من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

والفلسفة باسم الحكمة ، والجدل باسم الحوار.

ولكنه مع ذلك كلّه لا يغني شيئا ، وهكذا نهت النصوص عن الجدال في الدين ، فقد روى عن رسول الله (ص) أنّه قال : «لعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيّا ، ومن جادل في آيات الله فقد كفر» (١)

وإنّما يفشل الباطل ـ رغم الجدال عنه ـ لأنّ الله من فوق عرشه وعبر سننه في الحياة يدافع عن الحق ، فهو يفشل كلّ محاولة لدحضه ، فالحق هو المنتصر دائما لأنّه يملك قوة المنطق ومنطق القوة بتأييد الله.

(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)

والأخذ تنطوي على الشدة والمباغتة ، وتساؤل السياق عن العقاب ليثير أفكارنا فنبحث عن الإجابة التي فيها العبرة والموعظة.

[٦] ولأنّ الحديث هنا عن سنّة إلهيّة تحكم الحياة نجد السياق وبعد تخصيص قوم نوح والأحزاب بالذكر يعمّم الحديث ليضمّ إليهم كلّ الكافرين في كلّ مكان وزمان ، فهم جميعا ينالهم عذاب الله وانتقامه.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)

ففي الدنيا ينالهم انتقام الله ، وفي الآخرة عذابه الشديد ، فهم خالدون في نار جهنم لأنّهم أصحابها.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٥١١.

٢١

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا

٢٢

فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)

٢٣

فالحكم لله العليّ الكبير

هدى من الآيات :

لكي لا تهزم الظروف الصعبة إرادة المؤمن ، خصوصا إذا كان يتحدّى الطغاة وحده ، أو يحافظ على إيمانه في سرية ، ولكي يطّهر المؤمن بالإنابة من درن الشرك أوحى ربّنا بأنّ أعظم خلق الله الذين يحملون عرش القدرة الإلهية يستغفرون للذين آمنوا وأنابوا الى الله ، ويدعون لهم بالمغفرة ، وأن يقيهم عذاب جهنم ، ويدخلهم جنات الخلود هم ومن صلح من آبائهم وذرياتهم ، وأن يحفظهم من السيئات برحمته.

بينما الكفار يلعنون وينادون بأنّ مقت الله أكبر من مقتهم أنفسهم حين رفضوا الإيمان ، وتراهم يتضرّعون يومئذ الى الله قائلين : إنّنا بعد أن مررنا بتجربة الموت والحياة مرتين أصبحنا نعترف بذنوبنا ، ويسألون : هل نستطيع الخروج من العذاب؟ فيرفض طلبهم بحجة أنّهم قد كفروا بالتوحيد وآمنوا بالشركاء ، وإنّما الحكم لله العليّ الكبير لا للشركاء المزعومين.

٢٤

والله وحده الحاكم في الخليقة فهو الذي يهدي الناس الى نفسه عبر آياته ، ويرزقهم من السماء ، ولكن لا ينتفع بآيات الله إلّا من ينيب إليه فيتذكر.

وفي ختام الدرس يدعونا الربّ الى إخلاص الدين ونبذ الشركاء برغم الكفار الذين يكرهون التوحيد.

بينات من الآيات :

[٧] تتّبع الآيات القرآنية منهجا يتميز عن المناهج البشرية في أنّه كالضوء ينتشر من نقطة مركزية واحدة ، هي التوحيد لتتسع سائر الحقول. ذلك أنّ عالم الخلق والحق كما عالم العلم والمعرفة مظهر وتجلّ لأسماء الله الحسنى ، وكلّ شيء فيه آية تدلنا الى ربنا الحميد المجيد. ولقد افتتحت هذه السورة بذكر بعض صفات الله التي تتجلى في الخليقة فاسم الله «الرحيم» الذي يتجلّى في قبول الله للتوبة «قابل التوب» لها انعكاس على خلق الله ، ومن ثم على سلوك الإنسان ، وعليه أن يتخذ منه منهجا لتقويم سلوكه.

بل ينعكس هذا الاسم الكريم على الخليقة إذ يحدثنا القرآن عن الملائكة الحافّين بعرش الله ، فهم من جهة يتصلون بالله عبر علاقة التسبيح والإيمان ، ويتصلون بالإنسان المؤمن عبر علاقة الحب والرحمة ، وربنا إذ يشرح لنا جانبا من هذه العلاقة يبين ذلك في صورة دعاء من قبل الملائكة للمؤمنين التائبين.

ويبقى السؤال : ما هو عرش الله؟

للعرش معنيين :

الأوّل : إنّ الله يملك محلا واسعا يسمّى بالعرش ، لا نعرف إلّا أنّه عظيم يسع السماوات والأرض بل الخلق بأجمعهم. وقد جاء في الحديث المروي عن أمير المؤمنين

٢٥

عليه السلام : «إنّ الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش ـ كما تظن ـ كهيئة السرير ، ولكنّه شيء محدّد مدبّر ، وربّك عزّ وجلّ مالكه» (١)

وفي الحديث المأثور عن أبي ذر عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : «يا أبا ذر ما السموات السبع في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» (٢)

الثاني : إنّ العرش هو رمز القدرة والهيمنة. حيث فسرت الآية الكريمة (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٣) بأنه سيطرته وهيمنته تعالى. أمّا الملائكة الذين يحملون العرش فإنّهم وسائط رحمة الله ، وتنفيذ إرادته في الحياة.

والى ذلك تشير الرواية المأثورة عن الإمام الرضا عليه السلام : «العرش ليس هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة» (٤)

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه حين سئل عن قول الله عزّ وجلّ «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» قال : «علمه» (٥)

ويحتمل أن يكون لربّنا مقام معلوم حمله علمه وقدرته ، ومنه ينطلق تدبيره للخليقة وهو عرشه ، وفيه ملائكة الله المقربون.

وما يهمّنا معرفته أنّ حملة العرش خلق من خلق الله وليسوا أنصاف آلهة ، وهم مشغولون بالتسبيح والتمجيد.

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٥٥ ص ٩.

(٢) المصدر / ص ٥.

(٣) هود / ١١.

(٤) بحار الأنوار / ج ٥٥ / ص ١٤.

(٥) المصدر / ص ٢٨.

٢٦

هذا عن علاقتهم بالله ، أمّا عن علاقتهم بالإنسان فهي التي تكشف عن علاقة الطبيعة بالبشر ، إذ الملائكة وسائط أمر الله وتنفيذ إرادته ، فهم إذن يمثّلون موقف الخلائق من الإنسان ، وهو يرتبط بموقف الإنسان من الحق ، فإذا كان البشر على فطرته وعلاقته الإيجابية مع ربّه فهم معه وإلّا فلا ، فما على الإنسان حتى يفلح في الحياة إلّا أن يتحرّك باتجاه تسخير الطبيعة التي من أهم عوامل تسخيرها العبودية لله ، وحينها سوف يجد كلّ شيء يقف معه مؤيّدا ، إذ الملائكة الموكلة من قبل الله بقوى الطبيعة المختلفة سوف يكونون معه. ولو كان مجمل سلوك الإنسان صالحا فإنّ هفواته لا تضرّه إذ سرعان ما يتوب الى الله منها فتستغفر الملائكة له منها ، ولعلهم يسدّدون خطاه بأمر الله للعودة الى نقائه وطهره ، وقد يعصمونه بإذن الله من الذنوب الجديدة ، ويثبتون قلبه ، ويحفظونه من تسوّلات النفس ووساوس الشيطان ، ويبدو أنّ هذا من علامات قبول التوبة.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ)

وهم من أعظم ملائكة الله ، ولعلّهم أوّل من يتلقّون أمر الله.

(وَمَنْ حَوْلَهُ)

من الملائكة الآخرين.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)

وأعظم الذكر هو التسبيح الذي يقدّس الربّ عن الشريك والشبيه والنقص والعجز.

(وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)

٢٧

فتسبيحهم ليس مجرد كلمات يتلفظونها ، أو أفعال يمارسونها ، إنّما يقومون بكل ذلك عن معرفة وقناعة راسخة بوجوبه عليهم. هذا عن علاقتهم بالله ، أمّا عن علاقتهم بالمؤمنين فهي الاستغفار لهم لكي يتوب الله عليهم ويوفقهم في الحياة.

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)

وليس يغفرون ، لأنّهم ليسوا آلهة ، إنّما هم عباد مقربون عند الله ، وكل ما يستطيعونه لخدمة المؤمنين هو طلب العفو من الله لهم عبر الدعاء.

ومن آداب الدعاء :

أوّلا : البدء بحمد الله وتسبيحه والثناء عليه ثم طلب الحاجة ، وهكذا فعل الملائكة إذ تراهم سبحوا الله بحمده ثم استغفروا للمؤمنين.

ثانيا : البدء بطلب العفو قبل سائر الطلبات حيث أنّ رحمة الله قريبة من التائبين ، إذ الذنوب تمنع استجابة الدعاء ، ونزول الرحمة ، وهكذا فعل الملائكة.

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)

والتوبة هي الشرط الأوّل لقبول الله عودة العبد إليه. أمّا الشرط الثاني فهو أن تكون التوبة صادقة يستقيم عليها العبد ، فيتبع سبيل الله وحده دون أن يعود الى سبيل الشيطان. وهذا ما يبصره ربّنا الذي أحاط بكلّ شيء علما.

(وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)

وهذا أهمّ وأعظم ما يمكن للمؤمن الدعاء به لنفسه ولإخوانه. وهكذا عند ما يتوب المؤمن إلى الله فإنّ الملائكة تكون معه. وبالتالي فإنّ ما في الحياة يدعو البشر

٢٨

الى إصلاح نفسه والعودة الى الطريق المستقيم.

[٨] وحينما يكون الإنسان صالحا فإنّه سوف ينفع الآخرين ، فإذا بآبائه وأبنائه كما الأشخاص المحيطين به كزوجة يفيدهم بصلاحه ويدخلون معه الجنة ، إلّا إذا كانوا منحرفين تماما ، وهذا يعني أنّ الحياة قائمة على أساس البناء لا الهدم ، والصلاح لا الفساد ، والملائكة تدعم هذه المسيرة وتؤيدها ، بإذن ربها.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

فبعزّتك تقدر على استجابة الدعاء ، وبحكمتك تستجيب أو لا تستجيب ، وهكذا ينبغي على من يدعو أن لا يحتّم على الله بل يقدّم دعوته ويثني على ربّه وحسب.

ويتوافق هذا الدعاء مع رغبة الإنسان حيث يتطلّع الى العيش مع أحبّائه وأعزّته في الدنيا والآخرة. وإنّما تكتمل النعم عند ما يجتمع الأحبة تحت ظلال نعم الله في الجنة.

[٩] ولا يبلغ البشر غاية مناه إلّا إذا تخلّص من سيئاته التي تتجسد يوم القيامة في صور شتى ، فمنها الظلمات الحالكة ، ومنها النيران الملتهبة ، ومنها العقارب والشجعان ، ومنها اقتران الشيطان ، وقد تبتلع سيئة واحدة عامّة صلاة الفرد وصيامه ، وقد تتسبّب في حبط أعماله الصالحة ونقص درجاته. وقد جاء في الحديث عن ربّ العزّة أنّه سبحانه قال : «أنا المالك أنا الديّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصّه منه» (١)

__________________

(١) المصدر / ص ٥١٦.

٢٩

وهكذا كان في دعوة الملائكة حفظ المؤمنين من سيئاتهم في ذلك اليوم الذي تتجسد فيه السيئات.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ)

والوقاية هنا بمعنى الحفظ ، وإنّما يتقي البشر آثار السيئات في الآخرة عند ما ينتصر على نفسه في الدنيا ويتجاوز الأهواء والشهوات السلبية.

(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

إنّ الوصول الى النجاة من النار ودخول الجنة غاية عظيمة ، وعمل صعب ، وعلى الإنسان المؤمن أن يعقد عزمه ويشحذ إرادته من أجل تحقيقها ، إذ كلّما كان الهدف عظيما يجب أن تكون الإرادة عظيمة بقدره.

[١٠] هذا عن علاقة الملائكة بالمؤمنين. أمّا علاقتهم بالكافرين فهي سلبيّة وتتسم بالدعاء عليهم والتشمّت بهم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ)

تناديهم الملائكة وكلّ الطبيعة المفطورة على الحقّ الذي خالفه هؤلاء ..

(لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ)

إنّ الله يريد الخير لعباده وما خلقهم إلّا ليرحمهم ، أمّا إذا رفضوا الإيمان به والاستجابة لدعوته ، وبالتالي أهانوا أنفسهم وأذلّوها بالكفر ، فإنّه سوف يهينهم أضعافا مضاعفة على إهانتهم لأنفسهم ، بإبعادهم عن رحمته ، وإدخالهم العذاب.

٣٠

والإنسان يهين نفسه ولا يحترمها حينما يحتقر الحقّ ويرفض الاستجابة له. ذلك أن لا قيمة للإنسان إلّا بقربه من الحقّ وتجسيده له في حياته.

[١١] وفي جواب الكفّار للنداء بشدة مقت الله لهم :

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)

ونتساءل : متى كانت الموتتان؟! لقد اختلف العلماء والمفسّرون في بيان هذه الآية ، فقال بعضهم : إنّ الموتة الأولى قبل دخول الإنسان في الحياة الدنيا ، حيث كان في عالم الأشباح حيّا ثم مات ، ثم دخل الحياة الدنيا ثم يموت عند بلوغه أجله ثم يحيا للحساب والجزاء.

وقال آخرون : إنّ الله يحيي الإنسان في قبره بعد الموت ليحاسبه حساب القبر ، وبعدها يميته ثم يحييه يوم القيامة للجزاء.

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال ـ في تفسير الآية ـ : «ذلك في الرجعة» (١)

وهناك تفسير آخر هو : إنّ الإنسان منذ أن خلقه الله لا يزال حيّا ، وهذه الحياة الأولى التي وهبها الربّ للأرواح تستمرّ مع الإنسان في الدنيا فلا موت قبل هذه الحياة ، ثم يوافي الإنسان أجله المتعارف فيموت ، بمعنى : أنّه تنفصل روحه عن جسده وتبقى الروح في حالة الحياة.

وبعد هذا الموت يموت البشر ـ مرة أخرى ـ فتنعدم عنه الحياة تماما وذلك حينما ينفخ في الصور النفخة الأولى ، وقد أشار القرآن الحكيم لهذا المعنى في سورة

__________________

(١) المصدر / ص ٥١٣.

٣١

الزمر حيث قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١) وهذه هي الحياة الثانية التي تستمرّ مع الإنسان خالدة للأبد.

وبين الحياتين والموتين تتجلّى قدرة الله للبشر حيث لا يملك الكفّار سوى الاعتراف بخطئهم ، وأنّهم قد أحيط بهم من كلّ جانب بسبب الذنوب التي اقترفوها في الحياة الدنيا ، فيسألون الله بضراعة عن مخرج من مأزقهم.

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا)

وإنّنا لا نملك من أمرنا شيئا.

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)

[١٢] وتجيبهم الملائكة بأنّه قد كان يوجد مخرج واحد فقط من هذا المأزق ، وهو الإيمان بالله الواحد القهّار والتسليم له (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢) ، ولكنكم رفضتم الدخول فيه وضيعتم على أنفسكم الفرصة.

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا)

لأنّكم كنتم تريدون إيمانا يبرّر لكم شهواتكم ، ويعترف بواقعكم الفاسد وتصرّفاتكم الخاطئة ، وهذا ما لا تجدونه في الدين التوحيدي الخالص ، مما يدعوكم لرفضه.

(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)

__________________

(١) الزمر / ٣٩.

(٢) الطلاق / ٦٥.

٣٢

أمّا الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله فلن ينفعوكم أبدا لأنّهم لا يملكون شيئا من الحكم.

[١٣] وليس الله بعيدا عن البشر ولا مجهولا لمن يستثير عقله حتى يشرك به الإنسان ، فرحمته المعنوية التي تتمثل في الهداية مهيئة لنا في كلّ شيء وفي كلّ حين ، إذ كلّ شيء آية تهدينا الى ربنا ، ورحمته المادية التي تتجسد في أنواع الرزق هي الأخرى تتنزّل علينا من السماء وتحوطنا من كل جانب. ويبقى الإنسان مع ذلك يشرك بربّه ولا ينتفع من كل ذلك ، إلّا إذا كان مؤمنا به منيبا إليه.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)

والمنيب هو الذي يرجع الأمور الى الله ، ويتوب إليه كلّما أدركه النسيان أو الخطأ ، أمّا المشرك فإنّه لا ينتفع بهذه الآيات ولا بهذه النعم حتى يحصل على معرفة ربّه ، لأنّه ينسب كلّ ذلك الى الشركاء ، فإذا به يعتقد أنّ منبع رزقه هو صاحب المال والسلطة ، أو يرجع الرزق الى حتميّات وعوامل من عنده فلا يشكر ربّه ولا يتذكره بها.

[١٤] ولمّا كان الشرك يحرف مسيرة الإنسان في الحياة ، ويوجّهه لغير الله ولغير الحق ، أكّد ربنا على ضرورة الإخلاص له في الإعتقاد بعيدا عن كلّ عوامل الشرك.

ولأنّ الضغوط التي يواجهها المؤمن الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية من قبل الآخرين من أهمّ تلك العوامل وأبلغها أثرا خصّصها بالذكر.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

٣٣

وهذا ينسجم مع سياق السورة الذي يحدثنا عن مؤمن آل فرعون كمثل لمحافظة الإنسان على إيمانه وإخلاصه لله رغم الضغوط والظروف المعاكسة.

٣٤

رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ

___________________

١٥ [يوم التّلاق] : أصله التلاقي حذف الياء تخفيفا ، أي يوم يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض.

١٨ [يوم الآزفة] : من أزف بمعنى دنى ، ويسمّى يوم القيامة بالآزفة لدنوّه.

٣٥

بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤)

___________________

٢١ [واق] : الواق أصله واقي ، من وقى بمعنى حفظ ، أي لم يكن لهم حافظ يحفظهم من بأس الله وعذابه.

٣٦

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ

هدى من الآيات :

انطلاقا من النقطة المحورية في توجيهات القرآن الحكيم وهي التذكرة بالله الواحد القهّار وبرسالاته الحضارية الهابطة على عباده ، يبين لنا هذا الدرس بعض ما يتصل بالرؤية التاريخية وما يدور في هذا المجال من الحقائق التي أبرزها انتقام الله انتقاما عمليّا للأفكار الحقة ممن يكفر ويستهزئ بها.

بينات من الآيات :

[١٥] بماذا نستدل على ربّنا؟ وما هو السبيل الى المعرفة الأعمق به؟

إنّ الكون بما فيه من مخلوقات ، وظواهر ، يهدينا لو تفكّرنا فيه الى ربّنا والى الحق ، ولكنّ آيات القرآن أبلغ بيانا وهداية ، لأنّها حديث الله عن نفسه ، كما أنّها موضع التجلّي الأعظم لله تعالى بصفاته وأسمائه الحسنى ، وفي الدعاء عن أمير المؤمنين (ع) يخاطب ربّه فيقول : «يا من دلّ على ذاته بذاته» فلنقرأ كلام الله

٣٧

عن نفسه.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ)

إنّه المالك لتلك الآفاق والمراتب السامية في الدنيا والآخرة ، فهو يرفع المؤمنين به الى أسمى درجات الكمال والرقي والعزّة. أمّا المعنى الآخر للآية فهو : إنّ الله ذاته تبارك وتعالى في أرفع الدرجات من الكمال في كلّ صفاته ، فهو مطلق الرحمة ، ومطلق العزة والقدرة ، و.. و.. كما أنّه مطلق الانتقام والشدة و.. و..

(ذُو الْعَرْشِ)

أي القوة والسيطرة. وقد تقدم أنّ للعرش أحد معنيين : الأول المعنى المادي ، وهو أنّ العرش خلق عظيم واسع الحجم ، ممتد الطول هائل المقام ، والثاني المعنى المعنوي بأن يكون العرش رمزا للقوّة والهيمنة.

وربّنا من تلك الدرجات الرفيعة ينزل رسالاته للبشر على من يصطفي من عباده ، والتي تعتبر في لغة القرآن منبع الحياة الحقيقية للإنسان ، لأنّها تنقذه من الهلكات ، وتنفخ فيه الحركة والتكامل والعروج الإنساني الفاضل ، ولعلّه لهذا السبب سمّيت الرسالة والملك الذي يتنزّل بها وهو جبرئيل (ع) بالروح.

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)

وهنا إشارة الى أنّ الروح ليس جزء ينفصل من الله لينزل من عنده الى الأرض ، إنّما هو مخلوق فهو من أمر الله كما هو حال سائر الخلق في كونهم من أمره تعالى ، والذي تشير إليه الآية الكريمة (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) وهذا يعني أنّ الأنبياء والرسل ليسوا آلهة بما اختصّوا به من الوحي إنّما

__________________

(١) سورة يس / ٨٢.

٣٨

هم عباد له تعالى ، وما عندهم من الوحي والمنزلة الرفيعة لم يبلغوه بسعيهم المجرّد وإنّما بمشيئة الله وحكمته.

وتنفي هذه الفكرة فكرة التكامل الطبيعي عند الإنسان ، والتي يدّعي أصحابها بأنّ الإنسان يتكامل بطبعه حتى يعرج إلى السماء أو إلى مقام الرسالة والألوهية ، بلى. الإنسان يستطيع أن يهيئ في نفسه أرضيّة للعروج ، ولكن الله هو الذي يكمّله ، وإذا رفعه الى مقام الأنبياء فليس معنى ذلك أنّه أصبح إلها ، أو أنّه رفعت عنه المسؤولية ، كلا .. والدليل أنّ نزول الروح على أيّ إنسان يحمّله مسئولية التبليغ لهداية الناس.

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)

وتلخّص هذه الآية كثيرا من العقائد الإسلامية والنظرات الحياتية في القرآن بمفرداتها الأربع : «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» ، «ذُو الْعَرْشِ» ، «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ» ، «يوم التلاق» ، ويوم التلاق هو يوم يلتقي الإنسان بخصومه ، وهو من الأيّام الحساسة والمشهودة في حياته ، فيلتقي المستكبر بالمستضعف ، والظالم بالمظلوم ، والغاصب بالمغصوب منه ، والكاذب بمن افترى عليه ، وكلّ عامل يلتقي يومئذ بعمله ، ويلتقي المجرمون بالشهود ، والناس جميعا يلتقون بالحساب عند ربهم ، وهكذا يكون يوما عظيما لا بد أن يرهب مقامه ، وينذر به المنذرون.

[١٦] ويضيف القرآن مبينا واقع ذلك اليوم العظيم والحاسم :

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)

في الدنيا يحاول الإنسان جاهدا إخفاء سلبياته وتجاوزاته لحقوق الآخرين ، وحتى إنّه يحاول خداع ذاته ، وإخفاء جرائمه عن ضميره بالتبريرات والأعذار ، وقد

٣٩

يستطيع الهرب من يد العدالة ، ولكن هل يتمكّن من مثل ذلك في الآخرة؟ كلا .. لأنّ اعتقادات الإنسان وأقواله وأعماله كلّها تظهر يومئذ ولا تخفى منها خافية أبدا كما يقول تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) كبيرة كانت أو صغيرة ، وكيف يكون ذلك وقد أوكل الله بكل واحد ملائكة يكتبون له وعليه كل ما يصدر منه ، وهو من ورائهم رقيب؟!

وحينئذ يرتسم في الأفق سؤال عريض ربما ينطق به كلّ شيء ، لأنّه سؤال الساحة الذي يقتضيه الحال ، وقد ينادي به مناد من عند الله ، السؤال هو :

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)

والإجابة يحكيها لسان الواقع ، وهي التي وردت في فاتحة الكتاب التي وصفت الله بأنه (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهنا أيضا يقول القرآن مجيبا على النداء أو السؤال المفترض :

(لِلَّهِ الْواحِدِ)

فلا يشاركه أحد في الملك والحكم.

(الْقَهَّارِ)

والقهار هو أبرز سمات الانفراد بالملك ، حيث لا شيء يعجز الله ويقهره ، ولا أحد ينازعه على الملك إلّا وقصمه ، وملك الله ليس محدودا بالآخرة وحسب ، فهو الملك في الدنيا أيضا ، ولكنّ الكفّار يعمون ويصدون عن هذه الحقيقة بعنادهم وبفقدانهم للبصيرة الهادية حيث رفضوا رسالات الله ، أمّا المؤمنون فهم يعرفون هذه الحقيقة بعمق ، لهذا يسلمون لله ولمن يختاره راضين طائعين.

٤٠