من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

الشافعي رضي الله عنه :

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج الى منى

فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (١)

ثانيا : مودة القربى في سياق الوحدة :

لماذا أمرنا بمودة القربى في هذا السياق الذي يحدّثنا عن نبذ الخلاف ، والتمسّك بالوحدة؟

حين نتدبر في مجمل آيات الذكر نجد سياقها لا يذكّرنا بالداء إلّا ويشفعه ببيان الدواء ، فإذا كان داء الاختلاف ناشئا من التشريع البشري ، كما قال ربنا : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) فإنّ دواء الاختلاف هو مودّة القربى الذين هم امتداد قيادة الرسول ، فأفضل الناس أقربهم الى الرسول منهجا وعملا (وهم أهل بيته ثم العلماء من أمته الأمثل فالأمثل) وهم البديل الإلهي للشركاء الذين يشرّعون بغير إذن الله.

فمن اتبع القيادة الشرعية التي أمر الله باتباعها كان كمن ركب سفينة نوح أمن ونجى ، ومن خالفها فقد تخلّف عن السفينة فغرق في طوفان الشرك والهوى.

ونجد هذا المنهج في قول ربّنا سبحانه في سورة آل عمران : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) .

فلا بد إذا من حبل الله نعتصم به حتى نوحّد صفوفنا ، وهو قيادة الرسل

__________________

(١) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي / ج (٢٧) ص (١٦٥ ـ ١٦٦) .

٣٤١

وأوصيائهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل من شيعتهم والتابعين لنهجهم.

ومن هنا نعرف أنّ المودة هنا هي ضمان الطاعة ، فلو لا حبّ الله ما تيسّرت للعبد طاعته ، ولو لا حبّ الرسول ما سهل على المسلمين اتباعه ، ولو لا حبّ آل الرسول ما تسنّى للمؤمنين التمسّك بهم ، ذلك لأنّ الحب هو ذلك الانسجام النفسي الذي يحدث بين شخصين ، وهو يقتضي الطاعة للحبيب بشوق وبلا تكلّف ، يقول الشعر الحكيم :

تعصي الإله وأنت تزعم حبّه

هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وجاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) :

«وهل الدين إلّا الحب» .

وكثيرة آيات الذكر وأحاديث الرسول التي تأمر بطاعة القيادة الشرعية المتمثّلة في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، وقوله سبحانه : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) .

وقول الرسول (ص) :

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف في الدين» (١) .

__________________

(١) تفسير نمونه نقلا عن الحاتم في المستدرك ص (١٤٩) حيث عقّب عليه هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (أي البخاري ومسلم) .

٣٤٢

ومثل حديث الثقلين المجمع عليه :

«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي»

إلّا أنّ النصوص التي استفاضت بها كتب التفسير والحديث والتاريخ هي التي تبيّن فضيلة حبّ أهل البيت ، لأنّ الحب أعظم درجة من الطاعة ، فقد تطيع شخصا مكرها ، ولكن إذا أحببته فإنّ طاعتك له تكون أيسر وأسمى ، ألا ترى كيف أنّ الله يصف أفضل عباده (وهم حزبه المفلحون) بأنّهم يحبّون الله ويحبّهم الله فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) .

بلى. حبّ الله أسمى درجات الإيمان ، وحبّ الرسول وأهل بيته أسمى درجات التسليم للحق والتمسك بحبل الله ، وبالتالي أفضل ضمان للوحدة.

ثالثا : لماذا المودّة بالذات؟

ويستدرجنا السياق الى السؤال الثالث : لماذا أمرنا السياق هنا بالمودة للقربى بينما كلمة الطاعة أكثر صراحة وأقرب الى حسم الخلاف؟ ولعلّ الإجابة الصحيحة تلخّص في أمرين :

أوّلا : لأنّ جذر الاختلاف بين الناس كامن في القلب ، وأعظم أسبابه الحب والبغض ، فالكبر والحسد والعصبيات القبلية والقومية والسياسية والأحقاد المتوارثة والجهالات العقيمة هي وراء أكثر الاختلافات ، وإذا لم تزكّ القلوب من آثارها فإنّ الخلاف لا يقضى عليه حتى في إطار الأهداف الواحدة والمصالح المشتركة.

وممّا يساهم في تصفية جزء كبير من أمراض القلب حبّ أولياء الله حيث يغمر نوره القلوب فيفيض حتى يشمل طائفة المحبّين جميعا.

٣٤٣

إنّ حبّ الرسول يجعلنا نحب كلّ تابعيه ، وحبّ أهل بيته يسري الى محبّيهم حتى يصبحوا حزبا إلهيّا واحدا ، ويتحابّوا في الله ، ويتزاوروا في الله ، ويتعارفوا في سبيل الله.

هكذا شبّه الرسول حبّهم بسفينة نوح التي وحّدت بين راكبيها ، كما حملتهم الى برّ الأمان.

إنّهم الحبل الذي يشدّ أزر المتمسّكين ببعضهم ، إنّهم النجوم التي توحّد مسيرة المهتدين بهم.

ولأنّ طاعة أهل البيت ، والتمسّك بالقيادة الشرعية الرائدة ، تقتضي جهاد المشركين ، ومقاومة الطغاة والمترفين ، وتحدي تيّار الفساد والضلال ، وبالتالي تقتضي هذه الطاعة الجهاد والإيثار والشهادة ، فقد جعل الله منطلقه الحب الذي به يسهل كلّ صعب ، بل ويتلذّذ الحبيب بما يبذله في سبيل من يحب. ألم تر كيف يصبر المجاهدون في سجون الطغاة على أقسى ألوان التعذيب ، ثم يقولون كما قال حبيبهم محمد (ص) :

«إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى»

ألم يأتك نبأ أهل الإيثار في سوح القتال ، كيف استساغوا شراب الموت ، وكان عندهم أشهى من العسل ، لأنّهم اتبعوا نهج إمامهم الحسين (ع) الذي قال وهو يعالج سكرات الموت تحت ركام من السيوف والخناجر والسهام والحجارة ، وقد اشتد به العطش ، ووتر بأفضل أهل بيت وأبرّ أصحاب ، قال :

«إلهي رضا برضاك ، لا معبود سواك»

وقالوا على لسانه :

٣٤٤

تركت الخلق طرا في هواك

وأيتمت العيال لكي أراك

فلو قطّعتني بالحبّ إربا

لما مال الفؤاد إلى سواك

ثانيا : الطاعة الحقيقية هي لله وأمّا المودّة ففي القربى ، نحن لا نطيع القيادة لذاتها أنّى كانت ، إنّما نطيعها لأنّها امتداد لولاية الله سبحانه وتعالى.

الطاعة ليست إلّا لله ولمن أمر الله ، وهذا يتناسب وأجر الرسالة ، لأنّ أجر الرسول هو أن يستمر نهجه ، حيث كان يتطلّع نحو بقاء خطّه الرسالي في الأمّة ، وهذا كان أهمّ أجر تقدّمه الأمة الإسلامية لرسول الله الذي ما ونى لحظة عن تبليغ رسالات ربه ، ولا ادّخر وسعا حتى أمره الله بألّا يهلك نفسه حزنا عليهم ، وقال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) وقال : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) .

وإنّي أعتقد بأنّ كثيرا من أبناء الأمّة الإسلامية قد أقرّوا عيني رسول الله (ص) ، فالذين استشهدوا في صفّين مع الإمام علي (ع) ، والذين استشهدوا في كربلاء مع الإمام الحسين (ع) ، والذين دافعوا عن خطّ الرسالة على امتداد التاريخ وخلال (١٤) قرنا وحتى اليوم .. والمعذّبون في السجون ، وشهداء الحق ، والمجاهدون في كل حقل ، هم شهود على ما أقول. إنّهم قدّموا لرسول الله الأجر ، وليس من الصحيح أن ننظر الى الجانب السلبي من التاريخ ، فليس من المنطقي أن نفتّش في الليل عن الظلام فكل العالم ظلام ، ولكن يبهر أبصارنا فيه نور القمر ، ويلفت انتباهنا ضياء النجوم.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً)

توجد في هذه الجملة لفتة فنية بالغة اللطف والدقّة تتركز في كلمة «يقترف» ،

٣٤٥

فهذه الكلمة عادة ما تأتي مقارنة للسيئة وليس للحسنة ، حتى قالت العرب (الاعتراف يزيل الاقتراف) ، فما هو السر في استعمالها هنا؟

إنّ الاقتراف معناه السعي المكثّف للقيام بشيء صعب ، وأصل الكلمة نزع لحى الأشجار أو الجلد الإضافي من الجسم ، ولعلّها استخدمت هنا لأنّ السياق يهدي الى طاعة أولي القربى ومودتهم وهي حسنة بالغة الصعوبة ، فمن أجل تطبيق هذه الآية الكريمة أريقت دماء ، وأطيحت برؤوس ، فليس كلّ إنسان أهلا لأن يكون من أصحاب المودّة.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)

أي أنّ الله سوف يقدّر هذا العمل البطولي الشجاع ، ويغفر لصاحبه ذنوبه.

وهكذا روي عن الإمام الحسن المجتبى (ع) أنّه قال :

«فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت» (١) .

كما روي عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال :

«إنّما نزلت فينا خاصّة أهل البيت في علي وفاطمة والحسن والحسين وأصحاب الكساء عليهم السلام» (٢) .

وروي مثل ذلك عن ابن عباس.

وكلمة أخيرة : لماذا اختار الله أولي القربى لقيادة الأمة؟ هل لأنّهم من صلب الرسول ، وقد أراد ربّنا إكرام نبيّه العظيم بذلك ، وإيتاء بعض أجره في الدنيا ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٧٣) .

(٢) المصدر / ص (٥٧٢) .

٣٤٦

ليبقى ذكره العطر فوّاحا في كلّ عصر ، ولكي يتحقّق بالتالي ما بشّر ربّنا به الرسول حين قال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، ونهر أعداءه حين قال : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ، فهذه سلالة الرسول تزيّن مجالس المسلمين في كلّ عصر.

بلى. ولكن ليس هذا سبب اختيارهم قادة ، لأنّه ليس كلّ من انتسب الى الرسول (ص) يصلح للإمامة ، إنّما كان أشخاص معيّنون بالصفات والأمثال اجتباهم الله لإمامة المسلمين ، وأشارت إليهم الآيات ، وذكرتهم النصوص ، وكانوا هم الأقربون الى رسول الله نهجا وسلوكا ، قبل أن يكونوا الأقربين إليه نسبا وصهرا ، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، وحين نستقرأ كتب التاريخ والحديث لمختلف الفرق الإسلامية نجدها تؤكّد بأنّ أقرب الناس خلقا وخلقا وعلما وعملا الى رسول الله (ص) هم أهل بيته الذين نزلت فيهم الآية ، وسمّاهم الرسول اسما اسما ، كما سبق في النصوص المتقدّمة ، وليس كل من انتسب الى رسول الله بنسب الدم والقرابة.

فإذا أكرمنا الصّدّيقة فاطمة الزهراء فليس فقط لأنّها بنت رسول الله (وللبنت كرامتها) وإنّما القيمة المثلى فيها هي أنّها الصّدّيقة الكبرى التي جسّدت رسالة النبي في حياتها ، وكذلك الإمام علي (ع) ، فنحن لا نكرم العباس عمّ النبي بقدر ما نكرم ابن عمّه عليّ بن أبي طالب لأنه الأقرب إليه نهجا وسلوكا.

وكذلك أولاد علي عليه السلام ، فله سبعة عشر ولدا نكرم بينهم الإمامين الحسن والحسين ليس فقط لأنّهما سبطي رسول الله وابني فاطمة الزهراء ، بل لأنّهما سيّدا شباب أهل الجنة بما قدّماه للإسلام من عطاء .. ومن هنا ننطلق الى الحلقة الثانية وهم الأقرب الى خط الرسول (ص) من أصحابه ، والأقرب الى خط الإمام علي (ع) من أصحابه ، والأقرب الى خط الحسن والحسين وفاطمة الزهراء والأئمة

٣٤٧

عليهم الصلاة والسلام من أصحابهم ، ثم الأقرب الى خطّهم في التاريخ ، ومن هنا جاء في الحديث المعروف :

«العلماء ورثة الأنبياء»

من هم العلماء الذين يشير إليهم هذا الحديث؟ إنّهم أولئك الذين يسيرون في خط رسول الله وأهل بيته ، لأنّ القرآن يقول : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ، وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فأولى الناس بإبراهيم ليس أبناء إبراهيم ، وإنّما هم الذين اتبعوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وكذلك أولى الناس بمحمّد وآله هم الذين اتبعوهم واتخذوهم قدوة لهم ، ومن هنا

جاء في الحديث المأثور عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) :

«ولايتي لمحمّد أحبّ إليّ من ولادتي منه» .

بلى. حين يريد الله أن يجعل رسالته في ذريّة طيّبة بعضها من بعض ، يختار ذريّة الرسول أكرم الخلق عنده ، وأفضلهم لديه ، فيطّهرهم من الدنس ، ويذهب عنهم الرجس ، ويصطفيهم لدينه ، كما اصطفى آل إبراهيم وآل عمران شخصا شخصا.

وهكذا اجتبى ربّنا أئمة هذه الأمّة من آل الرسول (ص) .

[٢٤] كلّما ذكّرنا ربّنا بأمر عظيم نهر المكذّبين بالقرآن الذين اتهموا رسوله بالافتراء ، لماذا؟ لأنّ التبرير الشائع الذي يلتجئ إليه مرضى القلوب للهروب من مسئوليات قبول أوامر الرسالة المستصعبة هو التكذيب بها ، وهكذا حين جاء الأمر بأداء أجر الرسالة في المحافظة عليها عبر مودّة القربى ثارت عصبية البعض ، وقالوا : إنّما قال هذا لنقاتل عن أهل بيته وننصرهم ، فأنزل الله : (أَمْ يَقُولُونَ) (١) .

__________________

(١) الدرّ المنثور / ج (٦) ص (٦) .

٣٤٨

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)

إنّه لقول عظيم ، كيف ينسبون الى رسول الله الصادق الأمين الكذب ، وبالذات حين يتمثّل في الافتراء على الله ، وهم يعرفون مدى تفانيه في الله؟

ثم هل من المعقول أن يدع الله رسوله الذي اختاره بعلم ، وأسبغ عليه نعمة الرسالة ، وأولاه بالنصر ، وأظهر على يده الآيات ، هل يدعه يتقوّل عليه؟! كلّا .. إنّه إن يشأ يعاقبه ، وأبسط العقاب هو سلب رسالته منه ، بأن يختم على قلبه فلا يكاد يعرف شيئا.

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ)

ونستوحي من الاية : إنّ من يفتري على الله يعاقبه الله بالختم على قلبه ، فيسلبه حلاوة مناجاته ، ولذّة التقرّب إليه.

ومن سنن الله في الحياة إزهاق الباطل ، وإحقاق الحق .. وهذا دليل على أنّ رسالة الله حق ، ورسوله صادق أمين.

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ)

إنّ من أدلّة صحة الرسالة أنّ كلمات الله في القرآن ليست من أجل الرسول أو من أجل قومه وعشيرته أو مصالحه ، أو مصالح فئة معيّنة ، إنّما من أجل الحق ، تتطابق مع السنن الجارية في الخلق ، فهي باقية ، بينما الثقافات الأخرى تنتهي حينما تزول عوامل نشوئها ، فإذا كانت ناشئة الطبقية أو العنصرية أو القومية زالت حين تتبدّل الدولة الحاكمة ، وإذا كانت ناشئة الخرافات والجهالات والعصبيّات زالت بزوالها ، وهكذا ترى كلمات الله في القرآن لا تؤثّر فيها المتغيّرات أنّى كانت ،

٣٤٩

لأنّها ناشئة الحق الذي لا يتغيّر ، مما يدلّ على أنّ هذا القرآن هو الصحيح ، وأنّ تلك الثقافات هي الباطلة.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

إنّ الله يعلم ما في صدورنا لذلك فهو يعالج الجوانب السلبية ممّا في صدورنا بالجوانب الإيجابية ، يعالج شهواتنا وأهواءنا بما أركزه في قلوبنا من العقل والمعرفة.

[٢٥] مهما كان الإنسان حذرا فإنّه لا يمكنه اتقاء السقطات ، وهذا دليل على أنّ الإنسان ليس بإله ، وأنّ الضعف طبيعة فيه ، لذلك فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده. أو ليس هو الخالق ويعلم تكوين الإنسان الجسمي والنفسي ، وأنّه ضعيف أمام أمواج الشهوات ، وضغوط الحياة؟ ولكنّ المؤمنين هم الذين يستعيدون إيمانهم بسرعة ، وينهضون من سقطتهم ، بالتوبة الى الله ، لما يعرفونه من عظيم مغفرته ، وواسع رحمته.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)

فإذا عادوا إليه استقبلهم بترحاب.

(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)

فحينما تفعل سيئة بعد سيئة فإنّ السيئات تتراكم على ذهنك ، ويكون لها آثار سلبية على واقعك ، ولكن رحمة الله الواسعة تأتي لتطهّر قلبك منها.

(وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)

فأنت بين التوبة الى ربك أو انتظار عقابه لأنّه يعلم ما تفعل فلا تستطيع كتمانه.

٣٥٠

[٢٦] (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)

ماذا يستجيب لهم؟ السياق يوحي بأنّ المؤمنين بولاية الله والمسلّمين لإمامة الحق يتعرّضون لضغوط هائلة ، فإذا انهاروا ثم تابوا قبل الله التوبة منهم ، وعفى عن سيئاتهم ، وإذا طلبوا من ربّهم النصر انتصر لهم ، وزادهم من فضله.

وهذا أحد مصاديق الآية ، إلّا أنّ الآية تسع كلّ دعوات المؤمنين ، وبالذات حين تكون لبعضهم البعض ، وقد وردت رواية بذلك حيث فسّرت الآية بالشفاعة فيما بين المؤمنين ، ولا ريب أنّ دعاء المؤمنين لبعضهم نوع من الشفاعة ، بل هو الشفاعة.

فقد روي عن الإمام الصادق (ع) قال : قال رسول الله (ص) في قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) :

«الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا» (١) .

ويحفّزنا هذا التفسير على المزيد من التعاون بين بعضنا البعض ، لأنّ آثار التعاون تمتدّ من الدنيا حتى الآخرة ، ولعل الواحد منا قد استحق النار بعمله إلّا أنّ ربّنا يغفر له بدعاء إخوانه.

أمّا أولئك الذين لم يستجيبوا لنداء الله ودعوة الحق فليس لا يستجيب الله دعاءهم فحسب ، وإنّما هم يعرّضون أنفسهم أيضا لعقاب الله وعذابه الأليم.

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)

__________________

(١) مجمع البيان / ج (٩) ص (٣٠) .

٣٥١

وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ

___________________

٣٢ [الجوار] : جمع جارية وهي السفينة سمّيت بها لجريها في الماء.

[كالأعلام] : جمع علم وهو الجبل الطويل.

٣٥٢

(٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)

___________________

٣٤ [أو يوبقهنّ] : أي يهلك السفن بأن يجعل الريح عاصفة حتى تغرقها ، والإيباق الإتلاف والإهلاك.

٣٥٣

وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ

لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ

هدى من الآيات :

لتطهير القلب من درن الحرص والكبر ، ولاقتلاع جذور البغي والخلاف ، يذكّرنا ربّنا ـ في هذه الآيات ـ بأنّ الله إنّما ينزّل الرزق بقدر لأنّ الناس يبغون على بعضهم لو بسط الله لهم الرزق ، (فتقدير الرزق من الله ، ولا داعي للحرص ، ولا للصراع من أجله ، وتحديده من أجل مصلحة البشر) .

(وحريّ بالإنسان التوكّل على الله. ألا يرى كيف يرزقه؟) .

وهو الذي ينزّل عليه الغيث في أوقات المحنة حيث يستبدّ به القنوط ، فهو الوليّ الحميد (ولا بدّ من النزوع عن الحرص ، وتفويض الأمور اليه) .

(وكلّما عظم الخالق في قلب الإنسان تضاءل ما سواه في عينه ، وتواضع للحق أكثر فأكثر. أنظر الى آثار عظمة ربّك) وهو الذي خلق السموات والأرض ونشر

٣٥٤

فيهما أنواعا لا تحصى من المخلوقات المتحرّكة ، وحين يشاء يجمعهم بقدرته.

(ورزق الإنسان كما سائر جوانب حياته يخضع لسعيه ونوعية عمله) وما أصاب أحدا من مصيبة فبما كسبته يداه ، بينما يعفو عن كثير (فلو عاجلهم بذنوبهم لأفناهم جميعا) .

ولا أحد يقدر على منع الكوارث عن نفسه إذا أراد الله أن يأخذه بذنوبه ، ولا أحد يدافع عنه أو ينصره من دون الله.

وإنّ قدرة الله محيطة بالبشر ، فإذا ركبوا في البحر وجرت الرياح بهم الى أعالي البحار أرأيت لو شاء الله وأسكن الريح أليس تبقى سفنهم هنالك دون حراك؟! (إنّما يعي هذه الحقيقة الذي يتعالى عن ضغط النقمة وإغراء النعمة أي) الصبّار الشكور.

والله قادر على أن يهلك الناس بسفنهم في عرض البحر بسبب ذنوبهم ، ولكنّه يعفو عن كثير من خطاياهم.

(إذا لماذا الجدال في أمر الله وتحدّي أحكامه؟) .

إنّ كلّ ذلك يكفي آية لهؤلاء المجادلين في آيات الله أنّهم لا يملكون عن ربّهم مهربا.

(ثم لماذا الحرص على الدنيا والصراع من أجلها وهي لا تسوى شيئا؟!) فما أوتيتم من شيء ليس سوى متاع الحياة الدنيا التي لو قيست بالآخرة لم تكن شيئا ، لأنّ الآخرة أفضل وأبقى للذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون (فينزعون جلباب الكبر ، ويتعالون على الحرص ، ولا يثيرون الخلاف من أجل الدنيا) .

٣٥٥

بينات من الآيات :

[٢٧] إذا كان الربّ يحبّ عباده فلما ذا لا ينشر رحمته عليهم أكثر فأكثر؟ لماذا لا يملأ الأرض رحمة ورخاء؟

ذلك لأنّه عالم بطبيعة البشر ، فلو أعطاهم أكثر من قدرتهم على الإستيعاب لبغوا في الأرض ، وانحرفوا عن الحق ، فمن رحمة الله على العباد أنّه لا يرزقهم دفعة واحدة ، وإنّما يرزقهم بقدر حاجتهم واستيعابهم ..

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)

إنّ نفس الإنسان قبل ترويضها بالقيم السامية جموحة ، وقد كبح الله جماحها بالحاجة الى الرزق ، ولولاها لدفعها البغي الى الفساد والشقاء ، كما نجدها تطغى حين تحسّ بالاستغناء ، حتى وان كان هذا الإحساس خاطئا ، حسبما قال ربّنا : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١) .

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)

ومن أخبر من الله بعباده ، الذين خلقهم حسبما شاء ، وأركز في وجودهم الغرائز كيفما أراد ، وهيمنته العلمية بالغة فهم على عينه وبصره سبحانه.

وكلّ فرد يجري له الربّ الرزق بقدر لا يدعوه الى الطغيان ، وقد جاء عن أنس عن النبي (ص) عن جبرئيل عن الله جلّ ذكره :

«إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم ، ولو صححته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ، وإنّ من عبادي من

__________________

(١) العلق / (٦ ـ ٧) .

٣٥٦

لا يصلحه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ، وذلك أنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم» (١)

وعن الإمام الحسن (ع) قال :

«أرزاق الخلائق في السماء الرابعة تنزل بقدر ، وتبسط بقدر» (٢)

وقال الإمام الصادق (ع) :

«وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ» : لو فعل (أي بسط رزقه) لفعلوا (أي لبغوا في الأرض) ولكن جعلهم محتاجين بعضهم الى بعض ، واستعبدهم بذلك ، ولو جعلهم أغنياء لبغوا «وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» ممّا يعلم أنّه يصلحهم في دينهم ودنياهم «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» (٣)

[٢٨] ومظهر آخر لحكمة الله في تدبير الحياة الغيث الذي يمنعه عن العباد أو يرسله إليهم حسب حاجتهم واستحقاقهم واستيعابهم ، فبعد أن يجتاحهم القنوط ، وتكبح صفة الكبر من أنفسهم ، وتمنع عنهم صفة الطغيان ، لأنّهم لم يقدروا على تحصيل الماء بطريقة أخرى ، بعدئذ يرسل الغيث ، وينشر عليهم رحمته من خلال الغيث .. وهذه آية من آيات الهيمنة والحكمة.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا)

وختم اليأس على أفئدة الناس جميعا (وهنا تتجلّى بوضوح بلاغة القرآن حيث تتوازى فيه كلمة الغيث التي تعني فيما تعني الإغاثة مع كلمة القنوط الذي تثيره

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٧٩) .

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

٣٥٧

شدّة الحاجة.

(وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُ)

الحاكم المطلق الذي يتولّى تدبير الخلق ..

(الْحَمِيدُ)

لا يفعل إلّا الفعل المحمود ، وإنّما ينشر الرحمة بعد القنوط لكي ينبّه الناس من غفلتهم وضلالهم ، ولو أنّهم عرفوا رحمة الله (وهو وليّهم) بهم ، وحكمته البالغة في تدبيره لشؤون الخلق ، لاكتشفوا أسباب انقطاع الغيث عنهم التي قد تكون بسبب ذنوبهم ، بل ولعرفوا أيضا حكمة عودته إليهم ليعرفوا قدر ربّهم فيعبدونه لا يشركون به شيئا.

[٢٩] وليست هذه الآية الوحيدة التي تهدينا الى الله ، وإنّما هي آية من بين الآيات التي لا تعدّ ولا تحصى ..

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

على سعتهما ، ومتانتهما ، وعظمة خلقهما ..

(وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ)

كالطيور والحيوانات ومختلف الأحياء المتناثرة هنا وهناك.

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)

لا يعجزه شيء لأنّ له مطلق الإرادة ، وإنّ الاختلاف في طبائعها وشرائع حياتها

٣٥٨

وانتشارها في الكون لا يدلّ أبدا على تحرّرها من إرادة الله ، وخروجها عن المنهج الذي عيّنه الله لها ، أو السنن التي تحكم الخليقة ، فمتى ما شاء ربّنا جمعهم في صفّ واحد للحساب.

[٣٠] ويؤكّد على الصلة بين سعي الإنسان وواقعه مرّتين ، مرّة عن طريق العوامل الماديّة الظاهرة التي تربط بين السعي والنتيجة ، فهو إذا سعى وناضل وصل إلى أهدافه ، فالصحة بعد المرض والغنى بعد الفقر ، والأمن بعد الخوف ، كلّ ذلك رهين سعيه في السبيل القويم الذي جعله الله ..

وهذا ما يؤكّده القرآن في آيات عديدة كقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢)

ومرة عبر العوامل الغيبية غير الظاهرة ، حيث يؤكّد الإسلام أنّ أيّ عمل يقوم به الإنسان ينعكس على واقعه شاء أم أبى ، وليس بالضرورة أن يكتشف البشر كيفية ذلك ، بل كثيرا ما تكون العلاقة بين العمل والعاقبة غير معروفة ومثيرة للتساؤلات ، فما هي العلاقة بين صلة الرحم وطول العمر ، وبين انتشار الزنا وانتشار موت الفجأة ، وبين انحراف قوم لوط والصاعقة التي دمّرتهم ، وبين يقظة الإنسان بين الطلوعين وبين سعة رزقه ، وبين قيام الليل وطول العمر ، وبين الصدقة ودفع البلاء ، وبين الزكاة والنماء الاقتصادي ، وبين الصدق والأمانة وبين العزّة في المجتمع؟

كلّ هذه العلاقات قد تبقى مجهولة لدى الإنسان ، ولكنّها حقائق واقعة في

__________________

(١) النجم / (٣٩) .

(٢) الزلزلة / (٧ ـ ٨) .

٣٥٩

الحياة عرفناها أو جهلنا بها.

من هنا بدل أن يدفعنا الحرص الى الصراعات الاجتماعية دعنا نطبّق المناهج الإلهيّة فهي كفيلة بتحقيق طموحاتنا المشروعة ، سواء عرفنا حكمتها وبالتالي علاقتها بتلك الطموحات أم لم نعرف ، لأنّنا لا بدّ أن نعترف بعجزنا عن الإحاطة علما بدين الله ، أليس دين الله آية علمه ، فهل يزعم أحد بأن يبلغ بعلمه مستوى علم ربّه؟ ومن هنا جاء في الحديث :

«إنّ دين الله لا يقاس بالعقول»

وبهذه الرؤية العميقة والواقعية للحياة يتقدّم الإسلام خطوة على المادية ، وخطوتين على القدرية ، فالقدرية تعتقد بانعدام العلاقة بين سعي الإنسان وواقعه منكرة بذلك عقلائية الأنظمة الحاكمة على الكائنات ، أمّا المادية العمياء فتعتقد بأنّ نظام الكون عقلائي ، ولكنها لا تعترف إلّا بالعلاقات الظاهرة في هذا النظام ، منكرة العلاقات الخفيّة التي يكشفها الغيب.

بينما الإسلام بواقعيّته يؤمن بعلاقة أكيدة بين سعي الإنسان وواقعه ، مرة عن طريق العوامل المادية الظاهرة ، وأخرى عن طريق العوامل الغيبية ، وذلك انطلاقا من الإعتقاد بأنّ كل ما يجري على الإنسان ، بل كل ما يجري في الحياة ، إنّما هو بعلم الله وبإذنه ، وهو لا يمنع أو يأذن إلّا بحكمة بالغة يعلمها عزّ وجل ، وهو القائل : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١)

وتؤكّد آيات القرآن هذه الحقيقة ببيان هيمنة الله على نظام الكون ، فالسحب التي تجمعها الأقدار ، والمطر الذي يهطل على الأرض الجرداء فيبعث فيها الحياة من

__________________

(١) الرعد / (١١) .

٣٦٠