ، وعلاجا لها إذا حصلت في حدود داخلية مرسومة في هذه الآيات وأضرابها ، ومن ثم الإجراءات الخارجية حين لا تنفع الداخلية ، وتهجم الأخطار على كيان العائلة التي تضم الفراخ الناشئة إضافة الى الزوجين.

وإذا كانت المؤسسات الأخرى ـ وهي أقل شأنا وأرخص سعرا ـ لا يوكل أمرها الرئيسي إلا للقوامين ، فبأحرى أن تتبع هذه القاعدة العقلية الصالحة في مؤسسة الأسرة التي هي المنشأ الأصيل لسائر المؤسسات والمجتمعات ، والتي تنشئ أثمن عناصر الكون وهو العنصر الإنساني السامي.

فقضية الحكمة الربانية تجاه المرأة التي تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال ، أن تحمّل مسئولية القوامية للرجال عليهن ، توفيرا للحاجيات

٤٣

الضرورية لها ، والحماية الدائبة عليها ، كي تنفرغ لكامل مسئولياتها الخطيرة الوافرة أمام الولائد والناشئة ، دون أن تحملها ـ على حملها وعبئها ـ العمل الجاد والكد الماد للحصول على سؤل المعيشة ، تحميلا عليها ـ على ضعفها وضعف مسئولياتها ـ أن تحصل على الحاجيات المعيشية.

وهذه القوامية التكوينية والشرعية للرجال على النساء مشروطة بشروط عاقلة عادلة لا حول عنها ولا تحويل أو تخويل ، فلكل من الرجل والمرأة مسئولية تجاه الاخر ، وهما كأعضاء نفس واحدة يحملان وحدة مصلحية في الأسرة مهما اختلفت أبعاد وأشكال هذه المسؤوليات كما تختلف مسئوليات أعضاء الإنسان ولكنها تحكمها روح واحدة واتجاه واحد لصالح المجموعة.

وحين تتخلف الجاهلية القديمة أو الحديثة عن هذه القوامية الصالحة الى ما تهواه الأنفس نلمس تدهورا سحيقا وانهيارا محيقا فدمارا وبوارا للقبيلين على سواء.

نجد حين تهتز سلطة القوامة الصالحة في الأسرة أو تختلط معالمها أو تشذ عن قاعدتها تتخربط الأسرة وتهوى الى هوات السقطات واللطمات التي لا محيد عنها.

فقد تنقسم النساء ـ كما الرجال ـ الى صالحات وطالحات ، ولكلّ دوره في الحقل التربوي والمسؤولية العائلية :

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ ..)

الصالحات في الحقل الأنثوي ككل وفي البيئة المنزلية زوجية وأمومة ، هن : (قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ).

«قانتات» لله ، قانتات لأمر الله في ظلال قوامية الرجال في الحدود المقررة

٤٤

في شرعة الله ، ولأن القنوت هو الطاعة عن طوع وإرادة ورغبة ومحبة ، لذلك لم يبدل عنها ب «طائعات» فإنها طليقة في أبعاد الطوع رغبة وسواها ، محبة وسواها.

لذلك نجد القنوت في سائر القرآن أعلى محتدا من الطاعة لأنها أخص منها : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً ..) (٣٣ : ٣١) حيث العمل الصالح هنا من خلفيات القنوت لله ورسوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٣ : ٤٣) ـ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) (٣٩ : ٩) ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦ : ١٢٠) ـ وعلى الجملة (سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢ : ١١٦) ـ (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

إذا فوسيط «قانات» بين (فَالصَّالِحاتُ ... حافِظاتٌ) هو الوسيط المحور الأصيل بينهما ، فالقانتة لله ولزوجها بأمر الله هي صالحة حافظة للغيب بما حفظ الله.

و (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) لا تختص بغيب الأزواج مهما كان من حلقات الغيب ، بل والأصل هو الحفاظ على غيب الألوهية ذاتا ، اعتبارا بحضوره ككل علما وقدرة وتدبيرا ، ثم الحفاظ في غيب الناس كما في حضورهم على أحكام الله ، ومن ثم الحفاظ في غيبة الأزواج على عفافهن وأعراضهم وأموالهما وسائر ما يجب الحفاظ عليه في شرعة الله.

(حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) : بحفظ الله لهن كما يردن قنوتا لله ، وبما حفظه الله منهن في شرعته عرضا ومالا ، حالا ومالا وعلى أية حال (١) ف «ما»

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٢ ـ أخرج الحاكم عن سعدان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ثلاث من السعادة المرأة تراها فتعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك والدابة تكون وطيئة ـ

٤٥

__________________

ـ فتلحقك باصحابك والدار تكون واسعة كثيرة المرافق وثلاث من الشقاء المرأة تراها فتسوءك وتحمل لسانها عليك وان غبت لم تأمنها على نفسها ومالك والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وان تركتها لم تلحقك باصحابك والدار تكون ضيقة قليلة المرافق» وفيه أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق حصين بن محصن قال حدثتني عمتي قالت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بعض الحاجة فقال أي هذه أذات بعل أنت؟ قلت : نعم ، قال : كيف أنت له ، قالت ما آلوه إلا ما عجزت عنه قال : «أنظري اين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك» وفيه أخرج الحاكم والبيهقي عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره ولا تخرج وهو كاره ولا تطيع فيه أحدا ولا تخشن بصدره ولا تعتزل فراشه ولا تضربه فإن كان هو أظلم فلتأته حتى ترضيه فإن قبل منها ونعمت وقبل الله عذرها وان هو لم يرض فقد أبلغت عند الله عذرها» وفيه أخرج البزار والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه» وفيه أخرج احمد عن عبد الرحمن بن شبل قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان الفساق أهل النار قيل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن الفساق؟ قال : النساء ، قال رجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) او لسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا؟ قال : «بلى ولكنهن إذا أعطين لا يشكرون وإذا ابتلين لم يصبرن» وفيه أخرج عبد الرزاق والبزاز والطبراني عن ابن عباس قال جاءت امرأة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن يصيبوا أجروا وان قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبلغني من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافها بحقه تعدل ذلك وقليل منكن من يفعله» وفيه أخرج البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة : النبي في الجنة والصديق في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة ورجل زار أخاه في ناحية المصر في الجنة ونساءكم من أهل الجنة الودود العدود على زوجها التي إذا اغضب جاءت حتى تضع يدها في يده ثم تقول : «لا أذوق غمضا حتى ترضى» وفيه أخرج البيهقي عن أنس قال جئن النساء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله أفمالنا عمل ندرك به عمل ـ

٤٦

هنا ذات وجهين مصدرية تعني بحفظ الله ، وموصولة تعني بالذي حفظ الله ، أي حفظه الله لهن من حقوقهن على الرجال ف (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢ : ٢٢٨) وعناية المصدرية هي من بعدين : بحفظ الله أياهن في شرعته ، وحفظه أياهن بتوفيقه وإراداته كما أردن قدرها وفيها مزيد.

(حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) لا ما حفظته الجاهليات والأعراف البعيدة عن شرعة الله ففي «حفظ الله» تتهاوى كل المحافظات الخاوية ، وكل الانهزامات الأنثوية أمام الضغطات الجاهلية على النساء ، فلا حفظ ـ إذا ـ ولا منعة في غيب أو حضور إلّا (بِما حَفِظَ اللهُ) كما لا حول عما حفظ الله.

فللنساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله ، كل التصرفات الصالحة في غيب الأزواج أو حضورهم ما لم يحظر عنه في شرعة الله ، وعليهم الرضا والتسليم لمرضات الله ، دون اختلاق أسر وحصر عليهن فيما لم يأذن به الله كما تعودته الجاهلية المتعصبة الرجالية في القرون الخالية وحتى الحالية.

هؤلاء هن الصالحات ، وأما الطالحات ، فهن بين ناشزات لا يخاف نشوزهن على البيئة العائلية ، لأنها نشوزات بسيطة يعفى عنها أم تزول أو تخفف بعظات بسيطات ، وبين ما يخاف ، ف :

__________________

ـ المجاهدين في سبيل الله؟ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مهنة أحدكم في بيتها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله. وفيه أخرج احمد عن أسماء بنت يزيد قالت مر بنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونحن في نسوة فسلم علينا فقال : «إياكن وكفران المنعمين قلنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كفران المنعمين؟ قال : لعل إحداكن تطول أيمتها بين أبويها وتعنس فيرزقها الله زوجا ويرزقها منه ماء وولدا فتغضب الغضبة فتقول : ما رأيت منه خيرا قط».

٤٧

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً).

هنا المفروض فرض واقع النشوز المخيف ، دون خوف وقوعه أو واقعه غير المخيف ، إنما (تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) خوف لا يصمد له ذو غيرة على أهله ، ولا يجوز السكوت عنه أن يصبر القوّام على زوجته مكتوف اليدين عما يرى من نشوزها المخيف على الحياة الزوجية في أيّ من النواميس الخمسة الواجب الحفاظ عليها على أية حال ولا سيما البيئة الزوجية التي تتبناها سائر البيئات الحيوية.

ولو كان الخوف هنا من وقوع النشوز مستقبلا لظهور أماراته حاليا لما كان ل (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) مكان فإن النشوز المظنون ولما يقع ليس عصيانا ، وكذلك «واضربوهن» فإنه الأخيرة من درجات النهي عن المنكر.

ومن النشوز المخيف «فاحشة مبينة» (١) تستحق هذه التأديبات الثلاث مترتبة تلو بعض ، وإن كانت هي الزنا وهي لا تتوب ففراق بطلاق أم دون طلاق كما فصلناه في آية النور : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢٤ : ٣) فإنها تخصص

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٥ أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص انه شهد حجة الوداع مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فحمد الله واثنى عليه وذكر ووعظ ـ إلى أن قال ـ : واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا الا وأن لكم على نساءكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فاما حقكم على نساءكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون وان حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن.

٤٨

آية النشوز بغير نشوز الزنا.

صحيح أن على الزوج عظتها علّها تتوب ، ثم هجرها في المضجع ثم ضربها ، ولكنها إن لم تؤثر فيها هذه العلاجات الوقائية لا يصل الدور بعد الى الحكمين ، حيث الحكم هنا مستفاد من آية النور أن الإبقاء على نكاح الزانية ، ولا سيما بعد هذه الوقايات غير المؤثرة ، إنه محرم على الزوج دونما نظرة لرأي الحكمين.

ذلك ، فلا يحل ضرب الزوجة بغير نشوز مخيف (١) كفاحشة أدبية أو

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٥٥ ـ أخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اضربوهن إذا عصينكم في المعروف ضربا غير مبرح ، وفيه أخرج عبد الرزاق عن عائشة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : اما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها اوّل النهار ثم يضاجعها آخره؟.

وفيه عن ابن أبي ذئاب قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا تضربوا إماء الله فقال عمر ذئر النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فطاف بآل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساء كثير يشكين أزواجهن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس أولئك خياركم» وفيه عن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخلى بينهم وبين ضربهن ثم قال : «ولن يضرب خياركم» وفي تفسير الفخر الرازي ١٠ : ٩٠ روى عن عمر بن الخطاب قال : «كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم فاختلطت نساءنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن أي نشزن واجترأن فأتيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلت له : ذئرت النساء على أزواجهن فاذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن «ولا تجدون أولئك خياركم».

أقول : أمثال قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا تجدون أولئك خياركم ، لا مورد له إلا فيما لا يجوز ضربهن ، وأما الضرب كعلاج وقائي ثالث حسب الآية فواجب دون ريب.

٤٩

عقيدية أو خلقية أو عرضية أو مالية أماهيه من فاحشة لا تتحمل في البيئة الزوجية ، ثم والتأديب في النشوز المخيف مترتب كما رتب الله ، فضلا عن غير المخيف أمّا يخاف وقوعه.

ثم «فعظوهن» هنا مبالغة في العظة فإنها في أصلها واجبة في أصل النشوز ، فهي في النشوز المخيف أوجب ، ولأن العظة مشروطة بالصالحة دعوة إلى خير وأمرا بمعروف ونهيا عن المنكر ، فإذا استطاعها الزوج بنفسه ، وإلا استفاد ممن له أهلية العظة البالغة.

فإن أفادت تلك العظة ، وإلّا (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) لا عن المضاجع ، بل «في المضاجع» أن تستدبروهن تركا لمحادثتهن ولحظوة الجنس مقدمة ونتيجة ، علّها تنتبه عن غيّها بعيّها ، فإن أفاد وإلا ، «واضربوهن» ضربا غير مبرح ، بل هو ضرب مهين ولحدّ ما موجع.

فلا يجوز ضربهن وهن يطعنكم بهجرهن في المضاجع ، ولا هجرهن وهن يطعنكم بعظتهن ، فلأنها تأديبات ثلاث مرحلية ، كل تالية بعد السابقة إذا كلّت ، لا يجوز الجمع بينها مهما بلغ الخوف من نشوزهن ذروته اللهم إلا تداوم العظة.

فقد لا تنفع العظة مهما استفلحت واستفحلت واستدامت لأن هناك هوى غالبة أو انفعالة جامحة أو استعلاء بجمال أو دلالا بمال أو منال ، أم أية عاذرة تنسيها أنها زوجة وتحت القيمومة الراشدة ، وشريكة مع زوجها في مؤسسة واحدة ، فهنا يأتي دور الإجراء الثاني : حركة استعلاء نفسية منه عليها ، قد تخضع لديها نزوتها وتخمد جذوتها ، أن تهجروهن في المضاجع ، تدليلا على أنهن لا يصلحن للمضاجعة.

فالمضجع هو موضع الجاذبية المغرية التي تبلغ فيها المرأة الناشزة المتعالية

٥٠

قمة سلطانها ، فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه أمام ذلك الإغراء فقد أسقط من يد المرأة الناشزة أقوى أسلحتها وأمضاها ، فلترجع ـ إذا ـ الى الملاينة والطاعة.

وإنها هجرة في أمكن محالها اتصالا وهي المضاجع ، لا هجرا أمام الغرباء يذل الزوجة دونما لزوم ، وحيث لا يبقى لها عرضا ووجاهة ، ولا هجرا أمام الأطفال الناشئة يورث في نفوسهم الشر والفساد ، فتزداد الزوجة ـ إذا ـ نشوزا واستعلاء ، فالمقصود هنا علاج النشوز دون الانتقام من الزوجة وإفساد الأطفال.

ولكن هذه الخطوة ايضا قد لا تفلح ، وهنا يأتي دور العلاج الأخير «واضربوهن» فليس كذلك ضربا للانتقام ، ولا أمام غيرها كالهجر ، بل هو ضرب من الضرب ليس فيه إبراح ولا جراح ، فإنما هو علامة أنها قد خرجت من الأدب الإنساني لحد الحيوان فلتصلح حالها لكي تستمر عيشتها مع ذلك الإنسان.

فهذه اجراءات متدرجة في علاج نشوزهن المخيف ، لا سواه من غير مخيف أو محتمل ، فكيف يجوز ضرب الزوجة المسكينة مخافة أن تنشز وإن قليلا ، وهي ـ إذا ـ تسمح بضرب الزوجات على أية حال إلا المعلومة عدالتها ، فإن كل ترفع عن واجبات الزوجية نشوز ، والأمر بضربهن وقبله هجرهن في المضاجع يقتضي إذا دائم الهجر والضرب قضية دوام الخوف من نشوز مستقبل.

وليست هذه الإجراءات إلّا للإصلاح بعد واقع الفساد المخيف ، دون أصله فضلا عن خوف وقوعه.

وهي ليست بخاصة للأزواج على زوجاتهم ، وإنما هي في الأغلبية الساحقة حيث يخاف نشوزهن ، فإن خفن ـ هن ـ ايضا نشوزهم فقد تجري

٥١

نفس الإجراءات بحقهم منهن مهما لم يصرح بتفاصيلها القرآن إلا إجمالا في آية النشوز الثانية: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٤ : ١٢٨).

فلأن النشوز المخيف في الأزواج أقل منه في الزوجات ، وأنهن لا يقدرن على ضربهم إذا اقتضى الأمر ، وأن في صراح إذنهن بضربهم فتح لأبواب هتكهم وإن لم يقتض الأمر ، لذلك بدّلت الإجراءات الثلاث هناك ب (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) هنا أن تعمل جهدها في إصلاحه مهما كان بمراجعة المراجع الشرعية.

ثم (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٩ : ٧١) تسمح لهن ـ إن استطعن ـ بكل هذه الإجراءات الثلاث فإنها من مراتب النهي عن المنكر مرحليا ، وحين يجوز أو يجب على المؤمنة أن تنهى أي رجل عن المنكر مهما انتهى الى ضربه ، بأحرى يسمح لها أو يفرض عليها قدر المستطاع أن تحقق النهي عن المنكر بحق زوجها الذي هو أحق وأحرى كما قال الله (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً).

فإن نجحت إجراءة من هذه وحتى الأخيرة فقد تم العلاج (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) حيث المجال هو مجال العلاج وليس الانتقام.

فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة ، حيث الغاية هي الطاعة وقد حصلت.

وهنا «عليهن» قد تختص بما سوى الأولى : العظة ، فانها ليست عليهن على أية حال اللهم إلا عظة آمرة ناهية لا مجال لها بعد الائتمار والانتهاء.

وبغي السبيل هو طلبه باغيا ظالما ، فما دمن ناشزات مخيفات فبغي السبيل

٥٢

هو جزاء وفاق ، وإذا أطعنكم فلا مجال لبغي سبيل.

وهنا «أطعنكم» ليست طليقة في كل طاعة لها إياه أنها واجبة دونما حدود ، وإنما هي الطاعة في المعروف كما عاهدهن الرسول (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وطبعا هو بالنسبة للبعولة واجبة المعروف المخيف تركه.

ولئن كلّت هذه الإجراءات الخاصة بين الزوجين دونما تظاهر وتجاهر ، فقد تأتي اجراءة رابعة هي خارجة عما عليهما فيما بينهما :

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) ٣٥.

(شِقاقَ بَيْنِهِما) تعم نشوزها أو نشوز أحدهما مهما كان المورد نشوزهن ، حيث الشقاق الذي يكل علاجه بين الزوجين هو بحاجة الى علاج من خارج البيئة الزوجية ، وهذه هي الضابطة في كافة العلاجات الوقائية ، فحين تكلّ العلاجات الشخصية فإلى علاجات خارجية دونما أية وقفة عما يستطاع من علاج.

أترى الخطاب في (إِنْ خِفْتُمْ ... فَابْعَثُوا) موجّه الى الزوجين؟ ولا يناسبه «بينهما ـ من أهله ـ من أهلها»!

أم هما الحكمان؟ وهما المبعوثان من أهليهما وليسا الباعثين!.

أم هما أهلوهما؟ ولا يناسبه «من أهله ـ من أهلها»!

أم هما أهلوهما؟ ولا يناسبه «من أهله ـ من أهلها»! إذا فهم أولياء أمور المسلمين المحول عليهم كل وصل وفصل في خلافات ومنازعات ، وهذا هو الصحيح ، أن يطلبوا من أهليهما انتخاب حكمين لأنهم أعرف بهما (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٥٦ ـ أخرج جماعة عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال : جاء رجل وامرأة ـ

٥٣

ولأن (شِقاقَ بَيْنِهِما) يفشو خبره بطبيعة الحال الى حكام الشرع ، فهم ـ بالأخير ـ هم الخائفون (شِقاقَ بَيْنِهِما).

وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي السامي حياة المشاقة الى الاستسلام لبوادر النشوز ، ولا المسارعة الى تحطيم مؤسسة الأسرة ما دام الى علاج سبيل ، فإن هذه المؤسسة التي هي الأساس لكل المؤسسات ، إنها عزيزة على الإسلام ، فكما أنها لا بد وأن تؤسس على الحائطة والمراقبة والحزم والعزم ، كذلك استمراريتها اللهم إلّا ألا يوجد سبيل إليها إلّا فصلهما.

ولان الحكم هنا ـ كما الحاكم في كافة المحاكمات الشرعية ـ مفروض عليه أن ينظر الى الطرفين على سواء ، والى مشاكلهما كما هي الواقعة حتى يستطيع الإصلاح إن أراداه ، فعلى الحكمين ـ إذا ـ أن يجتمعا في هدوء ، بعيدين عن كافة الانفعالات النفسية والرواسب الشعورية والملابسات المعيشية التي كدّرت صفو العلاقات بين الزوجين.

وأن يكونا حريصين على سمعة الأسرتين الأصيلتين ، إشفاقا على الناشئة الصغار ، حافظين على أسرار من الزوجين لا يزيد إبداءها إلا شقاقا فوق شقاق.

فهنا (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) وقد تعني ضمير التثنية في

__________________

ـ إلى علي (عليه السّلام) ومع كل واحد منهما فآم من الناس فأمرهم علي (عليه السّلام) فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما ، عليكما ان رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وان رأيتما أن تفرقا أن تفرقا قالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي وقال الرجل : اما الفرقة فلا فقال علي (عليه السّلام): «كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرب به» وفيه ١٥٧ ـ أخرج البيهقي عن علي (عليه السّلام) قال : «إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا» وفيه عنه (عليه السّلام) قال : الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرق.

٥٤

«يريدا» ـ إضافة الى الزوجين ـ الحكمين (١) فليس التوفيق بين الزوجين المشاقين إلّا على ضوء الإرادتين (٢).

فحين يريد الزوجان الإصلاح ولا يريده الحكمان ، أو يريده الحكمان ولا يريده الزوجان فكيف (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)؟ فإنما يوفق الله بينهما بتحضير أسبابه من الزوجين والحكمين حتى يزول الشقاق من البين (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح «خبيرا» بالصوالح ، لا يوفق بين المتخالفين إلا بتقديم أسباب الوفاق في هذا البين و (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

و «الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا وإن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز وإن جمعا فجائز» (٣) وقضية هذه المشيئة للحكمين أن يكونا مرضيين ، وموكلين من قبل الزوجين في إبقاء أو فراق ، إذ لا يملك الطلاق إلّا من أخذ بالساق.

وهنا في تذييل الآية ب (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) تهديد الأزواج وتضبيطهم عن التطاول بعد الطاعة ، أن بغي سبيل عليهن بغي عليهن والعلي الكبير فوقكم ناقم إن ضعفن عن الانتقام ، فإن كان قضية العلو والكبر مواصلة

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٥٧ عن علي (عليه السّلام) قال : الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرق ، وفيه عن ابن عباس (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) قال : هما الحكمان ، وفيه عن مجاهد (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) قال : اما إنه ليس بالرجل والمرأة ولكنه الحكمان يوفق الله بينهما ، قال : بين الحكمين ، وفيه مثله عن الضحاك.

(٢) في ضميري التثنية في «يريدا وبينهما» وجوه اربعة ١ ان يعنيا الحكمين ٢ أن يعنيا الزوجين ٣ أن يعني الاول الحكمين والثاني الزوجين ٤ أن يعني الاول الزوجين والثاني الحكمين ولكن التوفيق الصالح بينهما هو ان أراد الحكمان والزوجان إصلاحا فالله يوفق بين الحكمين والزوجين.

(٣) في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في قوله (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) قال : الحكمان ... أقول : ومضى مثله في الدر المنثور عن الامام علي (عليه السّلام).

٥٥

التأديب لكان الله هو الأولى بأمره وهو ناه ، وقضية العلو العال والكبر العادل أن يكتفى من تأديبهن ـ وهن ريحانه ولسن بقهرمانة ـ يكتفى بطاعتهن إياكم في المعروف.

صحيح أنه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ولكن الله هو الذي حكّم الحكمين بشأن الزوجين المشاقين والله من وراءهم رقيب ، وحكّم الحكام الشرعيين في حقن الدماء ، وصلاح ذات بين المسلمين ـ إذا ـ أحكم من حكم الحكمين ، إذا مضوا على حق العدل وعدل الحق(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٥٧ ـ أخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عباس قال : لما اعتزلت الحرورية فكانوا في واد على حدتهم قلت لعلي (عليه السّلام) يا أمير المؤمنين ابرد عن الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم فأتيتهم ولبست أحسن ما يكون من الحلل فقالوا مرحبا بك يا ابن عباس فما هذه الحلة؟ قال : تعيبون عليّ؟ لقد رأيت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحسن الحلل ونزل (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) قالوا : فما جاء بك؟ قلت : اخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وختنه وأول من آمن به واصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معه؟ قالوا : ننقم عليه ثلاثا ، قلت : ما هن ، قالوا : أولهن انه حكم الرجال في دين الله وقد قال الله : ان الحكم إلا لله ، قلت : وماذا؟ قالوا : وقاتل ولم يسب ولم يغنم لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماءهم ، قلت : وماذا؟ قالوا : محا اسمه من امير المؤمنين فإن لم يكن امير المؤمنين فهو امير الكافرين ، قلت : أرأيتم ان قرأت عليكم من كتاب الله المحكم وحدثتكم من سنة نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما لا تشكون أترجعون؟ قالوا : نعم قلت : اما قولكم انه حكم الرجال فإن الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ـ إلى قوله ـ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وقال في مرأة وزوجها (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب فيها ربع درهم؟ قالوا : اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم ، قال : أخرجت من هذه؟ قالوا : اللهم نعم ، وأما قولكم انه قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست ـ

٥٦

ذلك ، وليس للحكمين إلا خيرة الإصلاح كما خوّلا ، فقد يكون ذلك الإصلاح في الإبقاء وأخرى في الفراق ، و (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) تمحور إرادة الزوجين للإصلاح ، دون الحكمين فإن هذه الإرادة المصلحة محتومة عليهما ، مهما شملت إرادة الحكمين ـ أيضا ـ ف «إن» في الزوجين كما يريدان وهي في الحكمين كما حول إليهما وليس إلا إرادة الإصلاح قدر المستطاع.

ففي مربع المحتملات في ضميري التثنية ليست الصالحة إلا الجامعة بين إرادة الإصلاح وإرادة التوفيق لكلا الحكمين والزوجين ، فلا بد أن يريد الحكمان والزوجان الإصلاح حتى يوفق الله بين الزوجين بالتوفيق بين الحكمين.

وهنا مسائل حول النشوز والشقاق.

الأولى : هل تجب واجبات الزوجية على كل من الزوجين مهما نشز الآخر عما عليه؟ قد يقال : نعم سنادا الى رواية (١) ولكنه لا للآية : (وَلَهُنَّ مِثْلُ

__________________

ـ بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام ان الله تعالى يقول : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتهما شئتم أخرجت من هذه؟ قالوا : اللهم نعم واما قولكم : محا اسمه من أمير المؤمنين فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا فقال : أكتب : هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا : «والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال : والله إني رسول الله وإن كذبتموني» أكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي أخرجت من هذه؟ قالوا : «اللهم نعم فرجع منهم عشرون ألفا وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا».

(١) وهي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : أتت امرأة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت : ما حق الزوج على المرأة؟ فقال : «أن تجيبه إلى حاجته وإن كانت على ظهر قتب ولا تعطي شيئا إلا بإذنه فإن فعلت فعليه الوز وله الأجر ولا تبيت وهو عليها ساخط ـ

٥٧

الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإذا نشز عما لهن فلهن النشوز عما عليهن اعتداء بالمثل (١) اللهم إلا فيما لا يحل على أية حال كالفاحشة ، ولا تعني (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) إلا قواميتهم عليهن ، دون درجة الحقوق.

فقضية التقابل في حقوق الزوجين التعامل بنفس التقابل دون أن تترجح حقوق أحدهما على الآخر ، فحين لا ينفق عليها كما يجب ليس عليها أن تمكنه من نفسها ، كما أنها حين لا تمكنه نفسها ليس عليه نفقتها ، وقس عليه كل الحقوق المتجاوبة ، اللهم إلا الواجبات والمحرمات الثابتة فلا تجوز المقاصة فيها والاعتداء بالمثل عليها ، والرواية القائلة في نسبة حقوقهما «فمن أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال : زوجها ، قالت : فما لي عليه من الحق مثل ماله علي؟ قال : لا ولا من كل مائة واحدة ...» (٢) إنها مخالفة لصريح آية المماثلة (وَلَهُنَّ

__________________

ـ قالت يا رسول الله وإن كان ظالماً؟ قال : نعم ، (الكافي ٥ : ٥٠٨).

(١) وتدل عليه رواية سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) ان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى به من بعدي قيل له : ما معنى ذلك؟ فقال : قول النبي : من ترك دينا أو ضياعا فعلي ومن ترك مالا فلورثته فالرجل ليس له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر النفقة والنبي وامير المؤمنين ومن بعدهما (عليهم السّلام) ألزمهم هذا فمن هناك صاروا اولى بهم من أنفسهم وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنهم امنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم «(الكافي ١ : ٤٠٦ باب ما يجب من حق الإمام على الرعية».

(٢) هي رواية الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : جاءت امرأة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما حق الزوجة على الزوج؟ فقال لها : أن تطيعه ولا تعصيه ولا تصدق من بيته إلا بإذنه ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها وإن كان على ظهر قتب ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه وإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماوات وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها فقالت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمن أعظم الناس حقا على المرأة ... فقالت : ـ

٥٨

مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ولا تعني تلك الدرجة إلّا القوامية والحراسة وهي مما ترجح لها حقا عليه دونما معاكسة.

ثم ولا طاعة عليهن لهم إلّا في معروف دون كل طاعة فوضى جزاف لا تحافظ على حق ولا تمنع عن باطل ، في حقل الزوجية أم بصورة طليقة.

ف (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) التي تفرض مماثلة الحقوق المتقابلة بين الزوجين ليست لتقبل الاستثناء ب (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) بل و «درجة» ليست إلا درجة القوامية والحراسة عليهن هي حق لهن زائد عليهم قضية القوة البدنية والعقلية الزائدة و (بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ).

ثم (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وأضرابها من التوصيات بحقهن تجعلهن أرفع حقا لضعفهن وقوتهم ، لا نقضا لمماثلة الحقوق المتقابلة ، وإنما رعاية لضعفهن.

الثانية : ليس للحكمين التفريق بينهما إلا إذا كلّ الإصلاح بينهما ككلّ وأذن الزوج في الطلاق والمرأة في البذل لمكان التكاره وهو مورد طلاق المباراة. أو يستأمرا الزوجين في سماح التوفيق والتفريق (١).

__________________

ـ والذي بعثك بالحق لا يملك رقبتي رجل ابدا» (الكافي ٥ : ٥٠٧ والفقيه باب حق الزوج رقم (١)).

أقول : هذه من المختلقات الزور التي اختلقها رجال الغرور ونسبوها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تغطية على فرعناتهم الرجالية ، وهي مخالفة للقرآن من جهات عدة.

(١) ويدل عليه موثق سماعة قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله تعالى (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) أرأيت إن استأذن الحكمان فقال للرجل والمرأة : أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرجل والمرأة : نعم واشهدا بذلك شهودا عليهما يجوز تفريقهما عليهما؟ قال : نعم ولكن لا يكون الأعلى طهر من المرأة من غير جماع من الزوج ، قيل له

٥٩

وقضية «حكما» طليق الحكم مع إرادة الإصلاح ، ولكنه مشروط بتخويل الزوجين ذلك الإطلاق في التوفيق والطلاق ، فإن يريدا إصلاحا لا يجوز لهما الطلاق وإن لم يرداه جاز إن كلت كل المحاولات في الإصلاح.

كل ذلك في فاحشة غير الزنا أم وغير فاحشة من النشوز المخيف ، فإن فاحشة الزنا دون توبة عنها تفرض الطلاق فلا يصل الدور فيها الى الحكمين.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣١) إنها أجمع آية في القرآن في حقل الإحسان حيث تحتضن كل من يجب الإحسان إليه من صنوف المؤمنين ، ما يربطهم كلهم برباط الإحسان.

ولا يعني الإحسان ـ فقط ـ إحسان المال ، بل وإحسان الحال على أية حال أن يكرّس المؤمن كل طاقاته للإحسان الى المجتمع الإسلامي الموزّع المقسم هنا الى تسع.

هنا ـ كما في نظائرها الأخرى ـ تلحيقة للإحسان بالوالدين وثمان أخرى

__________________

ـ أرأيت ان قال أحد الحكمين فرقت بينهما وقال الآخر : لم أفرق بينهما؟ فقال : «لا يكون تفريق حتى يجمعا جميعا على التفريق وإذا اجتمعا على التفريق جاز تفريقهما» (الكافي ٦ : ١٤٦).

وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهم السّلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل : ... قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا» (المصدر).

وروى المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح وفي آخر في الحسن عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال سألته عن الآية .. قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا الرجل والمرأة ويشترطا عليهما ان شاءا جمعا وإن شاءا فرقا فإن جمعا فجائز وإن فرقا فجائز» (الكافي ٦ : ١٤٦ والتهذيب ٢ : ٢٧٨ والفقيه باب الشقاق رقم ٢).

٦٠