من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

ثم إنّ التحدّي الكبير الذي يعيشه المؤمنون في مواجهتهم لقوى الشرك يدعوهم للوحدة بينهم ، لكي لا يجد الأعداء ثغرة للتسلل الى صفوفهم ، والإفساد بينهم من الداخل.

وفي ظروف التحدي تحتاج الأمة إلى المزيد من الاستقامة على طريق الدين (وإقامة الدّين كلّه دون أن يختلفوا فيه) ، والسبب هو أنّ الشيطان قد يوسوس إليهم بأن يتنازلوا عن بعض بنود الدّين لكسب المزيد من الأنصار ، بناء على سلّم الأولويات أو التدرّج في تطبيق الشريعة ، وقد يؤدّي ذلك الى الانحراف في الدّين ، مثلما حصل عند النصارى في التاريخ حيث كانت الديانة المسيحية نقية طاهرة فلما رأى الأحبار قلّة المنتمين إليها صمّموا على الاقتباس من أفكار الفلسفة القديمة الرائجة يوم ذاك ليؤمن الناس ، ومن بين ما أدخلوه عليها بعض الأفكار المقتبسة من الفلسفة المعروفة ب (النيوافلوطينية) ، فصارت الديانة التي عليها كثير من النصارى اليوم مشوبة بها.

واليوم نجد الناس يضيفون الثقافة القومية أو الوطنية أو الاشتراكية أو الرأسمالية الى الفكر الإسلامي ، وما هي سوى ألوان من الشرك إذا عرفنا جوهرها المتمثل في التسليم لغير الله.

إذا يجب علينا أن ندعو الى الدين الخالص بلا أيّ إضافة ، فإن استجاب الناس وإلّا فواجبنا بذل المزيد من الجهد ، وبدل أن ننزل ديننا الى مستوى الناس يجب أن نرفعهم الى مستواه ، وليس علينا بعد الدعوة والتبليغ مسئولية الهداية ، لأنّ الهداية من عند الله.

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ)

٣٠١

من رسله ، كالذين سبق ذكرهم من أولي العزم الذين فضّلهم الله على سائر أنبيائه ، وهم نوح شيخ المرسلين الذي قدّمه السياق لأنّه أوّل نبي عقد عزمات قلبه على إبلاغ رسالة التوحيد ، بتلك الصعوبات المعروفة وعبر (٩٥٠) عاما ، وذكر بعده نبيّنا محمد (ص) لأنّه الأعظم من بين أولي العزم ، ثم جاء ذكر الأنبياء الثلاثة بالترتيب الزمني إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (عليهم السلام) .

(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)

من سائر عباده.

٣٠٢

وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ

٣٠٣

لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)

___________________

١٨ [يمارون] : يجادلون ، من المراء أي الجدال.

٣٠٤

وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ

هدى من الآيات :

انطلاقا من محور الوحدة يبيّن لنا هذا الدرس سبب الخلاف بين البشر ، وهو ظلم الإنسان للآخرين ممّا يسمّيه القرآن بالبغي ، حيث يبدأ بسلب حقوقهم الأمر الذي يجرّ الى تنامي الصراعات ، وبالرغم من أنّ كلّ ظالم يغلّف بغيه بمختلف التبريرات ، بل يصنع لنفسه ثقافة (ودينا) يزعم أنّه يدافع عنها ويذبّ عن قدسيتها ، إلّا أنّه كذّاب ، لأنّ الاختلاف لا يكون من أجل القيم ، فالقيم لا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف نتيجة للبغي والسعي وراء حطام الدنيا.

وعند ما يجد الإنسان الخلافات الاجتماعية ، يكاد ينكر هيمنة الخالق على الخلق ، ويظنّ أنّه تعالى فوّض الأمور إليهم ، ويتساءل : إذن لماذا لا يحكم الربّ بين عباده ، ويفضّ الخلافات؟ ولماذا لا ينصر أصحاب الحق؟

وما هي إلّا وسوسة شيطانية لفصل الخلق عن هيمنة الله ، إذ أنّها تدفع الإنسان

٣٠٥

لاختيار وسائله الكفيلة بتحقيق مصالحه ، ولا يهمّه بعد ذلك لو ترك الدين جانبا ، والآية الأولى من هذا الدرس تؤكّد أنّه قد سبقت كلمة تقضي بتأجيل الحسم في الخلافات ، وأنّ ذلك لا يدل على التفويض أو الإهمال ، من قبل الله! بل مجرّد إعطاء فرصة للابتلاء ، ولو لا ذلك لكان يأخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر.

ويعتمد الاختلاف على أرضية الشك بالقيم الحقيقية المتمثّلة في الكتاب ، ولذلك لا تختلف الأمم حين تعتمد الكتاب محورا لوحدتها ، ومرجعا لخلافاتها وصراعاتها ، ولكنّها حينما تفقد الإيمان بالكتاب ، وتبحث عن مصالحها على حساب الآخرين ، تتنامى صراعاتها ، لأنّ الضمانة التي تحجز عن دفع الصراعات نحو التطرّف هو الإيمان بالقيم والاعتصام بحبل الله ، وإلّا فما أسرع تأثّر البشر بالأحداث الاجتماعية والسياسية من حوله ، فهو وبسبب نفسه الأمّارة بالسوء يسعى للتطرّف في الردّ على من يخطئ عليه أو يقصّر تجاهه ، وفي قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) إشارة صريحة لهذه الطبيعة في الإنسان ، وإنّما يستطيع أن يتجاوزها باليقين والاستقامة ، فلا تدفعه الأهواء ولا الدعايات الضالة الى المواقف المتطرّفة تجاه الآخرين ، وهذا أمر صعب أن يقول الإنسان الحق سواء كان معه أو ضدّه ، وهذا ما أمر به الله نبيّه (ص) أن يعدل بين الناس ، لأنّ العدل ينتهي في الأخير الى صالح الإنسان ، ثم إنّ كلّ فرد مسئول أمام الله عن أعماله في الحياة ، فلا داعي إذن لفرض أحد آرائه على أحد ، فالكل يتحمّل مسئولية عمله ، ويتلقّى جزاءه.

ثم يؤكّد القرآن بأنّ الله لا يهمل الصراعات الى الأبد ، وإن كان سبحانه لا يتدخل فيها بصورة مباشرة ، فيد الغيب تتدخّل الى جانب الحق في الوقت المناسب لتدحض حجة الباطل ، ولكن متى يكون ذلك؟ حينما تهبط الرسالة يؤمن بها مجموعة من الناس ، ويلتفّون حول صاحبها ، بينما يخالفهم فريق آخر

٣٠٦

وبحجج واهية ، فينصر الله المؤمنين على أعدائهم ، ولا شك أنّ الرسالة وحدها لا تنتصر ، إنّما تنتصر الرسالة التي يلتفّ حولها الناس ويدافعون عنها.

إنّ البعض يستعجل فضّ الخلافات ، ويريد ذلك في أسرع وقت ، ولذلك يبيّن القرآن هنا فكرة سبق أن بيّنها في أكثر من موقع ، وهي عدم استبعاد الساعة ، وإنّما توقّعها في كل حين.

بينات من الآيات :

[١٤] إنّ العامل الأقوى في اختلاف الناس وتفرّقهم ليس هو الجهل بالحق ، لأنّ الحق غالبا ما يكون واضحا بيّنا ، وإنّما يختلفون بسبب شهواتهم وأهوائهم التي تقودهم للبغي على بعضهم ، فهم المسؤولون عن الخلافات التي بينهم. أو ليس قد جاءهم من الله العلم حتى يقضي عليها؟

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)

وربّنا يمهل الناس في تفرّقهم ، ولكنّه لا يهملهم إذ سبقت منه كلمة أن يعطيهم الفرصة لاختبار إرادتهم ، ولو لا ذلك لكان ينهي الصراعات الى صالح الحق في أسرع وقت ، ويهلك أهل الباطل بلا إمهال.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)

ومن أسباب تفرّق الناس أيضا : ابتعادهم عن القيم التي تمثّل ضمان الوحدة ..

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)

فبينما كان الكتاب وسيلة للوحدة عند الأجيال الملتزمة التي آمنت به وعملت

٣٠٧

بآياته ، أصبح الشك فيه عاملا خطيرا في التمزّق والتفرقة.

وهكذا أوصت الآية بالعلاج الجذري للخلافات البشرية التي تنبعث من اتباع الأهواء والظلم على بعضهم (البغي) ذلك هو روح اليقين في الكتاب ، والابتعاد عن حالة الشك والتردّد فيه ، كما أشارت الى سنة التراخي عن اليقين بسبب طول الأمد ، حيث يختلف الالتزام بالكتاب بين الجيل الذي هبط فيه الكتاب ، وبين الذين أورثوا الكتاب ، والشك المريب هو الشك المتعلّق الذي يثير الاضطراب.

[١٥] وحيث قضى الله سبحانه في كتابه بالحق ، يجب على الرسول وعلى كلّ مؤمن أن يدعو إليه ، ويستقيم على نهجه بالتحصّن ضد الأهواء والصراعات ، لأنّه لو زاغ المؤمن الى جانب من جوانب الصراع لانتهى دوره في الهيمنة على الخلافات الاجتماعية.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ)

إنّما اتبع الهدى الموحى إليك من ربّك ، بعيدا عن الضغوط والدعايات.

هنا يأمر القرآن الرسول ومن خلاله كل من اتبعه أوّلا : بالدعوة ، وإعلان الكلمة الصادقة (ومن ثمّ إعلان المواجهة مع الكفر) .

ثانيا : بالاستقامة ، بالصبر على الأذى الذي يلحقه من جرّاء الدعوة.

ثالثا : بجعل القرآن منهاجا للعمل.

رابعا : عدم التنازل عن الدعوة تحت ضغوط الآخرين الذين يتبعون أهواءهم ، لكي يبقى الدّين خالصا لله.

٣٠٨

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ)

لأنّ الميزان هو الوحي ، وكما أوحى الله الكتاب على نبيّه محمد (ص) فقد أوحى الى موسى وعيسى عليهما السلام ، وإعلان الرسول أنّه مؤمن بسائر الرسالات الإلهيّة شاهد على أنّ دعوته لا تشوبها ذرّة من الذاتية ، إنّما هي دعوة خالصة الى الله والى كتبه ورسالاته جميعا ، وهكذا ينبغي أن يكون محور الإنسان هو الحق ، سواء كان متمثّلا فيما عنده أو عند الآخرين.

(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)

على ضوء منهاج الكتاب ، لأنّ العدالة وحدها الكفيلة برفع أنواع الخلافات فيه. أليس البغي جذر كلّ خلاف؟ كذلك العدل أرضية الوحدة ، وحين لا يكون العدل يتهاوى عرش التجمّع على أطرافه! يقول الإمام علي (ع) :

«وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد» (١)

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ)

وما دمنا متساوون أمام الله لأنّنا خلقه وهو ربّنا ، فإنّنا متساوون أمام القانون وهو كتابه عزّ وجل ، ومن هذا المنطلق ترتكز العدالة على تحمّل كلّ إنسان جزاء عمله لا الآخرين.

(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ)

فكلّ واحد يتحمّل تبعة عمله ، دون أن يقدر على إلقائها على الآخرين بعذر أو بآخر. وهذه البصيرة ذات أثر عظيم في إثارة وتحريك الفكر ، ووقف حالة

__________________

(١) نهج / كتاب (٥٣) .

٣٠٩

الاسترسال.

(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ)

لا جدال ولا خصومة فقد بان الحق وظهر أمر الله ، ولسنا نريد أن نكرهكم على قبول الحق ، لأنّ قبول الحق ينفعكم قبل أن ينفعنا ، ورفضه يضرّكم ولا يضرّنا.

وتوحي الآية بأنّه لا يمكن للإنسان إخضاع الآخرين بالجدل لأفكاره.

(اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا)

غدا عند الميزان الحق ، ويفصل بين الخلافات.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)

فيجازي المسيء ، ويثيب المحسن.

فعلى المؤمن أن يبلّغ رسالته الى الناس دون جبر أو إكراه ، فإن قبلوا اهتدوا ، وإن رفضوا وكفروا فإنّهم جميعا سوف يحضرون يوم القيامة للحساب حيث يقرّر الربّ مصير الجميع.

[١٦] ولكي لا يتصوّر البعض أنّ ترك الجدال الذي أمر به في خاتمة الآية السابقة يعني أن الجميع على حق ، بيّن السياق عاقبة المجادلين بالباطل ، ليدحض هذه الفكرة الفاسدة التي وجد لها أنصار في التاريخ ، حيث زعموا صواب كلّ القضاة الذين يحكمون في موضوع واحد بفتاوى مختلفة ، وقد فنّد الإمام علي (ع) هذه الفكرة حيث قال :

«ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد

٣١٠

تلك القضية على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه؟!» (١)

إنّ للحق والباطل مقاييس ثابتة وواضحة ، والله عزّ وجل ينصر الحق عند ما يحين الأجل المسمّى عنده.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ)

أي يحاجّون الرسول (ص) في مناهجه ورسالاته الإلهية وقد تبيّن لهم أنّه على الحق بعد استجابة الله له.

(حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

يدحضها بالمقاييس والسنن الثابتة ، وبإرادته المطلقة منطقيّا وعمليّا ، حيث ينتقم منهم في الدنيا والآخرة.

(وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)

لقد تجلّى الحق على يد الرسول بأظهر شواهده وأسنى آياته ، ولقد بادر أصحاب القلوب الزكيّة الى الاستجابة للرسالة ، واستجاب الله دعواته الخالصة بالنصر. ألم يعدهم بذلك حين قال : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) .

فما بقي عذر لهؤلاء الذين يحاجّون في الله ، ولا يسلّمون أمرهم لرسوله ، وحان

__________________

(١) نهج / خطبة (١٨) ص (٦٠) .

٣١١

ميعادهم ، فحجتهم داحضة ، ليس فقط لأنّها باطلة ، بل وأيضا لأنّ الاستجابة للرسالة هيّأت أرضية نصر الله لها .. وسوف تتوالى عليهم الهزائم الفكرية (بدحض حجتهم) والدنيوية والسياسية (بأنّ عليهم الغضب المتمثّل في الفشل) والأخروية (بأنّ لهم العذاب الشديد) .

ومن هنا نعرف أنّه حين يستجيب فريق للرسالة فإنّه يقترب ميعاد نصرها من عند الله ، وتكون حجة المعاندين داحضة ، وسعيهم في ضلال.

[١٧] ومن المقاييس التي يعرف الحق بها القرآن بآياته البيّنة الواضحة ثمّ الميزان.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)

جملة الحقائق ، ابتداء من التذكرة بالله وأسمائه الحسنى وآياته في الأنفس والآفاق ، واستمرارا مع تبصرة الإنسان بنفسه وشفاء أدوائه ، وانتهاء بالأحكام التي تفصل بين الناس بالعدل.

(وَالْمِيزانَ)

وقد أنزله الله علينا حين هدانا اليه لنطبّق العدل بيننا.

وقد اختلف المفسرون في معنى الميزان ، فقال البعض : إنّه مجمل الأحكام الشرعية التي جاءت بها الرسالات. أو ليست تفصل بين العباد ، وتحدّد حقوق وواجبات كلّ واحد بالنسبة الى الآخرين ، وإنّ المعنى إنّ الله أنزل الميزان في الكتاب ، الذي ليس فقط يشتمل على الحق بل ويفصّله ضمن موازين أي أنظمة عادلة.

٣١٢

وقال أكثر المفسّرين : إنّه العدل ، ولكن لم يذكروا كيف أنزله الله.

وقال البعض : إنّه هذا الميزان الذي يقيس به الناس أشياءهم ، ولم يحدّد هو الآخر كيف أنزله الله.

ولكن يبدو لي أنّ الميزان ـ هنا ـ شيء آخر أنزله الله الى جانب الكتاب ، ويشهد على ذلك أنّه لم يعطف كلمة الميزان إلى الحق بأن يقول : أنزل الكتاب بالحق وبالميزان.

وقد قال ربّنا في سورة الحديد : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١)

وقال سبحانه في سورة الرحمن : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٢)

وقال تعالى في سورة الأعراف : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) (٣)

فالميزان ـ إذا ـ قيم الكتاب ، وأوضح معانيه هذا الذي يتعارف الناس عليه في قياس سلعهم ، وفي تحديد حقوق بعضهم على البعض ، ويبقى السؤال : كيف أنزله الله؟

الجواب : إنّ الله أنزل على الإنسان العقل ، وضمّنه مقاييس ثابتة ، وعلّمه

__________________

(١) الحديد / (٢٥) .

(٢) الرحمن / (٧ ـ ٨) .

(٣) الأعراف / (٨٥) .

٣١٣

كيف يعكس هذه المقاييس العقلية على أجهزة وأدوات وقوانين وتشريعات يقيس بها الأشياء ، وأمر في كتابه الناس الى الالتزام بما تعارفوا عليه بعقولهم.

وإنّما بعث الرسل ليوقظوا العقل من سباته ، ويفكّوه من أغلاله ، ويفتحوا عن عقول الناس أقفالها ، ويرفعوا حجبها.

وحين توافق الكتاب والميزان ، عرف الناس بما لديهم من ميزان إلهي (وهو العقل) صدق الرسالة ، وعلموا بهداية عقولهم أنّ دعوة الرسل صادقة ، لأنّها تتناغم وما يجدونه بنور عقولهم.

والرسل عليهم السلام وأوصياؤهم الصادقون يمثّلون بحق هذا الميزان في الشؤون الحياتية ، لأنّهم يهدون بالحق ، ويسعون الى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويخالفون أهواءهم ، ويلتزمون بدقة متناهية بالأحكام التي يأمرون الناس بها ، فهم الميزان الصادق بين الحق والباطل ، وهم القضاء العدول بين الناس ، وهم القسطاس المستقيم في المعارف الإلهية.

ومن هنا قال بعض المفسرين : إنّ المراد بالميزان النبي محمد (ص) (١) .

ولعلّ التفسير الشائع بين المفسرين يعود الى هذا المعنى حيث قالوا أنّ الميزان هو العدل ، إلّا أنّهم لم يذكروا كيف يقام العدل. أو ليس بحاكم عادل يأمر الله باتّباعه ، والتحاكم إليه ، والتسليم لقضائه ، كما قال سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢)

__________________

(١) فتح القدير / ج (٤) ص (٥٣١) .

(٢) النساء / (٦٥) .

٣١٤

كما أنّ ذكر الميزان في سياق سورة الشورى التي تمحورت حول فضّ الخلافات يدلّ على أهميّة القيادة العادلة في القضاء على الصراعات الاجتماعية.

ولا تتمّ معرفة الله إلّا بالعقل ، جاء في الحديث المأثور عن الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ :

إن الله جل وعز أكمل للناس الحجج بالعقول ، وأفضى إليهم بالبيان ، ودلهم على ربوبيته بالأدلة (١)

كما لا تتمّ معرفة الإمام الصادق (ع) الناطق عن الله إلّا بالعقل أي بتلك الموازين الثابتة التي أودعها الله في ضمير كلّ واحد من أبناء البشر.

جاء في الحديث عن الإمام الكاظم (ع) :

«نصب الخلق لطاعة الله ، ولا نجاة إلّا بالطاعة ، والطاعة بالعلم ، والعلم بالتعلّم ، والتعلّم بالعقل يعتقد ، ولا علم إلّا من عالم ربّاني ، ومعرفة العالم بالعقل» (٢)

إنّ الكتاب والرسول حجة الله الظاهرة ، ولا يمكن الاهتداء إليها إلا بالعقل ، الذي هو حجة الله الباطنة ، والى ذلك أشار الحديث المروي عن الإمام الكاظم (ع) :

«إنّ لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول» (٣)

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج (١) ص (١٣٢) .

(٢) المصدر / ص (١٢٨) .

(٣) المصدر / ص (١٣٧) .

٣١٥

أنى ذهبت وأيّ شخص سألت فسوف تجد ذات المقاييس العقلية عنده ، والتي يؤمن بها جميع البشر ، وهي الحجة القائمة بينهم ، الصدق والشجاعة والوفاء والإيثار والعدل والعفو والإحسان إنّها فضائل لا يختلف فيها الناس .. وذلك هو الميزان الذي أنزله الله للناس ليقوموا بالقسط ، وبهذه المقاييس الثابتة يختار الناس إمامهم العادل ليطبّق العدالة بينهم ، ففي حوار مفصّل بين ابن السكّيت (إمام اللغة المعروف) وبين الإمام الرضا (ع) يسأل ابن السكّيت : فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال الرضا (ع) : «العقل تعرف به الصادق على الله فتصدقه ، والكاذب على الله فتكذّبه» ، فقال ابن السكّيت : هذا هو والله الجواب (١) .

ولكن تبقى مشكلة البشر الغفلة وعصيان ما تأمر به العقول ، ولعلاج هذه الحالة لا بد من إيقاظ العقل بالإنذار .. وهكذا ذكّر السياق بالساعة بعد ما بيّن الميزان ، لأنّ تذكّر الساعة حيث يفصل الله بين عباده ، وحيث أخّر الله الموازين القسط إليها ، يهزّ أعماق البشر.

وأعظم ما في الساعة إخفاؤها. متى تقوم الساعة؟ ومتى تقوم قيامة كلّ واحد منّا بالموت الذي لا يفصله عن الساعة شيء؟ ألا ترى كيف يتساءل الناس في يوم البعث : كم لبثتم؟ فإذا بهم يقولون : يوما أو بعض يوم ، وهم قد لبثوا الى يوم البعث؟!

وما دام يوم البعث خفيّا عنا فلا بد من الاجتهاد أبدا.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)

وكفى بالموت الذي يزور البشر في أيّة لحظة واعظا ، وهذا من أهمّ أهداف ستر

__________________

(١) المصدر / ص (١٠٥) .

٣١٦

الأجل عن الإنسان ، وفي الحديث قال الإمام علي (ع) :

«ما أنزل الموت حقّ منزلته من عدّ غدا من أجله» (١)

[١٨] ولو تدبّر الإنسان في الساعة أصلح نفسه ، بينما لا تعني شيئا بالنسبة للآخر الضّال ، بل يزداد بسبب ذكر الآخرة ضلالا ، لأنّه لا يعي حقيقة الساعة.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ)

فترتعد فرائصهم من خوف هولها ، بينما تتعمّق عقيدتهم في الحق وبصيرتهم في الحياة بذكرها ، والخشية ميزان العقل ففي وصفه للمتقين يؤكّد الإمام علي (ع) على عمق خوفهم من الله إذ يقول :

«وإذ مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم»

هذا عن بعض حالهم في الليل.

«وأمّا النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول : لقد خولطوا» (٢)

هذا هو حال المؤمنين ، وهذا هو خوفهم من الساعة ، وهو يكفي لنا مقياسا لمعرفة

__________________

(١) المصدر / ج (٦) ص (١٣٠) .

(٢) نهج / خطبة (١٩٣) ص (٣٠٤) .

٣١٧

مدى ضلال الكافرين والمشركين وغيرهم ممن لا يتعظ بذكر القيامة ، بل ويتخذ الحياة لعبا ولهوا.

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)

وهذا بسبب شكّهم في القيامة والجزاء ، وكلّ إنسان يشك في جزاء أعماله لا يتحمّل المسؤولية تجاهها ، بل ويعيش متهاونا في حياته ممّا يعمّق الضلالة عنده ، حتى يصل الى حدّ بعيد في الضلال لا يمكنه معه الاهتداء الى أدنى مراتب الحق.

٣١٨

اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)

___________________

٢٠ [حرث الآخرة] : أي زرعه ، فكأنّ العمل بذر يعطي هناك ثماره.

٣١٩

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ

هدى من الآيات :

خشية الإنسان من أن يفوته رزقه ، وبالتالي سعيه من أجل الحصول عليه ، وكذلك اتباعه الشرائع البشرية الضالة ، هما من العوامل الأساسية التي تفرّق المجتمعات عن الدين الحق ، وإذ يبيّن القرآن خطورتهما يعالج مرض النفس ببعث الاطمئنان فيها عبر التأكيد على ضمان الله للرزق ، كما أنّه يداوي مرض الحرص بالتحذير من أهوال الساعة ، والترغيب في نعيم الآخرة.

بينات من الآيات :

[١٩] لقد تكفّل ربنا بالرزق لعباده بما وفّر لهم من وسائل العيش في الحياة ، ولو تدبّرنا في رزق البشر لعرفنا لطف ربنا ، وحسن تدبيره.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ)

قالوا : اللطيف العالم بخفيّات الأمور والغيوب ، والمراد به هنا : الموصل المنافع

٣٢٠