من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

وجدانا ، ثم قال مشيرا إليها والى آياته في الآفاق التي ذكرت من قبل :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ)

ومن هذه الآية نستوحي بأنّ الله سبحانه يتجلّى للإنسان في آفاق الخلق حينا وحقائق النفس حينا بالرغم من الحجب السميكة التي يغلف بها قلبه ، ولو في لحظة من لحظات عمره ، لكي تتمّ الحجة عليه ، وحتى أئمة الكفر والطغيان والفساد في الأرض يتمّ الله حجته عليهم ، ويبيّن لهم الحق بشكل لا يسعهم الإنكار ، فإذا كفروا بعد ذلك أخذهم بعذاب بئيس ، إذ أنّ كفرهم ليس عن غفلة ، إنّما عن جحود.

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

فالله سبحانه وتعالى لا يحتاج الى شهادة شيء ، بل هو الشاهد على كلّ شيء.

فبنوره أشرقت السموات والأرض ، وبضيائه عرف الخلائق أنفسهم ، وبذاته دلّ من يشاء على ذاته ، سبحانك يا رب :

«كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبا» (١)

[٥٤] ولكنّ العمى في الكفّار هو الذي يجعلهم لا يرون الله عزّ وجل ، وسبب

__________________

(١) من دعاء الإمام الحسين (ع) في يوم عرفة ، مفاتيح الجنان / ص (٢٧٢) .

٢٦١

العمى هو الكفر بالبعث ، ونكران النشور.

إنّ الريب في يوم الآخرة وبالتالي في المسؤولية يبرّر للنفس التهاون ، وإذا استبدّ بها التهاون لم يهتم بالحق ، ولم يستمع الى داعية ، ولم ينتفع بآيات الله التي تتجلّى في الآفاق والأنفس.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)

إنّهم يشكّون في يوم القيامة وساعة الحساب ، بينما الربّ يحيط بهم إحاطة كاملة ، وسوف لا يفلتون من قبضته ، لأنّه لا منجى منه إلّا إليه ، ولا مهرب من سطواته.

٢٦٢

سورة الشّورى

٢٦٣
٢٦٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

روي عن أبي عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) أنّه قال :

«من قرأ (حم عسق) بعثه الله يوم القيامة وجهه كالثلج أو كالشمس حتى يقف بين يدي الله عزّ وجل ، فيقول : عبدي أدمنت قراءة (حم عسق) ولم تدر ما ثوابها ، أما لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت قراءتها ، ولكن سأجزيك جزاءك ، أدخلوه الجنّة ، وله فيها قصر من ياقوتة حمراء أبوابها وشرفها ودرجها منها ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، وألف غلام من الغلمان المخلّدين الذين وصفهم الله عزّ وجل» (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٥٩) .

٢٦٥
٢٦٦

الإطار العام

في الوقت الذي تختصّ كلّ سورة في القرآن بمحور يفردها عن بقية السور فإنّها كلّها تلتقي حول محور مشترك واحد ، لذلك فإنّ من الصعب على المتدبّر أن يميّز بينها ، لأنّها جميعا تنطلق من قاعدة واحدة لتنتهي إلى هدف واحد ، تنطلق من معرفة الله ، وتنتهي إلى الإيمان به وعبادته ، فآياتها متشابهة كما يصف القرآن نفسه بذلك ، إلّا أنّ المتدبّر يجد لكلّ سورة محورا يتميّز بما يلي :

أوّلا : إنّ كلّ القضايا المتعلقة واقعيّا بذلك المحور تكون مبحوثة في السورة ، بالرغم من أنّها ـ وبالذات في السور الطويلة ـ تبدو مختلفة أو حتى متباينة إلّا أنّها ما دامت تمتّ بذلك المحور تبحث في السورة ، لأنّ المعالجة القرآنية للمحاور هي معالجة شاملة تسع جميع جوانب القضية.

ثانيا : إنّ القرآن لا يعالج القضايا معالجة نظرية ، بل يودع ضمن آياته الكريمة القوة التنفيذية اللازمة لعلاجها ، فهو لا يكتفي ببيان القانون العلمي أو الحكم الشرعي للقضية مجرّدا ، بل يشفعه بتوجيه الإنسان وتذكرته ، مستخدما من أجل

٢٦٧

ذلك شتّى الوسائل ، ومن أبرزها التذكرة بالله وبالآخرة ، وإثارة العقل ، والترهيب ، والترغيب ، وحتّى التصوير الفني ، التي تدعو قارئ القرآن الى تطبيق أوامره وتعاليمه.

ونجد محور هذه السورة معالجة الخلافات البشرية .. لماذا يختلف الناس؟ وما هي حدود الاختلافات الطبيعية بين البشر؟ وما هو جذور الخلاف؟ ثم ما هو علاج الخلاف؟

وإنّما سمّيت هذه السورة بالشورى ، لأنّ الشورى تعتبر بعد الوحي أفضل علاج للاختلاف.

والقرآن لا يبدأ السورة بالحديث عن الشورى ، بل يبدأها بالحديث عن الوحي ، لأنّ الوحي هو محور المجتمع الإسلامي ، وأساس وحدته ، ذلك لأنّ أيّ مجتمع يقوم على أساسين :

الأوّل : وجود شريعة ، أو كتاب ، أو منهج متكامل ، وفي أمتنا الإسلامية يجسّد القرآن هذا الأساس.

الثاني : وجود القيادة الصالحة التي تحدّد معاني الكتاب ، وتستنبط الأحكام منه ، وترسم المنهج السليم للحياة به.

وهذا ما يفسّر ابتداء السورة بذكر القرآن وانتهائها الى ذكر الرسول ، وبين هذا المبتدأ وذلك المنتهى تبصّرنا آياته بلطائف القيم المباركة في الوحدة ، وفيما يلي نستوحي تفصيلا لهذا الموجز :

فاتحة السورة تذكّرنا بالوحي الذي يلقيه الله العزيز الحكيم مليك السموات

٢٦٨

والأرض العليّ العظيم ، وكفى بالوحي عظمة أنّ السموات والأرض يكدن يتفطّرن من فوقهنّ (من عظمة ربّهن أو من كلماته) . أمّا الملائكة فهم يسبّحون بحمد ربّهم ، ويشفقون على من في الأرض (بالذات المؤمنين منهم) فيستغفرون لهم (لأنّهم يرون جانبا من عظمة ربّهم) والله غفور رحيم (١) .

وهذه الفاتحة تنسجم مع خاتمة السورة التي تبيّن صفات الوحي حيث لا يتلقّاه البشر إلّا إلهاما أو من وراء حجاب أو عبر رسول من عند الله ، وأنّه قد هبط الى الرسول الروح ومن قبل لم يكن النبيّ يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، أمّا اليوم فعنده نور يهدي به الله من يشاء الى صراط مستقيم ، وهو صراط الله الذي إليه ترجع الأمور (٥١) .

وبين هذه الفاتحة وتلك الخاتمة اللتين تتحدّثان عن محور المجتمع الإسلامي وصبغته الأساسية وهو الوحي تجري آيات الذكر في تبيين أسس الوحدة في الأمّة ، بل ويرسي هذه الأسس ببصائره ونذره وبشائره.

كيف؟

ألف : تقسّم الآية (٨) الناس فريقين : من هداه وأدخله في رحمته ، والظالمين الذين ما لهم من وليّ ولا نصير.

وبعد أن يحدّد الصفة الرئيسية للظالمين وهي الشرك بالله (والذي يعتبر جذر كلّ فساد) يثبت مبدأ التحاكم الى الله في الاختلاف (وبالذات الى وحي الله ومن نزل عليه الوحي أو استوعبه) والإنابة إليه ، والتوكّل عليه (٩) .

باء : ويذكّرنا السياق ـ بعدئذ ـ بأنّ الله الذي فطر السموات والأرض خلق الناس والأحياء أزواجا ليكون نسل الناس بذلك (فالاختلاف حقيقة واقعة ، وهو في

٢٦٩

حدود التكامل مفيد) .

كما أنّه سبحانه بسط الرزق بين الناس بقدر ما يشاء حسب حكمته (فلا يجوز أن نسعى للتساوي المطلق بينهم) (١١) .

جيم : والدّين محور الوحدة ، ولكن بشرط ألّا نتفرّق فيه ، وهذه وصية النبيّين أولي العزم نوح ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السّلام) . أمّا سبب الاختلاف فليس هو الدّين بل أهواؤهم التي تنزع نحو البغي (وما أعظم جريمة تنزل نقمة الرب لو لا أنّه أخّرها الى أجل مسمّى) ويبقى الرسول (ومن بعده خلفاؤه) محورا للوحدة ، وعليه أن يستقيم على الحق بعيدا عن أهوائهم المختلفة ، مؤمنا بكلّ الكتب ، وعادلا في الحكم بينهم ، (وألّا يكرههم بل يلزمهم بما ألزموا أنفسهم به) (١٣) .

دال : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) (ويرفضون أحكامه) من بعد ما استجاب المؤمنون له (وأقاموا المجتمع المسلم) فإنّ حجّتهم داحضة ، وعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب شديد (وتطالهم العقوبات إذ رفضوا أحكام الله) أو ليس قد رفضوا الكتاب الذي أنزله الله ، والميزان الذي جعله سبيلا للعدالة (وهو الإمام أو أحكام القضاء أو قيم العقل أو هي جميعا)؟

وبعد أن يحذّرهم الله الساعة التي يشفق منها المؤمنون ، ويقول : بأنّ الشاكّين فيها في ضلال مبين يذكر بأنّ الله هو الرزّاق (وأنّ مخالفة الحق لا تجلب رزقا) وأنّ من يترك الحرام من الدنيا (ولا يثير الصراع من أجل لقمة الحرام) يعوّضه الله في الآخرة كما يرزقه في الدنيا ، بينما الآخر لا نصيب له في الآخرة (وربما يفقد الدنيا أيضا) .

وهكذا عالج السياق جذرا أساسيا للخلاف الاجتماعي (١٦) .

٢٧٠

هاء : (ولأنّ من الناس من يشرّع بأهوائه ، وهو يسبّب الاختلاف الكبير) أنذر الله أولئك الذين اتخذوا من دون الله شركاء يزعمون أنّهم يشرّعون من الدّين ما لم يأذن به الله (ويسنّون القوانين الوضعيّة) بأنّه لو لا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وأنّ لهم بالتالي عذابا أليما يوم القيامة ، حيث ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا دون أن تجديهم الشفقة نفعا ، لأنّه واقع بهم ، بينما ترى المؤمنين في روضات الجنّات.

واو : ويرسم القرآن الخط المستقيم في الأمّة بالأمر الناجز بمودّة أولي القربى التي هي الحسنة الكبرى (لأنّ بمودّتهم يتكرّس الخط القياديّ السليم) .

(ولأنّ القضية القياديّة أهمّ قضية وأكثر قضية إثارة للخلاف) اتهموا الرسول بالافتراء في الوحي ، وأدحض الله فريتهم بأنّ الله لو شاء لختم على قلب الرسول ، وأنّه يمحو الباطل ، ويحقّ الحق بكلماته .. وبيّن أنّه سبحانه يقبل التوبة عن عباده (لأنّ الانحراف عن الخطّ القيادي كثيرا ما يقع فلو لا قبول التوبة هلك خلق كثير) .

وبيّن السياق أخيرا بأنّ الذين آمنوا يستجيبون (لهذا الأمر) بينما الكفّار (الذين لا يستجيبون) لهم عذاب شديد (٢١) .

زاء : (ولأنّ حبّ الدنيا والتكاثر من متعها يعدّ أحد الجذور الرئيسية للاختلاف ـ بعد الاختلاف الطبيعي المشروع ، والتفرّق في الدين ، والتشريع بغير إذن الله ـ فقد عالجته عدّة آيات بيّنت حكمة تحديد الرزق ، فلو بسط الله الرزق بسطا لبغى الناس في الأرض فقدره تقديرا حكيما يتناسب ومقدرة الناس على الإستيعاب ، والرزق بيد الله (ولا يجوز الاختلاف عليه) فهو الذي ينزّل الغيث من بعد ما قنطوا (ومن أسباب التقتير في الرزق الذنوب) .

وما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم (ولعلّ من الذنوب

٢٧١

الاختلاف الذي يمنع الرزق) وإذا قدّر الله العذاب لأمّة لا يقدر أحد على دفعه عنها.

(ومظهر آخر لرزق الله الرياح التي تنقل سفن التجارة) فهذه الجوار في البحر كأنّهنّ الجبال إن يشأ الله يسكن الريح فيظللنّ رواكد أو يهلكهنّ بذنوبهم .. كلّ ذلك ليعلم الذين يجادلون في آيات الله (وينكرون هيمنة الله أو عذابه) أنّه لا مفرّ لهم من عذابه.

وبعد كلّ ذلك ، ما هي الدنيا؟! إنّ هي إلّا متاع إذا قيست بما عند الله للمؤمنين في الآخرة الذي هو أفضل وأدوم (٢٧) .

حاء : (وفي هذا المنعطف يبلغ السياق المحور الأساسي في السورة المتمثّل فيما يبدو في الشورى التي تكثّف التجارب البشرية ، ويبيّنه القرآن ضمن صفات مختلفة للمؤمنين) (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ، ويغفرون حين الغضب ، وقد استجابوا لربّهم (بالتسليم للقيادة الشرعيّة) (وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (يتبادلون بها خبراتهم) ومما رزقناهم ينفقون.

طاء : (تلك كانت طائفة من صفات المؤمنين تتعلّق بعلاقاتهم بينهم ، وهناك طائفة أخرى منها تتصل بمواقفهم من أعدائهم) فهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (ولا يخضعون للبغاة بل يحاربونهم) ولكنّهم لا يعتدون على الناس بل جزاء سيئة سيئة مثلها عندهم.

(ويبيّن القرآن هنا فضيلة التعافي عند ما لا يكون مضرّا ، ويدحض اتهام مرضى القلوب والسلطات لمن ينتصر للحق بأنّهم مسئولون عن ويلات الحرب ، ويقول :) لا سبيل على من ينتصر بعد ما يظلم ، إنّما السبيل على الظالم.

٢٧٢

ثم يأمر بالصبر والغفر ، ويقول بأنّه من عزم الأمور (الذي يستدعي عزيمة شديدة) ويسوق الحديث في عاقبة الظلم ، وأوّلها : الضلالة ، ويقول : ومن يضلل الله فماله من ولي (والثانية : العذاب الشديد حيث) يقول الظالمون لمّا رأوا العذاب هل نستطيع أن نعود الى الدنيا (لنعمل صالحا) هنالك تراهم خاشعين من الذّل حين يعرضون على النار ، وقد خسروا أنفسهم وأهليهم ، وليس لهم (من الذين أضلّوهم) أولياء ينصرونهم (٣٨)

ياء : وفي خاتمة السورة يأمرنا القرآن مرة أخرى بالمبادرة بالاستجابة لله (والتسليم للقيادة) من قبل يوم القيامة حيث لا مردّ له من الله ولا ملجأ يومئذ ولا من ينكر.

ويبيّن أنّ مسئولية البحث عن الإمام الحق تقع على عاتق الإنسان نفسه ، وأنّهم إن أعرضوا فما أرسل الله نبيّه عليهم حفيظا إنّ عليه إلّا البلاغ.

(ثم يبيّن مدى ضعف البشر وحاجته الى هدى ربّه والقيادة الربّانية ، ويقول) إنّا إذا أذقنا الإنسان رحمة فرح بها (وخرج عن طوره ، وأصابه الغرور) وإن تصبهم سيئة بذنوبهم يكفرون بنعمة الله ، وإنّ لله ملك السموات والأرض (وهو الذي يهب أو يمنع حسب حكمته) فيرزق من يشاء ذكورا ومن يشاء إناثا أو يهب الذكور والإناث معا بينما يجعل البعض عقيما. إنّه عليم قدير.

ثم ينهي القرآن السورة بالحديث عن الوحي كما افتتح به. أو ليس الوحي أساس وجود الأمّة؟

٢٧٣
٢٧٤

سورة الشّورى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ

___________________

٥ [يتفطّرن] : يتشقّقن.

٧ [أمّ القرى] : مكّة.

٢٧٥

حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)

٢٧٦

وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا

هدى من الآيات :

تفتتح سورة الشورى ـ التي تنظّم العلاقة بين المسلمين لكي لا يخوضوا في صراعات داخلية عقيمة ـ بذكر القرآن الذي هو مرجع كلّ خلاف ، فهو الوحي الذي يكمل الرسالات التي أوحى بها الله العزيز الحكيم (بعزته عزّة الوحي ، ومن حكمته أنّه الحق المبين) .

إنّه المالك لما في السموات وما في الأرض (فله الحاكمية التي تتجلّى في حاكمية رسالاته ورسله) ، وهو العليّ العظيم ، (ومن آيات مجده ، وشواهد عظمته) أنّ السموات تكاد تتفطّر من فوقهنّ. أمّا الملائكة (فهم لا يشاركونه في الألوهية بل) يسبّحون بحمده (أن يكون له شريك) وتراهم يستغفرون لمن في الأرض (وبالذات المؤمنين منهم ، دون أن يقدروا على دفع الضر عنهم ، بلى. استغفارهم ينفع الناس) فالله هو الغفور الرحيم.

٢٧٧

أمّا الذين اتخذوا من دونه أولياء (ويحسبون أنّهم ينقذونهم من مسئولية أعمالهم فهم في ضلال مبين إذ) أنّ الله حفيظ عليهم (فهو يحفظ عليهم أعمالهم) وما أنت عليهم بوكيل (فهم وحدهم يتحمّلون مسئولية أعمالهم وما عليك سوى إبلاغهم الرسالة وإنذارهم بها) .

وهكذا أوحى الله إليك القرآن العربي لإنذار أمّ القرى ومن حولها (ومن ثمّ العرب ثمّ العالمين) إنذارهم جميعا بيوم الجمع حيث الخلائق كلّهم قائمون عند ربّهم للحساب لا ريب فيه ، وهنالك ينقسم الناس فريقين : أصحاب الجنة ، وأصحاب النار.

كذلك بيّن القرآن في فاتحة سورة الشورى عظمة الوحي ومقام الرسالة ، وتبعا لها مقام من يبلّغها ويجسّدها ويحكم باسمها لتكون الرسالة محور المجتمع الذي إليه يردون خلافاتهم ومنه ينطلقون نحو تطلّعاتهم.

بيّنات من الآيات :

[١ ـ ٢] (حم* عسق)

راجع تفسير الأحرف المقطّعة في السور السابقة. وممّا ذكر فيها أنّ الحروف هذه تشير إلى ذات السورة ، أو أنّها إشارة إلى أسماء الله الحسنى ، أو أنّها تشير الى مفاهيم معيّنة في السورة وعموما تشير كلمة كذلك الى هذه الأحرف ، وكأنّه يقال : هكذا الوحي من خلال هذه الأحرف ، وما تشير إليه من معاني عظيمة.

[٣] (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

مهما اختلفت الأمم الذين تتنزّل عليهم الرسالات الإلهية أو تفاوتت سمات

٢٧٨

الذين يبلّغونها فإنّها تشترك في منهجها وأهدافها ، كما تلتقي على نقطة مركزية واحدة وهي أنّها كلّها من عند الله ، وليست من صناعة البشر حتى تتأثّر بطبائعه أو ميزات بيئته أو متغيّرات حياته.

والرسالة الإسلامية تأتي ضمن سلسلة متكاملة من الرسالات ، فهي تكمل المسيرة المتصاعدة للبشرية المستجيبة لربها ، وهي كأيّة سنّة إلهيّة لا بد من التصديق بها حينما تتكرّر ضمن إطار محدّد ، وهي بالتالي مفروضة على الناس ، لأنّ الذي أوحى بها هو الله العزيز المطلق في قوّته مما يجعل وحيه نافذا شاء الناس أم رفضوا ذلك ، والحكيم الذي أتقن الرسالة فجعلها مرآة أهداف الحياة وسنن الخليقة.

[٤] ويحدّثنا ربّنا عن نفسه ، في إطار تذكرته برسالته. لماذا؟ لأنّ معرفته تعالى هي أساس كلّ معرفة ، وتسبق في الأولوية الإيمان بكلّ الحقائق. ومن هذا المنهج يستوحي الإمام علي (ع) بصيرته حين يقول :

«أوّل الدّين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له» (١)

فمن دون معرفة الله ، وهيمنته على كل شيء وإحاطته به ، وملكه للدنيا والآخرة ، لا يستطيع الإنسان أن يؤمن بالوحي الذي هو سنّة إلهيّة خارقة للمألوف عند البشر ، وليس تكاملا يبلغه الإنسان بعبقريّة.

ولقد أشارت الآية السابقة الى اسمي العزيز الحكيم لربّ العالمين ، لأنّ العزّة تعني القدرة الفاعلة أو انعكاس القدرة على الخلق ، وهو يستدعي بعث الرسل ليكونوا مظاهر قدرة الله وهيمنته وعزّته وحاكميته ، كما قال ربّنا عنهم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١) ص (٣٩) .

٢٧٩

رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) أمّا الحكمة فهي انعكاس العلم على الفعل ، ولأنّ ربّنا حكيم فهو لا يترك الناس سدى ، وتتجلّى عزّة الله في الوحي القرآني الذي يهدينا الى أسباب القوة ، كما تتجلّى حكمته في مناهجه الرشيدة.

ثم يشير ربّنا هنا الى حاكمية الربّ في السموات والأرض ، مما تستوجب فطريّا حاكميته على الناس بالوحي ، فيقول :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

ومن يشك في رسالة النبي محمد (ص) فهو لم يعرف ربّه حقّا ، إذ أنّه لو عرف عزّته وحكمته ومالكيته التي يهيمن بها على الحياة لما شك في وحيه ورسالته ، ذلك أنّ خالق الكون هو نفسه الذي خلق المنهج الذي يهدينا الى تسخيره في صالحنا.

ولأن السبب في كفر الإنسان بالبعث وبكثير من الحقائق الأخرى التي يهتف بها الوحي ، هو عدم إيمانه بقدرة الله حيث يشك في عودة رميم العظام بشرا سويّا ، يؤكّد القرآن صفات الله الحسنى فور حديثه عن الوحي أو البعث أو .. أو .. ، ذلك أنّنا إذا آمنا بقدرة الله وحكمته وعلمه فسوف نؤمن بكلّ ما يصدر عنه وما يأمر به إيمانا واعيا ، ونعمل به بلا تكلّف ، لأنّنا آنئذ نعرف عظمته. أو ليس قد أوحى به العظيم ، وإنّ فيه صلاحنا؟ أو ليس قد أنزله ربّنا الحكيم ونزداد يقينا بصدق أنبائه ، مما يبعث فينا العزيمة والأمل ، ونستعد للدفاع عنه بأموالنا وأنفسنا ، لأنّه هبط من عند ربّنا القدّوس.؟

وهكذا ينبغي أن نسلك الى معرفة الوحي طريق معرفة الخالق حتى نجعله في مقامه الأسمى ، ولا نقيسه بسائر الكلام أبدا ، ولا نرضى بأن يتخذ البعض مصدر تشريعاتهم من غيره ، أو يتحاكموا الى قانون بشري ناقص ، كلّا .. إنّ ربّنا مليك

٢٨٠