من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

فلا يؤمنون به مع أنّ شخصيته أسمى من كلّ ريب ، ولعل كلمة «يصدّون» أشربت معنى الصدّ عن سبيل الله ، وقال بعضهم : إنّ معناها يضجّون ، من الصديد وهو الجلبة ، فيكون تفسيرها : يثيرون الضجيج واللغط حول هذه الشخصية من الأفكار السلبية لكي لا يؤمنوا بعيسى (ع) ، وقد سمّى القرآن أفكار الضالّين باللغو في آيات أخرى ، كقوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (١) .

وقد طبّقت نصوص أهل البيت ـ عليهم السلام ـ هذه الآية على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لأنّه كما جاء في أحاديث عديدة عن النبي (ص) أنّه شبيه عيسى بن مريم (ع) .

ولا ريب أنّ عليّا ـ عليه السلام ـ كان مثالا للقيادة الربّانية التي تمثّل قيم الوحي ، كما كان النبي عيسى بن مريم (ع) ، كما أنّ عليّا ـ عليه السلام ـ غالى فيه قوم حتى قالوا فيه مثلما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، وقلاه آخرون حتى ساووه بمعاوية ، واقتصد فيه الصالحون.

في الحديث عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ عن الإمام علي (ع) قال : «جئت الى النبي (صلّى الله عليه وآله) يوما فوجدته في ملأ من قريش ، فنظر إليّ ثم قال : يا علي إنّما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم أحبّه قوم وأفرطوا في حبّه فهلكوا ، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا ، واقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم ، وضحكوا ، فنزلت الآية» (٢) .

وللآية تفسير آخر مستوحى من نصّ ورد في نزول الآية ، نذكره فيما يلي ، علما

__________________

(١) فصّلت / (٢٦) .

(٢) جوامع الجامع ـ الطبرسي / ج (٢) ص (٥١٧) .

٥٠١

بأنّ تطبيق القرآن على موارد نزول آياته لا يعني تحديده بها ، فللقرآن أبعاد مختلفة وبطون شتّى تجري عليها جميعا الآيات كما تجري الشمس على السهول والجبال.

روي أنّه لما نزلت هذه الآية : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (١) قال أحد مشركي قريش وهو (عبد الله ابن الزعبري) : هذا خاصّة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال الرسول (ص) : «بل لجميع الأمم» فقال : خصمتك ورب الكعبة ، ألست تزعم أنّ عيسى بن مريم نبي ، وتثني عليه خيرا وعلى أمّه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما ، واليهود يعبدون عزيرا ، والملائكة يعبدون ، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، فسكت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وفرح القوم ، وضحكوا ، وضجّوا ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢) .

[٥٨] (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)

هل آلهتنا خير أم عيسى؟

إنّهم زعموا أنّ آلهتهم خير من عيسى لأنّها تمثّل الثروة والقوّة والتقاليد المتوارثة ، بينما عيسى ـ عليه السلام ـ مثال الزهد والطهر والفضيلة.

وهم يعرفون أنّ عيسى خير من آلهتهم ، ولكنّهم لا يريدون الإذعان بهذه الحقيقة التي تنسف أساس بنيانهم الجاهلي.

(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)

لأنّ فطرتهم تهديهم إلى سموّ عيسى بعلمه ورسالته وبأخلاقه وفضائله عن آلهة

__________________

(١) الأنبياء / (٩٧) .

(٢) الأنبياء / (١٠١) .

٥٠٢

تمثّل شهواتهم وعصبيّاتهم التافهة.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)

كلّما ابتعدت أمّة عن قيم الوحي كلّما ازدادت حاجتها النفسية الى الخصام والجدال ، أو ليس الإنسان يمارس الجدال من أجل دحض الحق ، كما قال ربنا : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ)؟ أو ليسوا قد هبطوا الى حضيض الباطل ، فلا بدّ أن يبلغوا ذروة الخصام حتى يبتدعوا لكلّ حقّ باطلا يجادلون به لدحض الحق.

هكذا قال الرسول (صلّى الله عليه وآله) :

«ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدال ، ثم تلا هذه الآية» (١) .

وحسب بعض التفاسير أنّ معنى الآية : إنّ القوم قالوا ما دام عيسى ابن مريم في النار ـ لأنّه يعبد من دون الله ـ فلا بأس أن تكون آلهتهم أيضا في النار وهم معها ، ولكنّهم كانوا يعلمون أنّ عيسى ليس في النار ، لأنّه لم يكن راضيا عن عبادتهم له ، ولم يكن يدعو أحدا إلى عبادة أحد غير الله ، فما كان مثلهم بعيسى إلّا جدلا.

[٥٩] وإبطالا لجدالهم بيّن الله أنّ عيسى لم يكن إلها كما اتخذه النصارى ، ولم يدع الرسول الناس الى نفسه أن يعبد من دون الله ، إنّما كان عيسى عند القرآن عبدا مخلوقا ، وإنّما كان يميّزه عن الآخرين نعمة الوحي الذي أنزل عليه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ)

حيث انتخبه الله لرسالاته.

__________________

(١) تفسير فتح القدير / ج (٤) ص (٥٦٤) .

٥٠٣

(وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ)

ليقتدوا به ، حيث أنّ الرسول ـ أي رسول ـ يجسّد المكرمات ، فيأمر الله باتخاذ سنّته منهجا. ولقد فشت المادية في بني إسرائيل ، وفرّغت الرسالة من روحها وقيمها وأهدافها المباركة ، فكان عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ مثلا لبني إسرائيل في الزهد والخلق الرفيع. هكذا يصف أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أخاه عيسى بن مريم حين يقول

«وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام ، فلقد كان يتوسّد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب وكان إدامه الجوع ، وسراجه باللّيل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذلّه ، دابّته رجلاه ، وخادمه يداه» (١) .

[٦٠] والله غنيّ عن طاعتهم ، ولو شاء لأهلكهم ، وأسكن مكانهم ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ، وهم إذ يعصونه بالشرك لا يخرجون عن إطار قدرته.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً)

أي بدلا منهم.

(فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)

[٦١] ومضى القرآن يكرم عيسى بن مريم ، ويجعله من أشراط الساعة ، حيث رفعه الله اليه ، وادّخره لآخر الزمان حيث يهبط من السماء ، ويصلّي خلف المهدي

__________________

(١) نهج البلاغة / خطبة (١٦٠) ص (٢٢٧) .

٥٠٤

المنتظر ـ عليه السلام ـ بعد ظهوره.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)

جاء في النصوص المتظافرة عن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم : تعال صلّ بنا ، فيقول : لا. إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأمّة» (١)

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها)

أي فلا تشكّوا ، وإنّما يشك الإنسان حين يجعل علمه جهلا بالتكاسل عن العمل ، كما قال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «لا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكّا ، إذا علمتم فاعملوا ، وإذا تيقّنتم فأقدموا» (٢)

ولعلّ الحكمة في التأكيد على النهي من الشك هي أنّ الحقائق العظمى تحمّل الإنسان مسئولية كبيرة ، ولكي تهرب النفس منها تستجير بالشك والارتياب : من يقول أنّ الساعة قائمة ، ومن يقول أنّ الناس يبعثون ..

وعيسى ـ عليه السلام ـ كان كلّ شيء فيه دليلا على الساعة ، فقد ولد من غير أب ، ثم رفع الى السماء دليلا على قدرة الله التي لا تحدّ ، ثم انّه كان دائم التذكرة بالآخرة ، وقد اتخذ من الزهد في الدنيا منهجا لحياته ، ومحورا لدعوته.

(وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ـ ص (٦١١) نقلا عن مجمع البيان ثم قال : أورده مسلم في الصحيح وفي حديث آخر : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم.

(٢) نهج البلاغة / حكمة (٢٧٤) ص (٥٢٤) .

٥٠٥

واتباع الرسول دليل الإيمان بالساعة ، فمن أيقن بها وفكّر كيف ينقذ نفسه من ويلاتها ، فسوف لا يجد صراطا مستقيما الى الجنة والرضوان غير رسالة الرسول وحسن اتباعه فيها.

و «هذا» إشارة الى رسالة الله المتمثّلة في القرآن.

[٦٢] (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ)

فيجعل بينكم وبين الصراط المستقيم حواجز التكبّر ، والعزّة بالإثم ، أو حواجز الدم واللغة .. وهكذا ، وقد تكون نفسك أو صديقك أو حتى زوجتك هم شيطانك الذي لا يفتأ يصدّك عن الصراط المستقيم.

إنّ الشيطان وما فتأ حتى الآن يجعل بينك وبين الرسل أو من يخلّفه حواجز من التهم والشائعات والشبهات ، وهكذا تجد أجهزة الطاغوت يلمّعون الوجوه الخبيثة ، ويشوّهون صور الرسل والشخصيات الرسالية.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

فقد يأتي إليكم بصفة الناصح ، وهو لكم عدو مبين ، وهو يمكر ويكيد ويزيّن ويغرّ ، ويأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه ، وبالتالي إنّه قد عقد العزم على إغواء أبناء آدم ، جاء في الحديث : «إنّ الشيطان يسنّي لكم طرقه ، ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزعاته ونفثاته» (١) .

[٦٣] (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ)

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١٢١) ص (١٧٨) .

٥٠٦

وهو جوهر الرسالة ، الذي يصدّقه عقل الإنسان وفطرته .. ورأس الحكمة توحيد الله ، ومخافته ، والتوكّل عليه ، والتحابب فيه ، والإحسان الى الناس ابتغاء رضوانه ، وهذه هي وصايا الأنبياء (عليهم السلام) وبالذات النبي عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ

فلقد جاء في بعض مواعظه :

«بحقّ أقول لكم : إنّ أرواح الشياطين ما عمّرت في شيء ما عمّرت في قلوبكم ، وإنّما أعطاكم الله الدنيا لتعملوا فيها للآخرة ، ولم يعطكموها لتشغلكم عن الآخرة ، وإنّما بسطها لكم لتعلموا أنّه أعانكم بها على العبادة ، ولم يعنكم بها على الخطايا.

بحقّ أقول لكم : إنّ الأجر محروص عليه ، ولا يدركه إلّا من عمل له.

بحقّ أقول لكم : إنّ الشجرة لا تكمل إلّا بثمرة طيّبة ، كذلك لا يكمل الدّين إلّا بالتحرّج عن المحارم.

بحقّ أقول لكم : إنّ الزرع لا يصلح إلّا بالماء والتراب ، كذلك الإيمان لا يصلح إلّا بالعلم والعمل.

بحقّ أقول لكم : إنّه لا يجتمع الماء والنار في إناء واحد ، كذلك لا يجتمع الفقه والغي (وفي نسخة : والعمى) في قلب واحد.

بحقّ أقول لكم : إنّ النفس (الشمس) نور كلّ شيء ، وإنّ الحكمة نور كلّ قلب ، والتقوى رأس كلّ حكمة ، والحقّ باب كلّ خير ، ورحمة الله باب كلّ حق ، ومفاتيح ذلك الدعاء والتضرّع والعمل ، وكيف يفتح باب من غير مفتاح» (١) .

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج (١٤) ص (٣١٦) نقلا عن تحف العقول.

٥٠٧

ويبدو أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ بعث لتصحيح مسيرة المؤمنين بالتوراة ، ولقد أجمل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ شريعة عيسى حين قال :

«كان بين داود وعيسى بن مريم أربع مأة سنة ، وكان شريعة عيسى أنّه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوحي به نوح وإبراهيم وموسى ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيّين ، وشرع له في الكتاب : إقامة الصلاة مع الدين ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتحريم الحرام ، وتحليل الحلال ، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال ، وليس فيها قصاص ، ولا احكام حدود ، ولا فرض مواريث ، وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى في التوراة ، وهو قول الله في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل» (١) .

(وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)

فقد جاء عيسى ـ عليه السلام ـ ليرفع الاختلاف الكبير الذي كان قد دبّ في بني إسرائيل حتى بلغ دينهم فتفرقوا مذاهب شتّى ، وأبرزها أربع :

الأولى : طائفة الصدوقيين من أولاد هارون ، الذين توارثوا الولاية على الهيكل منذ عهد داود وسليمان ، واهتمّوا بالقشور وشكليّات الطقوس ، وأضاعوا القيم فتراهم يرتكبون الموبقات ثم يأخذون على غيرهم استخفافهم ببعض الطقوس.

الثانية : طائفة الفريسيين ، حيث عزفوا عن الدنيا ، ومالوا الى التصوّف ، وترفّعوا على الناس ، واغتروا بما لديهم من زهد ومعرفة.

__________________

(١) المصدر / ص (٢٣٤) .

٥٠٨

الثالثة : السامريين نفوا الكتب التي أضيفت الى الكتب الموسويّة في العهود المتأخرة.

الرابعة : طائفة الآسين وقد تأثّروا ببعض المذاهب الفلسفية (١) .

وقد جاء عيسى بن مريم ينفي كلّ هذا التكلّف في الدين ، ويعيد الناس الى عبادة ربّهم الواحد ، ويأمرهم بالاهتمام بروح الدين وليس حدوده فقط ، فقال فيما قال : «أيّها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ، ويبتلعون الجمل!! إنّكم تنقّون ظاهر الكأس والصفحة ، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة ، ويل لكم أيّها الكتبة والفريسيّون المراؤون. إنّكم كالقبور المبيضّة ، خارجها طلاء جميل ، وداخلها عظام نخرة» (٢) .

وخاطب الجماهير ، وتحدّث عن العلماء الفجّار ، قائلا :

بحقّ أقول لكم : إنّ شر الناس لرجل عالم آثر دنياه على علمه ، فأحبّها وطلبها ، وجهد عليها حتى لو استطاع أن يجعل الناس في حيرة لفعل ، وماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها ، كذلك لا يغني عن العالم علمه إذا هو لم يعمل به. ما أكثر ثمار الشجرة ، وليس كلها ينفع ويؤكل ، وما أكثر العلماء ، وليس كلّهم ينتفع بما علم ، وما أوسع الأرض ، وليس كلّها تسكن ، وما أكثر المتكلّمين ، وليس كلّ كلامهم يصدق ، فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم ثياب الصوف ، منكّسوا رؤوسهم الى الأرض ، يزوّرون به الخطايا ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ، بتصرّف وإيجاز / ص (٣٤٨ ـ ٣٤٩) نقلا عن «عبقرية المسيح» للعقاد / الطبعة السابعة ـ دار احياء التراث العربي.

(٢) المصدر.

٥٠٩

يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب ، وقولهم يخالف فعلهم ، وهل يجتنى من العوسج العنب ، ومن الحنظل التين؟! (١) .

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

إذ أنّ الفلاح لا يكون إلّا بتقوى الله ، وطاعة رسوله.

[٦٤] (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)

أستوي أنا وأنتم عنده ، فهو ربي وربكم ، ولست بربّكم ، أو ابن ربّكم.

(فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)

الصراط المستقيم أن تسقط في ذاتك عبادة الأولياء أو عبادة الأصنام ، أنّى كانت حجرية أم بشرية ، وتعبد الله وحده.

[٦٥] (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ)

اختلفوا في عيسى (ع) ، منهم من جعله ثالث ثلاثة ، ومنهم من عاداه وأراد قتله ، ومنهم من آمن به وصدّقه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (٢) .

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (١٤) ص (٣٠٧) .

(٢) الصف / (١٤) .

٥١٠

وهذا الاختلاف على عيسى (ع) كان سببا للعذاب الأليم ، لأنّه ظلم ، وهكذا كلّ اختلاف في الدين نابع من الأهواء.

[٦٦] (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

لو مات الإنسان وهو قائم يصلي أو في حالة عبادة أخرى ، فطوبى له وحسن مآب ، أمّا لو كان يعمل الخبائث ، أو يظلم الآخرين ، فيا للخسارة العظمى! إنّ ساعة الموت مصيريّة لا بدّ من أن نكون مستعدّين لها دائما ، لأنّها تنزل بنا في أيّة لحظة ، ولذا نجد في سورة مريم (ع) قوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) وقوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ، وقد قال يعقوب لبنيه : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١) ، وفي الدعاء : «اللهمّ اجعل خير أعمالي خواتيمها ، وخير أيّامي يوم ألقاك» .

__________________

(١) البقرة / (١٣٢) .

٥١١

الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ

___________________

٧٠ [تحبرون] : تسرّون فيها سرورا يظهر أثره على وجوهكم.

٧١ [بصحاف] : جمع صحفة ، وهو الجام الذي يؤكل فيه الطعام.

٧٥ [لا يفتّر] : لا يخفّف ، من الفتور بمعنى التخفيف.

٥١٢

فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧)

٥١٣

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ

هدى من الآيات :

تتركّز سورة الزخرف في إبعاد الإنسان عن محورية المادة ، وبالذات في العلاقات الاجتماعية ، وقد تلونا في الآية (٣٦) كيف أنّ الذي يعشو عن ذكر الله يقيض الله له شيطانا فهو له قرين ، وهنا يبين القرآن أهمية الخلّة الربّانية التي تمتدّ الى يوم القيامة حيث يخاطب عباد الله بألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهم الذين آمنوا وأسلموا لربّهم ، فيسرعون الى دخول الجنة هم وأزواجهم يحبرون.

وبعد أن يفصّل القول في نعم الجنة يذكّرنا الربّ بأنّهم ورثوها بأعمالهم (ممّا يزيدهم نعمة الى نعمتهم) بينما المجرمون في عذاب جهنم خالدين ، لا يخفّف عنهم ، ولا ترجى لهم النجاة ، وهذه هي العاقبة التي اختاروها لأنفسهم بظلمهم ، وعند ما طلبوا من مالك (الملك الموكّل بجهنم) أن يقضي الله عليهم (فيموتوا) يقول لهم مالك : إنّكم باقون هنا.

٥١٤

بينات من الآيات :

[٦٧ ـ ٦٨] يذكّرنا الربّ هنا بأمرين :

أوّلا : بمحورية التقوى في الصداقة ، لأنّها هي الباقية حقّا ، وفي يوم القيامة حيث يبحث كلّ واحد عن خليل يشفع له (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١) لا ينفع غير الأصدقاء في الله فليس المطلوب صداقة كيفما اتفق ، بل تلك الصداقة التي تمتدّ من الدنيا الى الآخرة ، الى أن يدخلا في الجنة بسلام.

وفي مقابل هذه الصداقة هناك صداقة لا تتعدّى حدود الزمالة أو المصلحة المشتركة ، تنتهي بانتهاء الزمالة أو المصلحة. إنّ هذه الصداقة ليست بالضرورة سيئة إلّا أنّها محدودة ، وتقوم في الغالب على أسس مادية ، وهي معرضة للاهتزاز والزوال.

وهذا جانب من النظرة الشاملة الى الحياة في الإسلام ، التي تنظم حياة الإنسان وعلاقاته على أساس التقوى ، لا على رمال متحرّكة ، فالعلاقة المادية عقيمة سواء كانت في السياسة أو الإقتصاد أو الاجتماع.

ثانيا : بمنهجية الآخرة. إذا أردنا أن نعرف صحة فكرة لا بد أن ننظر الى عاقبتها ، وعاقبة الأمور تتجلّى في الآخرة بأظهر صورها ، وعلينا أن نجعل ذلك مقياسا لعملنا في الدنيا ، فما عاقبة التقوى إلّا الجنة ، وما نهاية الخلّة الصالحة إلّا الشفاعة والتقابل على سرر في الجنة ، قد نزع الله ما في قلوبهم من غلّ ، وهكذا فإنّ أيّ علاقة لا تنفع في الآخرة فهي ليست نافعة في الدنيا أيضا ، وإنّما أنت الذي تبني لنفسك قصرا في الجنة بعملك ، أو تحجز لنفسك دركا في النار (لا سمح الله) ،

__________________

(١) الشعراء / ١٠٠ ـ ١٠١

٥١٥

والدنيا صورة مصغّرة عن الآخرة ، فالظلم ظلمات يوم القيامة ، والغل والغش حيّات وعقارب في النار ، والنظرة الحرام نار في العين يوم القيامة ، والكذب عقرب تلدغ اللسان.

وربّنا سبحانه يوزّع مشاهد القيامة على سور القرآن توزيعا ينسجم وموضوعاتها ، فإذا كانت سورة الزخرف تتحدّث عن علاقات الإنسان المادية تجد فيها ما يتناسب وهذا الموضوع ، مثل نهاية العلاقات في الآخرة ، وإنّما يتحدث القرآن الكريم عن الآخرة قبل وبعد كلّ بصيرة يبيّنها ، لأنّ النفس لو تركت من دون التذكرة بالآخرة لطغت ولتجبّرت ، ولم تنتفع بالبصائر ، ولا كيف كانت عاقبتهما. تقول الرواية التاريخية : كان عقبة بن أبي معيط يجالس النبي (ص) فقال قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط ، فقال خليل له يسمّى أميّة بن خلف : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمّدا ولم تتفل في وجهه ، ففعل عقبة ذلك ، فنذر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قتله ، فقتله يوم بدر جهدا ، وقتل أميّة في المعركة .. قالوا فيهما نزلت هذه الآية» (١) .

ترى هل كانت عاقبة عقبة هذه السوءى لو لم تربطه بأميّة تلك الخلّة القائمة على غير أساس إيماني؟!

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)

بلى. لا بدّ للإنسان من صداقة ، إذا فليبحث عمّن يهديه الى الحق ، ويعينه على دينه ودنياه ، هكذا أمرنا الإمام الصادق عليه السلام :

«واطلب مواخاة الأتقياء ، ولو في ظلمات الأرض ، وإن أفنيت عمرك في

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي / ج ١٦ ص ١٠٩.

٥١٦

طلبهم ، فإنّ الله عزّ وجلّ لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض ـ بعد النبيّين صلوات الله عليهم ـ وما أنعم الله على عبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم» (١) .

ونجد في النصوص الدينية الكثير من الأحاديث حول الصداقة. كيف تكون في الله؟ وما هي علامات الأخلّاء المتقين؟ وما هي حدود التعاون بينهم؟ وما هي الحقوق المتبادلة بينهم؟ كلّ ذلك لتنظّم حلقات المجتمع الإسلامي رصينة مباركة ، وتتنامى روح التعاون بينهم في كافّة الحقول ، في السلم كما في أيّام المقاومة ضد الغزاة والطغاة ، حين تقوم طلائع حزب الله قياما واحدا لله ، لمحاربة أعداء الله ، ومن أجل تطبيق حكم الله في الأرض ، عندئذ يحتاجون الى قيم تنظيميّة وبرامج للتعاون ، فلا يجدون أفضل من هذه النصوص التي تغنينا عن الكثير من الأساليب التنظيمية التي يستوردها البعض من هنا وهناك.

بلى. الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها أنّى وجدها ، وإنّ تجارب الآخرين في تنظيم المقاومة ضد الغزاة والطغاة هي ثروة إنسانية مشتركة لا بأس بالانتفاع بها ، ولكن بشرطين : أوّلا : أن نبني تنظيما على أسس إسلامية طاهرة ، اعتمادا على الزخم الهائل من بصائر الآيات والأحاديث التي وردت في ذلك ، ثانيا : أن نهذّب ما نستفيده من تجارب الآخرين بما لدينا من قيم وتعاليم.

وإنّ البحث عن الخليل الإيماني صعب ، وهام في ذات الوقت ، ولذلك نجد التحريض عليه شديدا ، ويكفينا هنا الحديث التالي ناصحا في هذا الحقل :

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في الخليلين المؤمنين ، والخليلين الكافرين :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٦١٣.

٥١٧

«فأمّا الخليلان المؤمنان فتخالّا في حياتهما في طاعة الله تبارك وتعالى ، وتباذلا عليها ، وتوادّا عليها ، فمات أحدهما قبل صاحبه ، فأراه الله منزلته في الجنة ، يشفع لصاحبه فيقول : يا ربّ خليلي فلان كان يأمرني بطاعتك ، ويعينني عليها ، وينهاني عن معصيتك ، فثبّته على ما ثبّتني عليه من الهدى حتى تراه ما أريتني فيستجيب الله له حتى يلتقيا عند الله عزّ وجل ، فيقول كلّ واحد منهما لصاحبه : جزاك الله من خليل خيرا ، كنت تأمرني بطاعة الله ، وتنهاني عن معصيته.

وأمّا الكافران فتخالا بمعصية الله ، وتباذلا عليها ، وتوادّا عليها ، فمات أحدهما قبل صاحبه ، فأراه الله تبارك وتعالى منزلته في النار ، فقال : يا ربّ خليلي فلان كان يأمرني بمعصيتك ، وينهاني عن طاعتك ، فثبّته على ما ثبّتني عليه من المعاصي حتى تراه ما أريتني من العذاب ، فيلتقيان عند الله يوم القيامة ، يقول كلّ واحد منهما لصاحبه : جزاك الله من خليل شرّا ، كنت تأمرني بمعصية الله ، وتنهاني عن طاعة الله» (١)

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

لا خوف عليهم من موقف يدوم خمسين ألف سنة ، ولا خوف عليهم من النار ، ولا حزن عندهم من التقصير في الدنيا ، كلّا .. إنّهم لم يخسروا فرصهم في الدنيا حتى يحزنوا كما يحزن غيرهم.

[٦٩] (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ)

ولعلّ الإسلام هنا يعني التسليم للقيادة الشرعية.

[٧٠] (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ)

__________________

(١) المصدر ص ٦١٢

٥١٨

لقد كانوا يؤثّرون على أزواجهم ومن يحيط بهم من عشيرتهم الأقربين عبر التربية ، واليوم يجدون فائدة هذا التأثير ، فلا يفرّق بينهم وبين أزواجهم ، كما أنّهم يشفعون لأزواجهم ومن اتصل بهم في الدنيا بعمل صالح أو علم نافع ، إذ يدعون لهم فيستجاب لهم ، وهذه حقيقة الشفاعة ، أمّا سببها فهو تواصل الخيرات بين المؤمنين ، فمن أخذ من أحد علما نافعا في الدنيا استفاد في الآخرة ، ومن اتبع إمام هدى انتفع بشفاعته ، ومن خدم أهل الصلاح لصلاحهم شفعوا له عند ربّهم ، وهكذا.

وقد ورد في الروايات أنّ المؤمن إذا ادخل الجنة يسمح له بأنّ يدخل معه من يريد ، وفي بعض الروايات أنّ المؤمن يشفع في مثل ربيعة ومضر ، وأنّ المؤمن ليشفع في صديقه إذا مات قبله وأدخل الجنة.

والحبور هو السرور والبهجة لانتهاء العناء ، وقال البعض : إنّه لذة السماع ، وإذا جعلنا معنى الحبر الكرامة فإنها تعني سموّا في المقام ، وفرحا في القلب ، وسرورا في العين ، ولذّة في السماع ، وزينة وطيبا.

[٧١] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)

دخول الجنة هو يوم عيد المؤمنين ، ففي الجنة يطاف على المؤمنين بصحاف الذهب وأكواب كانت قواريرا ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس من أنواع الملذّات ، فمن الحور الى الغلمان الى صنوف الأكل والرحيق والسندس ، وما تلذّ الأعين ، فكلّ شيء جميل وجذّاب ، وقد أجمل القول لأنّ التفصيل فوق مستوى عقولنا نحن البشر.

وقد جاءت في تفسير الآية أحاديث بحرمة اتخاذ أواني الذهب والفضة ، لأنّهما

٥١٩

كرامة للمؤمن في الآخرة. قالوا : الصفحة ما تتسع لإطعام خمسة ، أما الكوب فقالوا : إنّه الكوز بلا عروة.

(وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ)

لا خوف من الموت ، ولا من التحوّل الى النار.

[٧٢] (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

يدخل الله المؤمنين الجنة بما عملوا ، فالجنة ليست بالتمنّي ولكن بالسعي والجد والعمل ، وليس أيّ عمل ، كلّا .. إنّما العمل الخالص لله ، ولعلّ كلمة الوراثة هنا تشبه كلمة الشكر التي تقال لمن عمل صالحا ، وهو يورث بهجة روحية .. وقلّما يحدّثنا القرآن عن النعم المادية في الجنة أو في الدنيا إلّا ويشفعها ببيان النعم المعنوية التي هي أعمق لذّة وأدوم سرورا.

[٧٣] (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)

الفاكهة هي ما يأكل الإنسان تفكّها وليست هي الغذاء الأساسي. إنّها فاكهة كثيرة يأكل المؤمنون منها ، للتنعّم واللّذة ، وليس للحاجة والضرورة.

[٧٤] وفي مقابل المؤمنين هناك المجرمون.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ)

فالإجرام سبب للخلود ، إذ ليست كلّ الذنوب تؤدّي الى الخلود في عذاب جهنم.

[٧٥] (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)

٥٢٠