من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)

كيف تشهدون علينا؟! كيف ونحن حملناكم مدى حياتنا؟! كيف ونحن نلبس الملابس الناعمة من أجلكم؟! كيف ونحن كنا نحميكم من شدة البرد في الليالي القارصة؟! كيف ونحن كنا نقيكم الحر؟!

(قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)

ومن هذا المقطع في الآية يتّضح أنّ لكلّ شيء شعورا ـ كما قلنا ـ وإذا شاء الله أعطاه القدرة على النطق بلغة الإنسان حتى يفهم ، والا فهو يملك شعورا.

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

٢٠١

وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ

___________________

٢٣ [أرداكم] : أهلككم.

٢٤ [يستعتبوا] : يطلبوا العتبى «رضا الله» ، والإعتاب الإرضاء ، وأصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ، ثمّ أستعير فيما يستعطف به البعض بعضا لإعادته ما كان من الألفة.

٢٠٢

وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)

٢٠٣

وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ

هدى من الآيات :

أفضل باعث للإنسان الى التقوى تحسّسه بأنّ الله يسمعه ويراه ، وأنّه أقرب إليه من حبل الوريد ، ثم رؤيته بحقيقة الإيمان ، والحضور في مقام قربه ، ومقعد الصدق عنده ، وبالتالي تلمّس شهوده وشهادته على كلّ شيء ، وأنه بحوله يكون كلّ حول ، وبقوّته تقوم كلّ قوّة ، وبحياته كلّ شيء حي.

ولقد ذكّرتنا فاتحة هذا الدرس بهذه البصيرة ، وأنّ الردى الذي هوى إليه أولئك الخاسرون كان بسبب ظنّهم السيء بربّهم فلم يقدّروه حق قدره ، ولم يعرفوه كما ينبغي ، وأنّه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأنّه غفّار لمن تاب وآمن ثم اهتدى.

والآن لا يجديهم الصبر راحة ، ولا العقاب خلاصا ، بل النار مثواهم أبدا.

وبذلك الظن قيّض الله لهم قرناء السوء من الشياطين ، من الأمام والخلف

٢٠٤

يزينون لهم سوء أعمالهم ، حتى لا يهتدوا أبدا.

ذلك لأنّهم تركوا الاعتصام بحبل الله المتين ، وقالوا لبعضهم : لا تسمعوا لهذا القرآن ، والغوا فيه (بإحداث أصوات مزعجة) لكي لا يسمعه الآخرون فتغلبون الرسالة.

(وحين يفرغ القلب من ذكر الله تهجم عليه الشياطين) ، وهكذا يذيق الله الذين كفروا عذابا شديدا ، ويجزيهم أسوء عمل عملوه (حين تتمثّل السيئات بألوان من العذاب) وذلك جزاؤهم بما عادوا ربّهم أنّهم يدخلون النار خالدين فيها ، لأنّهم جحدوا بآيات الله (بعد أن استيقنتها أنفسهم) .

وفي الدنيا تراهم يطيعون قرناء السوء من الجن والإنس ، بينما هم في الآخرة يبحثون عنهم ليجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين (لشدة غضبهم عليهم وبرائتهم منهم) .

بينات من الآيات :

[٢٢] لم يكن الكافرون يخافون ـ حين عصيانهم ـ من شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم ، بل إنّهم لم يكونوا يتصوّرون شهادتها عليهم ، إذ كيف تشهد عليهم هذه العين المطيعة لأوامرهم ، وتلك الأذن والجلود التي راعوها وحافظوا عليها؟! بلى.

إنّها لن تسمع أوامرهم في الآخرة ، بل وستشهد عليهم شهادة الحق.

ثم إنّهم حتى ولو عرفوا في الدنيا بشهادة الجوارح عليهم لا يقدرون على التخلّص من رقابتها ، لأنّ الإنسان يتمكن من ستر أعماله وحجب تصرفاته حتى عن أمّه وأبيه ، ولكن كيف يسترها عن عينه أو يده أو جلده؟

٢٠٥

من هنا : إذا كانت شهود الله على الإنسان أعضاؤه ، فلا بد أن يخاف مقامه ، ويتّقيه على نفسه.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ)

يبدو أنّ معناه : إنكم لم تستتروا ، ولا كنتم قادرين على أن تستتروا.

ولنفترض جدلا : أنّ الأعين والآذان والجلود لن تشهد على الإنسان أثناء الحساب ، فهل يعقل أن لا يكون الله شهيدا؟!

كلّا .. فالله محيط علما بالبشر ، ومطّلع على خفيّاته التي ليس لأحد سبيل الى معرفتها سواه سبحانه.

إنّ الله سميع بصير ، عليم خبير .. ولو شعرنا بذلك ، وأنّه يحصي أنفاسنا ، ويعلم خطرات قلوبنا ، وأنّ كلّ كبير وصغير مستطر ، لما ارتكبنا السيئات .. وإنّما فلت من شرك الفاحشة ذلك المخلص الصّدّيق يوسف بن يعقوب ـ عليهما السلام ـ حينما تحسّس رقابة الله عليه ، وعلم يقينا أنّه عزّ وجل أقرب إليه من حبل الوريد ، فعن أبي عبد الله (ص) قال :

«لما همّت به وهمّ بها ، قالت : كما أنت ، قال : ولم؟ قالت : حتى أغطّي وجه الصنم لا يرانا ، فذكر الله عند ذلك ، وقد علم أنّ الله يراه ففرّ منها» (١)

ينبغي أن نتذكّر شهادة الله حتى نفوز برقابة ذاتية على أنفسنا فلا تنحرف.

وأمّا الكافرون فهم بعيدون عن هذه الحقيقة ، فهم يظنّون بربّهم ظنّ السوء ،

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (١٢) ص (٣٠٠) .

٢٠٦

فمثلا قد يظنّون أنّ الله يعلم فقط ظاهرا من أقوالهم وأعمالهم فيزعمون أنّهم قادرون على تبرير سيئات أفعالهم وفاحش أقوالهم أمام ربّهم ، بأن يقول الواحد منهم : إنّني كنت مجبورا ، أو مضطّرا الى السيئة ، أو عملتها من دون وعيي وإرادتي.

كذلك يبرّر المجرمون قبل ارتكاب الموبقات سيئاتهم لأنفسهم ، ويختلقون الأعذار التي يزعمون أنّها تغنيهم عن العقاب أو الجزاء ، ولو عرفوا أنّ الناقد بصير ، وأنّه لا تخفى عليه خافية ، لارتدعوا.

وما دام الإنسان يعلم أنّ تبرير عمله للناس ليس بحق لأنّ الله يعلم به ، فهو يرجى صلاحه ، لأنّ في قلبه لا تزال مسافة بين الحق والباطل ، وأمّا إذا وصل الى مستوى يختلط في قلبه الحق والباطل ، وأنّ التبرير الذي يختلقه للناس يستطيع أن يخدع به ربّه ، فقد هوى ولا أمل في نجاته.

ومثل هذا الصنف كثير ، وإنّهم ليأتون يوم القيامة ربّهم ، فيوقفهم للحساب ، فيشرعون في طرح أعذارهم التي تشبّثوا بها في الدنيا ، بعضهم يقول : كنت مكرها ، ويقول الآخر : كنت مستضعفا ، ويقول ثالث : لم أرد إلّا الخير ، وهكذا ، ومن الناس من ينكر كلّ أفعاله السيئة ، ويحلف على ذلك بالأيمان ، يقول الرب : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) وعن المبرّرين يقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٢)

__________________

(١) الانعام / (٢٢ ـ ٢٣) .

(٢) النساء / (٩٧) .

٢٠٧

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)

لعلّ مرادهم أنّ الله لا يعلم السرّ والخفيّات ، وإنّما يرى ظاهر أعمالهم ، وقد ذكر المفسّرون أنّ فريقا من الكفّار اجتمعوا عند الكعبة ، فقال بعضهم : أتظنّون أنّ الله يسمعنا؟ فقال الآخر : بلى. إذا رفعتم أصواتكم سمعكم ، وقال الثالث : إنّ من يسمع النداء يسمع النجوى ، فنزلت الآية.

وتحتمل الآية تفسيرا آخر هو عدم اهتمام أولئك القوم بشهادة الله عليهم ، فمن لا يأبه بشيء كان كمن لا يؤمن به.

[٢٣] ولكن تلك الظنون أمطرت عليهم الويلات ، ودفعت بهم إلى أسفل الهاوية.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)

شخصية الإنسان تصاغ حسب ظنّه بربه ، فمن أحسن به ظنّا حسنت سريرته ، وطاب سلوكه ، وصلح عمله ، ومن أساء بربّه الظن ساءت سريرته ، وخبث سلوكه ، وفسد عمله ..

وهكذا ينبغي أن يحسن العبد ظنّه بربه ما استطاع ، فقد روي عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : قال رسول الله (ص) :

«إنّ آخر عبد يؤمر به الى النار فإذا أمر به التفت ، فيقول الجبّار جلّ جلاله : ردّوه ، فيردّونه ، فيقول له : لم التفت اليّ؟ فيقول : يا ربّ لم يكن ظنّي بك هذا ، فيقول : وما كان ظنّك بي؟ فيقول : كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي ، وتسكنني جنتك!

٢٠٨

قال : فيقول الجبّار : يا ملائكتي لا وعزتي وجلالي وآلائي وعلوّي وارتفاع مكاني ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط ، ولو ظن بي ساعة من خير ما روّعته بالنار ، أجيزوا له كذبه ، وأدخلوه الجنة»

ثم قال : قال رسول الله (ص) :

«ليس من عبد يظنّ بالله عزّ وجلّ خيرا إلّا كان عند ظنّه» (١)

[٢٤] (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)

إنّ صبرهم في الآخرة يختلف عن صبرهم في الدنيا ، فصبرهم في الدنيا على الطاعات وعن المعاصي يعقبه الفرج والجزاء الحسن ، ولكن حتى وإن صبروا في الآخرة فإنّ النار هي مثواهم للأبد.

(وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)

وإن يتوبوا الى الله لا تقبل توبتهم ، بعكس الدنيا حيث توفّرت لهم فرصة التوبة.

[٢٥] عوامل الانحراف عديدة ، وتختلف من إنسان لآخر ، وفي حياة الشخص الواحد تختلف من مرحلة لأخرى ، ففي مرحلة الطفولة يستهوي الإنسان عامل واحد اللعب ، أمّا في مرحلة الشباب فإنّ أصدقاء السوء من أشدّ عوامل الانحراف تأثيرا على النفس ، بينما في مرحلة الرجولة يتدرّج البشر عبر عوامل المال والبنين والتفاخر.

وهنا يشير القرآن الى أصدقاء السوء الذين يحيطون بمن ابتعد عن هدى ربه

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ـ ص (٥٤٣) .

٢٠٩

فيزيّنون له سوء عمله ، حتى لا يكاد يجد سبيلا للهداية.

إنّ الضلالة ـ كما الهداية ـ تبدأ من اختيار الإنسان نفسه ، ولكنها تخرج تقريبا عن حدود سيطرة الإنسان بعد ذلك ، إذ تتكاثف حوله عوامل الانحراف وأغلال الضلال حتى يكاد يصبح عاجزا عن الانفلات منها ، فترى قلبه يقسو مع استمرار ارتكاب الفواحش ، ومحيطه الاجتماعي يخلو من الصالحين الذين كانوا ينصحونه ، ويتمحض في قرناء السوء ، ويكون مثله مثل دودة القز يختنق في شرنقته التي صنعها لنفسه!

وقرناء السوء نوعان :

نوع ظاهر ، وهو الصديق السيء الذي يصاحب الإنسان ويرافقه ، وحين ينحرف الإنسان يجد نفسه في جماعة المنحرفين ، وإنّ الطيور على أشكالها تقع.

نوع باطن ، وهو الشيطان الذي يزيّن له السيئات.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ)

قالوا : أصل كلمة «القيض» بمعنى القشرة المحيطة بالبيضة ، وأنّ ايحاء «قيّض» التسلط الكامل ، والإحاطة التامة ، ولكن يبدو لي أنّ معنى قيّض انتخاب الشيء المناسب ، فإنّ حجم قشرة البيض مناسبة لذات البيضة ، كذلك يتم اختيار القرين المتناسب للشخص.

(فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)

من أعمال الفساد التي لم يرتكبوها.

(وَما خَلْفَهُمْ)

٢١٠

من الأعمال التي ارتكبوها. وقالوا : ما بين أيديهم الدنيا ، وما خلفهم الآخرة ، وقيل العكس.

ولكن يبقى سؤال : لماذا يقيّض الله قرناء السوء لهؤلاء؟ الجواب : لأنّ الله قد غضب عليهم ، وفرض عليهم الضلالة بسوء اختيارهم أوّلا ، كما فعل بأسلافهم من الأمم السابقة ، ويا لسوء العاقبة إنّ الربّ الرحمن الرحيم الذي هو السبب الوحيد للهداية يريد إضلالهم وتعذيبهم!

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)

ولعلّ المراد من الجن هنا الشياطين الذين يقيّض الله منهم قرناء للخاسرين.

[٢٦] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)

والغوا فيه : أي أثيروا اللغو حينما يقرأ القرآن لصرف النظر عن أفكاره الحقة. وفي كلّ عصر ومصر هناك محاولات خاصّة للغو في القرآن ، ففي بدء الدعوة الإسلامية كانوا يحضرون القصّاص بجانب الرسول ليرووا للناس القصص التاريخية الخيالية ، وكان هناك من لا يفرّق بين القرآن وتلك القصص التافهة ، فيجلس عند القصّاص ليستمع إليها ، ويدع الرسول (ص) ورسالته الحضارية ، وفي بعض الأحيان كان يقوم أحدهم بالتصفيق عند تلاوته أو التصفير .. وكلّ ذلك بهدف جذب انتباه الناس لكي لا يفهموا حقائق الرسالة ، وأمّا في هذا العصر فقد تطوّرت أساليب اللغو الذي يثيره الكفّار في القرآن ، إذ أنّ عشرات الألوف من الصحف المأجورة ، والإذاعات ، ومحطّات التلفاز ، ومراكز صناعة الأفلام ، تمثّل اليوم ظاهرة اللغو الذي يثيره الكفّار بين الناس لمنعهم من الاستماع الى القرآن.

٢١١

والهدف من كل ذلك اللغو الجاهلي الأول وهذا اللغو الجاهلي العريض هو التغلّب على الساحة ، والاستكبار في الأرض بغير الحق ، ممّا يعني أنّ بناء الكفّار الثقافي قائم على أساس اللغو والتشويش على بصائر الحق.

ونستوحي من الآية عدّة حقائق :

أولا : إنّ كلّ ما يبثّه الطغاة من خلال أجهزتهم الدعائية ضلالة ولغو ، وإنّما الحق ما يبيّنه الوحي الإلهي.

ثانيا : إنّ البناء الثقافي للطغاة قائم على أساس مواجهة الحق ، والتشويش عليه ، أو ليست الضلالة هي الانحراف عن الهدى ، فهي ليست أصلا أو محورا أو بناء متكاملا ، وهكذا فضح القرآن أهم استراتيجيّات الدعاية الكافرة ، وهي معاكسة الاعلام الحق ، وإثارة الضوضاء والصخب من أجل صرف الانظار عنه.

ثالثا : من خلال الهدف الذي يتوخّاه الفرد نعرف طبيعة عمله ، أو ليست الأعمال بالنيات؟ وإنّ هدف أجهزة الدعاية الكافرة هو الاستكبار في الأرض ، والغلبة في الصراع مع الحق ، ومن كان هذا هدفه كيف يستطيع أن يهدي الناس الى الحق؟! إنّ الهدف هو الذي يحدّد مسيرة العمل ، واستراتيجية التحرك ، بل كيف يهدي الى الحق من لم يهتد بنفسه اليه.

وحين يكون هذا هدف مجمل التحرك الدعائي عند الكافرين ، فإنّه ينعكس على أدوات هذا التحرك ، والأفراد المشاركين فيه ، فكلّ فرد من العاملين في هذا الجهاز يسعى نحو هدف مصلحيّ خاص به ، فترى الواحد يحلم في الشهرة ، والثاني يبحث عن الثروة ، والثالث يتمنّى ان يكون ذا حظوة عند السلطان ، وكيف تهدي أقلام هذه الشراذم الى الحق؟!

٢١٢

[٢٧] بلى. إنّهم يضلّون الناس عن الحق ، ويمنعونهم عن بلوغ الحقائق ، ويحجبون عنهم النور الإلهي ، وبحجم الخسارة التي يلحقونها بالناس يكون حجم العذاب الذي ينتظرهم.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً)

ولعلّ هذا هو عذابهم في الدنيا.

(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)

لعلّ جزاءهم أسوء من أعمالهم باعتبار تحدّيهم لربّ العزة ، أو تحمّلهم لعذر الآخرين. ولعلّ المعنى أنّهم يجازون بأسوء أعمالهم فيكون بالطبع جزاء سيئا ، والله العالم.

[٢٨] لماذا هذا الجزاء الشديد؟ لأنهم أعداء الله ، وليس هيّنا عداوة هذا المخلوق الضعيف لخالقه القوي العزيز.

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)

يا له من عذاب عظيم ، النار أبدا ساءت مستقرا ومقاما! ونتساءل : كيف أنّهم أضحوا أعداء الله؟ بلى. حين عادوا رسالاته ، وألغوا في القرآن ، فقد عادوا الله عزّ وجل.

(جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)

إنّ الكفر بالرسالة بعد أن استيقنتها أنفسهم يدل على عداوتهم لربّهم.

[٢٩] وفي نهاية المطاف يكفر هؤلاء بقرناء السوء الذين أضلّوهم عن سبيل الله ،

٢١٣

سواء كانوا من الإنس الظاهرين (كأصدقاء السوء) أو الجن (كالشياطين والذين زيّنوا لهم سوء أعمالهم) .

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)

ولكن ماذا ينفعهم لو جعلوهما تحت أقدامهم في ذلك اليوم بينما جعلوهما قدوة لهم في الدنيا؟!

٢١٤

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها

٢١٥

إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)

___________________

٣٧ [نزغ] : النزغ هو النخس بما يدعو إلى الفساد ، فإنّ الشيطان ينخس الإنسان ويهيّجه للباطل خصوصا عند الخصام وفي المعركة.

٢١٦

قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا

هدى من الآيات :

في آيات مضت بيّن القرآن نموذجا من الناس تحدّوا سلطان الرب ، فقيّض لهم قرناء السوء ، واختار لهم أسوء المصير. وهنا يبيّن النموذج المعاكس له تماما ، وهم الرجال الذين تحدّوا القوى الاجتماعية وأعلنوا إيمانهم بالله (ودعوا الناس الى ذلك) ثم استقاموا ، حيث ينزل الله عليهم الملائكة تنزيلا ، يزيلون عنهم الخوف والحزن ، ويبشّرونهم بالجنة ، ويطمأنونهم بأنّهم أولياؤهم ، يؤيدونهم في الدنيا ، ويسعدونهم في الآخرة ، هنالك حيث يتوفر ما يشتهونه أو يتمنونه ، في تلك الدار التي يستضيفهم الربّ الغفور الرحيم.

بلى. إنّ أحسن القول هو الدعوة الى الله المقرونة بالعمل الصالح والتسليم ، والمقرونة كذلك بالخلق العظيم الذي يختار صاحبه أحسن السبل فإذا بالعدو يصبح وليّا حميما.

٢١٧

وإنّها لذروة الفضيلة لا يبلغها إلّا الصابرون من ذوي الحظوظ العظيمة! وقد يدفع الشيطان أحدهم الى الوراء قليلا ، ولكنّهم يستعيذون بالله من شرّه فيستجيب الله دعاءهم.

بينات من الآيات :

[٣٠] كما يمكن أن يتسافل الإنسان الى الحضيض حيث يقيّض له الله سبحانه قرناء يزينون له سوء عمله فلا يهتدي أبدا الى السبيل ، كذلك يستطيع أن يسمو ويسمو حتى يصبح فؤاده مأوى لملائكة الله ، فئة تهبط وفئة تعرج متى؟ حين يكفر بالطاغوت ، ويعلن توحيده على الملأ ، ويقول : ربي الله ، لا الأصنام لا الأنداد لا المجتمع الفاسد لا السلطة الطاغية.

إنّه لا يكتفي بالإيمان في قلبه بربّه ، بل يعلنه متحدّيا القوى المادية ، وبذلك يشقّ للنّاس طريق التوحيد بين أوغال الشرك.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ)

إنّهم قالوا ذلك ، والقول بذاته تحدي ، والتحدي بدوره دعوة. إنّه دعوة بكسر حاجز الصمت ، والخوف ، ومقاومة حالة اليأس والسلبية.

إنّنا أمرنا بأن نعلن البراءة من المشركين ، وممّا يشركون به ، أفلا نتلوا سورة الإخلاص : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)؟! إنّ المطلوب منّا أن نقول كلمة التوحيد بما تحمل من مخاطر الرفض والتمرّد والثورة ، وهي حقّا أعظم كلمة في عالم الإنسان ، لأنّها مفترق الطريق بين العبودية والتحرّر ، بين الذلّة والعزّة ، بين النار والجنة.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا)

٢١٨

وماذا تعني كلمة التوحيد من دون الاستقامة؟ أو ليس التوحيد بمعنى رفض الأنداد ، رفض سلطة الطغاة ، والمترفين ، وحمير الأسفار ، فإذا عاد الإنسان وخضع لهؤلاء الأنداد فإنّه ينفي أصل التوحيد.

ويبدو أنّ الله سبحانه يهدي العبد الى معرفته ، ويدلّه على ذاته بذاته ، ثم يبتليه بألوان الفتن ، تارة في ماله ، وأخرى في جسده ، وثالثة بتسليط الجبابرة عليه ، وهكذا ليمتحن إيمانه ، فإذا أنهار وكّله الى نفسه ، وأمّا إذا استقام نزّل عليه ملائكته ليثبّتوه.

وهكذا تتركّز صعوبات الاستقامة في أيّامها الأولى ، حيث لا تتنزّل الملائكة ، وحيث يتساوى الناس في درجة الضغط الذي يتعرضون له لامتحان قوة إيمانهم ، أمّا في المرحلة التالية فإنّ من استقام تهون عليه الضغوط لنزول الملائكة عليه بالسكينة والتأييد.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا)

من المستقبل وما يحمله لكم من آلام ، وهكذا يزيل الملائكة عن قلب المستقيم أثر أمضى سلاح تستخدمه قوى الشرك وهو سلاح الإرهاب. وحين نسير في الأرض نرى الخوف أعظم دعامة لحكم الطغاة والمستكبرين ، فإذا تجاوز إنسان أو شعب حاجز الخوف استعاد حقوقه وحريّته واستقلاله.

(وَلا تَحْزَنُوا)

على ما مضى من الخسار ، فلا تدع الملائكة قلوب أولي الاستقامة عرضة لأمواج التشكيك التي يبثّها الشياطين فيها ، قائلين : إلى متى نقدّم التضحيات؟ ألا ترى سائر الشعوب كيف تنعم بالهدوء؟ أو لا تنظر إلى صاحبك قد أضحى غنيّا ،

٢١٩

وزميلك بالدراسة أضحى اليوم أكبر خبير ، وجارك أصبح وزيرا؟ أفلا يكفي؟ إلى متى تعيش الغربة والهجرة والحرمان؟ إنّ هذا النوع من الكلام يولّد الحزن ، وبالتالي يسبّب تراكم السلبيات ، ويوهن عزائم العاملين ، لو لا تدخّل الملائكة لإزالته ، ولكن كيف؟

إنّ الملائكة يزيلون أثر الخوف والحزن من أفئدة المستقيمين بأن يبشّروهم بالجنة ونعيمها.

(وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)

ولأنّ المؤمنين يتعرّضون لضغوط مختلفة ، حيث يجرّب الطاغوت وأعوانه من المترفين والمضلّلين كلّ وسائل الضغط عليهم ، فإنّ الملائكة لا تزال تتنزّل عليهم (ولا تنزل مرّة واحدة) فكلّما تعرّضوا لنوع من الضغط بشّرهم الملائكة بما يقابله من النعمة عند الله ، حتى يزول أثر الضغط ولعلّ الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يشير إلى ذلك حين يقول :

«ومن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع الى الخيرات» (١)

فكلّ إغراء أو ضغط أو إرهاب في الدنيا يقابله من شؤون الآخرة ما يعاكسه ، ويزيل أثره النفسي ، حتى يستقيم المؤمن تماما.

وجاء في الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو يأمر بالاستقامة ، ويفسّر

__________________

(١) تحف العقول / ص (١١٠) في حديث مفصّل حول الإيمان ودعائمه ، في أثناء الحديث عن دعائم الصبر.

٢٢٠