من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

الى العباد من وجه يدقّ إدراكه ، وذلك في الأرزاق التي قسّمها الله لعباده ، وحرف الآفات عنهم ، وإيصال السرور والملاذّ إليهم ، وتمكينهم بالقدرة والآلات. (١)

ويبدو لي أنّ معنى اللطيف أنّه تعالى يدبّر شؤون خلقه بدقّة ويسر وتنوّع حكيم الى حدّ قد يسير الإنسان في تطبيقها بدوافع لا تبدو واضحة له ، كما أشار القرآن الى ذلك بقوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (٢)

والكثير من الناس يخططون لأنفسهم ، ولكنهم عند تطبيق ما رسموه يكتشفون عقبات جديدة لم يحتسبوها ، بينما يأتيهم ما تمنّوه سعيا من حيث لم يحتسبوا ، مما يدلّ على أنّ ما يدبّره الربّ من شؤونهم أكبر بكثير مما خوّل إليهم منها.

وهذا من آيات لطف الله في تدبير الأمر ، وإليه أشار الإمام علي (ع) :

«عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ، وحلّ العقود ، ونقض الهمم» (٣)

ومن تدبّر حياة الناس وجد الكثير ممن يتمنّون مستقبلا معيّنا ينتهون الى غيره ، فالذي قدّر أن يصبح مهندسا أضحى عالما بالدين أو تاجرا ، لأنّ الله لم يجعل رزقه إلّا في هذه المهنة أو تلك ، فلما ذا يختلف الناس إذن ، ويشعلون نار الصراعات بينهم من أجل لقمة العيش التي يقدّرها الله؟!

(يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ)

وما دام الرزق مضمونا من عند الله فلما ذا اكتساب الموبقات ، وابتداع المذاهب

__________________

(١) مجمع البيان / ج (٩) ص (٢٧) .

(٢) لقمان / (٣٤) .

(٣) نهج / حكمة (٢٥٠) ص (٥١١) .

٣٢١

الباطلة ، والشرك بالله عبر تأييد السلطات الظالمة؟

إنّ دوافع الشرك كثيرة ، ولكن من أبرزها طلب الرزق ، والحديث المأثور التالي يقصّ علينا حياة واحد من الذين أشركوا بربّهم طلبا للرزق الحرام ، وكانت نهايتهم السوئى ، وفيه عبرة مؤثرة :

قال الإمام الصادق (ع) :

«كان رجل في الزمن الأوّل طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها ، وطلبها من حرام فلم يقدر عليها ، فأتاه الشيطان فقال له : يا هذا إنّك قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها ، وطلبتها من حرام فلم تقدر عليها ، أفلا أدلّك على شيء تكثر به دنياك ، ويكثر به تبعك؟ قال : بلى ، قال : تبتدع دينا ، وتدعو اليه الناس ، ففعل ، فاستجاب له الناس ، وأطاعوه ، وأصاب من الدنيا ، ثم فكّر فقال : ما صنعت؟ ابتدعت دينا ، ودعوت الناس! ما أرى لي توبة إلّا أن آتي من دعوته اليه فأردّه عنه ، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول لهم : إنّ الذي دعوتكم إليه باطل ، وإنّما ابتدعته ، فجعلوا يقولون : كذبت وهو الحق ، ولكنّك شككت في دينك فرجعت عنه ، فلمّا رأى ذلك عمد الى سلسلة فوتدها وتدا ثم جعلها في عنقه ، وقال : لا أحلّها حتى يتوب الله عزّ وجلّ علي ، فأوحى الله عزّ وجلّ الى نبيّ من الأنبياء : قل لفلان ، وعزّتي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك ، حتى تردّ من مات الى ما دعوته اليه فيرجع عنه» (١)

ولو أنّ الإنسان اتبع منهاج الرسالة لرزقه الله بصورة أو بأخرى ، قال الله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) . (٢)

__________________

(١) بح / ج (٧٢) ص (٢١٩) .

(٢) الطلاق / (٢ ـ ٣) .

٣٢٢

(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)

العزيز هو المهيمن ، والسلطان المقتدر الذي يفرض أمره على الناس.

[٢٠] ولكي يهذب القرآن دوافع الكسب عند الإنسان حتى لا يبعثه نحو الشرك بالله والصراع مع أقرانه ، يقارن بين ما يكتسبه الإنسان لدنياه وما يسعى اليه لآخرته ، فيقول :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)

حيث يبارك الله له في سعيه الأخروي ، ويضاعف له الجزاء عند الحساب ، فإذا بعمله يتنامى من حين قيامه به حتى يجزى عليه ، أو لم يقل ربّنا : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) . (١)

ولكن الذي يريد الدنيا بسعيه فإنّه لا يحصل على كلّ أمانيه وإنّما يحصل على جزء منها ، ثم إنّه يعدم أيّ نصيب له في الآخرة.

(وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)

إذن فعليه أن يسعى من أجل الآخرة عبر القرآن الذي ليس فقط يهدي الى العلاج السليم بل وأيضا يتضمّن العلاج بذاته ، وهنا يعالج حرص النفس البشرية على الدنيا بإيصال فكر الإنسان بالآخرة من خلال التذكير بها ، وحثّه على أن لا يجعلها همّه الأكبر فيختلف بسببها مع الآخرين ، أو يتصوّرها محور الحياة الذي

__________________

(١) البقرة / (٢٦١) .

٣٢٣

يؤوّل الأمور على ضوئه ، كما فعل ماركس حين اعتبر الإقتصاد والطبقية أساس الصراع.

إنّه لا يمكن علاج مشاكل الإنسان السياسية والاجتماعية وغيرها إلّا إذا ترفّع عن التبعية المطلقة للدنيا ولشهواتها ، ولو تساءلنا عن علّة نموّ الرأسمالية في أيّ بلد ، الذي ينتهي الى تسلّط الأغنياء على الأمم ، لوجدناه حبّ المال الذي يجعل الناس عبيدا وأصحاب الثروة آلهة مزيّفة.

ومن جهة أخرى يمهّد للحكم الطاغوتي ، فإذا بمجموعة من الناس يتسلّطون على الناس من خلال سيطرتهم على خيرات الشعوب ومواردها الاقتصادية ، الأمر الذي ينتهي الى الفساد السياسي ، ولو فكّرنا عميقا في عوامل الفساد السياسي في السياسة ، لرأينا الطمع والخوف والجهل من أبرز هذه العوامل. ولعلّ عامل الطمع الناشئ من حبّ الدنيا في رأس القائمة ، لا فرق في ذلك بين النظام الرأسمالي والاشتراكي ، فبينما يدير أصحاب الثروة ك (روكفلر) من خلال شركاتهم التي تحتكر الموارد الاقتصادية الأمريكية بصورة غير مباشرة ، نجد الحزب في أيّ بلد شيوعي يدير السياسة من خلال سيطرته على الموارد الاقتصادية أيضا ، وبالتالي السيد الحقيقي هنا وهناك واحد وهو المال ، بالرغم من اختلاف طريقة الحصول عليه ، ففي النظام الرأسمالي يحتكر أصحاب الثروة (وهم في الواقع أرباب السلطة الحقيقية) المال باسم الملكية الفردية ، بينما نجد في النظام الشيوعي يحتكر أصحاب السلطة الثروة (وهم في الواقع الرأسماليّون الجدد) باسم الملكية الجماعية ، وهنا وهناك المال.

وحتى سبب خضوع الشعب واحد وهو حبّه للمال ، سواء كان هذا المال بيد الدولة أو كان بيد أصحاب الثروة.

٣٢٤

فمن أجل تلافي معظم الصراعات البشرية لا بد من معالجة نقطة الضعف الرئيسية عندهم وهي عبادة الثروة لكي لا تصبح أداة السلطة الفاسدة ، وسببا للحروب التي أفنت لحدّ الآن أضعاف ما أفنته سائر أسباب الوفاة كالمجاعات والأمراض ، والكوارث الطبيعية ، ولو حاولنا التقرّب الى هذه الفكرة أكثر يجب أن نعرف بأنّ مصطلح المصالح الأمريكية ، أو المصالح الروسية أو ما إلى ذلك هو التعبير الواضح عن اللهث وراء الدنيا ، أو لم تدفع هذه المصالح الإدارة الاميركية لقتل الملايين في فيتنام وكمبوديا والسلفادور و.. و..؟ أو لم تدعوا هذه المصالح الحزب الشيوعي الروسي لقتل الملايين في أفغانستان وغيرها؟!

[٢١] ثم هل يكتفي الإنسان بخوض الصراعات ، وإفساد البلاد والعباد ، وحسب؟ كلّا .. بل يسعى لتبرير تصرفاته ومواقفه من خلال دين يصطنعه لنفسه ، ولو درسنا الواقع الثقافي والإعلامي في عالم اليوم لانتهينا الى نتيجة واحدة ، هي أنّ أكثر الأيديلوجيات والثقافات منتزعة من الواقع المصلحي للإنسان ، فمن أجل حماية مصالحهم تجد هذه الدولة أو ذلك الحزب يبتدعون الأفكار والنظريات المختلفة ، فإذا بالصعاليك يؤسّسون نظرية الصراع الطبقي ، بينما يبتدع المترفون إديولوجية النخبة ، والقرآن يستنكر هذا النهج ويعتبره صورة من صور الشرك.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ)

إنّ الشريعة التي ينبغي للإنسان اتباعها والخضوع لها هي الموحاة من الله وحده ، أمّا الشرائع والقوانين التي يبتدعها البشر ولا يرتضيها الرب فإنّ اتباعها شرك به عزّ وجل ، والتدبر العميق في هذه الآية يهدينا الى أنّ الذي يشرّع قانونا مخالفا لشرع الله إنّما ينصب نفسه إلها من دونه ، والذي يسمّى في القرآن دينا ليس القوانين الفيزيائية والكيميائية ، إنّما القوانين السياسية والاجتماعية والاقتصادية و.. و..

٣٢٥

التي تحكم الناس ، وهذه لا يجوز لأحد أن يسنّ منها شيئا إلّا على ضوء شرع الله ، ومن خلال رسالته.

وبعد أن يهدّد القرآن ـ في آية سبقت ـ الذين يثيرون الصراعات السلبية ، أو يشرّعون القوانين ، يتوعّدهم ربنا في هذه الآية بعذابه الأليم ، محذرا لهم من أنّ تأجيل العذاب ليس دليلا على الإهمال ، إنّما لأنّه وعدهم بإعطائهم الفرصة لبيان طبيعتهم ، والتي لولاها لأخذهم بالعذاب فور المعصية.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

وتكاد تتميّز هذه الكلمات إنذارا ، فلو لا عهد الله على نفسه بإعطاء الفرصة لهم لكفت هذه الجريمة (ابتداع نظرية في غير إطار الشريعة) سببا للقضاء عليهم قضاء تاما ، ولكنّ تلك الكلمة وذلك العهد يؤجّل العذاب العظيم ولا يرفعه أبدا ، وإنّ الشرك ظلم بذاته وهو ينتهي الى الظلم أيضا ، إذ لا يمكن للنظام الشركي أن يكون عادلا أبدا ، ونستوحي هذه البصيرة من تبديل كلمة المشركين بالظالمين.

[٢٢] وفي يوم القيامة حيث تنصب الموازين الحق للجزاء يخاف الظالمون من أعمالهم السيئة التي اجترحوها في الدنيا ، فهي حينئذ تصير ألوانا من العذاب ، ولكن هل يمنع هذا الخوف عنهم شيئا؟ كلّا .. بلى. لو أنّهم خافوا من ارتكاب المعاصي في الدنيا لنفعهم خوفهم لأنّه حينذاك يصير سببا للتقوى ، أمّا يوم القيامة فلا ..

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ)

أي ينزل عليهم سواء أشفقوا أم لم يشفقوا.

٣٢٦

ويأخذنا القرآن في المقابل الى منظر مناقض آخر ، هو منظر المؤمنين الذين تحوّل إيمانهم وعملهم الصالح الى جنة ورضوان من الله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)

وأيّ رياض هذه التي يرزقها المؤمنون؟! دعنا هنا نقرأ شيئا من كلام أمير المؤمنين عنها ..

يقول (ع) :

«فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذّاتها ، وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار ، غيّبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها ، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها ، تجنى من غير تكلّف فتأتي على منية مجتنيها ، ويطاف على نزّالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقّة ، والخمور المروّقة ، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلّوا دار القرار ، وأمنوا نقلة الأسفار ، فلو شغلت قلبك أيّها المستمع بالوصول الى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة ، لزهقت نفسك شوقا إليها ، ولتحمّلت من مجلسي هذا الى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا الله وإياكم ممّن يسعى بقلبه الى منازل الأبرار برحمته» (١)

__________________

(١) نهج / خطبة (١٦٥) ص (٢٣٩) .

٣٢٧

ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)

٣٢٨

لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً

إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى

هدى من الآيات :

في إطار معالجة القرآن الحكيم للاختلاف معالجة شاملة ، وبعد أن يردع من اتباع الشركاء الذين لم يأذن الله لهم بالتشريع ، يأتي السياق ليبين :

أوّلا : جزاء الصالحين الذين يجتنبون الطاغوت.

ثانيا : القيادة الشرعية البديلة المتمثّلة في أقرب الناس الى الرسول نهجا ونسبا ، ويبشّر الربّ الذين يقترفون حبّ آل الرسول بزيادة في الأجر ، وأن يشملهم بمغفرته الواسعة وشكره الجزيل.

ثم يبيّن القرآن الحكيم لنا بأنّ طاعة الله ومودة القربى سوف تجلب للإنسان حسنات في الدنيا والآخرة ، وبعد أن يحدّثنا ربنا عن مقالة افتراها الكفّار في شأن الرسول يبيّن بأنّ هذا الكلام فاشل وباطل ، والسبب أنّ الله سبحانه وتعالى هو لذي بعث بالرسالة ، ولو شاء لمحى هذه الآية وجاء بآية أخرى ، فالله هو صاحب

٣٢٩

لرسالة وليس الرسول.

ثم يبيّن طائفة من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته الحسنى ، منها : قبول التوبة ، والعفو عن السيئات ، والعلم بأعمال الناس ونواياهم القلبية.

بينات من الآيات :

[٢٣] من العوامل الأساسية التي تؤدي الى الفرقة بين أبناء المجتمع ، هو مرض الحرص على الدنيا الذي يعالجه القرآن في هذه السورة الكريمة بطرق شتى .. ومنها أنّه يعظّم في نفوس المؤمنين الآخرة وما فيها من نعم وخلود حتى يسلّون عن طعام الدنيا.

ونتساءل : لماذا القرآن الحكيم كلّما عالج انحرافا في حياة الإنسان بيّن حقائق عن الآخرة؟

يجيب عن ذلك حديث كريم مروي عن الإمام زين العابدين (ع) يعكس العلاقة بين معالجة النفس وبين التذكرة بالآخرة ، فيقول :

«حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»

وبالمقابل يكون استصغار الدنيا وتهوينها رمزا لكلّ فضيلة ، ومدخلا لكل خير.

كما أنّ طريق السيطرة على الدنيا والهيمنة عليها وعلى ما فيها من خيرات ، هو الاستهانة بها. إنّك مثلا لا تستطيع أن تسيطر على سيارة تخشى منها ، وكذلك إذا خفت من سلطان ظالم فإنّك لن تتمكّن من القضاء عليه ، فالهيبة قرنت بالخيبة ، وقرن الخوف بالفشل ، وهكذا الدنيا حينما نخشاها ، وندور في فلكها ، فإنّنا لن نستطيع السيطرة والهيمنة عليها.

أمّا إذا عكسنا الأمر ، واستهنا بالدنيا ، وهوّناها في أنفسنا ، وعظّمنا في المقابل

٣٣٠

أنفسنا وأكرمناها ، فآنئذ نستطيع أن نسيطر عليهما من دون إسراف أو طغيان.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

يبشّرنا الله بفضل كبير ، وبجنات فيها كلّ ما نريد ، وأكرم به وعدا صادقا ، وفضلا كبيرا ، ولكن هذا الفضل الكبير مقترن بعمل كبير هو المودة في القربى التي جعلت بمثابة أجر على الرسالة ، فقال ربنا :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)

ونتساءل :

١ ـ ما هو المفهوم من كلمة القربى؟

٢ ـ لماذا جاء هذا الموضوع في سياق موضوعات الوحدة في القرآن الحكيم؟

٣ ـ لماذا لم يأمر القرآن بطاعة ذوي القربى بل بمودتهم؟

أولا : من هم القربى؟

وقد استفاضت الأحاديث حول هذه الآية وتفسيرها وكيف نزلت ، وبالرغم من أنّها تعالج قضية القيادة التي كانت ولا تزال محورا لخلافات المسلمين ، إلّا أنّ تفسير الآية حظي بقدر كبير من الاتفاق بين علماء المسلمين حسب النصوص التالية التي ننقلها من تفسير (الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور) للعلّامة السيوطي ، ولأهميتها البالغة نفيض في بيانها مفصّلا :

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق مقسّم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا ، وكأنهم فخروا ، فقال ابن

٣٣١

عباس رضي الله عنهما : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فأتاهم في مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار! ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله؟ قالوا : بلى. يا رسول الله ، قال : أفلا تجيبوني؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال : ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك. أو لم يكذّبوك فصدّقناك. أو لم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله ، فنزلت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) .

وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير قال : «قالت الأنصار فيما بينهم لو لا جمعنا لرسول الله (ص) مالا يبسط يده لا يحول بينه وبينه أحد ، فقالوا : يا رسول الله إنّا أردنا أن نجمع لك من أموالنا ، فأنزل الله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فخرجوا مختلفين ، فقالوا : لمن ترون ما قال رسول الله (ص)؟ فقال بعضهم : إنّما قال هذا لنقاتل عن أهل بيته وننصرهم ، فأنزل الله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ... الى قوله (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فعرض لهم بالتوبة الى قوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) هم الذين قالوا هذا أن يتوبوا الى الله ويستغفرونه» .

وأخرج أبو نعيم والديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ص) :

لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أن تحفظوني في أهل بيتي وتودّوهم بي

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ

٣٣٢

عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودّتهم؟ قال : علي وفاطمة وولداها.

وأخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال : قربى رسول الله (ص) .

وأخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : «لمّا جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، فقال له علي ابن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن؟ قال : نعم. قال : أقرأت آل حم؟ قال : لا. قال : أما قرأت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ قال : فإنّكم لأنتم هم؟ قال : نعم» .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً» قال : المودة لآل محمد (ص) ، وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي والحاكم عن المطلب بن ربيعة رضي الله عنه قال : دخل العباس على رسول الله (ص) فقال : إنّا لنخرج فنرى قريشا تحدّث فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله (ص) ودرّ عرق بين عينيه ، ثم قال :

«والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي»

وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم : ان رسول الله (ص) قال :

«أذكركم الله في أهل بيتي»

وأخرج الترمذي وحسّنه وابن الأنباري في المصاحف عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ص) :

٣٣٣

«إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما»

وأخرج الترمذي وحسّنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس : قال : قال رسول الله (ص) :

أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله ، وأحبّوا أهل بيتي لحبي

وأخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال ارقبوا محمد (ص) في أهل بيته ، واخرج ابن عدي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (ص) :

«من أبغضنا أهل البيت فهو منافق»

وأخرج الطبراني عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله (ص) :

«لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلّا ذيد يوم القيامة بسياط من نار»

وأخرج أحمد وابن حبات والحاكم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (ص) :

«والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلّا أدخله الله النار»

وأخرج الطبراني والخطيب من طريق ابن الضحى عن ابن عباس قال : جاء العباس إلى رسول الله (ص) فقال : إنّك قد تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت ، فقال النبي (ص):

«لا يبلغوا الخير أو الإيمان حتى يحبّوكم»

٣٣٤

وأخرج الخطيب عن طريق أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : أتى العباس بن عبد المطلب رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله إنّا لنعرف الضغائن في أناس من قومنا من وقائع أوقعناها ، فقال :

«أما والله إنّهم لن يبلغوا خيرا حتى يحبّوكم لقرابتي. ترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب؟!» (١)

ويتساءل البعض : كيف طلب رسول الله على رسالته أجرا ، أفلم تكن له أسوة بسائر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الذين اتفقت كلمتهم على ألّا يطالبوا أممهم بأجر ، قال الله سبحانه على لسان أكثر من نبي : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) . (٢)

وقد حدى هذا الاعتراض ببعض الرواة الى تغيير التفسير السابق الى تفاسير أخرى ، بعضها بعيدة عن قيم الرسالات الإلهية.

ولكن إذا عرفنا أنّ الإسلام هو آخر تجلّ لنور الرسالة ، وأنّه كان بحاجة الى قيادة شرعية نابعة من قيمه الربّانية ، تحافظ عليه من زيغ المترفين ، وإلحاد الطغاة ، وضلالة الجاهلين ، وأنّ الله الذي أحكم تدبيره في خلقه قد اختار لرسالته من يحمل مشعلها من أهل بيت الرسول كما اجتبى من آل إبراهيم وآل يعقوب من يحمل مشعل الرسالة من بعدهما ..

إذا عرفنا كلّ ذلك فإنّنا نهتدي الى الحكمة البالغة وراء جعل المودة في القربى أجرا للرسالة ، إذ أنّ الهدف منها ولاء القيادة الشرعية التي تحمل مشعل الرسالة ، فمن أراد أن يشكر رسول الله على الأذى الكبير الذي يتحمّله من أجل تبليغ الرسالة

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور / ج (٦) ص (٧) .

(٢) نجد ذات الآية مكرّرة في سورة الشعراء ، في الآيات : (١٤٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠) .

٣٣٥

حتى قال (ص) :

«ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت»

فلا شكر أفضل من محبة أهل بيته الذين يحملون ذات الرسالة ويبلّغونها للناس .. وهكذا يكون أجر الرسالة في مصلحة الناس أنفسهم ، ولهذا قال ربّنا سبحانه : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) .

ولأنّ البعض لم يستوعبوا هذه الحكمة تكلّفوا في تفسير الآية بما لا يتناسب وسياقها ، فقالوا : لأنّ نبيّنا (ص) كان من أوسط قريش نسبا ، وكانت له قرابة في أكثر قبائلها ، فقد سألهم أن يودّوه لأجل قرابته معهم ، وقد نقل هذا التفسير عن ابن عباس في الحديث التالي :

«إنّ رسول الله (ص) كان واسط النسب في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلّا وقد ولدوه فقال الله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) على ما أدعوكم اليه (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) تودّوني لقرابتي منكم ، وتحفظوني بها» (١)

وعندي أنّ هذه النصوص لا تصلح تفسيرا للقرآن للأسباب التالية :

١ ـ إنّ الآية من محكمات الذكر التي لا تدع شكّا في معناها لمن تدبّر فيها وفي سياقها من الآيات ، والمحكم لا ريب فيه ، ولا يجوز أن نتحوّل عنه اعتمادا على الحديث.

٢ ـ إنّ دعوة الرسول كانت خالصة لله وطاهرة من كلّ قيمة مادية وعصبية عشائرية فكيف يدعو قومه لاتباعه باسم العصبية ولأنّه ينتسب إليهم ، فهل تصلح

__________________

(١) المصدر / ص (٦) .

٣٣٦

لداعية من سائر الدعاة اليوم أن يدعو ابنه إلى اتباعه لأنّه أبوه مثلا ، أو يدعو عشيرته لقبول الإسلام لأنّه قريب نسبيّا إليهم ، وأكثر الأنبياء كانوا من بني قومهم ، فلما ذا لا نجد مثل هذا الكلام من أيّ واحد منهم ، وإنّما نجد الجميع يؤكّدون بأنّهم لا يطالبون من قومهم أجرا.

٣ ـ إنّ الجملة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) حسب تلك النصوص لا تبدو متناسقة ، فما هي العلاقة بين أجر الرسالة وبين قبول الدعوة بسبب المودة في القربى ، أليس هذا يشابه كلام من يأمر بالصلاة ويقول : لا أسألكم أجرا إلّا أن تصلّوا لأنّي أخوكم؟!

ولعدم تناسق المعنى نجد الذين يذهبون الى هذا الرأي يختارون في كيفية ربط معنى الأجر بفكرة قرابة الرسول مع قريش.

٤ ـ وأخيرا إنّ الأحاديث التي رويت في تفسير الآية بمودة آل بيت الرسول أكثر عددا ، وأقوى سندا ، وأشد تماسكا ، لو قسناها بالروايات الأخرى التي لا تماسك بينها ، إذ أنّها مختلفة اختلافا كبيرا ، بينما تفسّر الآية بهذا المعنى ، أو بأنّ الرسول طالبهم بطاعة الله (علينا أن نبحث إذا عن كيفية استفادة ذلك من كلمة المودة في القربى) أو فسّرها بأن تودّوا الله ، وأن تتقرّبوا إليه بطاعته. (١)

وبتفصيل أكثر :

الروايات التي وردت عبر مختلف الفرق الإسلامية حول تفسير هذه الآية بآل البيت تبلغ أكثر من (٤٤) حديثا ، روي زهاء (١٩) منها عن طريق أهل البيت (ع) وفي كتب شيعتهم (٢) وروي (٢٦) حديثا من سائر كتب الحديث.

__________________

(١) المصدر.

(٢) راجع تفسير نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٧٠ ـ ٥٧٦) .

٣٣٧

بينما يبلغ مجمل الروايات المعارضة لها (٦) أحاديث فقط ، وفيها اختلاف كبير ، بل نجد في رواية منها ينسب الى سعيد بن جبير الرأي المشهور المخالف لتلك النصوص.

فهل يجوز ضرب (٤٤) حديثا موحّدا في المعنى ب (٦) أحاديث مختلفة فيما بينها أشدّ الاختلاف؟ على أنّ كلمة «القربى» وردت في (١٥) موضعا من القرآن بمعنى أقارب الفرد ، ممّا يؤيّد ذات المعنى هنا أيضا ، على أنّ هذه الأحاديث ليست نصوص شرعية ، لأنها لم ترو عن رسول الله (ص) ، وإنّما هي اجتهادات الجيل الأوّل من المفسّرين ، بينما الطائفة الأولى من النصوص مروية في الأغلب عن شخص رسول الله ، ومن هنا نجد المفسّر المعروف الشوكاني يقول في تقرير هذا المعنى : ولكنه يشدّ من عضد هذا. إنّه تفسير مرفوع الى رسول الله (ص) وإسناده عند أحمد في المسند هكذا : حدّثنا حسن بن موسى حدثنا قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس : أنّ النبي (ص) .. فذكره ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة به ، وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب. (١)

وتساءل الإمام الرازي كيف يجوز للرسول أن يطلب الأجر من أمّته على تبليغ الرسالة ، أفلا اقتدى نهج إخوته من المرسلين؟ فأجاب قائلا :

الجواب عنه من وجهين : (الأوّل) : إنّ هذا من باب قوله

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بها من قراع الدار عين فلول

المعنى أنا لا أطلب منكم إلّا هذا ، وهذا في الحقيقة ليس أجرا لأنّ حصول

__________________

(١) تفسير فتح القدير / ج (٤) ص (٥٣٧) .

٣٣٨

المودة بين المسلمين أمر واجب ، قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وقال (ص) :

«المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا» .

والآيات والأخبار في هذا الباب كثيرة ، وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجبا فحصولها في حقّ أشرف المسلمين وأكابرهم أولى ، وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) تقديره والمودة القربى ليست أجرا ، فرجع الحاصل الى أنّه لا أجر البتة (والوجه الثاني) في الجواب : أنّ هذا استثناء منقطع ، وتمّ الكلام عند قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) ثم قال : «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» أي لكن أذكّركم قرابتي منكم ، وكأنّه في اللفظ أجر وليس بأجر.

ومضى المفسّر المعروف قدما في تقرير الجواب وقال : نقل صاحب الكشّاف عن النبي (ص) أنّه قال :

«من مات على حبّ آل محمد (ص) مات شهيدا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد (ص) مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد (ص) مات تائبا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد يزف الى الجنة كما يزف العروس الى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن مات

٣٣٩

على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة»

هذا هو الذي رواه صاحب الكشّاف ، وأنا أقول آل محمد (ص) هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ من كان أمرهم اليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (ص) أشدّ التعلّقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ، وأيضا اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمّته ، فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وان حملناه على الامة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل ، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل ، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه ، وروى صاحب الكشاف : أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما ، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي (ص) ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه : (الأول) : قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، ووجه الاستدلال به ما سبق ، (الثاني) : لا شك أنّ النبي (ص) كان يحبّ فاطمة عليها السلام ، قال (ص) :

«فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» .

وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (ص) أنّه كان يحبّ عليّا والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ولقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ولقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الثاني) أنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : اللهم صلّ على محمد وآل محمد ، وارحم محمد وآل محمد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدل على أنّ حبّ آل محمد واجب ، وقال

٣٤٠