من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

فالنعمة التي أعطيناها ليست دائمة ، ونحن مسئولون عنها يوم القيامة ، لأنّ الله إنّما أعطاكها لهدف مقدّس سام ، وهو أن تعمل بمنهجه وبمقتضى أوامره.

وفي الآية ومضة أدبيّة فكما المسافر ينقلب ألى أهله كذلك الإنسان ينقلب ألى ربّه.

وحول هذا الموضوع جاءت طائفة من الأحاديث ، فعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال : «نعم» ، قلت : ما هو؟ قال : يحمد الله على كل نعمة [أنعمها] عليه في أهل ومال ، وإن كان فيما أنعم عليه من ماله حق أدّاه ، ومنه قوله عزّ وجل (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ، ومنه قوله تعالى : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ، وقوله : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) (١)

وعن أبي الحسن (ع) : «... وإن خرجت برّا فقل الذي قال الله عزّ وجل (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ، ف إنّه ليس من عبد يقولها عند ركوبه فيقع من بعير أو دابّة فيصيبه شيء بإذن الله» (٢)

وروي عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (ع) قال : «إذا استويت على راحلتك ، واستوى بك محملك ، فقل : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، ومنّ علينا بمحمد (ص) ، (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) والحمد لله ربّ العالمين. اللهمّ أنت الحامل على الظهر ، والمستعان على الأمر ، اللهمّ بلّغنا بلاغا يبلغ الى خير ، بلاغا الى مغفرتك ورضوانك ، اللهمّ لا طير

__________________

(١) البرهان / ج ٤ / ص ١٣٦

(٢) المصدر / ص ٥٩٣

٤٤١

إلّا طيرك ـ الطير هو التشاؤم والفأل الرديء ـ ولا خير إلّا خيرك ، ولا حافظ غيرك» (١)

وهكذا أمرنا الدّين الحنيف بأن نذكر الله عند ركوب ما سخّره الله لنا مباشرة من الأنعام ، وما سخّره بأيدينا من الفلك (والسيّارة والطيارة وما أشبه) لكي نتذكّر ما لهذه النعمة من أهداف معنويّة وماديّة ، كما أمرنا بأذكار وأدعية عند كلّ نعمة عند الطعام والشراب والزواج وزيارة البيوت والنوم واليقظة والوضوء والغسل ، وحتى عند النظر في المرآة .. كلّ ذلك لكي نتذكّر هدف كلّ نعمة فلا نزيغ عنه ، ونشكر الله عليها فلا نصاب بالبطر والكبر.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٩٣) .

٤٤٢

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ

___________________

١٨ [أو من ينشّؤا في الحلية] : الهمزة للاستفهام والواو للعطف ، أي هل هؤلاء الكفّار يجعلون لله تلك البنت التي تكبر وتتربّى في الزينة؟! ٢٠ [يخرصون] : يكذبون.

٤٤٣

كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)

___________________

٢٣ [مترفوها] : أي المتنعّمون فيها ، من أترف بمعنى تنعّم ـ والمراد به الرؤساء والكبراء ـ لأنهم دائما يقابلون المصلحين بالإنكار والتخاصم.

٤٤٤

أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ

عَلَيْهِ آباءَكُمْ

هدى من الآيات :

لكي تنفذ بصيرة الإنسان الى واقع الخلق وتصلح بذلك علاقته به فلا يرفعه الى مقام الخالق ، ولكي تخلص عبادة الإنسان لخالقه من شوائب الشرك ، ويعلم أنّ النعم من عنده فلا يكفر به بإشراك عباده فيها ، وبالتالي لكي تكون علاقته بالنعم سليمة منبعثة من نور التوحيد ، تسوق آيات الدرس حقائق التوحيد خالصة من زيغ المعتقدات الجاهلية ، والتي منها نظرية الحلول التي يزعم أهلها أنّ لله في عباده جزء يتنزّل الله به عن مقام ربوبيته درجة ، ويرتفع العبد به الى مقام الربوبية بقدرها. إنّه الكفر المبين بالنعم وبمن أنعم سبحانه ، وهكذا الإنسان من طبعه الهبوط الى هذا الدرك من الكفر.

ويستنكر القرآن زعمهم بأنّ الله اختار البنات بينما اصطفى لهم البنين في الوقت الذي تراهم يستاءون من الإناث حتى إذا بشّر أحدهم بها ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم.

٤٤٥

ويتساءل السياق : كيف يختار البنات وهنّ ناشئات الحلي والزينة ، ولا يصلحن للجدال والمخاصمة؟!

وهكذا جعلوا الملائكة إناثا بينما هم عباد الرحمن والعباد أمام معبودهم شرع سواء (وهكذا ينسف القرآن أساس التفاضل الذاتي بين الخلق وهو في ذات الوقت الانحراف الكبير الذي يزيغ اليه ذووا الثروة والجاه) وينكر عليهم أن يقولوا ما ليس لهم به من علم وينذرهم بأنّ كلامهم يعتبر شهادة ، وأنّه مسجّل عليهم ، وأنّهم يسألون عنه.

(وجعل الملائكة أو غيرهم أنصاف آلهة يساهم في الإيمان بالقدر (الجبر) وأنّهم لا يملكون من أنفسهم شيئا) وأنّه لو شاء الله لما عبدوا الملائكة.

(ولكن انسياقهم وراء النظرية القدرية تمّ بدفع شهواتهم ونزوع الإنسان الى التملّص من المسؤولية) وإنّه ما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يخرصون.

(وتراهم يعظّمون آباءهم الى درجة اتباعهم بغير هدى) ولا يجوز تقديس الآباء إلّا بقدر ما كان عندهم من كتاب أو هدى ، أما إنّهم يقولون إنّا مهتدون لأنّنا نتبع آباءنا فيما وجدناهم ماضين عليه من شرعة ومنهاج.

وهذه عبادة جرت في كل الأمم ، فما أرسل الله في قرية من نذير يحذّرهم من الاسترسال مع المنكرات إلّا قال المترفون فيها (الذين عبدوا الثروة وخشوا من الإصلاح) (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) ، وإنّنا ماضون عليها .. وحين دعاهم النذير بما هو أهدى من آثار آبائهم كفروا برسالته فانتقم الله منهم بسبب تكذيبهم ، وأثبت الانتقام أنّهم مسئولون عن مواقفهم ، اعترفوا بها أو لم يعترفوا (وهكذا بان كفران الإنسان وأصله الجهل بمقام الله وأنّه لا يتشبه بخلقه أبدا) .

٤٤٦

بينات من الآيات :

[١٥] لقد بيّن القرآن حقيقة الفصل الأبدي بين الخالق والمخلوق حتى لا يضفى على الخالق من صفات المخلوقين شيء ، ولا ينعت المخلوق بصفة من صفات الخالق ، لأنّ الخالق لا يشبهه شيء.

وذكّرنا بسفاهة كل المعتقدات الجاهلية التي تخلط بين صفات الخالق والمخلوق ، والتي تنبعث ـ فيما يبدو ـ من النظرة الشركية الى المخلوق وإعطائه الذاتية والقيمة من دون الله.

وكان من معتقداتهم السفيهة أن جعلوا لله البنات ، وزعموا أن فيها جزء من الله.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً)

فقسّموا الله جزئين ، أحدهما من ذاته ، والآخر من عباده. أو ليس الولد امتدادا لوالده ، حيث ينتقل جزء من الوالد فيه حتى يصبح بضعة منه ، هكذا زعم القائلون بالحلول أنّ جزء من الله ينتقل الى بعض عباده فيصبح نصف إله ، ويكتسب قداسة بين سائر عباده ، وينتمي الى ذي العرش انتماء نسبيّا (كما زعم النصارى أنّه ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عمّا يصفون ، وكما يزعم المترفون أنّهم يختلفون ذاتيّا عن سائر خلق الله) أو لم يفقهوا أنّ كلّ من خلقه الله هو عبد لله ونسبته الى الله نسبة المخلوق الى خالقه ، وهم جميعا أمامه سواء (من حيث الذات) ، ومن السفه أن يجعل له جزء من عباده دون جزء بل هم جميعا له ، ولكن في مستوى العبودية وعلى صعيد المخلوقية.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)

٤٤٧

إنّه جحود متجاهر بجحده ..

أولا : لأنّه يجحد بآيات ربه ، ويتنكّر نعمه عليه ، انطلاقا من كبر في نفسه وبوعي منه وإصرار ، لأنّه لا يريد أن يسلّم لأمره ويطيع أولياءه.

ثانيا : لأنّه يساوي بين من أنعم عليه كل هذه النعم السابغة وبين عباده العاجزين ، فيقول إنّ بعض العباد شركاء لله ، وينسب إليهم من دون الله النعم.

ويتصل موضوع نكران النعم بهذه الشدة بمحور السورة ـ وهو علاقة الإنسان بنعم الله ـ اتصالا متينا إذ أنّ أهمّ ركائز العلاقة السليمة شكر الله ، وتجاوز حالة الكفران الطبيعية عند الإنسان الى حالة الشكر المنبعثة من الإيمان.

[١٦] وهكذا زعموا بأنّ الله اصطفى لنفسه البنات ولهم البنين.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ)

ولكن كيف يجتمع الخلق والتبنّي ، ثمّ لماذا يصطفي لنفسه الإناث والبنت في نظر الجاهليين ليست المثلى ، فكيف يضربوه لله مثلا؟!

[١٧] (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)

مكفهرا من الغضب وجهه ، كاظما غيظه يكاد يتميّز من الغيظ.

[١٨] (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)

فالبنت التي تكون نشأتها ونموّها في الحلية ـ الزينة ـ وتعيش النعومة والرقّة ، هل هي قادرة على القيام بما تقوم به الملائكة؟ كلّا .. ولو اتخذ الله بنات لجعلهم في

٤٤٨

رياض الجنان يمرحن ، ولم يجعلهنّ يمارسن أمور الحياة ، ثم إنّ النساء لذلك لا يكوننّ قادرات على الخصام والجدال كما الرجال لأنهنّ عادة يفصحن عن كل ما تجيش به صدورهنّ لفرط عاطفتهن.

[١٩] ولأنّهم جعلوا لله جزء من عباده ، وزعموا أنّه اتخذ البنات مما خلق وهم يكرهون البنات ، تراهم يعتقدون بأنّ الملائكة إناث.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)

لماذا؟ لعلّه للأسباب التالية :

أوّلا : إنّهم زعموا في الملائكة ما زعمته النصارى في المسيح حيث جعلوا لله فيهم جزء ، لعلّه لعقيدة الحلول .. أو حسب نظرية الفيض وتنزّل وجود الله (تبارك وتعالى عما يقولون) الى مرتبة الملائكة ، وهي عندهم أدنى من مقام الربوبية وأعلى من مقام سائر الخلائق.

ثانيا : لأنّهم لم يحبّوا الملائكة نسبوا إليهم التأنيث أو ليست الإناث أقلّ قدرا من الذكور عندهم؟!

ثالثا : لأنّهم كانوا يتصوّرون الملائكة يمثّلون جانب الشهوات ، بينما مقام ربّ العرش مقام العقل.

رابعا : قالوا إنّما أنثت العرب الملائكة في لغتهم لأنّهم كانوا يؤنّثون كلّ مغيّب عنهم ، محجوب عن أعينهم ، والله العالم.

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)

هل كانوا حاضرين عند ما خلقهم الله حتى يحكوا بأنّ الملائكة بنات؟!

٤٤٩

(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)

أي سنسجّل لهم قولهم بأنّ الملائكة إناث ، ويسألون عنه يوم القيامة ، وكفى بذلك رادعا عن أقوالهم اللّامسئولة.

[٢٠] ويمضي السياق في دحض تخرّصات الجاهليين الواحد بعد الآخر حتى يبلغ محورها الرئيسي المتمثّل في النظرية القدرية ، ذلك أنّ أساس زيغ البشر ـ كما يبدو وكما سبق القول آنفا ـ النظرة الشيئية التي تعطي للأشياء قيمة ذاتية بعيدة عن صلتها بالله العظيم .. فتضفي عليها هالة من القداسة ، والثبات والحتمية.

إنّ الاعتقاد بوجود جزء من الله في عباد الله هدفه تجريد الإنسان عن مسئولية أعماله. ألا ترى كيف يتنصّل الطاغوت ـ أيّ طاغوت ـ عن الالتزام بالقانون باسم أنّه ظلّ الله في الأرض ، وأنّه لا يخطئ؟ ويزعم بعض أدعياء التصوّف أنّه مظهر لتجلّي الحقيقة المحمّدية فهو لا يزيغ ، وزعم بعض أدعياء الفقه بالتصويب ، وأنّ ما يحكمون به عين ما حكم الله به من فوق عرشه ، وهكذا الإنسان العادي يذهب الى تبرير أعماله بأنّ وراءها إرادة الله.

كما أنّ الشرك بالملائكة ينبعث من نزوع الإنسان الى تبرير أعماله ، والتهرّب عن المسؤولية ، حيث زعم بأنّ الملائكة يشفعون له.

وهكذا نجد السياق يواصل الحديث عن هذه الأفكار الشركية حتى يبلغ جذورها المتمثلة في القدرية فيقول :

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)

فالله سبحانه حسب هذا الزعم مسئول عن ضلالتهم ، لأنّه كان قادرا على

٤٥٠

إنقاذهم منها فلم يشأ ، كلّا .. إنّ الله آتاهم فرصة الهداية ، ووفّر لهم عواملها ، وشاءت حكمته أن يلقي بمسؤولية الإختيار عليهم ، فإن اهتدوا بلغ بهم الكمال ذروته ، وإن ضلّوا سقطوا في قعر الهاوية ، لأنّ تلك وهذه إنّما تتمّ بإرادتهم.

وقد قلنا في بداية هذا الدرس أنّ هذه فكرة قدريّة جبريّة هدفها تبرير واقع الإنسان المتخلف ، وتلقي بمسؤولية الهداية على الله.

وقد أشار السياق الى سفاهة مجمل تصوّراتهم ، فهم جهلوا مقام الخالق فجعلوا له من عباده جزء ، ولو عرفوا شيئا من معنى الخلق والإنشاء وإحاطة الرب قدرة بكلّ شيء ، وأنّ أمره بين الكاف والنون من كلمة (كن) وفي لحظة إرادة يبتدع ملايين المجرّات ..

أقول : لو عرفوا شيئا من ذلك لسفّهوا أنفسهم ، ولم يزعموا أنّ له مراتب وجوديّة يتنزّل عبرها ليكون جزء منه في مخلوقاته ، سبحان الله وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا.

ولو عرفوا أنّ مهام الملائكة مهام صعبة لا تليق بالنساء الناعمات ، فمن مهامهم اقتلاع قرى لوط عن أعماقها ثم قلبها وتدميرها ، ومن مهامهم بيان أعظم الحقائق وأدقّها ، ومخاصمة المبطلين ، فكيف تليق بمن ينشّأ في الحلية ، ولا يفصح في الجدال؟!

لو عرفوا ذلك لما زعموا أنّ الله اصطفى البنات على البنين.

ولو عرفوا قرب الملائكة من الله ، ومدى كرامتهم عنده ، لأنّهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، لما عادوهم وضربوا لهم المثل السيء الذي رفضوه لأنفسهم حين قالوا أنّهم إناث.

كلّا .. إنّهم عباد الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء ، وما داموا عبادا فهم

٤٥١

فوق ما ينسب إليهم من الأنوثة (وهي مرتبة أدنى في زعمهم) ودون ما يتصوّر من أنّ فيهم جزء من الالوهيّة.

ولأنّهم عباد الرحمن فلا يجوز أن يتخذ منهم الرحمن بنات ، وقد شملت رحمته كلّ خلقه ، وكيف تتفاوت الخليقة تفاوتا ذاتيّا ، وهي كلّها مخلوقة لربّ واحد ، بلى. إنّما يتفاضل الخلق بينهم بما يهب الله لهم حسب حكمته البالغة.

والآية تنسف أساس النظرة الشيئية الى المخلوقات التي هي أساس الشرك وأساس كلّ الزيغ البشري ، ببيان جهلهم المطلق بذلك الغيب ، فهم لم يشهدوا خلق الملائكة فكيف يحكمون بأنّهم بنات؟! وأساسا هل يجوز أن يتحدّث الإنسان عمّا لم يؤت علمه؟!

(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ)

فهم يتكلّفون علم ما لا قبل لهم به ، إنّهم أرادوا أن يعرفوا كيف آتاهم الله العقل والإرادة ، وكيف يجوز لهذا الإنسان المحدود أن يختار بنفسه ، وأن يتجاوز العوامل الضاغطة ، فوقعوا في ضلال بعيد.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)

أرأيت كيف يخمّن الخرّاص وزن التمر على النخل؟ إنّه يعتمد على معلومات غير كافية ، يضيف إليها من خياله الخصب ما لا يغنيه عن الحق شيئا.

ويوحي هذا التعبير بأنّهم بنوا على فكرة صحيحة نظرية خاطئة ، فالصحيح هو وجود دوافع ضاغطة ، والخطأ هو أنّها تسلب إرادة الإنسان.

صحيح أنّ للاقتصاد أثرا كبيرا على قلب الإنسان ، وأنّ الناس عبيد الدنيا ،

٤٥٢

وأنّهم يحوطون دينهم ما درّت معايشهم ، ولكنّ الخطأ هو الحتميّة الاقتصادية التي زعمت أنّ الإنسان محكوم كليّا بطرق الإنتاج كما قالت الماركسية.

وهكذا للاجتماع جاذبية هائلة ، ولكنّها لا تحتّم على الإنسان شيئا ، وكذلك التاريخ يسوق البشر في اتجاهه دون أن يكرهه على ذلك إكراها.

ولو لا قدرة الإنسان على تحدّي العوامل الضاغطة لما بنى حضارة ، ولا تقدّم شبرا ، ولما استطاع الروّاد أن يخرقوا جدر التخلّف بسهام التجديد ، وما قدر الثوّار أن يغيّروا الواقع السياسي الفاسد ، ولا انتصر الرسل على الجاهليين الذين كانوا يملكون وسائل الإنتاج ، وأجهزة الاعلام ، وجاذبية المجتمع.

[٢١] ومن الحتميّات الموهومة الحتميّة التاريخية ، ولا يعترف الدين بالتاريخ والتراث وتقاليد الآباء إلّا بقدر ما فيه من هدى الله الموحى به عبر رسالاته ، ولذلك نجد الذكر الحكيم يذكّرنا بأنهم ما داموا لا يملكون كتابا يستمسكون به فلا قيمة لماضيهم.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ)

من قبل القرآن الذي يجادلون فيه.

(فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)

[٢٢] كلّا .. إنّ اعتمادهم ليس على العلم (لأنه ما لهم به من علم) ولا على كتاب ، إنّما على تقاليد بالية.

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ)

٤٥٣

على طريقة يأتمّ بعضهم بالبعض فيها.

(وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)

نحن سائرون على آثارهم فنحن إذا مهتدون.

كلّا .. إنّ الآباء لم يكونوا أنصاف آلهة ، ولا شرعية لعملهم ، ولا هدى في آثارهم من دون علم أو كتاب.

[٢٣] وهذه عادة باطلة درج عليها المترفون حينما بعث الله إليهم الأنبياء.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)

فلربما كانت عقيدة الآباء منحرفة ، ولربما كانت صحيحة ولكن في وقتها ، إذ أنّ «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» أو قد يكونوا صالحين ولكن مع تقادم الزمن حرّفت عقائدهم.

وهذه الآية تبيّن لنا أنّ الناس انقسموا تجاه أنبيائهم الى قسمين : قسم اتبع الأنبياء ، وهم المستضعفون ، وقسم خالف هدى الأنبياء ، وهم المترفون ومن اتبعهم من عامّة الناس.

[٢٤] بلى. من السفاهة اتباع الآباء بلا تعقّل ، كما لا ينبغي رميهم بالانحراف رأسا ، إنّما يجب اتباع أهدى السبل سواء عرفه الآباء أم لا.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ)

وهذا طعن غير مباشر ، وغير حاد لعقيدة الآباء ، فالرسول لم يطعن في سيرة

٤٥٤

الآباء ، بل دعاهم الى اتباع الأهدى ، مشيرا الى أنّ الآباء لم يكونوا مهتدين ، أو أنّ منهاجهم كان صالحا لذلك الوقت ، وقد نسخه تقادم الزمن ، وتطوّر الظروف ، فما ذا كان ردّ أقوام الرسل لهذه الدعوة؟

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)

كفروا بما أرسل الرسل ، وتبيّن زيف ادعائهم بحتمية اتباعهم لآبائهم ، كلّا .. ليس آباؤهم مسئولين عن كفرهم ، بل هم المسؤولون.

[٢٥] وحين تمّت عليهم الحجة ، وثبتت لهم مسئوليتهم عن أعمالهم ، جاءهم الانتقام.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)

وسواء اعترف الإنسان بجريمته أو لم يعترف فإنّ قضاء الله واقع به إذا تنكّب الطريق ، وهكذا لا يغنيه إنكار المسؤولية شيئا.

٤٥٥

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ

___________________

٣٢ [سخريّا] : أي ينتفع أحدهم بعمل الآخر له فينتظم بذلك قوام أمر العالم.

٤٥٦

لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)

___________________

٣٤ [معارج] : جمع معراج وهو السّلم.

٣٦ [زخرفا] : هو الذهب.

٤٥٧

إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا

هدى من الآيات :

يضرب القرآن مثلا على الصراع بين الحق الذي يحمله النذير الى قومه والواقع الفاسد الذي يدافع عنه المترفون باعتباره تراث الآباء ، بقصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي تحدّى أباه وقومه ، وأعلن براءته مما يعبدون ، وجعل الإمامة في ذريته الطيبة لتكون منار هدى للأجيال المتعاقبة ، كما ومتّع طائفة من أبنائه (وهم أهل مكة وآباؤهم) دهرا طويلا حتى جاءهم الحق ورسول مبين فكذّبوه وقالوا هذا سحر.

(وقد قاوموا الرسالة الإلهية بقيمهم المادية) وقالوا : لو لا نزّل هذا القرآن على واحد من العظيمين في مكة والطائف (الوليد بن المغيرة من قريش مكة أو حبيب بن عمرو من ثقيف الطائف ، حسب ابن عباس) .

ويبيّن القرآن ضلالة هذا المقياس ، أولا : بأنّ الله هو الذي يقسم رحماته كيف

٤٥٨

يشاء لا المخلوقون وثانيا : بأنّ الله قد قسم بينهم معايشهم حسب حكمته ، وإنما رفع بعضهم على بعض لكي يتخذ بعضهم بعضا سخريّا (وليس للغني في غناه كرامة ، ولا على الفقير في فقره هوان) وثالثا : بأنّ رحمة الله (المتمثّلة في رسالاته وجزائه) خير مما يجمعون من مال وزخرف.

(ويمضي السياق قدما في تهوين شأن الدنيا وليقتلع من النفوس مقياس الغنى في تقييم الحقائق ، ويقول :) لولا أن يكون الناس على الضلالة جميعا بإغراء زخرف الدنيا لجمع الدنيا كلّها للكفار ، فجعل لبيوتهم سقفا من فضة وسلالم يعرجون عليها (الى الطوابق العليا) وجعل أبواب بيوتهم وسررها من فضة ، وأحسن تأثيث منازلهم بالزخرف. ثم ماذا بعد كلّ ذلك؟ إنّما ذلك متاع زائل للحياة الدنيا ـ بينما تصفي الآخرة لمن اتقى ربّه ـ .

بينات من الآيات :

[٢٦] ضمن سياق هذه السورة التي تتحدّث عن تصحيح العلاقة بين الإنسان وما حوله من بشر وطبيعة ، يبين لنا السياق القرآني العلاقة المثلى بين الإنسان وبين آبائه ، فعلاقته يجب أن تكون مع القيم قبل العلاقة بالماضي بما فيه من خير وشر .. لماذا؟ لأنّ الإنسان لا يكتسب القدسية بمجرد مرور الزمان عليه ، ولأنّنا وهم أمام الله شرع سواء ، وإنما قيمتنا جميعا باتباع ما أمرنا الله به.

ولولا هذه العلاقة المجرّدة عن التقديس لما قدرنا الانتفاع بتجاربهم ، وكيف نتقي الأخطار التي أحدقت بهم وأهلكتهم ، وما هي بدايات انحرافهم ، وما هي عاقبته؟

كما أنّ العلاقة السليمة الى التاريخ تجعلنا نعيش واقعنا بصورة أفضل ، فمن الناس من تجده يهرب من حاضره الى ماضيه ، ولا يرى إيجابيات عصره ، ولا

٤٥٩

إنجازات معاصريه ، ولا يتنعّم بفوائده ، ولا يقبل التطوير والتجديد .. كلّ ذلك لأنّه قد ارتمى في أحضان التاريخ ، يحتمي بكهفه ، ويتغنّى بأمجاده ، ويجتر حوادثه ، ويتفاعل معها كما الأسطوانة الجريحة التي تكرّر ذات النغمة أبدا ، وهذه حقّا من أعظم علائم التخلّف ، فمثلا لم تكن قريش عند ما بزغ فجر النبوة تصدّق بأنّ الرسول واحد منهم ، يعيش بين ظهرانيهم ، يأكل مما يأكلون ، ويشرب مما يشربون ، يكون أفضل من إبراهيم وموسى وعيسى ومن عظماء التاريخ (عليهم السلام) ، بالرغم من أنّ القرآن الكريم عند عرضه لقصص أنبياء الله الكرام تراه يعرضها بواقعياتها الإيجابية والسلبية ، وكيف كذّبهم الناس ، ولكن مع ذلك يقدّسهم من يأتي من بعدهم. لماذا؟ للتعويض عن الحاضر بالماضي ، الذي يأتي بدوره من منطلق التهرّب من تحمّل مسئوليات الواقع الراهن ، ذلك لأنّ الذي يقدّس واحدا من عظماء التاريخ لا يكلّفه ذلك شيئا كثيرا ، أمّا الذي يحترم قائدا حيّا يعيش في عصره فإنّ ذلك يعني طاعته والتسليم لأوامره.

ومن هذا المنطلق يتحدّث القرآن عن قصة إبراهيم مع قومه ، عند ما تبرّأ من عبادة الأصنام ، معتبرا أنّ عبادة الآباء لها ليس دليلا على شرعيّتها ، وورّث هذا الفكر التحرّري أبناءه ، وصارت تلك سنة يتوارثها المؤمنون الصادقون عبر التاريخ ، أن يؤمنوا بالله ، ولا يخضعوا للفساد المستشري بين الناس ، والذي تعوّدوا عليه ، ولا يخضعوا للشرعيّة المزيفة ـ شرعيّة الأمر الواقع ـ الذي يسمّيه عالمنا السياسي اليوم ، مهما كان هذا الواقع صعبا.

بعد ذلك تتحدّث الآيات عن النظرة المادية البحتة الى القيم ، فلو أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، رجل من مكة أو آخر من الطائف. لماذا؟ لأنّ الدنيا مقبلة عليهم ، والنظرة المادية الى القيم نابعة من النظرة المادية للأشياء ، فالقيمة كلّ القيمة في نظر بعض الناس للمادة ، أو كأنّ المادة هي القيمة الأساسية

٤٦٠