الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

لذلك «كان الرأي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صوابا من دون خطإ لأنه وحي الله وقد جرى في الأوصياء (عليهم السّلام) (١).

ذلك وقد أكده الله بما أمره أن (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٥ : ٤٨) حيث يشمل بما أنزله في كتابه وما أراه الله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) (٤٩).

ولذلك ربط الله الإيمان به بأن يحكّموه فيما شجر بينهم (فَلا وَرَبِّكَ لا

__________________

ـ وهي جارية في الأوصياء (عليهم السّلام).

وفي تفسير البرهان ١ : ٤١٣ بسند متصل عن موسى بن أشيم قال قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) إني أريد أن تجعل لي مجلسا فواعدني يوما فأتيته للميعاد فدخلت عليه فسألته عما أريد أن أسأله فبينما نحن كذلك إذ قرع رجل الباب فقال : ما ترى هذا رجل بالباب؟ فقلت جعلت فداك اما أنا فرغت من حاجتي فرأيك فرأيك فاذن له فدخل الرجل فجلس ثم سأله عن مسائلي بعينها لم يحزم منها شيئا فأجابه بغير ما اجابني فدخلني من ذلك ما لا يعلم إلا الله ثم خرج فلم يلبث إلا يسيرا حتى استأذن عليه آخر فاذن له فجلس ساعة فسأله عن تلك المسائل بعينها فأجابه بغير ما اجابني وأجاب الاول قبله فازددت غما حتى كدت أن أكفر ثم خرج فلم يلبث يسيرا حتى جاء ثالث فسأله عن تلك المسائل بعينها فأجابه بخلاف ما أجابنا أجمعين فأظلم علي البيت ودخلني غم شديد فلما نظر إلي ورأى ما قد دخلني ضرب بيده على منكبي ثم قال يا ابن أشيم ان الله فوض إلى ابن داود ملكه فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) وإن الله عز وجل فوض إلى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر دينه فقال (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وان الله فوض إلينا من ذلك ما فوض إلى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(١) المصدر في كتاب الإحتجاج عن أبي عبد الله (عليه السّلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السّلام) لأبي حنيفة : وتزعم أنك صاحب رأي وكان .. لأن الله تعالى قال : لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل ذلك لغيره.

وفي الدر المنثور ٢ : ٢١٦ عن ابن عباس قال : إياكم والرأي فإن الله قال لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل بما رأيت ، وفيه أخرج ابن المنذر عن عمرو بن دينار أن رجلا قال لعمر (بِما أَراكَ اللهُ) قال : مه إنما هذه للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصة.

٣٢١

يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤ : ٦٥).

وردف قضاءه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقضائه سبحانه وتعالى : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٣٣ : ٢٦).

أفبعد هذه التصريحات يخلد بخلد مؤمن أنه كان يتبع رأى الشورى تاركا ما أراه الله ، ولم تعن (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إلّا أن يشير لهم الى صائب الوحي بصورة الشورى دفعا لهم الى التفكير ، واندفاعا الى ما يوحى الى البشير النذير ، لكي يعرفوه عن تفهّم ، خروجا عن الجمود والخمود وكما فصلناه على ضوء آيتي المشاورة والشورى.

فلقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحكم بين الناس في كل ما يحكم بنص الوحي ، وعلينا إتباعه في هكذا حكم وهو من الأسوة الحسنة (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (٣٣ : ٢١) ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣ : ٣١) (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ) (٧ : ١٥٨).

ذلك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) والخصيم هو المدافع عن الدعوى ، بل كن مدافعا للمحقين بما أراك الله الحق والمحق ، والباطل والمبطل.

وإن كلا الإفراط والتفريط في الخصومة محظور والعوان بينهما محبور ف «من بالغ في الخصومة اثم ومن قصر فيها ظلم ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام).

٣٢٢

ولا يعني ذلك النهي إلّا قطعا لآمال الخائنين أيا كانوا ، أن ليس النبي بالذي يميل الى باطل أو مبطل ، فإنه معصوم بعصمة ربانية سامية علما وعملا.

وهنا نهيان ينهيان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الوقوف بجانب الخائنين المختالين ، يتوسطهما أمر الاستغفار ، وهما ينهيان كل رجاء باطل عن ساحة النبوة القدسية ، ثم وأمر الاستغفار ليشمل غفرانه تعالى هؤلاء الخائنين المختالين إن تابوا الى الله عما افتعلوه.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ١٠٦.

وليس يجب أن يختص استغفاره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما هو عن ذنبه ، إذ لا ذنب له فإنه معصوم بعصمة إلهية ، بل هو استغفار للمؤمنين متخلفين وسواهم ، أم واستغفار عن أن يميل الى هؤلاء الخائنين المختالين أو عن أن يميّلوه استمرارا للعصمة الربانية التي تصده عن كل انحيازة ، وتسد عنه كل عائبة آئبة من قبل الأمة ، وليكون صامدا غير هامد بجنب الله ، حاكما طليقا بأمر الله بما أراه الله ، وكما (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٧ : ١٩) وما ذنبه إلّا كيانه الرسالي ككل كما في آية الفتح (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) حيث الذنب لغويا هو ما يستوخم عقباه ، وقد كانت عقبى هذه الرسالة السامية في الأولى وخيمة لولا أن فتح الله له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك الفتح المبين ، وهي في نفس الوقت عقبى سامية رحيمة في العقبى.

فقد أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ب (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) فيما أمر أن يتطلب من الله الغفر والستر على النفس عن التميل الى الخائنين ، وقد غفره الله وستره وكما قال بعد (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ).

فلقد كان في صيانة الله عن كل ميلة الى الخيانة والخائنين مهما بلغ الأمر

٣٢٣

الإمر في الضغط عليه ، فقطع عنهم آمالا لهم في إضلاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يهموا ، فضلا عن أن يضلوه أو يضل هو بنفسه!.

لذلك فلم يهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكونه خصيما لخائن فضلا عن فعله حيث عصمه الله حتى عن هم الخائنين على حمله!.

إذا فمحور الاستغفار بحقه ليس هو الغفر والستر على نفس النبي القديسة أن يهم لهم أو يفعل لصالحهم بل عن هم الخائنين في محاولة إضلاله في ذلك المجال العجال ، وبذلك تضرب الروايات المتهمة إياه أنه همّ أو كاد أن يهم تضرب عرض الحائط ولا ينبئك مثل خبير.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) ١٠٧.

كيف هنا «لا تجادل» ولم يكن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليجادل عن الذين يختانون أنفسهم؟ علّها تعني كافة المكلفين على الأبدال ، كما (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ) الآتية تدل عليه ، ثم ولا بأس بعنايته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المعنيين بالخطاب ، وليعلموا أنه لن يجادل فتنقطع آمالهم الكاذبة عنه.

ثم والنهي عن شيء لا يدل على أن المنهي فاعله ، بل قد يكون تدليلا على الحرمة رساليا وهو تاركه رسوليا ، ثم وتدليلا على واجب الاستمرار في الانتهاء.

ولماذا هنا (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) وهم خانوا سائر الأنفس؟ علّه للتدليل على أن الذين يخونون سائر الأنفس فإنما يختانون ـ أولا ـ أنفسهم حيث ترجع الخيانة إليهم أنفسهم ، والاختيان هو الافتعال الاحتمال للخيانة ، ففعالية الخيانة بالغير

٣٢٤

هي راجعة الى المختان يوم الدنيا ويوم الدين ، مهما انضرّ بها المختان يوما من الدنيا.

فحين تضر الخيانة بالغير يوما مّا وهو مظلوم ، فقد تضر الخائن كل الأيام حيث يخون مبدء الإنسانية العطيفة العفيفة ، ويخون الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان ، فيعرّض نفسه الخائنة لغضب الله وعذابه ، كما عرّضها هنا لغضب المظلومين ، فنفس الخائن هي أكثر تأثرا بخيانته ممن اختانه ، فهي ـ إذا ـ تختان نفسها قبل وأكثر مما تختان غيرها.

ثم اختيان الأنفس يشمل الخيانة غير المتعدية كما المتعدية ، وقد عني به طليق الخيانة ، فالمجادلة عن المختان محظورة أيا كان (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) بنفسه أم وسواه «أثيما» يعيش الإثم وهو كل ما يبطئ عن الصواب.

ولماذا هنا «خوانا» مبالغة والخائن أيا كان يبغضه الله؟.

علّه بمناسبة شأن النزول حيث خان في الدرع الذي سرقه ونسبها الى اليهودي؟ ثم لما افتضح فر الى مكة وارتد ونقب حائط إنسان للسرقة فسقط عليه الحائط فمات.

ثم التنديد الشديد ليس إلّا بكل خوّان أثيم ، دون كل خائن آثم.

ثم الذي لا يحبه الله هو مبغضه بطبيعة الحال ، إذ لا عوان لله بين بغض وحب إلّا إذا كان جاهلا أو غافلا عوذا بالله ، فكيف تجادل عن الذي يبغضه الله وأنت حبيب الله!.

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) ١٠٨.

«يستخفون» اختيانهم «عن الناس» خوفة منهم أم رعاية لهم وكأنهم

٣٢٥

أحق من الله ثم (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) وكأنه لا حقّ له أم هو أدنى (إِذْ يُبَيِّتُونَ ..) (١).

ترى ذلك الاستخفاء من الناس هو بالإمكان محظورا أو محبورا ، فكيف الاستخفاء من الله (وَهُوَ مَعَهُمْ)؟.

لأنه «هو معهم» فلا يعني الاستخفاء عنه إلا ترك ما يستخفونه من الناس إذ (كانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) وهذه المعية العلمية حيطة شاملة هي أحوط منهم على أنفسهم «وهو (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) والمعية في القدرة الشاملة وهي أقدر مما لهم على أنفسهم ، هذه المعية تقتضي لمن يعرفها قضية الإيمان بالله أن يستخفي الخيانة من الله فلا يخون ، ثم لا حاجة الى الاستخفاء عن الناس إذ لا خيانة ، فهو ـ إذا ـ بريء فيما بينه وبين الله وما بينه وبين الناس.

وإن ذلك الاستخفاء من الناس دون الله صورة رزية مدعاة الى السخرية بما فيها من ضعف والتواء حيث يبيتون ما لا يرضى الله من القول استخفاء من الناس الذين لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا ، ثم لا يخافون ويستخفون من الله الذي يملكهم ويملك كلّ شيء ، فأين يذهبون ، وبأي حديث بعد الله وآياته

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٤٨ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : إن أناسا من رهط بشير الأدنين انطلقوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا نكلمه في صاحبنا ونعذره فإن صاحبنا لبريء فلما أنزل الله «يستخفون من الناس ولا يسخفون من الله» إلى قوله «وكيلا» فأقبلت رهط بشير فقالوا يا بشير استغفر الله وتب إليه من الذنوب فقال : والذي احلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ..) ثم ان بشيرا كفر ولحق بمكة وأنزل الله في النفر الذين اعذروا بشيرا وأتوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليعذروه : «وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ ـ إلى ـ (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ونزلت في بشير وهو بمكة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) ـ إلى ـ (مَصِيراً).

٣٢٦

يؤمنون ، ء إفكا آلهة دون الله يريدون!.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) ١٠٩.

«ها» ألا فانتبهوا «أنتم هؤلاء» المجادلون عن الخائنين المختانين أنفسهم (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ونفعتهم جدالكم ، ولكنها ليست لتفيدهم في حساب الله ، إذا (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) والحاكم هو الله لا سواه (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) يتوكل أمرهم الإمر في يوم الله؟!.

فما هي جدوى الجدال عنهم في هذه الهزيلة الزائلة القليلة ، وهي لا تدفع عنهم في تلك الهائلة الثقيلة.

وإنها حملات غاضبة على الواقفين في صفوف الخائنين جدالا عنهم لصالحهم ضد الأبرياء ، ومن ثم تقريرات هامة للقواعد العامة لأمثال هذه المجادلة الخائنة :

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ١١٠.

(يَظْلِمْ نَفْسَهُ) تعم لازم الظلم ومتعديه ، فهل إن «سوء» تختص بالأول أو الثاني أو كما الظلم يعمهما؟ قد تعني «سوء» خفيف العصيان حيث تقابل الظلم ، مهما عم كلّ منهما كلّا منهما ، وهما على أية حال تشملان كل دركات العصيان الموعودة هنا بعد الاستغفار بالرحمة والغفران ، وطبعا بالشروط المسرودة في سائر القرآن ف «من أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة» (١) وهكذا تفسر (مَنْ

__________________

(١) في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مستدلا بالآية.

٣٢٧

يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣) (١) و (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ٥٤) ، فكما لعمل السوء دركات كذلك للتوبة عنه درجات ولا يظلمون نقيرا.

فهنا بعد ما مضى من التهديد الشديد والتنديد المديد بالمختانين الأثماء ، وعد بعد وعيد وفتح لباب الرحمة بمصراعيها على وجوه العصاة أن يستغفروا الله بما يصلح حالهم وبالهم.

ولكي يعلم العصاة أنها ترجع بكل المخلّفات إليهم أنفسهم ، فهي لزامهم ككلّ لازمة ومتعدية ، لذلك يصرح :

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ١١١.

والإثم هو كل ما يبطئ عن الصواب في نفسه الآثم أو أنفس المظلومين به ، ف (مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) سوء أو ظلم النفس (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) لا على

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢١٦ عن أبي بكر قال سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول ما من عبد أذنب فتوضأ فأحسن وضوءه م قال فصلى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له لأن الله يقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

وفيه أخرج أبو يعلى والطبراني وابن مردويه ن أبي الدرداء قال كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا جلس وجلسنا حوله وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما يكون عليه وانه قام فترك نعليه أخذت ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته فقال : انه أتاني آت من ربي فقال انه من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ، فأردت أن أبشر اصحابي ، (قال أبو الدرداء : وكانت قد شقت على الناس التي قبلها (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فقلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وإن زنى وأن سرق م استغفر ربه غفر الله له؟ قال : نعم ، قلت : الثانية؟ قال : نعم ، قلت : الثالثة؟ قال : نعم على رغم أنف عويمر.

٣٢٨

ربّه حيث لا ينضر بالضرر ، ولا على المظلومين حيث يتلافى لهم يوم الدين مهما انضروا يوم الدنيا ، حيث الفراغات المفتوحة ظلما يوم الدنيا هي كلّها مسدودة محبورة يوم الدين (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بالآثمين والمأثومين «حكيما» في تأجيل خلفية الوزر الى يوم الدين.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ١١٢.

هنا «خطيئة» هي التي لا تبطئ عن الصواب ، لازمة ومتعدية ، ثم «إثما» يبطئ عنه لازما ومتعديا فهو أخطأ من الخطيئة (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) بما كسب من خطيئة أو إثم «بريئا» عنه (فَقَدِ احْتَمَلَ) على نفسه الخاطئة الأثيمة (بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) يبين مدى خبثه كما يبين رميه يوما مّا ، حيث الظلم ولا سيما الفرية لا يدوم ، فقد يظهر يوما مّا ويفضح صاحبه.

فلا يزعمن مفتر أن رميه بريئا بما افتعل يحمّل البريء وزره ، بل هو الذي يتحمل خطيئة نفسه وإثمه ومثله أو مضاعفات معه حيث رمى به بريئا (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

و «الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما ستره الله عليه فاما إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١).

ذلك ، وهكذا الذي يكسب خطيئة أو إثما على حساب برىء توافقا أم لم يتوافقا ، (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) على الله كأنه يقبل ذلك الرمي والحمل (وَإِثْماً مُبِيناً) حيث يبطئ نفسه عن الصواب زعم أنه حمّل غيره غير الصواب.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٤٩ تفسير العياشي عن عبد الله بن حماد الانصاري عن عبد الله بن سنان قال قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام) : ...

٣٢٩

وفي ذلك الجو الظليم العميم ، المزل المضل ، نجد الله تعالى يعصم رسوله النبي الكريم عن كافة المزلات والمضلات ، لا فحسب بل وعن اهتمام المضلين أن يضلوه :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ١١٣.

هنا ضلال واقع بإضلال المضلين وليس إلّا للضالين ، مهما كانوا من المؤمنين قضية ضعف الإيمان وبساطته.

وهناك دفع عن الضلال أمام الضال ، وذلك لأفاضل المؤمنين قضية العدالة وقوة الإيمان.

وهنالك في حقل العصمة الربانية ، ولا سيما في حق النبي الأعظم الأعصم فضل من الله عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يصد المضلين ويسدهم عن أن يهموا بإضلاله ، فضلا عن إضلاله وانفعاله بإضلالهم ، وهكذا يقول الله في حقه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ..) وأين تلك العصمة العالية الغالية ، والوصمة عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه مال الى الجدال عن الذين يختانون أنفسهم كما في مختلفات زور بكل إصرار وغرور.

ثم (وَما يُضِلُّونَ) فيما يحاولون (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) وهمّ الجدال عن الخائنين ضرر على العصمة القدسية ، فهي منفية بنص الآية خلافا للرواية.

ذلك! حيث (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وهي مما آتاك الله لتحكم بينهم بها كما تحكم بالكتاب ، ثم (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) لا «ما لم

٣٣٠

تعلم» بل (ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) كيفما كنت وأينما كنت وفي أية دراسة أو مدرسة لو كنت ، أم أية كينونة من غير ما كوّنه فضل الله العظيم.

وحين يسلب ذلك العلم عن أعقل العقلاء وأسعد السعداء ، سلبا بأسره مهما كانت معدّاته الذاتية والخارجية قوية عالية ، فبأحرى سلبه عن كافة العالمين من الجنة والناس وسواهم أجمعين ، اللهم إلا بفضل الله العظيم غير العميم ، حيث خصه بذلك الفضل العظيم.

وهنا (عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) تعم مثلث الكتاب والحكمة وما أتاه من غيرهما ليحكم بين الناس بما أراه الله (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً).

وهكذا يعصم الله رسوله العظيم عن كل محاولة وحيلة شريرة مبيّتة ضده ، ولكي يعلم الكائدون ألا يؤثر فيه كيدهم ، ويعرف المائدون ألا يتأثر هو بميدهم ، ويشعر المتهمون إياه المهتمون بإثبات خطيئة عليه أن ساحته القدسية بريئة عن الخطايا ـ بل وعن واهتمامها ـ كلّها بما عصمه الله ، فهو في عصمة طليقة ربانية لا غبار عليها.

فتلك هي نعمة يمن بها على الأمة المرحومة ، وعلى كافة المكلفين بهذا الدين المتين والرسول الأمين ، النعمة التي التقطت المكلفين أجمعين من سفح الجاهلية الجهلاء ، لترقى بها في الطريق الصاعد المساعد ، الى القمة البالغة السامقة التي لا تساوى ولا تسامى على مدار الزمن حتى القيامة الكبرى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)!.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ١١٤.

«النجوى» قد تكون مصدرا ك (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ

٣٣١

رابِعُهُمْ) تعني مناجاتهم مع بعض البعض ، أم هم المتناجون أنفسهم (إِذْ هُمْ نَجْوى) وقد تحتمل هنا المعنيان ، ويتأيد الثاني بالاستثناء (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) تعني من المتناجين.

والنجوى هي في نفس الذات محظورة إذ تحزن من بحضرتها (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٥٨ : ١٠) حيث الحق صراح لا يحتاج الى نجوى ، فليست النجوى ـ إذا ـ إلا توطئة شريرة بحق المتناجى عليه ، فلا تصلح إلّا في الحق الذي لا يصلح أن يستبان كالنجوى مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشؤون الحرب أم سائر الشؤون السياسية التي يجب أن تخفى لصالح الجماهير المسلمة.

و (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) فيتناجى فيها كيلا تذاع فتضاع ، كما (كل سر جاوز الإثنين شاع).

إذا فقليل من النجوى محبورة مشكورة ، ثم (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا) والمستثنى هو ذلك القليل ، إذا فهو استثناء منقطع ، حيث انفصاله يقتضي قليلا من ذلك الكثير مع سائر القليل.

ومهما يكن من شيء فالأمان الأمان وعوذا بالله من اللسان في نجواه وسواه وكما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكرا لله عز وجل» (١) و «رحم الله

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٢٠ عن أم صالح بنت صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ... وفيه عن ابن شريح الخزاعي قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» وفيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرني بأمر أعتصم به في الإسلام قال قل آمنت بالله ثم استقم قلت يا رسول الله ـ

٣٣٢

امرء تكلم فغنم أو سكت فسلم» (١).

__________________

ـ ما أخوف ما تخاف علي قال : هذا وأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بطرف لسانه نفسه.

وفيه عن عقبة بن عامر قال قلت يا نبي الله ما النجاة؟ قال : «أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك» وفيه عن اسود بن أبي أحرم المحاربي قال قللت رسول الله أوصني قال : هل تملك لسانك قلت فما أملك إذا لم أملك لساني قال فهل تملك يدك قلت فما أملك إذا لم أملك يدي قال ؛ فلا تقل بلسانك إلا معروفا ولا تبسط يدك إلا إلى خير.

(١) المصدر أخرج البيهقي عن الحسن قال بلغنا أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : ...».

وفيه عن ابن مسعود إنه أتى على الصفا فقال : يا لسان قل خيرا تغنم أو أصمت تسلّم من قبل أن تندم ، قالوا يا أبا عبد الرحمن هذا شيء تقوله أو سمعته قال لا بل سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : «أن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه» وفيه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من سره أن يسلم فليلزم الصمت.

وفيه عن أنس أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقي أبا ذر فقال يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما قال بلى يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : عليك بحسن الخلق وطول الصمت والذي نفس محمد بيده ما عمل الخلائق بمثلهما.

وفيه أخرج البيهقي عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رزين لأمرك كله قلت زدني قال عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر ذكر لك في السماء ونور في الأرض قلت زدني قال عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك قلت زدني قال وإياك وكثرة الضحك فانهجيت القلب ويذهب بنور الوجه قلت زدني قال قل الحق ولو كان مرا قلت زدني قال لا تخف في الله لومة لائم قلت زدني قال ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك» وفيه أخرج البيهقي عن ركب المصري قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله. وفيه عن أبي سعيد الخدري رفعه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال إذا أصبح ابن آدم فإن كل شيء من الجسد يكفر اللسان يقول ننشدك الله فينا فإنك أن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ، وفيه في حديث طويل عنه ـ

٣٣٣

وهنا (أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) مصداق بارز من الأمر ، وقد تصدق الصدقة على كافة الراجحات واجبة وسواها وفي كافة الحقول ، ثم «أو معروف» تعميم للأمر ويلحقه النهي عن المنكر فإنه أمر معروف والأمر به أيضا أمر بمعروف ، ثم (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ولو بالكذب إذا كان الإصلاح بين الناس أصلح من الصدق (١) حيث الكذب محرم لإفساده وأفسد منه فساد الناس.

__________________

ـ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع معاذ بن جبل. «وإن شئت أنبأتك بأملك الناس من ذلك كله قلت ما هو يا رسول الله فأشار بإصبعه إلى فيه فقلت وانا لنؤاخذ بكل ما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاد وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم وهل تتكلم إلا ما عليك أو لك» وفيه أخرج أحمد عن أنس أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه.

(١) نور الثقلين ١ : ٥٥٠ في أصول الكافي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : الكلام ثلاثة صدق وكذب وإصلاح بين الناس ، قال قلت له جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس؟ قال : تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعت منه.

وفي الدر المنثور ٢ : ٢٢٢ عن عائشة قالت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يصلح الكذب إلا في ثلاث الرجل يرضي امرأته وفي الحرب وفي صلح بين الناس ، وفيه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أفضل الصدقة صلاح ذات البين ، وفيه أخرج البيهقي عن أبي أيوب قال قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يعظم الله به الأجر ويمحو به الذنوب تمشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا أو تفاسدوا فإنها صدقة يحب الله موضعها ، وعن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا.

وفيه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا أخبركم بأفضل من درجات الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين ، قال وفساد ذات البين هي الحالقة ، وفيه عن أبي أيوب أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله ورسوله موضعها قال بلى قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا».

٣٣٤

فإذا كان الكذب أفسد من فساد ذات البين فلا يصلح الكذب في طليق الإصلاح ، إنما هو فيما كان إصلاحه أكثر من إفساده أم لا إفساد له إلّا الإصلاح ، وإذا فلا كذب في الإصلاح كما يروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وهنا الأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس هي كأصدق مصاديق لصالح النجوى ، فقد تعني النجوى شورى بين أهليها لصالح فردي أو جماعي فحصيلتها أمر معروف أو أمر بمعروف أو صدقة أو إصلاح بين الناس أمّاذا من صالح يجبر كسر النجوى ، ثم ومما يجبرها إنباء الخارجين عن النجوى أنها ليست عليهم ، فإما لهم أو لا لهم ولا عليهم ، فإما لصالح يجب أو يرجح إخفاءه.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) المثلث في النجوى ، أو النجوى الطليقة (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) حين توضع في مواضعها الصالحة مع صالح النية (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

فقد تكون النجوى شرا في شر ، كأن تحزن الذين آمنوا وهي ضارّ بهم في مادتها ، وهي أنحس دركاتها ، وأخرى هي خير في خير ، كأن تكون في صالح بنية صالحة بإنباء الخارجين عنها أنها ليست عليهم ، وهي أفضل درجاتها ، وبينهما متوسطات ، كأن تكون في صالح دون نية صالحة ولا إنباء ، أو صالح بنية صالحة دون إنباء ، أم بإنباء دون نية صالحة أمّاهيه من عوان بين الضفّتين ولكلّ خيره أو شره حسب مدّه وعدّه.

ومن أشر النجوى التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومشاقته : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ..) (٥٨ : ١٠).

٣٣٥

ولأن التناجي قسم من التشاور ، فلا رجاحة فيه أم لا سماح إذا لم يكن صالح هناك يقتضي المسارة ، ف (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) قضية المجاهرة بها ولكي يكون أهلها والمستفيدون منها على خبرة واطلاع.

ولقد كان اتجاه التربية الإسلامية من ذي قبل أن يأتي كل إنسان بمشكلته المحتار فيها فيعرضها على القيادة العليا الرسالية مجاهرة بمساءلة علنية إن كانت من الموضوعات ذات الصبغة العامة ، أم مسارّة إن كانت من المصالح الشخصية التي لا يصح الجهار فيها.

والحكمة في هذه الخطة الأديبة الأريبة هي ألا تتكون جيوب انعزالية في الجماعة المسلمة ثم تواجهها بأمر مبيّت مقرر من ذي قبل وكأنهم أولياءهم المتأمرون عليهم ، اللهم إلّا إذا لزم الأمر ف (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) حسب المصالح الجماعية للجماعة المسلمة.

ولقد كانت المساجد ندوات لهم في مختلف الحقول الإسلامية ، تتلاقى فيها مختلف الطبقات والعقول للصلوات والندوات ، مفتوحة لكل من يقصدها دونما أي حاجز ، معارض للمشاكل لكي تنحل بشورى بينهم ، اللهم إلّا الأمور التي هي من أسرار القيادة في المعارك وغيرها ، أو الأسرار الشخصية البحتة التي لا يحب أصحابها أن تفشو.

والنص القرآني يستثني النجوى التي فيها مصلحة الأفراد أو الجماهير ، تناجيا بالبر والتقوى ، في صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) ١١٥.

ومشاقة الرسول أن تجعل نفسك في شقّ والرسول في شق آخر ، اتباعا

٣٣٦

لغير سبيل المؤمنين وهي إتباع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، هذه المشاقة موعودة بصلي الجحيم ، ولا سيما إذا كانت في نجوى ، وهنا «من يشاقق» مهدّد بما هدد فيما حدّد : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ـ (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وأما المشاقة الجاهلة ، ولا سيما للذي يتبع سبيل المؤمنين فليست عليه تلك النكاية الشديدة مهما كانت محظورة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٤٧ : ٣٣).

أجل وإن مشاقة الرسول على علم برسالته وتبيّن هداها لا تعني إلا نكران رسالته أو أنها لا تنفع ما ينفع المشاق في فكرته الخاصة ، ومن ثم إتباع غير سبيل المؤمنين وهو سبيل الكافرين ، إنها معارضة جاهرة للرسالة القدسية ، إذا ف (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) تحويلا له الى ما تحوّل من الضفة الكافرة (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) فهو حصبها ووقودها (وَساءَتْ مَصِيراً) ، ولأن مشاقة الرسول محرّمة على أية حال فطاعته واجبة على أية حال وذلك من دلائل العصمة المطلقة ، فالأصل الأولي بعد التسليم لله هو التسليم للرسول وإتباع سبيل المؤمنين بالرسول.

وهل يعني ذلك الإتباع حجية إجماع المؤمنين مهما كان على خلاف الكتاب والسنة؟ كلا ، ومن المستحيل ذلك الإجماع فإنه يناقض قضية الإيمان علميا وعقيديا وعمليا.

ولو كان سبيل المؤمنين أو منها إجماعهم فهل إن شورى السقيفة إجماع حتى يستند في حقها بآية سبيل المؤمنين وكما قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد إنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى فإن خرج من أمرهم خارج

٣٣٧

بطعن أو بدعة ردوه الى ما خرج منه فإن أبي قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى!!!» (١).

وأما ما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : «لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ويد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار» (٢) فلا يعني أن جماعة من الأمة لا يجتمعون على الخطاء ، فإن صح عنه ذلك النص فلا ينفي إلّا أن يجمع الله الأمة ككل على ضلال ، والشاذ عن رأي الآخرين إن كان من الأمة فقد نقض الإجماع ، وقد يصدّق حين يوافق الكتاب أو السنة (٣).

ذلك! ثم لا نجد في القرآن سبيلا مسلوكة إلا «سبيل الله» ثم لا سبيل للرسول حيث لا تستقل سبيله عن سبيل الله ، فكيف تختص سبيل بالمؤمنين تكون حجة أمام الكتاب والسنة.

ذلك ، لأن سبيل المؤمنين هي سبيل الإيمان المعرّفة في القرآن بطاعة الله والرسول.

__________________

(١) في نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين في احتجاجه في حق الخلافة وباطلها ، وفي تفسير البرهان ١ : ٤١٥ عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن رجل من الأنصار قال خرجت أنا والأشعث الكندي وجرير العجلي حتى إذا كنا بظهر الكوفة بالفرس مر بنا ضب فقال الأشعث وجرير السّلام عليك يا أمير المؤمنين خلافا على علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فلما خرج الانصاري قال لعلي (عليه السّلام) فقال علي (عليه السّلام) : دعهما فهو امامهما يوم القيامة أما تسمع إلى الله يقول : نوله ما تولى.

(٢). الدر المنثور ٢ : ٢٢٢ ـ أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(٣) في تفسير الفخر الرازي ١١ : ٤٣ روي أن الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.

٣٣٨

صحيح أن في لفظ القرآن سبلا وسبيلا بين حق وباطل ، ولكن السبيل الحق لم تضف في سائر مواضعها إلّا الى الله (١) دون الرسول ولا مرة يتيمة ، فهنا (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) لا تعني إلّا سبيل الإيمان المشتركة بين الرسول والمؤمنين ، فهي ـ إذا ـ سبيل الله لا سواه.

ولا تعني «سبيل الله» سبيلا الى الله ولا سبيلا في الله ، بل هي سبيل من الله سبّلها للسالكين الى الله صراطا مستقيما : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

فكما الرسول على محتده الرسالي ليس ليسبّل سبيلا للمرسل إليهم حيث الشارع المسبّل هو الله لا سواه ، كذلك ـ وبأحرى ـ ليس للمؤمنين أن يسبّلوا سبيلا لأنفسهم دون سبيل الله ، فإنه مشاقة لله ، فإنما سبيل المؤمنين هي السبيل التي سبّلها الله لهم كما سبلها في البدء للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فإضافة السبيل الى الله هي بتقدير «من» حيث تعني أنها من الله ، ثم إضافتها هنا الى المؤمنين هي بتقدير اللام ، فإنها سبيل للمؤمنين من الله.

فمشاقة الرسول بعد تبين هداه الرسالية والرسولية مشاقة لله وهي إشراك به لا تغفر :

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ

__________________

(١). وهي مذكورة في ١١٦ موضعا من القرآن.

٣٣٩

إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً

٣٤٠