من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

١
٢

٣
٤

سورة المؤمن

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فضل السورة :

«من قرأ حم المؤمن في كلّ ليلة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وألزمه كلمة التقوى ، وجعل الآخرة خيرا له من الدنيا» .

نور الثقلين / ج ٣ ص ٥٠٠ ، عن الإمام الباقر (عليه السّلام).

«الحواميم رياحين القرآن فإذا قرأتموها فاحمدوا الله واشكروه لحفظها وتلاوتها. إنّ العبد ليقوم ويقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله عزّ وجلّ ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم وقريب له ، وإنّه في يوم القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون» .

المصدر عن الإمام الصادق (عليه السّلام) .

٧
٨

الإطار العام

الاسم :

اشتهرت هذه السورة باسمين :

١ ـ غافر. لما فيها من ذكر كرامة الله للمؤمنين واستغفار حملة العرش لهم.

٢ ـ المؤمن. لما فيها من تفصيل قصة مؤمن آل فرعون ، ولما فيها من ذكر إكرام الله له ولسائر المؤمنين.

الإطار العام :

الغاية السامية التي تسعى آيات هذه السورة نحوها بحق هي التذكرة بأسماء الله الحسنى لتزداد النفوس العامرة بالإيمان عرفانا بربّها الكريم ، ولتتم الحجّة على الكافرين.

ولقد تجلّى ربّنا العظيم في آيات كتابه الكريم جميعا ، ولكن كما الشمس

٩

ـ وتعالى الله عن الأمثال ـ تتجلّى في كل أفق تجلّيات بديعة وجديدة ، فإنّ لكلّ سورة تجلّياتها الخاصة بها ، وهكذا في هذه السورة حيث عرّفت فاتحة السورة ربّنا العظيم بأنّه غافر الذنب (ومن هنا جاء أحد اسمي السورة) وأنّه قابل التوب شديد العقاب ذو الطّول ، ثم في آية (١٥) ذكر اسم رفيع الدرجات ذي العرش وأنّه يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ، ثم جاء في الآية (٦٥) أنّه سبحانه هو الحيّ لا إله إلّا هو.

وجاء في الآية (١٣) والآية (٨١) أنّه سبحانه يرينا آياته (ويعرّفنا نفسه عبرها) ونتساءل : فلما ذا ـ إذا ـ لا نعرف ربنا عبر تلك الآيات المبصرات؟! ويعرف الجواب حقّا من يرهف سمعه لكلام ربّه ، حيث أنّ منهج القرآن هو تصفية العقبات النفسية قبل إلقاء البصائر ببلاغة نافذة ، وحجّة تامّة ، وخطاب فصل مبين.

وقد تركّزت آيات السورة في هذا التوجّه ، حيث نجد التحذير من الجدال في آيات الله أربع مرّات تعتبر كلّ مرة عنوانا لسلسلة من البصائر والحديث الشافي الذي يطهّر القلب من عقبات الإيمان ، وذلك عبر الترتيب التالي :

أوّلا : في البدء نجد تحذيرا من الجدال عبر التذكير بعاقبة الجدال السوئى ، ثم نتلوا بيانا لطائفة من آيات الله التي تهدف إقامة الحجّة على الكافر ، وزيادة إيمان ومعرفة الذي ألقى السمع ، وسلّم للحق.

دعنا نستعرض جانبا من هذا المنهج ، وفي ذات الوقت نجمل الحديث حول موضوعات السورة ، ضمن هذا الإطار ، وهو إعداد القلب لتقبّل آيات الذكر.

أوّلا : الآيات (٤) تنعت المجادل في آيات الله بالكفر والغرور ، وتحذّر من

١٠

عاقبة سيئة له مثل التي كانت لقوم نوح والأحزاب.

والآيات (٧) تبشّر المؤمنين (الذين يسلّمون لآيات الله بأنّهم مكرمون عند الله وعند حملة العرش من ملائكته ، الذين يدعون لهم بالوقاية من النار ، ودخول الجنة ، وحفظهم من السيّئات.

وهكذا لا يكتفي المنهج القرآني بالإنذار بل يقرنه غالبا بالتبشير.

ويعود السياق الى التحذير من الكفر (والجدال) بأنّ صاحبه مخزيّ ممقوت ، وسيندم حيث لا ينفعه الندم (١٠) .

وهكذا تتهيّأ النفوس لاستقبال آيات الله من دون الجدال الباطل فيه ، فيبين السياق طائفة منها مع الأمر بإخلاص الدين له وتوحيده وأنّه رفيع الدرجات (أسماء الله) وذلك عبر الآيات (١٣) .

ويعود السياق الى التحذير من مغبّة الجدال في يوم القيامة (١٦) مع التذكرة بأسماء الله التي تتجلّى في ذلك اليوم الرهيب.

ويذكّرنا بمصير الكفّار في الدنيا ، وكيف أخذهم الله ـ على شدّة قوتهم ومكاسبهم الكثيرة ـ كلّ ذلك لأنهم جادلوا في آيات الله ، وكفروا بالبينات التي جاء بها رسله.

ويضرب القرآن مثلا على عاقبة الجدال في آيات الله والذي يساوي الكفر مما انتهى إليه أمر فرعون وقومه ، كما يضرب مثلا للذين آمنوا بآيات الله من العاقبة الحسنى التي فاز بها مؤمن آل فرعون.

ويفصّل الكتاب ذات الحقائق من خلال حوار ساخن بين موسى (الرسول)

١١

وهارون (وزيره) والمؤمن (الذي صدق بهما) من جهة ، وبين فرعون (الطاغية) وهامان (وزيره) وقارون (الذي اتبعهما) من جهة ثانية ، وتحوّل الحوار الى صراع ، وانتهى الصراع بمصرع آل فرعون ، وتدمير حضارتهم ، وعذابهم بالغدوّ والآصال في البرزخ ، واقحامهم والتابعين في جهنّم ، وساءت مصيرا.

وتتجلّى في السياق صورة مؤمن آل فرعون مثلا رائعا لشخصية المؤمن الصلبة ونفاذ بصيرته ، وقدرته الربّانية على تحدّي الطغيان المادّي ، مما جعلت اسمه عنوانا لهذه السورة الكريمة.

ثانيا : وخلال الحوار والصراع والتحدّي يذكّرنا الكتاب مرّة ثانية بقضية الجدال في آيات الله وكيف ينتهي بصاحبه أن يطبع الله على كلّ قلبه ، ويمسي كفرعون الذي بلغ به الغرور الأهوج حدّا قال لوزيره هامان : (ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) ، ومضى في طريق الغواية حتى النهاية البئيسة ، بينما دعا الصّدّيق الى اتباع نهجه نهج الرشاد ، وركّز على مسئولية البشر عن أعماله ومواقفه ، ثم فوض أمره الى الله بعد أن تحداهم بقوّة ، وكانت العاقبة أنّ الله وقاه من سيئات ما مكروا ، بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب ، ولم يفلت المستضعفون من ذات العاقبة التي كانت للمستكبرين ، لأنّهم جميعا جادلوا في آيات الله وعصوا رسله. أمّا رسل الله والذين آمنوا فإنّ الله ينصرهم في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، إلّا أنّ عليهم الصبر والاستغفار وأن يسبّحوا بحمد الله بالعشيّ والإبكار (٥٥) .

ثالثا : وفي المرّة الثالثة يحذّرنا السياق من الجدال في آياته ، مبيّنا ـ هذه المرّة ـ الجذر النفسي لهذه اللعنة التي تصيب القلب وهي الكبر الذي لن يبلغه صاحبه ، وبعد أن يأمرنا بالاستعاذة بالله العظيم يهدينا الى عظمة خلق الله للسموات والأرض ، ويوحي إلينا أنّ الكبر عمى والإيمان بصيرة ، وأنّ الساعة آتية لا ريب

١٢

فيها ، ثمّ يأمرنا بالدعاء لأنّه شفاء من الكبر.

وحسب المنهج القرآني الفريد يلقي على الأفئدة السليمة آياته (٦١) ثم يحذّر من الجحود بها ، لأنّ من يجحد بها يؤفك عن الحق (٦٣) ويعود يذكّرنا بآياته المبصرة ، وبأنّه الحيّ الواحد ، ويأمر رسوله بتحدّي آلهة الزيف (٦٦) ويذكّرنا بأنّه يحي ويميت.

رابعا وأخيرا : ينهى عن الجدال في آيات الله (٦٩) وينذر الذين كذّبوا بالكتاب بأنه سوف يعلمون أيّ جريمة اقترفوا ، وذلك حين توضع الأغلال في أعناقهم وفي السلاسل يسحبون.

وكذلك يعالج داء الجدال بالتحذير من عاقبته الأخروية ، ويجمل السياق في خاتمة السورة بصائرها ، من الأمر بالصبر (٧٧) اتباعا لسنة الأنبياء ، والتحذير بعاقبة الاستهزاء (٧٨) والتذكرة بآية الله في خلق الأنعام ، والأمر بالسير في الأرض للنظر في عاقبة المكذّبين ، وكيف دمّروا فلم يغن عنهم ما كانوا يكسبون ، وذلك أنّهم حينما أنذرهم الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (٨٣) بلى. إنّهم آمنوا في اللحظة الأخيرة حين رأوا بأس الله ، ولكن سنّة الله جرت بألّا ينفع الإيمان في ذلك الوقت ، وأنّه قد خسر هنالك الكافرون (٨٥) .

وكلمة أخيرة : الحقائق الكبرى الثلاث التي تحيط بالخليقة (التوحيد والبعث والرسالة) شواهدها وآياتها مبثوثة في الآفاق والأنفس ، إلّا أنّ حجبا سميكة تغطّي البصائر عن رؤيتها والتفاعل معها ، وتؤدي الى الجدال في آياتها ودلائلها ، والقرآن الكريم شفاء للقلب من تلك الحجب ، وفي هذه السورة المباركة نجد نهجا بديعا وشفاء سريعا ، وعلينا فقط أن نلقي السمع الى آياتها بلا جدال! .

١٣
١٤

سورة غافر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)

___________________

٣ [ذي الطّول] : الطّول هو الإنعام الذي تطول مدّته.

٥ [ليدحضوا] : ليبطلوا ويزيلوا.

١٥

غافر الذنب وقابل التوب

هدى من الآيات :

المؤمن وغافر هما اسمان لهذه السورة المباركة ، التي تبدأ حديثها عن القرآن (أو قل عن نفسها) قبل الحديث عن أيّ قضية أخرى ، والسبب هو أنّ المنهج يسبق الفكر ، والذي يريد معرفة شيء ما يجب عليه أوّلا أن يعرف الطريق المؤدي إليه ، والقرآن هو ذلك المنهج الذي نفهم من خلاله الحياة ، ونعالج الأمراض النفسية والعقلية ، وغير ذلك مما يمنع الفهم الصحيح عن الإنسان.

وأكثر سور القرآن حينما تبدأ الحديث عنه فإنّها تنذر بمختلف ألوان النذر أولئك الذين ينكرون الحقيقة استجابة لأهوائهم ولظروفهم ، وفي هذه الآيات يبيّن لنا القرآن أنّ الذين يكفرون بالحقّ إنّما بسبب نفوسهم المريضة ، وليس لنقص في الآيات الدالة عليه فهي بيان واضح للحق بالحق.

١٦

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهو الرب الذي يتألّه ويجأر إليه ، والذي به يستغاث وبه يستعان واليه يجأر كل مضطر وصاحب حاجة ، حيث غرزت الحاجة إليه في فطرة كلّ مخلوق ، وأركز الإحساس بألوهيته في أعمق أعماق شعورنا جميعا ، فمهما اختلفنا في الألفاظ والتعابير على اختلاف ألسنتنا ومذاهبنا إلّا أنّنا لا نختلف في الحقيقة التي فطرنا عليها جميعا ، إذ كلّنا يستعين بالله ويتوسل إليه بأسمائه التي أظهرها لفاقتنا إليها كما في الأخبار.

[١] (حم)

من المقطعات القرآنية التي سبق تفسيرها في عدة مواضع. (١)

وجاءت روايات بأنّ (ح) إشارة إلى اسم الحميد و (م) إشارة إلى اسم المجيد فيكون «حم» حينئذ قسما بحاكمية الله التي تقتضي حمده ومالكيته التي تقتضي مجدا على أنّ القرآن حق ، أو ليست آيات القرآن تجلّيات لأسماء ربنا ، ولعل السور السبع التي تبتدئ بكلمة «حم» وأوّلها هذه السورة مظاهر لاسمي الحميد والمجيد.

[٢] والكتاب الذي يتكوّن من أمثال هذه الحروف تنزّل من ربّ عزيز عليم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

__________________

(١) راجع بدايات السور المماثلة.

١٧

فبعزته يفرضه على الإنسان ويطبق ما فيه على واقع الحياة ، وبعلمه الذي أحاط بكلّ شيء إحاطة مطلقة جعله كلّه هدى وحكمة ونورا ينسجم مع واقع الحياة والإنسان.

ويبدو لي أنّ الآية جملة مفيدة كاملة ، مبتدؤها «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» وخبرها «مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» وهذا ما يوحي بالمعنى المتقدم.

[٣] وتعرّفنا الآيات بربّنا من خلال ذكر صفاته ، وهذا ينفعنا في تحديد علاقتنا به تعالى. وأوّل أسماء الله المذكورة هنا أنّه غافر الذنب ، (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) ، وأيّ رحمة واسعة تلك التي تغسل جريمة المعصية ، وأيّ قدرة تستطيع محو الآثار العديدة للمعاصي على النفس والواقع غير رحمة الله وقدرته.

وتضفي أسماء الله السكينة على القلب ، فهو غافر الذنب وقابل التوب وهو ذو الطول ، ولولا هذه السكينة لتصدّعت قلوب المؤمنين عند استماعهم لاسم شديد العقاب.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ)

والمؤمن حقّا يعيش متوازنا مباركا ، يحثّه الرجاء على التوبة والعمل الصالح ، ويمنعه الخوف عن المعصية.

والخوف من عذاب الله كما رجاء رحمته ليس قضية نفسية وحسب ، إنما يعنيان العمل ، فنحن يجب أن نتحرّك عند الرجاء ولكن ليس في أيّ اتجاه ، إنّما في اتجاه مرضاة الله وباتباع هداه ، لأنّ الحياة تشبه حقل الألغام والذي ينجو فيها هو الذي يمتلك خريطة واضحة لها يتبعها بدقة ، أمّا حينما ينحرف الإنسان عن الحق فسوف يضلّ ويخسر ولن يجد من ينقذه أبدا ، لأنّ الله وحده هو الإله المتصرّف الذي يحدّد

١٨

مسيرة الإنسان ومصيره دون أن يكون أحد قادرا على التغيير والتبديل.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)

فهو الذي يقرّره كيف يشاء بإرادته.

[٤] ولكن بعض الناس يرفضون الحق وبكلّ إصرار ، فتراهم يجادلون في آيات الله التي تهديهم الى الحق.

والجدل ـ حسب اللغة ـ لفّ الخيوط الناعمة أو أنسجة الليف على بعضها لتصبح حبلا ، وهذا يشبه حال المجادلين الذين يلفّون بعض الكلام على بعضه للتغطية على جهلهم.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ)

مع وضوحها بما لا يدع مجالا للشك.

(إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)

لأنّهم لا يبحثون عن الحقيقة ، ولو كانوا كذلك لاستوجب الأمر قبولهم للآيات باعتبارها بينات بينما يسعى هؤلاء لتبرير اتباعهم للباطل ليخدعوا أنفسهم بأنّهم على الحق ، وليغطّوا ضعفهم ويتراءوا بأنّهم أقوياء ، ولكن المؤمن الذي يتبع بصائر القرآن لا ينخدع بهم أبدا.

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)

فمهما تظاهروا بالمقدرة من خلال تنقّلهم في البلاد عبر مسيرات عرض القوة ، كما تعوّد الطغاة فعله ، كلما احسّوا بالخطر ، ولكن على المؤمن ألّا تغرّه مظاهر القوة

١٩

لأنّهم ضعفاء بمخالفتهم للحق ، فمهما بلغوا من القوة والقدرة وأنّى أزاحوا الحقّ عن مراسيه ، فإنّ عاقبتهم إلى البوار وإنّ إلى الله المصير.

[٥] ويضرب لنا القرآن مثلا من واقع التاريخ على أنّ تقلّب الكفار في البلاد وسيطرتهم المادية الظاهرة ليس دليلا على سلامة خطّهم.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)

أي قبل كفّار قريش الذين يجادلونك يا محمد ، وقبل كلّ الطغاة في كلّ عصر.

(قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ)

لأنّهم لم يستفيدوا من تجربة قوم نوح.

(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ)

وكم هو مؤسف أن تصل البشرية الى هذا الحضيض ، فإذا بها بدل أن تكرم المصلحين وتتّبعهم لأنّهم يحملون لها الهدى والسعادة ترفضهم وتسعى لقتلهم والقضاء على خطّهم ، هذا من الناحية العملية ، أمّا من الناحية النظرية فإنّها تحاول إبطال الحق الذي يأتي به الأنبياء.

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ)

وهكذا كلّ كافر لا يملك عقيدة إلّا الكفر بالحق ، فهو لكي يملأ الفراغ العقائدي في نفسه يبحث عن باطل ليس ليعتقد به إنّما ليقاوم به الحق ، وإنّما ازداد ركام الباطل ، وتنوّعت مذاهبه ، وكثر الكلام فيه لأنّه لم يكن يملك رصيدا من الواقع ولا شاهدا من الفطرة فيحتاج الى المزيد من السفسطة باسم البرهان ،

٢٠