من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

ولو أنّه يعطي الناس كيفما أرادوا لربما فسد العالم ، فقد يتمنّى الجميع أو الأكثريّة الذكور أو العكس ، بينما لا بد من التنوع والتوازن للحفاظ على الجنس البشري ، ومن جانب آخر يجعل ربّنا البعض عقيما لحكمة يعلمها ، فربما يفسد العقيم لو أعطي ذريّة.

ومعرفة هذه الحقيقة تبعث السكينة في النفس ، فمن علم بأنّ الله هو الوهّاب لأفضل النعمة وأشدّها تأثيرا على النفس ، وهي نعمة الذرية التي تهشّ لها نفس كلّ حي ، لا يستبدّ به الفرح حتى يدخله في الغرور ، كما أنّه لو فقد شيئا من النعمة لا يستبدّ به اليأس حتى يدخله في الكفر بالنعم ، لأنّه يعلم بأنّ المقدّر لكلّ ذلك هو الله الذي لا يظلم ولا يجور سبحانه وتعالى.

[٥١] وفي سياق الحديث عن آماد ضعف البشر ، وأبعاد حاجته ، وضرورة اتصاله بمعدن القوة ، وينبوع الغنى برحمة الله الذي له ملك السموات والأرض يهدينا الربّ الى نعمة الرسالة ، ويتصل الحديث عن الرسالة بالجوّ العام لسورة الشورى التي تختم بهذه الآيات اتصالا متينا ، ذلك لأنّ الشورى ـ كما أسلفنا ـ متمّمة للنظام السياسي للأمّة ، ومحور هذا النظام بل وأساس الأمّة هو الوحي الذي يضفي على المجتمع المسلم صبغة الله ، ويحييه بكلمة التقوى ، ويوحّده حول محور القيادة الرسالية المتمثّلة في الرسول (ص) وذوي القربى من أهل بيته المعصومين ومن اتبع نهجهم من الفقهاء الصالحين!

ولم يمنّ الله على عباده بنعمة أعظم ولا أروع ولا أنفع من الوحي. إنّه التجلّي الأعظم لرحمة الله التي وسعت كلّ شيء ، وأيّ تقدير أو أيّ احترام أكبر من أن يتلقّى الإنسان كلمات جبّار السموات والأرض.؟! وأيّ قلب عظيم هذا الذي يتلقّى هذا الأمر الثقيل فلا يتصدّع.؟! أيّ سماء تحلّق بها هذه النفس الكريمة

٤٠١

التي تستقبل كلمات الله التي لو ألقيت على الجبال لتصدّعت ولو وجّهت الى الموتى لتكلّموا أو الى الأرض لسارت سيرا.؟!

ولكن كيف ينزل الله كلماته على البشر؟ بواحدة من السبل التالية :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً)

ما هو الوحي؟ حسب اللغة وموارد استخدام الكلمة أنّه قذف الحقيقة في القلب قذفا.

قال الشيخ المفيد : وأصل الوحي هو الكلام الخفي ، ثم قد يطلق على كلّ شيء قصد به إفهام المخاطب على الستر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه ، وإذا أضيف الى الله كان فيما يخصّ به الرسل (صلّى الله عليهم) خاصة دون سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي. (١)

وروي عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنّه قال في معاني الوحي :

«وأمّا تفسير وحي النبوة والرسالة فهو قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) وأمّا وحي الإلهام فهو قوله عزّ وجلّ : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ومثله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) ، وأمّا وحي الإشارة فقوله عزّ وجل : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)» (٢)

وما يجمع هذه المعاني وغيرها لكلمة الوحي هو الإلقاء إشارة وبنحو من

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج (١٨) ص (٢٤٩) .

(٢) المصدر / ص (٢٥٥) .

٤٠٢

التخصيص والستر.

ونتساءل : كيف يتمّ الوحي من الله للبشر؟ قبل الإجابة لا بدّ أن نعرف أنّه لا ينبغي السؤال عن الكيفية في الجانب الالوهي ، لأنّ علمه محجوب عنا ، وقد ضلّ كثير من الناس حين تفكّروا في الذات الالوهية وما يتصل به سبحانه من حقائق ، بلى. يحقّ لنا أن نسأل عن الجانب الآخر حيث يتمّ التلقّي والاستجابة والأخذ ، والقضية هنا هيّنة إذ أنّ لها أمثلة : فنحن البشر لم نعلم شيئا حين خلقنا الله من بطون الأمهات ثمّ قذف في قلوبنا العلم ، كما أنّ كثيرا من البشر يقذف الله في أفئدتهم نور معرفته وروح الإيمان به ، وكلّ ذلك نظائر للوحي.

ولكن حين يكلّم الله أحدا بالوحي فإنّ ذلك لا يعني مجرّد قذف نور العلم بصورة مجملة ، بل وأيضا بيان تفاصيل العلم ، وبيّنات الهدى ، لأنّ القضية هنا قضية التكلّم ، والتكلّم يعني وجود كلمات ، والكلمات تعني المفصّلات من العلم.

ويبدو أنّ الوحي هو اتصال مباشر بين الربّ وعبده المنتجب ، ولعلّه أسمى درجات التكلّم ، وقد كان نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) يعيش في لحظات التجلّي وضعا خاصّا كان يسمّيه المسلمون (برحاء الوحي) ..

سأل زرارة من الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قائلا : جعلت فداك : الغشية التي كانت تصيب رسول الله (ص) إذا نزل عليه الوحي؟ فقال :

ذلك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلى الله له (١)

وجاء في حديث آخر :

__________________

(١) المصدر / ص (٢٥٦) .

٤٠٣

كان جبرئيل إذا أتى النبي قعد بين يديه قعدة العبد ، وكان يدخل حتى يستأذنه (١)

من هنا فإنّ برحاء الوحي إنّما كانت تنتاب النبي عند ما يتمّ تجلّي الله له بالوحي المباشر ، وليس عند ما يبعث إليه رسولا من عنده (وهو جبرئيل عليه السلام) الذي كان يتمثّل في أجمل صورة وهو صورة دحية الكلبي المعروف بصباحة وجهه ، ولم ينزل عليه بصورته الأصليّة إلّا مرّتين ، حسب بعض النصوص .. ماذا كانت برحاء الوحي ، ولماذا؟

روي أنّه كان إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل.

وروي أنّه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وانّ جبينه يتفصّد عرقا. (٢)

وروي أنّه كان إذا نزل عليه كرب لذلك ، ويربدّ وجهه ، ونكس وجهه ونكس أصحابه رؤوسهم منه. (٣)

وفي الحديث أنّه أوحي اليه وهو على ناقته ، فبركت ووضعت جرانها (٤) فما تستطيع أن تتحرّك ، وأنّ عثمان كان يكتب للنبي (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) ... الآية وفخذ النبي على فخذ عثمان فجاء ابن أمّ مكتوم ، فقال يا رسول الله : إنّ بي من العذر ما ترى ، فغشيه الوحي ، فثقلت فخذه على فخذ عثمان ، حتى قال : خشيت أن ترضّها فانزل الله سبحانه : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (٥)

__________________

(١) المصدر.

(٢) أي إذا انتهى عنه الوحي تصبّب عرقا.

(٣) المصدر / ص (٢٦١) .

(٤) مقدّم العنق.

(٥) المصدر / ص (٤٦٤) .

٤٠٤

وحقّ للنبي أن يتكأدّه ثقل الوحي ، ولو لا توفيق الله لتصدّع قلبه لتجلّيات ربّه. أو ليست السموات يكدن يتفطّرن من خشية الله؟

ما أعظم هذا القلب الذي يتحمّل كلمات الله ، ويتلقّى أمره مباشرة! إنه حقّا آية عظمي من آيات الله!

ولعلّ توفيق الله وتسديده للرسول والذي تكتمل مقدرته على احتمال حالة الوحي وتجلّي الله العظيم ثم احتمال علم الله وكلماته ، لعل هذا التوفيق يتمثّل في روح القدس التي أنزلها الله على نبيّه ، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال مفسّرا قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) :

«خلق أعظم من من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله وهو مع الأئمة ، وهو من الملكوت» (١)

وقال في تفسير قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) :

«خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدّده وهو مع الأئمة من بعده» (٢)

(أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)

كما كلّم الله نبيّه موسى بن عمران (ع) تكليما ، ولكن دون أن يرى شيئا ، وماذا تحتمل العين من عظمة الله ، أرأيت كيف تتلف أنسجة العين ، وتعطب أعصابها ، لو تعرّضت لومضة شديدة من النور الذي خلقه الله ، أو يزعم أحد بأنّ الله

__________________

(١) المصدر / ص (٢١٥) .

(٢) المصدر.

٤٠٥

أقلّ نورا من تلك الومضة وقد أشرقت السموات والأرض بنور ربّها؟!

لقد تجلّى ربّك للجبل فجعله دكّا ، وخرّ موسى صعقا ، فإذا لم يصبر موسى على تصدّع الجبل فهل كان يتحمّل تجلّي الله له مباشرة؟!

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)

كما كان ربّنا يبعث جبرئيل لرسله ، ولكن كيف كان يتلقّى جبرئيل وحي ربه؟

حسب رواية عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه :

«سأل جبرئيل قائلا : يا جبرئيل : هل رأيت ربّك؟ فقال جبرئيل : إنّ ربي لا يرى ، فقال رسول الله : من أين تأخذ الوحي؟ فقال : آخذه من إسرافيل ، فقال : من أين يأخذه إسرافيل؟ قال : يأخذه من ملك فوقه من الروحانيّين ، قال : فمن أين يأخذه ذلك الملك؟ قال : يقذف في قلبه قذفا» (١)

(فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)

ولا يحقّ لأحد يتلقّى الوحي أن يتصرّف فيه كثيرا أو قليلا ، بل لا بدّ أن يكون الوحي حسبما أمر الله ، وفي الوقت الذي يأذن الله.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)

ومن علوّ مجده تساميه من القلوب المريضة ، والنفوس المليئة بالأحقاد والأغلال

__________________

(١) المصدر / ص (٢٥٧) .

٤٠٦

وآثار الذنوب ، إنّما الذين يصطفيهم الله لوحيه من طهرت أنسابهم وأحسابهم ، وصفت قلوبهم ، وتسامت نفوسهم ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته يختار لها أكرم خلقه ، وأشدهم تسليما وطاعة وإخلاصا.

من هنا لا ينبغي للناس أن يختاروا لقيادتهم إلّا الأعلم الأتقى. أو ليس الله هو المخصوص بالطاعة؟ فلا بد أن يكون أقرب الناس اليه هو الذي يطاع بين الناس بإذن الله.

[٥٢] وهكذا عقد لواء القيادة في هذه الأمّة لرسولنا الأكرم لأنّه تلقّى الوحي من أمر الله ..

(وَكَذلِكَ)

بمثل هذه السبل الثلاث : بالوحي المباشر ، وبالتكلّم من وراء الحجاب ، وببعث الرسول ، تلقّى الرسول كلمات ربّه.

(أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)

ما هو ذا الروح الذي أوحى الله الى الرسول؟ قالوا : إنّه روح الحياة. أو ليس القرآن حياة القلوب ، وفيه ما يضمن للبشر الحياة الأخروية ، وقد قال ربّنا سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) . (١)

ولكن يبدو أنّ الروح في منطق الكتاب هو روح القدس ، وقد قال ربّنا سبحانه :

__________________

(١) الأنفال / (٢٤) .

٤٠٧

١) (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (١)

٢) (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢)

٣) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (٣)

٤) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) (٤)

والروح ـ حسب الآية الأخيرة ـ غير الملائكة ، وهو يلقى على الرسل حسب الآية الثالثة ، وهو يحمل الرسالة حسب الآية الثانية ، ويؤيّد به الرسل حسب الاية الأولى.

وفي النصوص أنّه خلق أعظم من الملائكة ، وهو الذي ينزل في ليلة القدر ، ويصعد مع الملائكة في يوم القيامة كما ذكر في الآية الرابعة.

وهو بأمر الله ومن أمره ، فهو إذا من عالم الملكوت المهيمنة على المخلوقات ، وبتعبير آخر : إنّه من عالم الأنوار المتعالية عن عالم الأجسام اللطيفة كالملائكة أو الكثيفة كالبشر ، إنّه في أفق العلم والعقل والحياة والقدرة ، وبذلك فهو من عالم الأمر ، حيث ينزل منه القدر ، ويكون به القضاء.

ويكفينا أن نعرف من الروح هذا القليل الذي يشير الى آياته وعلائمه ومظاهر وجوده وليس الى ذاته ، كما في سائر الأنوار العالية التي لم نعرف علمها إلّا بقدر معرفة آثارها ، وقد قال ربّنا سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي

__________________

(١) البقرة / (٨٧) .

(٢) النحل / (١٠٢) .

(٣) غافر / (١٥) .

(٤) النبأ / (٣٨) .

٤٠٨

وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)

وهكذا يبدو أنّ الروح ـ كما العقل والإرادة ـ هو نور إلهي ينزله الله على قلب من يشاء من عباده ، ليشبع فيه سكينة الإيمان ، ونور اليقين ، وسداد التوفيق ، وكلمة التقوى والعصمة.

وقد أعطى ربّنا المؤمنين من عباده درجة من هذا الروح وهو روح الإيمان والتقوى ، بينما أكمل لنبيّه محمد وآله عليه وعليهم السلام درجات هذا الروح ، وأبلغهم درجة اليقين التامّ والعصمة.

ولو لا هذا الروح لم يكن يعرف الأنبياء أنّ ما ينقر في آذانهم أو يقذف في أفئدتهم أو تراه أبصارهم هو من عند الله وليس من نزغات الشياطين أو أوهام النفس.

كما أنّه لو لا نور العقل لم يقدر الإنسان على التمييز بين الحق والباطل ، بين ما تراه عينه من ماء وما يترائى له من سراب.

ولو لا روح القدس لم يهزم النبي الشيطان كليّا ، كما أنّه لو لا روح الإيمان لم يتغلّب المؤمن على الشيطان في الأغلب.

وبتعبير آخر : بروح القدس تتكامل نفس النبي حتى تستعد لتلقّي وحي الله ، كما بالعقل تتكامل نفس سائر البشر لتلقّي المعارف والعلوم. إنّه إذا الجانب المتّصل بالنبي من الوحي ، بينما الرسالة هي الجانب المتصل بالحق الذي يوحى ، وكلاهما من الله سبحانه ، ولهذا جاءت كلمة الروح هنا بعد الوحي ، وكأنّه أوحي به بينما هو من أمر الله ، وبه يسود النبي لتلقّي الوحي.

٤٠٩

ونستوحي هذه الفكرة من بعض الأحاديث التي ذكرنا طائفة منها سابقا ، والتي تبيّن أنّ الروح خلق أعظم من الملائكة ، ونتلوا معا الطائفة الثانية :

روي عن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام): كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينتزغ به الشيطان؟ قال : فقال

«إنّ الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار فكان يأتيه من قبل الله عزّ وجلّ مثل الذي يراه بعينه» (١)

وروي عن محمد بن مسلم ومحمد بن مروان عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام) :

«ما علم رسول الله أنّ جبرئيل من قبل الله إلّا بالتوفيق» (٢)

وفي تفسير هذه الآية بالذات سبق وأن روينا حديثا عن الإمام الصادق عليه السلام أيضا أنّه قال (عن الروح في هذه الآية) :

«خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله يخبره ويسدّده وهو مع الأئمة من بعده» (٣)

وجاء في تفسير الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٤) عن

__________________

(١) المصدر / ص (٢٦٢) .

(٢) المصدر / ص (٢٥٧) .

(٣) المصدر / ص (٢٦٤) .

(٤) الإسراء / (٨٥) .

٤١٠

الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال :

«أعظم من جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد وهو مع الأئمة يسدّدهم ، وليس كلّ ما طلب وجد» (١)

ولكي يزداد الأنبياء يقينا بأنّ الله يؤيّدهم بروح منه ويزدادوا قربا منه بالإنابة إليه والتوبة فإنّ الله يكلهم الى أنفسهم لحظات فتهتزّ قناعاتهم أو يرتكبون ما لا يليق بهم ، كما همّ يوسف بها لولا أن رأى برهان ربّه ، وكما دعا يونس على قومه وكان الأولى أن يصبر عليهم ، وكما سارع داود بالقضاء فذكّرته الملائكة فأناب الى الله.

وقد جاء في حديثين يكمل الثاني منهما الأوّل ما يلي :

عن أبي بصير عن أبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) في قول الله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخفّفة قال :

«ظنّت الرسل أنّ الشياطين تمثّل لهم على صورة الملائكة» (٢)

وعن أبي شعيب عن أبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) :

«وكلهم الله الى أنفسهم أقلّ من طرفة عين» (٣)

هكذا نعرف أنّ نعمة الروح الذي يسدّد به النبي ويعصم من أن ينطق بهوى ليست بأقلّ من نعمة الوحي إن لم يكن أعظم.

__________________

(١) المصدر / ص (٢٦٤) .

(٢) المصدر / ص (٢٦١) .

(٣) المصدر / ص (٢٦٢) .

٤١١

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ)

ذلك أن الكتاب ليس من عبقرية محمّد (صلّى الله عليه وآله) بل من وحي الله.

(وَلَا الْإِيمانُ)

فلو لا الوحي لم يكن النبي يدري شيئا من كتاب ربّه ، ولولا روح القدس لم يبلغ درجة الإيمان ، لأنّ الايمان يتمّ بروح منه.

ولا ريب أنّ الرسول كان مؤمنا قبل الرسالة ، ولكنّ هذا الإيمان كإيمان أيّ بشر آخر كان بالله وبروح منه. ألم يقل ربّنا سبحانه : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١)

أمّا الرسول محمد (ص) فقد سدّده الله منذ نعومة أظفاره بروح القدس ، حسبما يبدو من كلام أمير المؤمنين عليه السلام :

«وقد قرن الله به ـ صلّى الله عليه وآله ـ من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره» (٢)

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا)

إنّه من الله ، ولأجل كلّ من يشاء الله هدايته ، وليس من الرسول أو خاصّا به فقط.

__________________

(١) الحجرات / (١٧) .

(٢) عن نهج البلاغة / الخطبة (١٩٢) .

٤١٢

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

[٥٣] فالنور الذي أوحى به الله يهدي الى السبيل المستقيم.

(صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)

وهل صراط الله خالق الكون ومالكه أفضل ، أم صراط الشياطين والطواغيت الذين يشرّعون مناهج منحرفة تتنافى مع القوانين الطبيعية والسنن الكونية فيضلّون ويضلّون؟!

وهل من تصير إليه الأمور أحقّ بالطاعة والإتباع أم من لا يملكون شيئا حتى من أمور أنفسهم؟!

وقبل الختام نورد حديثا في فضل هذه الآية نقله جابر بن عبد الله (ع) عن الإمام الصادق (ع) ، قال : سمعته يقول :

«وقع مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه إلّا هذه الآية : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)» (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٩١) .

٤١٣
٤١٤

سورة الزّخرف

٤١٥
٤١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة :

عن أبي جعفر الباقر (ع) أنّه قال :

«من أدمن قراءة (حم) الزخرف آمنه الله في قبره من هوام الأرض ، وضغطة القبر ، حتى يقف بين يدي الله عزّ وجل ، ثم جاءت حتى تدخله الجنة بأمر الله تبارك وتعالى»

(تفسير نور الثقلين / ج ٤ ص ٥٩٠)

٤١٧
٤١٨

الإطار العام

لكي تستقبل أفئدتنا ضياء الايمان لا بدّ أن نطهّرها من طائفة من الأدران التي تترسّب عليها ، وآيات الذكر تذكّرنا بها ، وتشجّعنا على تزكية القلوب منها ، وتوصينا بكيفية ذلك ، ويبدو أنّ سورة الزخرف تجري في هذا السبيل .. كيف؟

إنّ هدف الكتاب المبين الذي جعله الله قرآنا عربيّا (بلغتهم ، ويفصح جليّا عن الحقائق) بلوغ العقل ، وهو أسمى وأدق تعبير عمّا في أمّ الكتاب (١) .

ثم تترى الآيات في تبصير الإنسان بالعقبات النفسية التي لا بدّ من تجاوزها (أو الأقفال التي يجب فكّها ، والأمراض التي يجب معالجتها ، والأدران التي يجب تطهير القلب منها ليستعدّ للإيمان) وهي :

أوّلا : الغرور بالمال ، وهل يضرب القرآن الذكر صفحا لأنّهم قوم مسرفون؟  أفلا ينذرون قبل أن يكسر غرورهم عذاب عقيم ، كما أهلك أشدّ منهم بطشا ، وتركهم أحاديث لمن يعتبر بهم؟ (٥) .

٤١٩

ثانيا : الفصل بين ربّ السماء وربّ الأرض ، والإعتقاد بأنّ إله الحق لا شأن له بدنياهم ، وإذا سئلوا عمّن خلق السموات والأرض فلا مناص لهم من الاعتراف بالخالق العزيز العليم ، وهكذا الأرض ، فهو الذي جعلها مهدا ، وسلك فيها سبلا ، لعلّهم يهتدون الى مآربهم ثم الى ربّهم الذي أتقن صنعه ، وحتى تدبير رزقهم فهو بأمر الله. أو ليست حياتهم تعتمد على الماء ، فمن ينزله من السماء بقدر حاجتهم؟

أفلا يرون كيف يحيي به الله الأرض ، فلما ذا لا يهتدون الى أنّه كذلك يحييهم بعد موتهم؟! ومن آيات تدبيره خلق الأزواج ، وتوفير وسائل النقل. أو ليس كلّ ذلك يدلّ على أنّ إله السماء هو إله الأرض ، ويدعوهم الى طاعته ، وشكر نعمائه ، فإذا استقروا على ظهور الأنعام أو متن السفن سبّحوا الله على تسخيرها لهم! ولم يكونوا بمستواها (٩) ونقرأ في ختام السورة تذكرة بهذه الحقيقة أيضا (٨٤) .

ثالثا : تقديس الأشياء والأشخاص ، فإذا بهم يجعلون للرحمن من عباده جزء (يعطونه صفة التقديس) وبالغوا في كفرهم حين زعموا أنّ الله اختار لنفسه البنات ، واصطفى لهم البنين.

ويتساءل : هل شهدوا خلقهم؟ كلّا .. ويقول إنّ كلامهم الباطل شهادة عليهم ، سوف تكتب وسوف يسألون عنها ... وتراهم يبرّرون عبادة الآلهة بالجبر الإلهي ، بلا علم عندهم ، بل بمجرد الخرص والتخمين ، ولا بكتاب إلهي يستمسكون به ، بل باتباع آبائهم.

ويعالج القرآن ابتاع الآباء بأنّ ذلك من عادة المترفين الذين ما أرسل الله الى قرية نذيرا إلّا تشبّثوا بتقاليدهم البالية متحدّين بها رسالات ربّهم ، ولكن ألا ينظرون الى عاقبة أولئك المترفين الذين انتقم الله منهم؟!

٤٢٠