من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

مكان ، فليس الهواء والأرض والمعادن قليلة حتى يستأثر بها قوم دون آخرين ، بل الناس فيها شرّع سواء.

كما أنّ معرفة هذه الحقيقة متوفرة لكل السائلين.

ويحتمل أن يكون التساوي في الأيّام التي هي الدورات التي مرّت بالأرض ، والله العالم.

١٨١

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)

١٨٢

قالتا : أتينا طائعين

هدى من الآيات :

لا تزال الآيات الأولى من هذه السورة ـ التي تأمر الإنسان بالسجود لربّ العزة كما سجدت له السموات والأرض ـ تستعرض خلق الكائنات ، حيث قام ربّنا القدير بأمر الخلق بعلمه ومشيئته ، فقال للسماء وهي دخان وللأرض التي خلقها من قبل ائتيا فأتتا طائعين ، (وهكذا كلّ شيء مستجيب لمشيئته طوعا) .

فخلقهنّ سبع سموات خلال يومين (أو دورتين) وأوحى في كلّ سماء منها ما يتعلّق بها من شؤون ، وزيّن السماء الدنيا وهي أقربهن الى الأرض بمصابيح هدى للناس في ظلمات الليل وزينة ، (وجعلها) حصنا للأرض. إنّ ذلك من تقدير الربّ ذي القدرة الفاعلة والعلم النافذ سبحانه.

بينات من الآيات :

[١١] بعد أن خلق مادة الأرض قبل دحوها أو بعدها قصد ربّنا المقتدر بمشيئته

١٨٣

النافذة الى السماء ، وكانت آنئذ مجرّد دخان ، وفرض عليها طاعته ، فاستجابت.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ)

أ/ وتساءل المفسرون : لماذا استخدم حرف «ثم» وهو للتعقيب والتراخي ، فهل تمّ خلق السماء بعد الأرض ، بينما النظريات العلمية ترى العكس ، ويقول ربّنا في سورة النازعات : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) . (١)

أجاب البعض : إنّ ثمّ للتعقيب البياني ، أي ثم اسمع قصة السماء وهي كيت وكيت.

وقال البعض : إنّ الله خلق الأرض أوّلا وخلق السماء ثانيا ، ولكنه إنما دحا الأرض بعد خلق السماء ، كما تدلّ الآية في سورة النازعات ، وعلى ذلك تدلّ أيضا بعض النصوص الإسلامية.

ويبدو لي أنّ المراد من «السماء» هنا الهواء المحيط بالكوكب وليست الأجرام الموجودة في السماء .. «وَهِيَ دُخانٌ» ذات طبقات سبع ، ولكلّ طبقة أمرها ، وعلى ذلك فيكون خلقها بعد خلق الأرض ، ويكون معنى قوله سبحانه في الآية التالية : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) أنّ الله جعل السواد المحيط بالكرة الأرضية بطريقة نرى النجوم التي خلقها في صورة مصابيح ، كما جعلها حفظا بما خلق فيها من غازات خاصة.

__________________

(١) النازعات / (٢٧ ـ ٣١) .

١٨٤

ب / وتساءلوا : ماذا يعني «استوى» فقالوا : إنّ ربّنا قصد وتوجّه الى السماء ، ويبدو لي أنّ كلمة الإستواء تعني معنى القيام والاهتمام والقصد (بإضافة معنى إلى) والهيمنة ، وكلّها مرادة في هذه الجملة ، ولكن بالطبع من ملاحظة استخدام الكلمة في مقام الربوبية المقدّس عن أيّة همهمة أو تجوال فكرة أو حركة ، سبحانه.

ج / ثم تساءلوا عن الدخان فقالوا : إنّه غازات ، وإذا قلنا بأنّ المراد من الآية كلّ ما في السماء ، فإنّ الآية تشير الى المرحلة السديمية السابقة لتكوّن الأجرام الفضائية ، حيث تجمّعت وتركّزت بعد ذلك في صورة نجوم ، ولا تزال كميات كبيرة منها منتشرة في الفضاء يقدّرها الخبراء بمثل الكمية التي خلقت منها النجوم ، ولا تزال النجوم تكنس الفضاء من هذه الجزئيات السديمية باجتذابها إليها ، ولكنّها أكثر بكثير من قدرتها على الجذب!!

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)

ولماذا لا تستجيب السماء والأرض لمشيئة الله الذي خلقهما بفضله ، وأودع فيهما آياته ، وجعلهما محلّا لعبادة المكرّمين من ملائكته وأرواح أوليائه ، بلى .. إنّهما وسائر الكائنات تستجيب للرب طواعية ، سعيا وراء مرضاته ، وامتنانا لرحماته ، وشكرا لبركاته ، قبل أن تستجيب له خشية غضبه ، ومخافة سطواته ، وقد تقول : تجلّي رحمة الله في الخلائق أبهى من تجلّي عزّته ، وقد سبقت رحمته غضبه ، سبحان الله ربّ العالمين.

ولعلّ الآية تشير الى أنّ ربّنا كان يجري سننه في الخليقة شاءت أم رفضت ، ولكنّها خشعت لأوامر الله طوعا لا كرها!! فجرت سننه فيها بلا إكراه .. ويا ليتنا وعينا عبرة هذه الحقيقة ، وأجرينا أحكام الله على أنفسنا طوعا ورغبة في مرضاة الله.

١٨٥

ونتساءل : هل كان للسماء والأرض شعور حتى يخاطبهما الربّ بهذه الصورة؟ ينفي البعض ذلك بشدة ، ويأوّلون كلّ الآيات التي توحي بذلك الى خطاب الحال ، مثلا في هذه الآية يقولون : المعنى : أمرهما بالتشكّل فامتثلتا طائعتين ، ويبقى سؤال : ماذا كان إذا الخيار الآخر أي أن تأتيا كرها؟ أفلا يدلّ التقسيم الى اختلاف طرفيه ، فهناك حركة طوعية وأخرى كرهية ، لم أجد من يجيب عن هذا النقاش ، ولكنّ باب التأويل لديهم واسع ، بيد أنّ الأقرب حمل الآيات التي توحي بإحساس الخلائق على ظاهرها أو صريحها ، لأنّ ما يدعونا الى تأويلها مجرّد استبعاد ، فلأننا لا نعرف كيف تمّ خطاب الله للأرض والسماء نقول لم يتم هذا الخطاب أبدا ، وأمّا ذلك أسلوب بلاغي في القرآن ، ولأنّنا لا نفهم كيف تسبّح السموات والأرض ، نقول : إنّ أهلها هم الذين يسبّحون ، ولأنّنا لا نعي كيف عرض الله أمانته على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، قلنا كلّا .. إنّه كان مجرّد افتراض.

إنّ عشرات الآيات القرآنية وأضعافا منها من الأحاديث المأثورة عن المعصومين ـ عليهم السلام ـ ظاهرة أو صريحة في وجود الشعور ـ بقدر مّا ـ لسائر الخليقة ، يتجلّى في يوم القيامة عند ما يستنطقها الله ، فهل يجوز أن نضرب بها عرض الجدار لمجرّد أنّنا لا نعرف كيف ذلك؟ إنّ من الجهل أن ننكر شيئا لأنّنا لم نحط علما بتفاصيله ، ومن العقل أن نؤمن به ثم نبحث عن تفاصيله بروح إيجابية.

بلى. إنّنا كبشر لا يمكننا بالوسائل المتاحة لنا أن ندرس الأحياء والأشياء من باطنها ، بل من خلال الظواهر التي تهدينا الى واقعها وحتى فيما بيننا كبشر هل يستطيع زيد أن يدرس نفسية عمر كما يدرس هو نفسيته؟ كلّا .. إنّما الظواهر تدلّ عليها ، وإذا اتبعنا هذا المنهج لعلّنا نبلغ الواقع .. فما هو الشعور؟ وما هي الظواهر التي تدلّ عليه؟ يبدو أنّ الشعور هو الجهاز المنسّق بين الشيء والمحيط الذي هو فيه ،

١٨٦

فنحن نملك هذا الجهاز بفضل الحواس التي تنقل الى المخ الإشارة عبر الأعصاب ، وهناك تقوم مجموعة أجهزة الدماغ بتحليل الإشارات وإصدار الأوامر المناسبة بشأنها ، ولا ريب من وجود مثل هذا الجهاز ـ ولو كان غير متطوّر ـ عند سائر الأحياء ، بل وفي النباتات التي تنسّق وضعها ـ بصورة وبأخرى ـ مع بيئتها بفضل نواتها المركزيّة ، بلى. نحن لم نكتشف مثل هذا الجهاز عند الجمادات ، ولكن يحقّ لنا أن نتساءل عنه بعد علمنا بوجود قدر كاف من التنسيق بين جميع الكائنات ، ولو افترضنا قوة الجاذبية ـ مثلا ـ إحدى ظواهر هذا الجهاز لم نجاف الحقيقة.

[١٢] ويمضي السياق يبيّن قدرة الله المتجلّية في هذا الخلق العظيم ، لقد خشعت له السموات والأرض وجائتا اليه طائعتين ، فقدّر وقضى أن تكون السموات سبعا بحكمته البالغة وبمشيئته التي لا ترد ، فاستجابت السموات الهائلة بلا تردّد ، وأضحت سبعا خلال المدة التي قرّرها الربّ لها ، وهي يومان أو دورتان.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)

ما هي هذه السموات السبع؟ هل هي طبقات سبع حول أرضنا تشكّل السماء المحيطة بنا؟ أم هي سبع مجاميع من المجرّات ، والمجرّة الواحدة كالتي نحن فيها المسمّاة بسكّة التبّان يبلغ قطرها مأة ألف مليون سنة ضوئية؟ أم كل ما في المجرّات التي نعرف عنها من شموس وأجرام تقع في السماء الأولى ، وإنّ لله سماوات أخرى غيرها فيها ما لا يعلمها إلّا الله من كائنات عظيمة؟

وعلى أيّ تفسير فإنّ قضاء الله جرى خلال يومين ، أو حسب تفسير سابق دورتين ، لا أعرف عنهما شيئا.

(فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)

١٨٧

يبدو أنّ أمر كلّ سماء قيادتها ونظامها وما يتعلّق بها من شؤون التدبير أنّ كلّ تلك قائمة فيها كما لو كانت وحدة إدارية ، ولعل من أمرها ملائكة الله التي فيها.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ)

ما هي هذه السماء الدنيا؟ فإذا كانت السماء المحيطة بالأرض فإنّ زينتها بسبب طريقة تموّج النور فيها ، حيث لا ترى النجوم خارج الفضاء المحيط بهذه الصورة الجميلة ، ولكن القول المعروف عند المفسّرين أنّ السماء الدنيا هي جانب من الفضاء الأرحب ، وعلى ذلك نستوحي أنّ كل النجوم التي ترى تسبح ضمن السماء الدنيا ، وأنّ هناك سماوات لا نرى أجرامها.

(وَحِفْظاً)

فالغازات المحيطة بالأرض تحفظ الأرض من ملايين الشهب التي تتساقط عليها كلّ يوم ، كما أنّ الله يحفظ الأرض بالمصابيح من الشياطين.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

تعالوا لننظر الى لطف صنع الله ، وحسن تدبيره ، وجمال خلقه ، وبديع تقديره. أفلا يهدينا كلّ ذلك الى عزّته وعظمة قدرته في الخلق والتدبير؟! أفلا يهدينا الى أنّه العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء؟ وأيّ قدرة وأيّ علم لربّنا الذي سخّر الشمس التي هي أكبر من أرضنا بمليون مرّة في مدارها المحدّد دون أن تفسق عن مسارها قيد شعرة؟! وأيّ قدرة وعلم لربّنا الذي أجرى في قلب الذرّة المتناهية في الصغر سننه النافذة التي لا تغيير فيها؟!!!

١٨٨

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى

___________________

١٦ [ريحا صرصرا] : وهي الريح الباردة ، من الصّر بمعنى البرد ، أو هي الريح العاصفة ذات الصوت الشديد ، واشتقاق الصرصر من الصرير ، وضوعف اللّفظ إشعارا بمضاعفة المعنى.

١٨٩

الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)

___________________

١٩ [يوزعون] : أي يحبس أوّلهم ليلحق بهم آخرهم ، من وزع بمعنى حبس ومنع ، والمعنى إذا حشروا حبسوا هناك على حافّة النّار قبل دخولها ، وفيه زيادة إهانة وإرهاب.

١٩٠

وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا

هدى من الآيات :

بمستوى الاجرام الذي يبلغه الإنسان حين يكفر بالله العظيم يكون مستوى الإنذار والعذاب ، فليس هيّنا تمرّد البشر هذا المخلوق الضعيف المحدود على سنن الله التي استجابت لها السموات والأرض طوعا!

كذلك ليس هيّنا الصاعقة التي ينذر بها ـ إذ ذاك ـ فهي مثل الصاعقة التي أخذت قوم عاد وثمود!!

إنّها واحدة من السنن التي أجراها الله في الكائنات ، والتي لا تغيير فيها ولا تبديل (كما تقدير العزيز العليم في خلق السموات والأرض) .

لقد جاءتهم الرسل قبل وبعد انحرافهم وأنذروهم من عاقبة الشرك بالله ، فكفروا بالرسالة زاعمين أنّ الله لو شاء لأرسل إليهم ملائكة ، واستكبرت عاد في الأرض بغير الحق اغترارا بقوتهم التي قهرت كلّ قوّة في الأرض ، ولكنّهم لم يروا

١٩١

أنّ الله الذي خلقهم أشدّ منهم قوة ، وهكذا جحدوا بآيات الله (اغترارا بقوتهم) ..

فأرسل الله عليهم ريحا عاصفة ، ذات صوت وصرير ، في أيّام سيئات نحسات ، وعذّبهم بعذاب الخزي والهوان في الحياة الدنيا ، وكان ذلك بين يدي عذاب أخزى في الآخرة.

أمّا ثمود فقد هداهم الله حين جاءتهم الناقة مبصرة ، ولكنّهم استحبّوا العمى على الهدى ، وكان جزاؤهم الصاعقة التي تمثّلت في العذاب المهين .. كل ذلك بما كانوا يكسبون من جرائم وموبقات!

(ولم تكن صدفة تلك الصواعق ، بل تنفيذا لسنة إلهيّة جارية ، وأبسط الأدلّة على ذلك) أنّ الله سبحانه أنقذ الذين آمنوا وكانوا يتّقون ، فلم يرتكبوا تلك الموبقات.

بينات من الآيات :

[١٣] إنّ ذلك العذاب الإلهي الذي نزل على قوم عاد وثمود فساء صباحهم يمكن أن ينزل على أيّ قوم كافر ، إذ لم ينزل على الأمم صدفة بل ضمن سنّة إلهيّة ، وكذلك كلّ ما يعتبره الناس صدفة. إنّ عثرة الرجل في الطريق ، أو انتشار مكروب في جسم أحد الأشخاص دون صاحبه ، وحوادث السير والزلازل والبراكين والسيول والحروب وما الى ذلك ، قد يتصور الإنسان أنّها مجرّد صدفة ، بينما ليس في هذا الكون بأكمله شيء بلا سبب ، بلى. هناك حوادث نعرف أسبابها وقوانينها ، وأخرى لا نعرف فنرميها بالصدفة.

ونحن بصفتنا مؤمنين نعتقد بأنّ كلّ حادثة كبيرة أو صغيرة ، تجري ضمن سنّة إلهيّة ، ولهذا نعتقد أنّ الصدقة تدفع البلاء ، وأنّ الدعاء يردّ القضاء وقد أبرم إبراما ،

١٩٢

وأنّ صلة الرحم تزيد في العمر ، وأنّ الإحسان يرفع البلاء ، كما ونعتقد أنّ من يمارس الأعمال الشرّيرة يصاب بتلك الحوادث التي نسمّيها صدفا ، وما هي بصدف ، وقد قال ربّنا : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (١)

لذلك أخبرنا الربّ بأنّ إعراض العرب ـ لو تمّ ـ يوم دعاهم الرسول الى القرآن لا يختلف عن إعراض عاد وثمود ، فإن العاقبة واحدة لأنّ السنة الإلهيّة واحدة.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)

إنّ العرب ينقسمون الى ثلاث طوائف : العرب العرباء (عرب اليمن) والعرب المستعربة (العرب من نسل إسماعيل (ع) والعرب البائدة (كقوم عاد وثمود) ، والسؤال : هل بادت عاد وثمود صدفة أم لأسباب ومبرّرات ، وهي تتجدّد (السنّة) فيما لو تجدّدت تلك الأسباب والمبررات؟

بلى. إنها بادت لأسباب ومبرّرات.

[١٤] ويجمع كلّ تلك الأسباب والمبرّرات الكفر ، وفي الآية الكريمة التالية توضيح لذلك :

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ)

كانت تلاحقهم من كلّ جانب ، وتأتيهم بكلّ طريقة ، وتحاول هدايتهم بكلّ كلمة بليغة ، وبكلّ أسلوب سليم ، كانت تأتيهم «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» أي تقول لهم قبل الانحراف : لا تنحرفوا ، «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» أي تقول لهم بعد الانحراف : لماذا انحرفتهم؟ دعوا الانحراف.

__________________

(١) الفرقان / (٢) .

١٩٣

لقد جاءوهم ودعوهم الى تلك الحقيقة الهامة التي هي خلاصة رسالات الأنبياء جميعا ، وهي :

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)

ولكن ، ماذا كان جوابهم؟

لقد زعموا أنّ الله ينبغي أن يبعث ملكا رسولا ، أمّا أن يكون رسولهم واحدا منهم يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، ولا يملك خزائن الأرض فلا ..

(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)

فكفروا بالرسالة لاعتمادهم على منهج مادي بحت لمعرفة الحق ، فهم كفروا بما أرسل به الأنبياء قبل أن ينظروا فيه ، بل لمجرّد أنّ المبعوث به ليس ملكا.

[١٥] ماذا كانت عاقبة كفر أولئك الناس من أسلاف العرب؟

(فَأَمَّا عادٌ)

تلك الحضارة القوية ، التي هلكت في عزّ شبابها ، وعنفوان قوّتها.

(فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)

كانوا يستكبرون ، أي يحسبون أنفسهم كبارا فيظلمون الناس ، ويغصبون حقوقهم لمجرّد أنّهم أوتوا قدرا من القوة.

(وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)

ولكن من لا يستطيع أن يمنع عن نفسه عاديات الطبيعة ، كعادية الريح

١٩٤

والبركان ، كيف يسمح لنفسه بأن يتعالى على الله ربّ الريح والبركان؟! كيف يستطيع أن يتكبر على النظام الذي يسيّر كلّ جزء جزء من كيانه ، شاء أم أبى؟!

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)

أو لم يعرفوا هذه الحقيقة الواضحة؟ بلى. ولكنّهم جحدوا بها برغم توافر الآيات عليها.

(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)

وهذا الجحود كان نتيجة للاستكبار ، لأنّ الاستكبار يصبح حجابا سميكا بين الإنسان وبين الحقيقة.

[١٦] ولكن هذا الجحود ، وذلك الاستكبار ، سبّبا في إرسال العذاب المهين عليهم ، متمثلا في ريح عاصفة ذات صوت وصرير ..

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً)

وتلك هي المعادلة الحاكمة في الخلق ، من لم يستجب طوعا لرسول الرحمة والإنذار ، يستجيب كرها لرسل العذاب والعاصفة ..

(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ)

لم يكن فيها ذرّة من السعد ..

(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ)

١٩٥

هكذا كان العذاب في الدنيا مخزيا مهينا ، لأنّهم كانوا يستكبرون ويتجبّرون ، وأمّا العذاب في الآخرة فهو أعظم خزيا ، وأبقى ألما.

وإنّ شدة عذاب الله في الدنيا ، وهول وقعة على الكافرين ، تهدينا إلى أمرين : أوّلا : هول عذاب الله في الآخرة ، وتناهي شدّته بما لا يمكننا تصوّره ، ثانيا : صرامة سنن الله وكيف تدمّر الذين يكفرون بالله شرّ تدمير ، بلى. لقد جاءت السماء والأرض لربّها طوعا قبل أن يؤتى بهما كرها ، فهلّا نأتي ربّنا طائعين من قبل أن تذهب بنا ريح صرصر عاتية؟!

[١٧] (وَأَمَّا ثَمُودُ)

فقد بعث الله إليهم الأنبياء ، وزوّدهم بالآيات المبصرة ، ومنّ عليهم بالهداية ..

(فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى)

لقد بعث الله إليهم صالحا فآمنوا به ، ولكنّهم انحرفوا بعدئذ عن طريق الرشاد.

بلى. إنّ الطريق كان واضحا أمامهم ، والحقيقة ظاهرة كالشمس في كبد السماء ، ولكنّهم أغمضوا أعينهم ، وقالوا : نحن لا نرى ، فما ذا كان مصير كفرهم بعد الإيمان؟

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ)

نزلت عليهم ـ كما نزلت على عاد ـ صاعقة العذاب ، المشبعة بالخزي والإهانة ، والسبب واضح :

(بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

١٩٦

لا لضآلة في مغفرة الله ، لأنّها أعظم من ذنوبهم ، ولا لضيق في رحمته ، لأنّها وسعت كلّ شيء ، ولكن لأنّهم أبعدوا أنفسهم عن الربّ الرؤوف الرحيم بما اجترحوه من سيئات.

ونستوحي من هذه الآية أنّ كفر ثمود يختلف عن كفر عاد ، فعاد كفروا بكلّ شيء ، رأسا ، وأمّا ثمود فآمنوا بالرسول والرسالة ، ولكنهم فعلوا ما يتناسب والكفر ، من عقر الناقة ، ومخالفة أوامر الرسول فيما يتعلق بها ، فما كسبوه كان خاطئا.

ولهذا يقول الله سبحانه : «فهديناهم» أي اهتدوا فكريا ونظريا «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى» أي انحرفوا عمليا وسلوكيا ، وهذا يعتبر عمى ، كالذي زوده الله بالبصر ، ولكنه لا ينتفع به فيقع في الحفرة.

ومن هنا نعرف أنّ عذاب الله يقصم ظهر من يخالف سننه في الخليقة والتي نكشفها أحكامه في الشريعة ، سواء آمن بها وخالفها ، أم كفر بها رأسا ، فالذي يناطح الصخرة ينفلق رأسه سواء آمن بهذه الحقيقة أو كفر بها.

وفي ذلك تحذير لأمة النبي محمد (ص) أنّ مخالفتهم لرسالته نظريا أو عمليا تجرّ إليهم الويلات.

[١٨] وبين هؤلاء المنحرفين ـ الكافرين عمليا ـ كانت هناك مجموعة من المؤمنين الصادقين ، أنجاهم الربّ ، وكان سبب نجاتهم هو تقواهم واجتنابهم ما ارتكبه الآخرون من الجريمة والفحشاء.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)

ويذكر الرواة في تفسير هذه الآية قصة مفيدة هي مثلما أخرج ابن إسحاق وابن

١٩٧

المنذر والبيهقي في الدلائل وابن عساكر قال : حدث أنّ عتبة بن ربيعة وكان أشد قريش حلما قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله (ص) جالس وحده في المسجد : يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلّمه فأعرض عليه أمورا لعلّه أن يقبل منها بعضه ويكفّ عنا ، قالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقام عتبة حتى جلس الى رسول الله (ص) فذكر الحديث ، فيما قال له عتبة ، وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك ، حتى إذا فرغ عتبة قال رسول الله (ص) : أفرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني ، قال : أفعل ، فقال رسول الله (ص): (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، فلمّا سمعها عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله (ص) الى المسجد فسجد فيها ، ثم قال : سمعت يا أبا الوليد؟ قال : سمعت ، قال : أنت وذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلمّا جلس إليهم قالوا : ما وراؤك يا أبا الوليد؟ قال : والله إنّي قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، والله ليكوننّ لقوله الذي سمعت نبأ (١)

[١٩] وأمّا العذاب في الآخرة فهو الأكبر والآلم ، والأشدّ والأبقى ، وما أصاب الكافرين من عذاب في الدنيا ، لا يقاس بذرة من عذاب الآخرة إطلاقا ، لأنّها تحمل عنصري الشدة والبقاء ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) . (٢)

من تطوّف في المستشفيات وبالذات التي تأوي الحالات الصعبة ، أو زار ساحات القتال وشاهد المناظر الرهيبة ، ثم دار على المناطق المنكوبة ببركان تفجّر

__________________

(١) الدر المنثور للسيوطي / ج (٥) ص (٣٦٤) .

(٢) سورة طه / (١٢٧) .

١٩٨

فسال لعابه النحيس على القرى المحيطة فأذابها ، أو بسيول عارمة اقتلعت في طريقها الأشجار ودمّرت القرى .. أقول مثل هذا الإنسان يعي ـ بعض الشيء ـ معنى العذاب في الدنيا ، وفظاعته ، وبشاعة مناظرة ..

ولكن كلّ ذلك العذاب ، وكلّ تلك الويلات والمآسي ، تعتبر تافهة إذا ما قيست بعذاب الآخرة ، وهول ما يجري فيها ، ودوامه.

بلى. إنّ عذاب الدنيا يهدينا الى وجود العذاب الأخروي ، وجانبا من حقيقته ..

الحمّى وآلامها التي قد تعتري الجسم فتحوّله الى خرقة بالية! ليست سوى لفحة من نار جهنم.

وهذه النار التي تذيب الحديد ، صورة مخفّضة سبعين مرة عن نار جهنم.

ولعلّه حتى الحرارة التي يولّدها تفجير قنبلة ذرية هائلة فتحوّل الصخور دخانا خلال أقل من ثانية ليست سوى لهيب من نار جهنم ، التي هي أشدّ حرّا مما نتصوره في الدنيا .. وحتى الحرارة الموجودة في مركز الشمس المتناهية الشدة لا تقاس بنار جهنم. أو لا نقرأ في النصوص أنّ الشمس تلقى في جهنّم فتصرخ من حرّها؟!

فهل تتحمّل العظام الناعمة ، والأجسام الترفه ، والجلود الرقيقة ، والأعصاب الحسّاسة ، ذلك العذاب الرهيب الذي يحول ساكنيه الى شعلة متقدة؟!!

نعم هكذا يفعل العذاب بالكافرين ، فهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، يقول تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) كما وأنّه لا يغمى عليهم ، كما يحدث للمعذّب أو المصاب بآلام في الدنيا ، ولا يعطون إجازات

١٩٩

يتخلّصون فيها من عسر البلاء ، ولا تجري لهم عمليات جراحية ليتماثلوا للشفاء من أمراض العذاب ، ولا تقدّم لهم مهدّئات لتسكن نفوسهم ويكفّوا عن الصراخ.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ)

آنئذ سيلاقون العذاب الأكبر.

(فَهُمْ يُوزَعُونَ)

يتقسّمون ، ويلقى كلّ واحد منهم في سجنه المخصّص له.

[٢٠] كلّ ذلك العذاب الغليظ المهين ينتظر أولئك الذين عادوا ربّهم ، فلم يتبعوا رسله ، وخالفوا أوامره وسننه ، وتجاوزوا حدوده ، في الوقت الذي أطاعت الكائنات جميعا ربّها ، واتبعت سننه التي قدّرها فيها.

وحتى أعضاء جسد الإنسان تتبع سنن ربه ، لو لا أنّه قد سخّرت له بعض الأيام في الدنيا لينظر كيف يعمل بها ، وفي يوم القيامة حيث يسلب منه هذه الحرية المحدودة تنقلب عليه أعضاء جسده فتكون شاهدة عليه على شفير جهنم.

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

إنّ من الذنوب ما ترتكب بالأذن ، كسماع الغيبة والغناء ، وما ترتكب بالعين ، كالنظر الى المحرمات ، وقراءة كتب الضلال ، وما ترتكب عن طريق الجلد ، كالزنا ، وهذه الجوارح ستشهد على الإنسان يوم القيامة.

[٢١] يا لهول المفاجئة ، ويا لصدق الشاهد!

٢٠٠