من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

على الأرض من ملايين النباتات المفعمة بأسرار الحياة.

إنّ تنوّع النباتات ، وسرعة التهاب الحياة في جنباتها ، وانسياب القدرة من أطرافها ، يهدينا كلّ ذلك الى أنّ إحياء الموتى على الله يسير ، والبشر بدوره كنبتة واحدة بين ملايين النباتات.

بل يهدينا ذلك الى أنّ القدرة الإلهية لا تحد ، لأنّ شدّ التنوّع ، وكثافة الخلق ، وعظمة التدبير ، وسرعة التطوير ، لا يدع كلّ ذلك مجالا للشك في أنّ الله واسع القدرة ، ولا شيء يعجزه أبدا.

(إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

جاء علي بن فضّال إلى الإمام الرضا (ع) يسأله : لم خلق الله الخلق على أنواع شتّى ، ولم يخلقه نوعا واحدا؟

فأجابه قائلا :

«لئلّا يقع في الأوهام أنّه عاجز ، فلا تقع صورة في وهم ملحد إلّا وقد خلق الله عزّ وجلّ عليها خلقا ، ولا يقول قائل : هل يقدر الله أن يخلق على صورة كذا وكذا ، إلّا وجد ذلك في خلقه تبارك وتعالى ، فيعلم بالنظر الى أنواع خلقه أنّه على كلّ شيء قدير» (١)

[٤٠] قلب البشر كالأرض ، إذا خشع لربّه واستجاب لآيات الله أحياه الله بالإيمان أمّا إذا استكبر ولم يستجب لآيات الله كان كالصخرة الصمّاء التي لا تهتز للغيث.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٥١) .

٢٤١

وبما أنّ الخليقة تفيض بآيات الله فإنّ الكفّار يسعون جاهدين التخلص من آثارها على نفوسهم ، فتراهم يلحدون فيها ، ويحرّفونها عن مواضعها ، ويبحثون لأنفسهم عن تبريرات لكي لا يؤمنوا بها ، ولكن هل تنطلي تبريراتهم وخدعهم على ربّهم؟ كيف وهو الذي خلقهم وأحاط بهم علما؟

إنّهم سوف يلقون في نار جهنّم يوم القيامة ، لقد فرّوا من مسئوليات الإيمان الى ظلّ الإلحاد (التبرير) زاعمين أنّه ينجيهم من العقاب ، بينما النجاة كانت في التسليم لآيات الله ، وتقبّل مسئولياتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا)

جاءت هذه الآية بعد ذكر الآيات ، لأنّ كثرة الآيات لا تنفع من يتهرّب من التأثّر بها ، وقال فريق من المفسّرين : إنّ معنى الإلحاد هو ما كانوا يفعلونه من المكاء والتصدية ، وكأنّهم نظروا الى ظاهر كلمة الإلحاد الذي يدلّ على الفعل المتعدّي الى الغير ، ويعني حرف الآخرين عن الإيمان كمن يحرّف آيات الله ، وقالوا : إنّ الآية نزلت في أبي جهل ، بينما ذهب مفسّرون آخرون أنّ المعنى : الذين يميلون عن آياتنا ، ويبدو هذا المعنى أقرب الى السياق.

(لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا)

بالرغم من أنّ الملحد يتشبّث بالتمحّلات البعيدة ، ويحاول إخفاء رفضه للآيات بابتداع نظريّات وفلسفات وأفكار باطلة وتخرّصات واهية ، إلا أنّ كلّ ذلك قد يخدع الناس ، وقد يخدعهم أنفسهم ، ولكنّه لا يخفى على الله ، لأنّ الله محيط علما بنيّاتهم الخبيثة ، ويجازيهم عليها بالنار.

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)

٢٤٢

ميزة الإنسان عن سائر الأحياء تطلّعه الى مستقبل أفضل. ألا ترى كيف تبحث البشرية اليوم إلى التقدّم الحضاري؟ لماذا؟ لأنّهم يريدون أمن المستقبل ، ولكنّهم يغفلون عن أعظم أمن لا بد أن يسعوا إليه ، وهو أمنهم يوم القيامة ، الذي لا يتوفّر إلّا لمن ألقى السمع إلى آيات ربّه ، واستجاب لها بخشوع.

ولأنّ الاستجابة لآيات الله تتمّ بوعي وشدّة عزم من قبل المؤمنين فإنّهم يأتون بأنفسهم الى ساحة المحشر آمنين ، بينما الإلحاد يتمّ استسلاما للهوى فإنّ الملحدين يلقى بهم في نار جهنّم إلقاء.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

لقد سمح الله لعباده بقدر محدود من الحرية في الدنيا ليتحمّلوا مسئولياتهم كاملة يوم القيامة ، ولكنّه حذّرهم من مغبّة الإلحاد ، والالتواء ، والتبرير ، وخداع الذات ، لأنّه بصير بما يعملون ، فيعلم فعلهم ، ولماذا يفعلون.

[٤١] الكتاب الذي أنزله الله لعباده يعكس آياته المبثوثة في الخليقة ، فمن أعرض عنه فقد أعرض عن حظّه ، لأنّ الكتاب ذكر يستثير ما نسيه البشر من حقائق هامة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ)

إنّهم هم الملحدون في آيات الله ، وإنّ مصيرهم الدمار ، لأنّهم أعرضوا عن كتاب مقتدر.

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ)

وكيف لا يكون عزيزا وقد وعد ربّ العزّة أن يحفظه ، وينصر من ينصره ، وإنّه

٢٤٣

ليعكس سنن الله التي تنتقم ممّن خالفها بشدة ، وقد أنبأ الرسول (ص) عن عزّة الكتاب حيث قال عنه :

«من جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار»

وقال المفسرون : إنّ خبر المبتدأ هنا محذوف لدلالة السياق ، كما لو قلنا : إنّ من يعادي زيدا وإنّ زيدا لقوي ، أي أنّه لا يفلح لأنّ من يعاديه قوي.

[٤٢] وعزّة القرآن تتجلّى أيضا في أنّه حق ، والحقّ منتصر.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)

فلا إخباره عمّا مضى يشوبه الباطل ، ولا إنباؤه عمّا يأتي. إنّه كتاب العصور جميعا. أو ليس يبيّن محض السنن ، ولباب الحقائق ، وعبر القصص ، وهي لا تختلف من عصر لعصر ، كما قال الإمام الرضا (ع) عنه :

«هو حبل الله المتين ، وعروته الوثقى وطريقته المثلى ، المؤدي الى الجنة ، والمنجي من النار ، لا يخلق على الأزمنة ، ولا ينعت على الألسنة ، لأنّه لم يجعل لزمان دون زمان ، بل جعل دليل البرهان ، والحجة على كلّ إنسان» (١)

(تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)

الله الذي شهدت آفاق الخليقة بحكمته البالغة هو الذي نزّل الكتاب ، فهو الناطق عن تلك الحكمة التي نراها في خلقه سبحانه.

وهو الحميد الذي نشرت محامده على كلّ أفق مبين ، لأنّ رحمته وسعت كلّ

__________________

(١) المصدر / ص (٥٥٤) .

٢٤٤

شيء ، وقد بعث آخر الأنبياء رحمة للعالمين ، وأنزل معه كتاب رحمته.

[٤٣] إنّ طبيعة النفس البشرية واحدة عبر التاريخ ، وتبريرات الملحدين في آيات الله والمعرضين عن ذكرهم اليوم هي ذاتها التي قالوها للرسل من قبل ، كما أنّ سنة الله في إمهالهم برحمته الى أجل ثم أخذهم إن لم يتوبوا بعقاب أليم جارية فيمن يأتي كما جرت فيمن مضى.

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ)

فلا تحزن عليهم. إنّها عادة الملحدين الذين يعرضون عن الذكر ، ويتقوّلون على الرسل تبريرا لإلحادهم وإعراضهم.

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ)

فعلى الرسول ومن يتبعه أن يوسع صدره ، ويتعامل مع خلق الله برفق.

(وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)

فلو أعرضوا فإنّ لهم عذابا أليما أعدّه الله لهم ، فلا يستعجل الداعية العذاب ، ولا يحمل همّ إنكارهم.

[٤٤] القرآن ذكر ، وقد توافرت فيه شروط الهداية لو لا أنّهم أعرضوا عنه ، ولو جعله الله أعجميّا لبرّروا إعراضهم بأنّه غير مفهوم ، أو قالوا : كيف يتحدّث نبي عربيّ بقرآن أعجمي؟!

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ)

ويحتمل أن يكون المراد من الأعجمي الكتاب غير المبين ، كما لو كانت آياته

٢٤٥

كلّها فوق مستوى عقولهم فلم يستوعبوه ، هنالك كانوا يطالبون بأن يكون واضحا قد بيّنت آياته.

وينهرهم القرآن أنّ القضية ليست في أن يكون عربيّا أو أعجميّا ، بل في أن يكون القلب مستعدّا لتقبّله.

(ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ)

وقال المفسرون : إنّ هذا الكلام تكميل لقوله «لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ» ، أي يكون الكتاب أعجميّا بينما الرسول عربي ، أو يكون الكتاب مختلطا بين العربي والأعجمي.

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ)

يهديهم الى الحق ، ويشفي قلوبهم من أمراضها ، أمّا المعرضون عنه فإنّهم لا ينتفعون بالكتاب. إنّ في آذانهم وقرا من الأفكار الباطلة ، والمسبقات الذهنية الخاطئة.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)

قالوا : معناه أنّهم محجوبون عنه حتى صاروا بالنسبة إليه كالأعمى ، ولعلّ معناه أنّهم يزدادون به ضلالا وطغيانا كما قال ربّنا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) .

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)

ذلك أنّ المسافة واسعة بين القرآن وهداه وشفائه وقلوبهم المغلفة التي غلّفتها الشهوات والكبر والأحقاد.

٢٤٦

[٤٥] وقصة الجحود طويلة ، فلقد أنزل الله التوراة على موسى فاختلف فيها الناس على الرغم من أنّها كانت هدى ونورا.

وأمهلهم الله حتى يمتحنهم ، ولو لا أنّه قد قدّر امتحان البشر في الدنيا لقضي بينهم ، وأخذ الجاحدين أخذا شديدا ، لأنّهم قد جاؤوا إفكا مبينا ، ولا يزال البعض يشكّ في التوراة شكّا مقلقا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ)

فاختلافهم في القرآن ليس دليلا على نقص فيه ، حاشا لله! إنّما هو بسبب وقر آذانهم ، وعمى أبصارهم ، وكما أنّ الله لم يعجّل على أولئك بالعذاب ، بالرغم من عظيم إفكهم ، كذلك لم يعجّل العذاب على هؤلاء. كلّ ذلك لأنّ الله قد قدّر الدنيا دارا للفتنة والبلاء.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)

ونزل عليهم العذاب ، ولكنّ الله قد سبقت كلمته أن يمهل الجاحدين الى أجل مسمّى فلا يغرّهم المهل ، ولا يتّخذ البعض ذلك دليلا على أنّ الله لا يعزّ كتابه أو لا ينصر رسله.

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)

قالوا : المعنى أنّ العرب لا يزالون في شك من القرآن ، وقال البعض : بل اليهود لا يزالون في شك من التوراة ، ويبدو أنّ هذا أقرب الى السياق والذي فيه تسلية للرسول ليتّسق المعنى ، هكذا : لا يحزنك ـ يا رسول الله ـ شك قومك في القرآن فبنوا إسرائيل لا يزالون في شك من التوراة.

٢٤٧

وقالوا : الريب هو أفظع الشك ، فالمعنى ـ على هذا ـ أنّهم في شك فظيع.

وقالوا : الريب هو الشك المقرون بسوء الظن.

ويحتمل أن يكون معنى الريب هو الشك المفزع ، فقد جاء في اللغة : أراب خلافا أقلقه وأزعجه ، وفي حديث فاطمة : «يريبني ما يريبها» (١) .

ولعلّ الفارق بين الشك المريب وغيره : أنّ من يهتّم بأمر يشك فيه يريبه الشك ويزعجه ، بينما الذي لا يهتم بأمر لا يزعجه الشك فيه.

__________________

(١) المعجم الوسيط / ج (١) ص (٣٨٤) .

٢٤٨

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى

___________________

٤٧ [أكمامها] : أكمام جمع كم وهو الغلاف ، يقال تكمّم الرجل بثوبه إذا تلفّف به.

[آذنّاك] : أعلمناك ، والمعنى نعلمك ونعترف لك.

٢٤٩

رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

___________________

٥١ [نئا] : بعد بجانبه عن الاعتراف بالله وشكره.

٢٥٠

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ

هدى من الآيات :

إنّ المنهج القرآني يربط بين ما في الطبيعة وما في النفس البشرية ، والآية ما قبل الأخيرة من هذه السورة تؤكّد هذه العلاقة الوثيقة ، وكلّما ازداد الإنسان وعيا بآفاق الطبيعة ازداد معرفة بأعماق النفس ، أو ليست النفس عالم كبير في حجم محدود ، وسواء اهتدى الإنسان الى غيب الطبيعة الذي هو الحق ، أو اهتدى الى غيب النفس الذي هو الحق أيضا ، فإنّه سيهتدي بإذن الله إلى خالق الطبيعة والنفس معا ، وهو الله عزّ وجل.

وفي الدرس تذكرة بالغة للإنسان بنفسه التي هي الأقرب إليه ، ولكنّه يغفل عن آمادها التي لو انتبه إليها أحسّ بعمق العبودية التي اركزت فيها. أو لا ترى كيف تجزع إنّ مسّها شيء من السوء ، وتفقد توازنها إن أصابها شيء من الخير؟ أو لا ترى حرصها على النعم الذي يمنعها من العطاء ، وشدة يأسها وقنوطها؟ إنّ أطوار النفس وتغيّراتها شاهدة على أنّها مخلوقة مدبّرة ، وتلك آية من آيات الله في الخليقة.

٢٥١

بينات من الآيات :

[٤٦] (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

تبيّن الآية المسؤولية الإنسانية : أنّ من عمل صالحا فإنّما لنفسه يعمل ، ويلقى جزاءه الحسن وافيا ، وأنّ من عمل سيئا فإنّما على نفسه ، ويجد جزاءه كاملا.

وكلمة ظلّام تدل على المبالغة في الظلم ، وربّنا ليس فقط لا يظلم كثيرا عبيده ، بل أيضا لا يظلمهم قليلا ، إذا فلما ذا ينفي الربّ ظلمه بصيغة المبالغة فيقول : «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»؟

وسبب هذا التساؤل هو التشابه الذي سيحدث بنفي المبالغة ، فلو قلت : فلان لا يأكل ، فهذا يعني أنّه لا يأكل كثيرا ولا قليلا ، وأمّا لو قلت : وما فلان بأكول ، فهذا يعني أنّه لا يأكل كثيرا ، ولكنّه قد يأكل قليلا ، فنفي المبالغة نفي للكثرة فقط.

والجواب ـ فيما يبدو لي ـ لو لم يربط ربّنا سبحانه بين عمل الإنسان وبين واقعه ، بين سعيه وبين جزائه لكان ظلّاما ، أو ليس من الظلم أن يصبح شخص رئيسا تهدى إليه خيرات الأرض وبركاتها ، ويصبح ويمسي شخص آخر وهو لا يجد ما يقتاته؟! بلى. إنّه ظلم ، بل ظلم كبير.

وأيّ ظلم أكبر من أن يدع الله سبحانه وتعالى الشعب الألماني ـ مثلا ـ تحت أقدام هتلر ، أو الشعب الروسي تحت سلطة عتاة الشيوعية ، أو الشعب العربي تحت عنجهية الصهاينة والطغاة؟!

٢٥٢

وحيث نعرف أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهنّ وما بينهنّ بالحكمة البالغة ، والتقدير العادل الموزون ، ووضع كل شيء موضعه المناسب ، ليس بظلام ، نعرف يقينا أنّ درجات الإنسان في الدنيا والآخرة مقدّرة حسب حكمة بالغة ، ترتبط باختياره وسعيه ، و(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢)

فربّنا لم يسلّط هتلر على الشعب الألماني أبدا ، ولكنّهم هم الذين سوّدوه على أنفسهم ، بجهالتهم وبتركهم مسئولياتهم ، وهكذا بالنسبة لسائر الشعوب.

[٤٧] وهناك تساؤل آخر تجيب عنه الآية التالية ، هو : إنّنا في كثير من الأوقات لا نكتشف الأسباب في حدوث الأشياء ، فنقول مثلا : من الذي جعل الطغاة يحكمون البلاد؟! ما الذي أمرض ولماذا عوّق هذا وقتل في حادث السيارة ذاك؟!

بلى. إنّك تجهل العلاقة بين حدوث الأمر الفظيع وبين الفعل ، ولكنّ العلاقة قائمة ، والله سبحانه هو الذي قدّرها ، وهو الذي يجريها.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ)

متى تقوم قيامة هذا الكون؟! لا أحد يدري ، فهذا غيب غائر في المجهول ، وحتى الأنبياء لا يعلمون ذلك ، فعند الله علم الساعة يقرّرها متى يشاء ، وكيف يشاء ، وقد تقوم غدا ، أو بعد غد ، وفي بعض النصوص : أنّ الله لم يقدّر للساعة وقتا ، وإنّما جعل لنفسه فيها البداء.

__________________

(١) الرعد / (١١) .

(٢) يونس / (٤٤) .

٢٥٣

(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها)

فهو المحيط علما بما في أكمام الثمرات من فواكه.

قف على شجرة قبل ان تظهر ثمراتها ، إنّك سترى زهورا كثيرة ، ولكن كم تحمل من ثمرة؟ وكم زهرة منها ستسقط وتتلاشى؟ وكم ثمرة ستسقط قبل النضوج؟ وكم ثمرة ستواصل الرحلة الى الأخير؟ إنّك لا تعلم ، ولا أحد يعلم ، ويبقى الله هو العالم بخفايا الأمور ، وخبايا الطبيعة ، ممّا يشكل رزق البشر الأساسي. أمّا عن أبنائه فالله هو المحيط علما بهم.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)

هل تحمل هذه الأنثى أم لا ، وماذا تحمل؟ أنثى أم ذكر؟ وهل يولد حمله سويّا ، وما هي انعكاسات الطبيعة على جسده ونفسه؟ كل ذلك يردّ علمه الى الله.

إنّ الآية السابقة بيّنت مسئولية البشر عن أفعاله ، وأنّ الله ليس بظلّام لعبيده ، وقد جاءت هذه الآية لتأكيد المسؤولية ، أوّلا : بأنّ الله محيط علما بواقع البشر ، فإليه يردّ علم الساعة عند ما يقوم للحساب ، وهو عالم برزقه ، وعالم بأبنائه ، ثانيا : بنفي الشركاء الذين يزعم البشر أنّ التوسّل بهم يبعده عن عذاب ربّه ، فيؤكد القرآن أنّ الإنسان يضحى يوم القيامة متبرّأ من الشركاء لأنّهم لم يغنوا عنه شيئا.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)

يقول لهم الله : أين الشركاء الذين كنتم تزعمون؟ فيعلنون له إعلانا : والله لا ندري أين الشركاء ، ولا ندري أين ولّوا.

[٤٨] (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ)

٢٥٤

عرفوا أنّه ليس للشركاء المزعومين دخل في الأمر.

(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)

المحيص هي تلك الحفرة الصغيرة التي يحفرها الطير ـ كالقطا مثلا ـ بجوئجئته أي بصدره في الأرض ، وهؤلاء المشركون يظنّون أي يعلمون يقينا أنّهم لا يقدرون على التزحزح عن مسئولياتهم ولا بهذا المقدار ، ولعل الظن بمعنى التصوّر ، وهو هنا يقع معنى تجسّد الحقيقة أمام أعينهم.

[٤٩] في أعماق نفس البشر آيات باهرة تهديه الى ربه ، ولو تدبّر الإنسان في ذاته ، وكيف تطرأ عليه الحالات المختلفة من طمع لا يحد ، ويأس لا يوصف ، لعرف حاجته الى الخالق ، وأنّه قد أركس في العجز والفقر والمسكنة إركاسا.

إنّ البشر حين ينازع ربه رداء كبريائه يحتجب عن نور الله ، لأنّه قد جهل نفسه ، ولم يعرف آماد عجزها وضعفها ، وشدة فقرها وفاقتها ، أمّا حين يتصوّر حالاته المختلفة يعرف نفسه ، ومن ثمّ يعرف ربه.

وربنا يرينا آياته في أنفسنا فيقول :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ)

إنّه عميق الإحساس بالحاجة الى الخير من الغنى والعافية والأولاد ، وسواء دعا ربّه أم دعا الشركاء فهو محتاج ، والمحتاج فقير ذليل عاجز ، وهو بالتالي ليس بإله ولا نصف إله. إنّه محض. عبد ، صفر اليدين. إنّه يتوب الى ربه الغني ، ويعلم بفطرته أنّه غناه ، والتقرّب اليه مناه حقّا ، وأنّه قد ضلّ الطريق ، وأنّ حرصه على الدنيا لا يشبع طموحه ، ولا يشفي غليله ، إنّما الأوبة الى ربه غاية تطلّعه ، ونهاية

٢٥٥

منيته.

يقول الإمام السجّاد (ع) وهو يناجي ربه :

«إليك شوقي ، وفي محبتك ولهي ، وإلى هواك صبابتي ، ورضاك بغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك روحي وراحتي ، وعندك دواء علتي ، وشفاء غلتي ، وبرد لوعتي ، وكشف كربتي (الى أن يقول :) ولا تبعدني عنك ، يا نعيمي وجنتي ، ويا دنياي وآخرتي» (١)

وهذه النفس الواسعة التي تتطلّع الى امتلاك الدنيا وتزيد قد تضيق بها الآفاق حتى يطبق عليها اليأس من أطرافها. أو ليس ذلك دليلا على فقر البشر ، وشدّة حاجته ، وسفاهة تكبّره على ربه.

(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ)

ولعلّ اليأس هو قطع الأمل قلبيّا ، بينما القنوط هو التوقّف عن السعي بسبب اليأس ، والكلمتان مثل لفظتي الليل والنهار إذا اجتمعتا تفرّقتا ، وإن تفرّقتا اجتمعتا ، فلو استخدمنا لفظة اليأس فقط أعطت معنى القنوط ، وهكذا العكس ، ولكن حينما نستخدمهما فإنّ لكل واحدة منهما معنى.

وقال البعض : يئوس شدة اليأس من الخير ، وقنوط من الرحمة ، وقال : اليؤوس من إجابة الدعاء ، قنوط يسيء الظن بربه. (٢)

[٥٠] ومن تسوّلات النفس في الهروب من المسؤولية والإعراض عن آيات الله هو الغرور بالنعم ، ممّا يعالجه القرآن هنا ..

__________________

(١ ، ٢) مناجات المريدين / مفاتيح الجنان ص (١٢٤) .

٢٥٦

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)

من عادة المخرجين للأفلام ومؤلفي الروايات تصوير أبطالهم في حالات نفسية متناقضة ، فيصوّرون مثلا : أحد المجرمين في لحظة جريمته ، يعيش قمة الغرور ، فيقع فجأة في الفخ ، أو يصوّرون : أحد المغرورين يتصوّر أنه يمتلك الشمس بيمينه والقمر بيساره ، وإذا به يبصر ، يرى شرطيّا أمامه فيصبح كالخرقة البالية.

وهذا التصوير يساعد في كشف خبايا النفس ، وأبعاد الخداع الذاتي الذي يعيشه الإنسان ، وإنّما يكتشف عبر الظروف المتغيّرة التي يعيشها.

والقرآن ـ هنا ـ يصوّر لنا الحالة النفسية الأولى التي يعيشها المفتون ، حيث يتذوّق رحمة الرب ونعمته بعد أن عاش ظرفا صعبا ، وضيقا وشدة ، وتعبيرا عن فرحته يبادر قائلا : «هذا لي» كالطفل الذي يشتري له والده لعبة جديدة ، فيذهب مسرعا الى أترابه قائلا : (عندي لعبة جديدة ، هذه لي ، ...) مأخوذا بنشوة الغرور ، وهذا ما تفعله جدة النعم بصاحبها ، فهي هاوية يجب الحذر من السقوط فيها ، تسبب في تغيّر حالة الإنسان النفسية ، ولهذا كان الإمام الصادق (ع) ينبّه داود الرقيّ قائلا :

«يا داود! لان تدخل يدك في فم التنّين الى المرفق خير لك من طلب الحوائج ممن لم يكن فكان» (١)

ثم إنّ ذلك المغرور المفتون لا يقتصر على الزهو والفخر الذي يغمره ، بل ويتصوّر

__________________

(١) الإختصاص / ص (٢٣٢) .

٢٥٧

الحياة متلخّصة في تلك اللحظة التي يعيشها ، وفي ذلك المكان الذي يتنعّم فيه ، ثم بعد ذلك يخطر على باله أن لو كانت هناك ساعة وجزاؤه كان له عند ربه الحسنى ، أو ليس الله قد أنعم عليه في الدنيا ، فهو لا بد أن ينعم عليه في الآخرة!

وهكذا يزعم السلاطين والأغنياء والرأسماليون ، إنّهم يتصوّرون أنّ الله إنّما فتح عليهم أبواب النعم الدنيا لحبّه إياهم ، أو لأنّهم عباده الذين اختارهم (وهذه هي العنصرية) في حين أنّ الله إنّما أعطاهم تلك النعم ليمتحنهم ، ويبلوهم أيّهم أحسن عملا ، أو حتى يستدرجهم ، كما قال سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١)

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا)

وأمّا ربّنا سبحانه فلا يحاسب الناس على أساس فقرهم وغناهم ، وكبرهم وصغرهم ، وإنّما على أساس كفرهم أو إيمانهم ، كفرانهم أو شكرهم ، وبالتالي أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)

وسوف يكون العذاب غليظا بقدر التأثيرات السلبية للنعمة في نفسه وآثار تلك السيئة على سلوكه.

[٥١] تقدّم أطور نفس الإنسان دليلا وجدانيّا على عجزه وحاجته الى الخالق والى الرسالة التي تربّيه وتزكّيه ، ولو عاد الإنسان الى حرم نفسه لشاهد فيها من آيات الله ما يراها في آفاق السماء والأرض. ومن تلك الأطوار مدى تأثّره بحالة الغنى والفقر ، والعافية والمرض.

__________________

(١) آل عمران (١٧٨) .

٢٥٨

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ)

إنّه في حالة الرخاء والنعمة يعرض عن ذكر الله ، ويتجنّب الداعين الى الله ، بجعل جانبه مواجها لهم ، ثم يتولّى عنهم.

(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)

وأمّا إذا أصابه شرّ فإنّه يعتكف في المسجد ليبدأ مرحلة التبتّل والدعاء ، وهذا التوجّه الى الدعاء العريض من بعد ذلك الإعراض دليل ضعفه عن مواجهة المشاكل ، ومعرفته بأنّ الله هو المتفضّل بالنعمة عليه ، ولكنّه لضيق نفسه ومحدودية استيعابه تاه في غرور النعمة ، وفقد سيطرته عليها ، وجعلها حجابا بينه وبين الله.

وهذا الإنسان الذي تتحدّث الآية عنه قد يكون هو أنا وأنت ونحن ، لذلك لا بد أن نعي وننتبه ، لا بد أن نعقل ونحذر.

[٥٢] بعد أن ألقى السياق الضوء على مدى العجز والفاقة والمسكنة التي أركست فيها نفس الإنسان حتى تراها تتأثّر حتى التطرّف بالمؤثّرات الخارجية ، ممّا يهديه على سفاهة الكبر ويحسّسه بضرورة العودة الى فطرته في التسليم لربها ، بعدئذ أخذ يذكّره بضرورة أخذ الحيطة لنفسه ، وقال :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)

أي لو كان القرآن حقّا ثم كفرتم به ، ولم تقوموا بالاحتياط الكافي لأنفسكم ، فإنّكم سوف تصبحون في ضلال بعيد عن جادّة الحق.

إنّ الإنسان يبحث فطريّا عن الأمن ، ولو لا الكبر الذي انطوت نفسه عليه

٢٥٩

والغرور والحجب لاستمع الى إنذار الرسل ، وقال في نفسه : لو كان هذا الإنذار صحيحا لوجب أخذ الحيطة لنفسي بالاستماع الى شواهد المنذرين وآيات الله التي تتجلّى على أيديهم ، ولو فعل ذلك وألقى السمع من دون وقر الكبر والعجب اهتدى الى الحق.

ثم إنّ عقل الإنسان يهديه بضرورة أخذ الحيطة حتى بمجرد افتراض صحة ما يقوله الرسل ، بهذا ذكّر الإمام الصادق (ع) أحد الملحدين الذي طال جداله في الدين ، فبعد أن رأى عبد الكريم ابن أبي العوجاء الامام في الحج ، وطلب منه العودة الى النقاش ، رفض الإمام قائلا : لا جدال في الحج ، ثم قال له :

«إن يكن الأمر كما تقول ـ وليس كما تقول ـ نجونا ونجوت ، وإن كان الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ نجونا وهلكت»

وهبطت كلمة الإمام كالصاعقة على قلبه ، فقال لمن حوله : وجدت في قلبي حزازة ، فردّوني ، فردوه ، فمات (١) .

[٥٣] وأمّا الطريق الى الحقيقة فهو بديع الخلق وحقائق النفس.

لقد حملنا السياق القرآني ومنذ فاتحة السورة الى آفاق السموات والأرض ، وأرانا آيات الله فيها ، من بديع الصنع ، وعظيم الخلق ، ولطيف التدبير ، وحسن التقدير ، ثم ذكّرنا بأعماق النفس التي لو خضنا غمارها لرجعت النفس تائبة الى فطرة العبودية. أرأيت جزعها حين يمسّها سوء؟ هل وجدت يأسها وقنوطها بعد حرصها وطمعها؟ إذا لم تكن هذه شواهد العبودية فما هي إذا شواهدها؟!

لقد أشار القرآن الى بعض هذه الشواهد التي يجدها كلّ واحد منّا في نفسه

__________________

(١) تفسير نمونه / ج (٢٠) ص (٣٢٦) نقلا عن الكافي / ج (١) ص (٦١) .

٢٦٠