من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

ويضرب القرآن مثلا على ذلك بقصة إبراهيم (أوّلا : لأنّ أبرز ما في رسالته تحدّيه لعادات السابقين ، ابتداء من أبيه وانتهاء بقومه ، وثانيا : لأنّه من أولي العزم الذين يذكرون في هذه السورة باستثناء واحد منهم وهو نوح (ع)) .

وإذا كانت الجاهلية العربية تعتمد على عقائد آبائها ، فإنّ أعظمهم إبراهيم ، رائد التوحيد ومحطّم الأصنام. ألا يتبعونه وقد جعل رسالة التوحيد كلمة باقية في عقبه؟ كلّا .. إنّهم يتبعون أهواءهم لا آباءهم ، وقد غرّتهم متع الدنيا عن اتباع الحق حتى نسبوا الرسول (ص) الى السحر (١٥) .

رابعا : تقييم الحقائق بالمقاييس المادية ، فقد قالوا : لو لا أنزل الكتاب على واحد من العظيمين في الطائف ومكة؟ ونهرهم الله : هل هم الذين يقسمون نعم الله؟ كلّا .. الله هو الذي قسم بينهم معيشتهم ، وجعلهم يتفاضلون في الأمور المادية ، لا لقيمة لهذا عنده أو هوان لذاك ، بل لتنتظم الحياة الاجتماعية ، ويحتاجون الى بعضهم ، ويتعاونون فيما بينهم ، أمّا النعمة الكبرى فهي رحمة الله ، لا المال الذي يكدّسونه.

وما أتفه الدنيا عند الله ، فلو لا أن يصعب على المؤمنين لجعلها كلّها للكفّار ، لأنّها بالتالي متاع. أمّا الآخرة التي هي الحيوان فهي للمتقين وحدهم.

خامسا : قرناء السوء الذين يزيّنون للإنسان سوء عمله ليراه حسنا ، وإنّما يقيّض الله قرين السوء من الجنّ والإنس لمن يعش عن ذكر ربّه ، (أمّا من يتذكّر فإنّه يبصر الحقائق ، لأنّ الشيطان يتهرّب من ذكر الله) ويقوم الشيطان بصدّ التارك لذكر الله عن سبيل الهدى ، وتزيين الضلالة له ، وإنّما ينتبه لدور الشيطان في إضلاله حين يأتي ربّه ، فيقول له : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) . وماذا ينفع التبرّي منه يومئذ ، لأنّهما في العذاب مشتركين بسبب ظلمهما.

٤٢١

(وهكذا يعالج القرآن وسوسة الشيطان بذكر الله) .

وبعد أن ينذر القرآن أولئك الجاهلين بعذاب إمّا في عهد الرسول أو بعده ، ويأمر النبي (والذين اتبعوه) بالتمسّك بالوحي الذي هو شرف له ولقومه (دون المال والجاه) لأنّهم يسألون عنه ، يأمره بأن يسأل السابقين من الرسل (ويستقرئ سيرتهم) هل كانوا يدعون قط الى غير الله (ويقدّسون آلهة المال والسلطة كلا) ويضرب مثلا من سيرة موسى وعيسى عليهما السلام (وهما نبيّان من أولي العزم ذكرا في هذه السورة مع إبراهيم ومحمّد سلام الله عليهما) .

فحين أرسل الله موسى بالبينات الى فرعون وملئه إذا هم منه يضحكون ، وكلّما أراهم ربّنا من آياته طلبوا من موسى أن يدعو ربّه ، وعهدوا إليه بالإيمان ، فلمّا كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم (واعتمدوا على قيمة الثروة والسلطة الزائلة) .

وأثار فيهم فرعون نخوة العصبية وشهوة المال والقوة ، واستخفّهم فأطاعوه ، فانتقم الله منهم وتركهم آية لمن بعدهم.

(وكذلك كان موقف الجاهليين العرب من عيسى بن مريم عليهما السلام) وحينما ضربه الله مثلا صالحا جادل فيه قوم الرسول قائلين : أآلهتنا خير أم هو؟ (وكانوا يعرفون الحق ، ولكنّهم عاندوا ربما لأنّهم اعتمدوا على قيمة الثروة والسلطة ، فقدّسوا آلهتهم رمز الثروة والسلطة ، واستخفّوا بابن مريم الذي كان مثال الطهر والزهد) بلى. إنّه عبد أنعم الله عليه ، وجعله مثلا لبني إسرائيل (ولم يأمرهم بعبادته أبدا) وبعد أن ينذر ربّنا أولئك المعاندين بأنّه قادر على أن يهلكهم ، ويجعل مكانهم ملائكة في الأرض يعبدونه ، يبيّن بعض جوانب عظمة عيسى ـ عليه السلام ـ بأنّه من أشراط الساعة ، وأنّه قد جاء بالبينات والحكمة والقول الفصل فيما اختلف فيه بنوا إسرائيل ، وأمرهم بتوحيد الله ربّه وربّهم جميعا ، بيد

٤٢٢

أنّهم اختلفوا فيه (ظلما وبغيا) فويل للظالمين من عذاب يوم أليم (٦٥) .

ويذكّرنا الربّ بأنّ الأخلّاء أعداء بعضهم في يوم القيامة إلّا المتقين (وهكذا ينبغي أن نختار من المتقين أصدقاءنا ، وقد أشارت آيات سابقة الى مسألة القرين) ويصف نعيم الله في يوم البعث لعباد الله الذين تتلقّاهم الملائكة بالسلام والبشرى ، وتدعوهم الى الجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. كلّ ذلك جزاء لما عملوا (٧٣) .

بينما المجرمون خالدون في جهنم ، دون أن يخفّف عنهم عذابها ، وهم آيسون فيها من روح الله بما ظلموا ، وحين ينادون كبير ملائكة العذاب (مالك) ليعدمهم الله يجيبهم بأنّهم ثمّة ماكثون ، ويقول : لقد جئناكم بالحق ، وأنتم كنتم تكرهون الحق. وقد عاندوا الحق فحكم الله عليهم بالعذاب الخالد (جزاء عنادهم) (٧٩) .

وبهذه البصيرة يعالج السياق حالة العناد الذي هو واحد من أبرز العقبات النفسية في طريق الإيمان ، ثم يعالج سائر الحالات التي تمنع المبادرة الى الإيمان ، مثل التوهّم بأنّ الله لا يسمع سرّهم ونجواهم ، ويذكّرنا الله بأنّه يسمعهم ، وقد أحاط بهم ملائكته الكرام يسجّلون ما ينطقون به (٨٠) .

(ويعود الى معالجة حالة الشرك ، حيث يلتجأ الإنسان ـ عادة ـ الى ظلّ الشرك فرارا من ثقل المسؤولية) ويقول : النبي ليس ولد الله ، بل هو أوّل العابدين لله.

(وينسف أساس الشرك القائم على الجهل بعظمة الله) ويقول : سبحان ربّ السموات والأرض أن يكون له ولد مثلما يصفون. أو ليس هو ربّ العرش العظيم والهيمنة التامة ، فما ذا يفعل بالولد؟!

٤٢٣

ويأمر الرسول (والرساليين) بأن يتركهم في خوضهم يلتهون بباطلهم ، ويلعبون من دون هدف معقول في حياتهم حتى يلاقوا يوم الجزاء الذي يوعدون (وهكذا ينذر كلّ المشركين بالله بأنّهم يفرغون حياتهم من أيّ هدف سليم ، كما يفرغون عقولهم من أيّ بصيرة حق) .

ويبيّن أنّ إله السماء هو إله الأرض ، وهو الحكيم العليم (فلا يجوز الفصل بين الدين والسياسة ، بين عالم الخلق وواقع الحكم) .

(وكيف نتخذ من الثروة والسلطة آلهة والله عنده كلّ خير؟!) أو ليس هو المالك للسموات والأرض وما بينهما ، فهو الذي يبارك (أفلا ينبغي أن نعبده ليعطينا من بركاته؟) وعنده علم الساعة (أفلا نخشاه؟) واليه ترجعون.

(أمّا شركاء المال والجاه و.. و.. فهم لا يملكون أهمّ ما يحتاجه البشر وهو الخلاص من النار) ولا يملكون الشفاعة عند الله ، وإنّما الشفاعة للحق ولأهله ، وفي الوقت الذي يعترف الجميع بأنّ الله هو خالقهم تراهم يؤفكون عنه! (ولكن لا ينبغي أن يهلك المؤمن نفسه حسرة عليهم) وحين قال الرسول داعيا ربّه : إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون ، أمره الله بالصفح عنهم (والإعراض) وأن يقول لهم : سلام (ولا يبادرهم بالحرب) لأنّهم سوف يعلمون أيّ منقلب ينقلبون.

٤٢٤

سورة الزّخرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

___________________

٤ [أمّ الكتاب] : هو اللوح المحفوظ ، وإنّما سمّي بذلك لأنّه أصل الكتب السماوية وغيرها.

٥ [أفنضرب عنكم] : يقال ضربت عنه أضربت عنه أي تركته وأمسكت عنه.

[صفحا] : وأصله من ضرب الحيوان على صفحة وجهه ليميل عن طريقه إلى ما يراد به ، ثمّ استعمل في كلّ شيء للتحريف عن الطريق.

٤٢٥

(٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)

٤٢٦

قرآنا عربيا لعلّكم تعقلون

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يمهّد الذكر الحديث عن الموضوع الأساسي في هذه السورة ، وهو كما قلنا : التكيّف السليم مع الحياة الدنيا ، وذلك بالتذكرة بحكمة الكتاب المبين الذي أنزله الله وجعله قرآنا عربيا ، والتي تتلخّص في إيقاظ العقل من سباته ، وهو أعلى وأحكم نسخة لأمّ الكتاب الذي عند الله ، وبعد بيان أنّ إسراف الجاهليين لا يمنع رحمة الله عنهم بتذكيرهم يعالج السياق واحدة من أبرز عقبات الإيمان ، والتي يهتم القرآن كثيرا بها ، وهي حالة اللّامبالاة والاسترسال مع الواقع الفاسد ، التي تنعكس في صورة الاستهزاء بالرسالة والسخرية من الرسول ، ويبدو أنّ منشأ هذه الحالة الرضا بالواقع القائم ، فما دام الباطل يحقّق أهدافي ومصالحي ، ويشبع طموحي ورغبتي ، لماذا الاستماع إذا الى داعي الله؟

ذلك لأنّ الباطل ضار زاهق ، وإنّما الحق وحده باق نافع. أنظر مثلك السابقين ، واعتبر بعاقبتهم ، فإنّك لا تملك حياتين تجرّب في أحدهما السبل الكفيلة

٤٢٧

لسعادتك ، وتعمل في الثانية بتلك التجارب ، إنّما للإنسان فرصة واحدة ، وإذا مرّت فلن تعود أبدا ، وقد جرت سنة السابقين على أنّ من يتّبع الحق يسعد في الدنيا والآخرة ، وأنّ من يتّبع الباطل تنتهي حياته بالبأساء والضرّاء ، ويحيط به في الآخرة عذاب أليم .. وإنّ هذا يعطينا حافزا قويّا للبحث عن الحقيقة ، والنزوع عن حالة الاسترسال.

بينات من الآيات :

[١] (حم)

من الحروف المقطعة التي سبق أن فسّرناها.

[٢] (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ)

قسما بالكتاب الذي يحتوي على الحقائق ويبيّنها.

[٣] (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)

لعلّ الله قد جعل كتابه المنبعث من اللوح المحفوظ عربيّا للأسباب التالية :

أوّلا : إنّ لغة الضّاد أفضل لغات البشر إفصاحا عن الحقائق والضمائر ، واسمها (العربية) مشتق من الإعراب أي الإفصاح ، ولذلك فهي اللغة الأم عند الله التي بها نزلت كتب الله أصلا إلّا أنّها ترجمت عند الأنبياء بقدرة الله الى ألسنة أممهم ، وقد جاء في الحديث عن الإمام الباقر (ع) :

«ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا ولا وحيا إلّا بالعربية ، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم ، وكان يقع في مسامع نبيّنا بالعربية» (١)

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج (١٨) ص (٢٦٣) .

٤٢٨

ثانيا : لقد قدّر الله بحكمته البالغة أن يحمل العرب رسالته الى الأمم فأنزل الكتاب بلسانهم.

ثالثا : إنّ ربّنا يكرّر القول بأنّ الكتاب قد نزّله عربيّا ليدعو سائر الأمم ـ كما يبدو ـ لتعلّم هذه اللغة ، حتى يستوعبوا لطائف كتاب ربّهم ، والإشارات البلاغية التي تعجز الترجمات عن بيانها.

وقد ألّف أحد المستشرقين كتابا بالإنجليزية عن الإسلام فقال : لا أستطيع أن أبيّن لكم ـ أنتم أيّها الإنجليز ـ عذوبة آيات القرآن ، ولطافة معانيه ، وكيف يؤثّر في العربي .. ويضيف قائلا : إنّه لن يفهم القرآن أحد حتى يتعلّم العربيّة.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

هذا هدف رسالاته جميعا ، وكلمة «لعلّ» تدلّ على معنى الرجاء والهدفية أي إنّما جعلنا القرآن عربيّا لكي تعقلوا ، والعقل هو موهبة لا يختلف الناس في أصلها ، ولكنّهم يختلفون في مدى استفادتهم منها ، لذلك جاءت الكلمة بصيغة الفعل أي تستفيدون من العقل.

[٤] (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)

إنّ هذا القرآن هو انعكاس للكتاب الذي عند الله سبحانه وهو أصل الكتاب.

والأم بمعنى الأصل والأساس ، والذي استوحيه من هذه الآية أنّ عند الله كتابا مكنونا هو أمّ الكتاب ، من نوره يفيض على البشر كتبه سبحانه ، فمنه أنزل على نوح (ع) رسالته ، وعلى إبراهيم (ع) كلماته ، وبعث موسى (ع) وعيسى (ع) بالتوراة والإنجيل ، ومنه أيضا أتى محمدا (ص) القرآن.

٤٢٩

وقياس كلّ كتاب إلهي يتمّ بميزان أمّ الكتاب الذي يسمّى ـ فيما يبدو ـ باللّوح المحفوظ ، وحينما يقاس القرآن به يكون الأعلى رتبة ، والأحكم شريعة ودينا ، فهو يعلو كلّ دين ، وينفع الناس بما فيه من حكمة وعلم.

[٥] يزعم المسرفون الذين أترفوا في الحياة الدنيا أنّهم عباد الله المقرّبون. أو ليس قد أنعم عليهم بالغنى ، فهو إذا يحبّهم ويكرم مثواهم ، ويقودهم هذا الزعم الشيطاني إلى وهم خطير حيث يحتسبون أنّهم فوق القانون ، وأعلى من الذكر.

ومن جهة أخرى : ما دام الإسراف ذنب عظيم يتوهّم البعض أنّه يمنع عن المترفين رحمة الرسالة ، كلّا .. فلا الإسراف خير يجعل المترفين فوق الإنذار بالرسالة ، ولا هو مانع من منّة ابتعاث الرسل.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً)

نترككم بدون تذكرة وبدون رسل يذكّرونكم ما نسيتموه؟ وأصل الضرب صفحا كما قالوا ضرب وجه الدابة حتى تصرف وجهها جانبا.

(أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)

أي بسبب إسرافكم؟

كلّا .. وقد جرت سنّة الله بإرسال الرسل يذكّرون الناس ، وقد بعث رسالاته الى المستهزئين رحمة بعباده.

ويبدو أنّ الإسراف رأس سلسلة من الانحرافات ، وهو بدوره ناشئ من جهل الإنسان بحكمة الابتلاء في الدنيا ، ولماذا يحلم الله عن المذنبين ، ومن ضعف إرادته في مقاومة الشهوات يسير فيها بلا حدود أو قيود.

٤٣٠

ويتناسب ذكر الإسراف والمحور الرئيسي للسورة وهو الالتزام بحدود معينة في الانتفاع بالحياة الدنيا.

[٦ ـ ٧] إنّ الرسول كالطبيب إنّما يزور المرضى ، كذلك تزداد فرص ابتعاث الأنبياء بالرسالات عند انحراف الناس واتخاذهم شريعة الإسراف سبيلا.

هكذا بعث الله الأنبياء الى الناس سابقا ، وهكذا مضت سنته.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ)

إلّا أنّهم كانوا يواجهون بالاستهزاء ، ولعل الاستهزاء أسوء اعتادت موقف عليه الأمم ، لأنه موغل في الصلف.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

والاستهزاء بالرسل عادة مضت في الأوّلين ، كما أنّ ابتعاث الرسل سنة إلهيّة.

[٨] ولكن منع هذا الاستهزاء جريان سنة الله في بعث الرسل أو في إهلاك المستهزئين؟ كلّا .. لأنّ الله لا يضرّه كفر من كفر ، كما لا ينفعه إيمان من آمن.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً)

فلقد أخذ الله من هو أشدّ جلدا وأكثر عددا من العرب المكذبين ، والآية تشير إلى ضعة الجاهليين العرب وضعفهم لعلّهم يستفيقون عن جنون كبرهم وغرورهم ، ولا يستهزءون برسالات ربهم ، ولا يسترسلون مع تقاليدهم العفنة في الشرك والفساد والإسراف.

٤٣١

وقد تكرّرت الآيات التي تشير الى ذلك لأنّ علاج الغرور والاسترسال وبالتالي الاستهزاء هو بيان نقاط ضعفهم ، قال ربّنا في سورة الأحقاف (٢٦) : «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» .

وقد قالت الصّدّيقة فاطمة الزهراء (ع) تصف حال العرب قبل الإسلام :

«وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقّة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القدّ ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ...» (١)

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)

قالوا : أي سبق القول في تصريف الأمثال ، وبيان عبرة الأوّلين ، كما قال ربّنا سبحانه : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٢) .

ويحتمل أن يكون المعنى : أنّه قد تحقّق مثل الأوّلين ، وانتشرت عبرتهم في الآفاق مثلا ، والله العالم.

[٩] ويستمر استهزاؤهم بالحق في الوقت الذي يعترفون بأنّ من خلق السموات والأرض عزيز حكيم ، حيث تتجلّى عزّته في متانة الصنع ، كما تتجلّى حكمته في دقّة النظم.

__________________

(١) الإحتجاج / ج (١) ص (١٠٠) .

(٢) إبراهيم / (٤٥) .

٤٣٢

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)

[١٠] ومن آيات عزّته وحكمته تذليل الأرض لتكون صالحة للمشي.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً)

مهد الأرض وهيّأها من أجل راحة الإنسان ، فلا هي صلبة يستحيل زراعتها وبناؤها ، ولا هي هشّة يغرق فيها من عليها.

(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً)

السبل هي الطرق السهلة بالرغم من وعورة الأرض ، كما جعل طرقا واضحة حتى في البحار ، وعلى الإنسان أن يكتشفها حتى يهتدي الى أقرب الطرق الموصلة بين مكانين ، فهناك مثلا سلسلة جبليّة تبدأ من المحيط الأطلسي غرب مراكش ، وتتجه الى المغرب العربي ، ثم تمرّ بالبحر المتوسط ، وتصعد ثانية الى جنوب أوربا ، فشرقها ، ثم تتجه جنوب تركيا ، فجنوب روسيا ، فشمال الهند ، فشرق الصين ، وأمثال هذه السلاسل الجبليّة كثيرة ، بالرغم من كل تلك السلاسل ، فقد جعل الله بينهما فروجا كثيرة يسير عبرها الناس ، ولو كانت الجبال العالية ذات انحدار شديد لعزلت أبناء البشر عن بعضهم.

وكما في السهول كذلك في السهوب خط الله سبلا لتواصل الناس مع بعضهم ، وهكذا في البحار والفضاء ..

من الذي جعل هذا السبل؟ إنّه الله العزيز الحكيم ، ولماذا؟

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

٤٣٣

نهتدي بهذه السبل الى أهدافنا ، والى ربنا الذي خلق هذه السبل ، فكلّما كانت آيات الصنع والتدبير أكثر في الطبيعة كانت أكبر شهادة على الخالق ، وأقرب هدى.

[١١] وكما خلق السموات والأرض ، وجعل الأرض مهدا هيّأ للإنسان رزقه فيها.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ)

بتقدير منه ، فقد يكون نزول الماء شديدا فتصير سيولا ، وقد يكون شحيحا فلا يستفيد منها الإنسان ، ولكنّه سبحانه ينزل المطر بتقدير منه على حسب حاجة الإنسان والأرض.

(فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً)

وكما يحيي الله الأرض الميتة بالمطر ، فينمو الزرع والضرع ..

(كَذلِكَ تُخْرَجُونَ)

وقد استفاد بعض المفسرين من هذه المقارنة بأنّ الإنسان يخرج يوم البعث من الأرض كالزرع ، وقد جاء في الحديث :

«إذا أراد الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ، ونبتت اللحوم»

فيكون القبر للإنسان في يوم القيامة كرحم أمّه ، أو كالأرض بالنسبة الى البذرة.

٤٣٤

وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)

٤٣٥

سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا

هدى من الآيات :

تسعى آيات هذه السورة الى ترشيد العلاقة بين الإنسان وما حوله ، وإنّما يتمّ ترشيدها بالرؤية السليمة ، ذلك أنّ بصيرة الإنسان تجاه الطبيعة وظواهرها هي التي تكيّف علاقته بها.

ويذكّرنا السياق هنا بأنّ ما أوتينا من نعم الحياة لا بدّ أن يهدينا الى معرفة ربنا والتقرب إليه ، فنعمة الزوجية وسيلة لمعرفة الله ، كيف؟ فلقد خلق ربّنا من كلّ شيء زوجين اثنين ليعرّف كلّ شيء بعجزه وحاجته ، حتى لا يشعر أيّ مخلوق بالاستغناء فيطغى ، وليبيّن له أنّه مخلوق يحتاج الى قرين يكمّله ، وكما حاجة الإنسان الى الزوج كذلك حاجة الإنسان الى الأشياء والأحياء من دونه ، فالإنسان بحاجة الى دابة وسفينة إذا أراد قطع الفيافي والبحار ، وحاجته دليل عجزه ، وشاهدة على غنى ربّه ، ولكن بدل أن يعطي الله للإنسان جناحين يطير بهما ، أو أرجل سريعة يسابق بهما الريح ، أو أذنين حادّتين كما أذني الحصان ، بدل كل

٤٣٦

ذلك زوّده بهبة العقل يستطيع أن يسخّر بها الأشياء ، فتراه يصنع السفينة ، ويمتطي صهوة الطيارة والصاروخ ، بل ويسخّر حتى الأحياء من حوله لخدمته ، كالأنعام ، والكلاب ، والدلافين و.. و..

ولو لا هبة العقل هل كان يستطيع ذلك؟ كلّا .. ألم تر كيف يقود طفل قطيعا من الإبل؟

لذلك عند ما يمتطي الإنسان صهوة فرسه ، أو يستقلّ متن سفينة ، عليه أن يذكر الله فيقول :

سبحان الله الذي سخر لنا هذا ، وما كان لنا أن نسخرها إلا بإذنه سبحانه.

إنّ المؤمن ينظر إلى الأرض باعتبارها أمّه ، وينظر الى النخل والشجر معتبرا إيّاها عمّاته ، وينظر الى الشمس والقمر معتبرا إيّاهما خلقان لله ، ويجريان بأمره طائعين ، والإسلام ربطنا بالطبيعة من حولنا ، فهناك دعاء لركوب الدّابة ، ودعاء لظهور الهلال ، ودعاء إذا سمعت الرعود ، و.. و.. ، وقد كان رسول الله (ص) يتعبّد الله ، وينظر الى النجوم متفكرا فيها ، ويتلو هذه الآيات : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ... (١) .

بينات من الآيات :

[١٢] (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها)

__________________

(١) آل عمران / (١٩٠ ـ ١٩١) .

٤٣٧

لماذا خلق الله الأشياء أزواجا؟ لأمرين ـ فيما يبدو لنا ـ : أولا : لتتجلّى قدرته المطلقة. أو ليس حسن الصنع ومتانة الخلق في إطار التنوّع دليل القدرة؟ فإنّك ترى في ذات الوقت الذي يختلف الزوجان عن بعضهما اختلافا واسعا ، يخضعان لسنن واحدة تسوقهما الى هدف واحد ، أليس ذلك دليل قدرة الرب؟

الثاني : لقد أركز الله في كل زوج الحاجة الى الآخر ، فهم محتاجون الى بعضهم ، وذلك أبرز دليل على حاجتهم الشديدة الى الله خالقهم ومدبّر أمورهم.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ)

فالذي خلق للبحار الفلك نمتطي صهوته لنبلغ أقصى الأرض بتجارتنا الثقيلة ، هو الذي خلق للصحاري الأنعام وسخّرها لنا ، ليس فقط لتوصلنا الى أهدافنا المادية ، بل وأيضا لتقرّبنا الى الله ، أسمى غايات البشر وأعلى مراميه ..

لماذا؟

[١٣] (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ)

كي نستقلّها ، ونستوي على ظهورها ، ونستوحي من كلمة الإستواء أولا : أنّ الله سخّر الفلك والأنعام للإنسان حتى يستقرّ في ظهورها دون وجل من تمرّدها عليه ، ثانيا : أنّ علينا أن نجلس عليها باستقرار ، ونتمكّن منها ، ولا ندعها تجمح أو تضطرب.

كما نستوحي من الآية ضرورة تسخير الطبيعة وعدم إهمالها ، وقد ورد في الحديث : «كان أمير المؤمنين (ع) يقول : من وجد ماءا وترابا ثم افتقر بأبعده الله» (١)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (١٠٣) ص (٦٥) .

٤٣٨

والإستواء على ظهور الفلك والأنعام هو الهدف المرحلي منها أمّا الهدف الأسمى لهذه النعمة وسائر نعم الله هو الاهتداء والتقرّب اليه.

(ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ)

فالهدف من نعم الله المادية هو السموّ الروحي. إنّها معراج الإنسان الى الله ، فإذا شبعت فقل : الحمد لله ، وإذا ارتويت فقل : الحمد لله ، وإذا استغنيت فقل : الحمد لله ، وإذا ركبت السيارة فقل : سبحان الله ..

ويذكّرنا القرآن الحكيم بالأهداف المادية والمعنوية لنعم الله علينا ، بالذّات في هذه السورة التي تحوّرت حول علاقتنا بالطبيعة من حولنا ، للأسباب التالية :

أولا : لكي لا نزيغ عن الغايات النبيلة للنعم ، فالزواج جعل ليبنى به البيت والسكينة والمحبة والخلق الرفيع فلا ينبغي أن نجعل هدفنا منه مجرد قضاء وطر الشهوة ، وجعلت الأنعام للاستواء على ظهورها وبلوغ الأهداف المشروعة ، وليس للهو بها أو للتجبر والبطش على الناس.

ثانيا : لكي لا تبطرنا النعم ونتخذها للتفاخر والتكبر والفساد في الأرض.

ثالثا : لتعطينا السكينة النفسية والتي تساهم في إصلاح نفوسنا من عقدة الضعة ، وتدعونا لشكر الله بعمل الصالحات.

لذلك أمرنا الله بهذا الدعاء عند ركوب الأنعام لكي ينقلنا امتطاؤها الى آفاق روحية أبعد من تلك الآفاق الأرضية التي نطويها عبرها. أرأيت أيّ أفق بعيد يبلغه من يقطع المسافة بين الشهود والغيب في لحظة فينتقل من رؤية النقص في الطبيعة الى الكمال في خالقها!

٤٣٩

(وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا)

ونتساءل : لماذا أمرنا الله هنا بالتسبيح وليس بالحمد؟

ذلك لأنّ حاجتنا ـ نحن البشر ـ الى الدواب أو الفلك ، وضعفنا عن توفيرها لو لا تسخير الله ، شاهد على تنزّه الله وغناه ، فهو غنيّ عن عباده ، غنيّ عن التوسّل بالآلات ، غنيّ عن تسخير شيء لنفسه ، تعالى الله وتقدس ربّنا عن كلّ ذلك.

ثم تسخير الأنعام والفلك دليل عجز الحيوانات والطبيعة وحاجتهما الشديدة لمدبّر حكيم هو الله.

ويهدينا ذلك الى تسامي ربّنا عن الحاجة. أو ليس حاجة كلّ شيء دليل مخلوقيته ، فكيف يحتاج الخالق؟

وأساسا كلّ نقص وعجز وحاجة وضعف في الخلق شاهد على ما يقابلها عند الخالق لدلالة العقل أنّ صفة الخالق غير صفة المخلوق ، قال أمير المؤمنين (ع) :

«مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطّرها إليه من الفناء على دوامه» (١)

(وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)

أي لسنا بقرناء له ، ولا مطيقين تسخيره ، ولا بمستوى ضبطه ، وأصل الكلمة من المقارنة بمعنى المشابهة في القدرة.

[١٤] (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١٨٥) / ص (٢٦٩) ـ صبحي الصالح.

٤٤٠