من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

التي تعطي الشرعية لسائر القيم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)

كانت رسالة إبراهيم ـ عليه وعلى نبيّنا وآله السلام ـ موجهة ضد استمرارية الأمر الواقع ، ضد عبادة الآباء ، وتقديس شرعهم ومعتقداتهم وتاريخهم ، لذلك قال لأبيه : إنّني براء مما تعبدون من دون الله. ويعتبر هذا من أهمّ ما يتميّز به إبراهيم الخليل من بين سائر الرسل.

[٢٧] وبتبرّء إبراهيم (ع) مما عبده آباؤه ، قطع صلاته بهم ، واختط لنفسه ولآله من بعده خطّا جديدا نظيفا هو التوحيد.

(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)

فولاؤه ـ عليه السلام ـ لربّه الذي فطره وخلقه ، وليس لآبائه ، رغم كونه ولد منهم لأنّهم لم يكونوا سوى سبب ، وإذا كان الأمر كذلك فإن فاطره أولى بهدايته منهم.

[٢٨] (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

أي جعل كلمة الرفض والبراءة مما يعبد الآباء باقية في عقبه لعلّهم يرجعون إليها من الانحراف ، ولم يجعل إبراهيم عليه السلام نفسه رمزا باقيا يتّبع ويطاع ، لأنّ العصور تختلف ، وإنّما كان إبراهيم نذيرا ، وإنّه لا بد أن يكون لكلّ قوم هاد ولكلّ عصر إمام.

وهكذا نستوحي فكرة من هذه الآية وآيات أخرى أنّ الأجيال التي تأتي بعد نهضة مباركة ينبغي أن يستفيدوا منها تجربة النهوض دون أن يعطوها كلّ الشرعية ،

٤٦١

ويحوّلوها الى عقبة في طريق التطوير والتجديد ، أو يجعلوها كهف الهروب من الواقع ومسئولياته الثقيلة ، كلّا .. إنّ لكل جيل نهضته التي تأتي ضد وضع فاسد يختلف عن ذلك الوضع الذي نهض السابقون ضده.

وهكذا فسّرت هذه الآية في النصوص الدينية بالإمامة ، فجاء في حديث مأثور عن هشام عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «إنّما هي جارية في عقب الحسين (عليه السلام) كما قال الله عزّ وجل : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ثم هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب الى يوم القيامة» (١)

[٢٩ ـ ٣٠] وفي مقابل إبراهيم (ع) وذريته من بعده الكفّار الذين يتقلّبون في نعم الله مما دعاهم الى الكفر وهكذا انقسم أبناء إبراهيم فريقين : فريق منهم حمّله أمانة الرسالة ، وجعل فيه كلمة الإمامة ، لعلّ الآخرين يجعلونهم مرجعا لهم في شؤون دينهم ودنياهم ، أمّا الفريق الآخر (وهم الأغلب) فقد ابتلاهم الله بالنعم فأترفوا فيها.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ* وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ)

لما ناموا على حرير النعم ، واطمأنّوا إليها رفضوا أيّ فكرة جديدة ، وقالوا : هذا سحر ، ونحن كافرون به.

كانوا يحسبون أنّ هذه المتع التي متّعهم ربّهم بها دليل صلاحهم ، ولكن قد تكون المتع والنعم استدراجا منه سبحانه ، قال تعالى :

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٥٩٦

٤٦٢

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١) وقال عزّ وجل : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٢) .

وربما تعني الآية أنّ الله متّعهم حتى إذا جاءهم الحق ورسول مبين كذّبوا به اعتمادا على النعم ، حيث يعزو القرآن في آيات كثيرة التكذيب بالرسل الى الإتراف ، كما سبق في الآية (٢٣) حيث رأينا كيف قاد المترفون الناس الى التكذيب بالرسل ، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعرف الصلة بين هذه الآية والآيات التالية التي تتحدث عن المترفين.

ولكن هل النعم دليل صلاح أصحابها؟ كلّا .. بل قد يكون بلاء أو استدراجا ، جاء عن أمير المؤمنين (ع) :

١ ـ «يا ابن آدم إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره»

٢ ـ «كم من مستدرج بالإحسان إليه ، ومغرور بالستر عليه ، ومفتون بحسن القول فيه ، وما ابتلى الله أحدا بمثل الإملاء له» .

٣ ـ «أيّها الناس! ليراكم الله في النعمة وجلين كما يراكم في النقمة فرقين ، إنّه من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا ، ومن ضيّق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيّع مأمولا» (٣)

ولكن لماذا يتهم الكفّار الرسل بالسحر؟ لأنّ الرسالات التي يأتي بها الرسل كانت قريبة من قلوبهم وعقولهم وعواطفهم ، وكانوا ينجذبون إليها ، ولكنّهم لم

__________________

(١) آل عمران / ١٧٨.

(٢) الأعراف / ١٨٣.

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٣ ـ ص ٣٨٣.

٤٦٣

يريدوا الإيمان بها ، ففسّروها بالسحر ، لأنّه يجذب الفرد من حيث لا يدري ، ولكن جهلوا الفرق الكبير بين رسالة الحق والسحر الباطل ، فأثر السحر وقتي يزول بزوال المؤثّر ، وهذا ليس في الرسالة ، كما أنّ الرسالة تطلب منك موقفا وأنت في كامل وعيك ، وانطلاقا من عقلك ، بعكس ما هو عليه السحر فأنت مجبور على سلوك معيّن بتأثير السحر ، ولا يفلح الساحر بينما صاحب الرسالة منصور من عند الله ، ونتساءل : كيف قالوا بأنّ الرسالة سحر ، وقد كانوا يتوسّلون بالسحر في بعض الأحيان؟ يبدو أن السحر كان مبغوضا عندهم ، وإنّما يتوسّلون به أحيانا عند الحاجة.

[٣١] لماذا يكفر بالرسالات الإلهيّة المترفون؟ لأنّهم اتبعوا ما أترفوا فيه ، وضاعت عنهم الموازين الحق ، ومسخت شخصياتهم الإنسانية ، فلم يعودوا يملكون مقاييس سليمة لمعرفة الحقائق ، فقاسوا كلّ شيء بميزان الماديات ، وهكذا زعموا أنّ رسالة الله لا بد أن تنزل على كبار المترفين ، أو ليس قد خصّهم الله بنعمة الغنى حبّا لهم وإكراما لمقامهم ، إذا فهم أحقّ بنعمة الرسالة.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)

جاء في النصوص الدينية عن تفسير هذه الآية عن الإمام العسكري (ع) عن أبيه قال :

إنّ رسول الله (ص) كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة ، إذ قال له عبد الله بن أميّة المخزومي : لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من فيما بيننا مالا ، وأحسنه حالا ، فهلّا نزل هذا القرآن ، الذي تزعم أنّ الله أنزله عليك ، وابتعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم : إمّا الوليد بن المغيرة بمكة ، وإمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : أمّا قولك :

٤٦٤

(لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، الوليد بن المغيرة بمكّة ، أو عروة بالطائف ، فإنّ الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظم أنت ، ولا خطر له عنده كما له عندك ، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة ما سقى كافرا به مخالفا شربة ماء ، وليس قسمة رحمة الله إليك ، بل الله القاسم للرحمات ، والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه ، وليس هو عزّ وجلّ ممّن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله ، فعرفته بالنبوّة لذلك ، ولا ممّن يحبّ أحدا محبّة اللهو كما تحب ، فيقدّم من لا يستحقّ التقديم ، وإنّما معاملته بالعدل ، فلا يؤثر لا فضل مراتب الدين وجلاله إلّا الأفضل في طاعته والأجدّ في خدمته ، وكذا لا يؤخّر في مراتب الدين وجلاله إلّا أشدّهم تباطؤا عن طاعته.

وإذا كان هذا صفته لم ينظر الى مال ولا الى حال ، بل هذا المال والحال من تفضّله ، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب ـ اللازب الشديد اللزوم ـ فلا يقال له : إذا تفضّلت بالمال على عبد فلا بدّ أن تتفضّل عليه بالنبوّة أيضا ، لأنّه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ، وإلزامه تفضّلا ، لأنّه تفضّل قبله بنعمه.

ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحدا وقبّح صورته ، وكيف حسّن صورة واحد وأفقره ، وكيف شرّف واحدا وأفقره ، وكيف أغنى واحدا ووضعه ، ثم ليس لهذا الغنى أن يقول : هلّا أضيف الى يساري جمال فلان ، ولا للجميل أن يقول : هلّا أضيف الى جمالي مال فلان ، ولا للشريف أن يقول : هلّا أضيف الى شرفي مال فلان ، ولا للوضيع أن يقول : هلّا أضيف الى ضعتي شرف فلان ، ولكن الحكم لله ، يقسم كيف يشاء ، وهو حكيم في أفعاله ، محمود في أعماله.

وذلك قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فأحوجنا بعضهم الى بعض ، أحوج هذا الى مال ذلك ، وأحوج

٤٦٥

ذلك الى سلعة هذا والى خدمته.

فترى أجلّ الملوك ، وأغنى الأغنياء ، محتاجا الى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب ، إمّا سلعة معه ليست معه ، وإمّا خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به ، وإمّا باب من العلوم والحكم هو فقير الى أن يستفيدها من هذا الفقير ، فهذا الفقير يحتاج الى مال ذلك الملك الغني ، وذلك الملك يحتاج الى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته ، ثم ليس للملك أن يقول : هلّا اجتمع الى مالي علم هذا الفقير ، ولا الفقير أن يقول : هلّا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني ، ثم قال (ص) : «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» ثم قال : يا محمد! قل لهم : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ما يجمعه هؤلاء (١)

ونستخلص من هذا النص : أنّ الجاهلية تعطي القيمة للمادة لا للمبادئ ، وقد أشار القرآن الى هذه النظرة الشاذّة عند ذكر قصة طالوت حينما اختاره ملكا لبني إسرائيل فقالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) (٢) وعند ما حكى قصة صاحب الجنة وصاحبه ، قال : (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣)

إذ زعم هذا أنّ أمواله دليل على حبّ الله له ، ولهذا فهو لا يظنّ أنّ الساعة قائمة ، لأنّ الدنيا أنسته الاخرة ، ولكن إن قامت الساعة فسيجد خيرا منها منقلبا.

__________________

(١) الإحتجاج / ج ١ / ص ٣٢.

(٢) البقرة / ٢٤٧.

(٣) الكهف / ٣٢ ـ ٣٦.

٤٦٦

هكذا تمسّك بالمقاييس المادية في تقييم الآخرة.

وهكذا زعم كفّار قريش أنّ ثروة أحد الرجلين في مكّة أو الطائف ترشّح أحدهما للرسالة.

[٣٢] وقد جاءت رسالات الله لتنقذ البشر من ويلات المادة وأصحابها ، جاءت لتكون بصائرها منارا للفقراء في كفاحهم ضد استغلال الأغنياء ، وللمستضعفين ضد إرهاب المستكبرين ، جاءت لتبصير الجاهلين بزيف قيم المادة التي يدعوا إليها أدعياء العلم والدين من أصحاب الطغاة والمترفين من أجل تكريس طغيانهم وفسادهم ، وتضليل المحرومين حتى لا يطالبوا بحقوقهم.

وهكذا ردّ القرآن تلك المقولة الجاهليّة ببيان بصيرتين :

الأولى : كما أنّ الله تفضّل على الأغنياء بالمال فلا يسأل عن ذلك ، كذلك يتفضّل على البعض بالرسالة ، ولا يجوز أن يعترض عليه في ذلك.

الثانية : أنّ المال ليس أساسا سليما للتقييم ، بل رحمة الله المتمثّلة في الرسالة هي الأفضل ، وهي ـ وليس المال ـ دليل حبّ الله لعبده ، وتخصيصه بفضله.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)

إنّ النبوة رحمة الله فهل فوّض إليهم أمر تقسيمها بين عباده؟ كلّا .. فالله قسم المعيشة بينهم ، فقد أعطى لكلّ شخص معيشته ، حسب حكمته ، ولا يحقّ لأحد الاعتراض عليه ، وبالذات المترفون تراهم لا يعترضون على الله في تقدير المعيشة لهم ، فكيف يعترضون فيما هو أهمّ من المعيشة وهو رحمة الله المتمثّلة في النبوّة.

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

٤٦٧

إنّ الله لم يعط الكمالات لجميع الناس ، بل أعطى المال والولد ، وجعل بعضهم شريفا ، وأعطى لمن يشاء الملك ، ومنع عنه سائر النعم ، فمثلا سليمان (ع) الذي سخّر الله له الجنّ والطير والريح لم يرزق ولدا على شدّة حبّه له.

ونستوحي من قوله سبحانه : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) أنّ تقسيم المواهب والنعم كان بحيث تصلح حياتهم (وعيشهم) ، فأعطى ربّنا كلّ واحد من الناس موهبة يحتاج الآخرون إليه فيها.

إذا عند ما أعطى ربّنا الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي المال والغنى ، فليس لأنّهما أقرب الناس إليه أو أنّه يحبّهما ويكره غيرهما ، وإنّما لأنّ الحياة قامت على أساس الحاجة المتبادلة بين الناس ، ولا يستغني أحد عن أحد ، ولذلك عند ما سمع الإمام زين العابدين (ع) رجلا يدعو قائلا : «اللهمّ اغنني عن خلقك» نهره وقال له (ع) : «ليس هكذا : إنّما الناس بالناس ، ولكن قل : اللهم اغنني عن شرار خلقك» (١)

وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال : «اللهم لا تجعل بي حاجة الى أحد من شرار خلقك ، وما جعلته بي من حاجة فاجعلها الى أحسنهم وجها ، وأسخاهم بها نفسا ، وأطلقهم بها لسانا ، وأقلّهم عليّ بها منّا» (٢)

والحكمة من هذه الحاجة المتبادلة انتفاع بعضهم من بعض ، وهذا تفسير قوله تعالى :

(وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا)

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧٨ ص ١٣٥.

(٢) المصدر / ص ٥٦

٤٦٨

والسخرة هو الاستخدام ، فقد خصّ كلّ أناس بموهبة لتتكامل الحياة ، إذ لو جعل الله كلّ الناس مكتفين في كلّ شيء لكانوا يطغون ويتكبّرون ، لأنّ بعض الناس وهم محتاجون بشدّة إلى الآخرين تراهم يقولون : «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى»! فكيف إذا أحسّوا بالاستغناء وتحرّزوا من قيود الاحتياج الى الآخرين؟!! بل لو لم يتفاضل الناس بالمواهب لما بنيت حضارة ، ولا تنامى مجتمع أو تجمع ، ولعاش الناس كما سائر الأحياء في صراع أبدي.

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

لقد زعموا أنّ الرسالة لا بدّ أن تهبط على الأغنياء ، فردّهم الله بأنّه هو الذي يقسم بينهم معايشهم ، وأنّه خصّ كلّ فرد بموهبة ، وأضاف : إنّ قيمة الرسالة أعظم من قيمة المال ، فلو كان ينبغي اجتماع الخير عند آخر فلا بدّ أن تجتمع عند صاحب الرسالة ، لأنّها أعظم قيمة عند الله.

[٣٣] ولكي يقتلع جذور هذا التقييم الخاطئ من قلوب البشر ، مضى السياق في بيان خساسة الدنيا وعدم احترامها عند الله ، لأنّها زائلة ، فإذا قيست بالآخرة لم تكن سوى متاع يسير.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً)

أي على دين واحد هو الكفر بالله.

(لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ)

أي لو لا الخوف من تحوّل المؤمنين كافرين لأعطى الله الكفار كلّ ما يريدون ، ولجعل سقوف بيوتهم من فضّة ، ولجعل بيوتهم طبقات عديدة يرتقون إليها عبر سلالم ودرجات.

٤٦٩

(وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ)

[٣٤] (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً)

ربما سبب ذكر الأبواب لبيوت من يكفر بالرحمن هو أن تكون بيوتهم مركزا اجتماعيّا ، أو يكون تعدّد الأبواب دليل سعة البيوت ، أو المراد أن تكون تلك الأبواب كما السرر من فضة.

(وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ)

[٣٥] (وَزُخْرُفاً)

قال العلامة الطبرسي : الزخرف كمال حسن الشيء ، ومنه قيل للذهب زخرف ، ويقال : زخرفه زخرفة إذا حسّنه وزيّنه ، ومنه قيل للنقوش والتصاوير زخرف. (١)

وعلى هذا يكون المعنى أعطاهم ما يكمل حسنهم وحسن بيوتهم من الذهب والفضة والفرش والأثاث ، وما إلى ذلك.

ولكنّ الله منع بحكمته هذه النعم عنهم لكي لا يبتلى المؤمنون بلاء عظيما ، فلو فعل ذلك لم يتحمّل أحد منهم إغراء النعم المتوافرة عند الكفّار فكانوا يكفرون بالله جميعا.

جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) :

«لو فعل الله ذلك لما آمن أحد ، ولكنّه جعل في المؤمنين أغنياء ، وفي

__________________

(١) مجمع البيان ـ ج ٩ / ص ٣٦

٤٧٠

الكافرين فقراء ، وجعل في الكافرين أغنياء ، وفي المؤمنين فقراء ، ثم امتحنهم بالأمر والنهي ، والصبر والرضا» (١)

هب أنّ الله أعطى كلّ ذلك للكفار ، فهل يعني ذلك أنّ لهم عند ربّهم كرامة بذلك ، وللمؤمنين عليه هوانا؟ كلّا .. إنّ كلّ ذلك ليس ـ بعد كلّ ذلك ـ سوى متاع ، لا يستفيد منه صاحبه إلّا قليلا ، وهي في الحياة الدنيا التي تأطّر كلّ شيء فيها بالدونيّة والضعة ، بينما هيّأ ربّنا الآخرة حيث القرار الأبدي للمتقين فدعاهم الى دار ضيافته ، ومقام كرامته ، ومنازل قربه ورضوانه.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا)

المتاع : ما يتمتّع به الإنسان مؤقتّا.

(وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)

فالقيمة الحقيقية ليست للمادة الزائلة ، بل القيمة الأساسية للعمل الصالح الذي يدّخره المؤمنون للآخرة.

وبكلمة : الدنيا زائلة ، وما فيها من نعم ليست سوى متاع لا قيمة له عند الله ، ولو لا أنّ إغراء هذه النعم كان يسبّب في ميل الناس جميعا الى الكفر لكان ربّنا قد أكملها للكفّار ، لدناءتها وزوالها ، ولكنّ الله اللطيف بعباده أبى أن يجمع الخيرات عند الكفّار ليعطي فرصة الإيمان للآخرين.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ـ ج ٤ / ص ٥٩٩.

٤٧١

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)

___________________

٣٨ [المشرقين] : أي المشرق والمغرب ، وغلب المشرق لقاعدة الأشرف أو الأقرب إلى القصد.

٤٧٢

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ

نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً

هدى من الآيات :

ذكر الله نور ساطع يعشو عنه البعض (لأنّهم لا يريدون تحمّل مسئولياته) فيقيض لهم الله شيطانا يقودهم الى النار ، وذلك بأن يصدّهم عن سبيل الحق ، ويزيّن لهم الباطل فيحسبون أنّهم على هدى.

بهذا يكمل السياق ما بدأه بالآيات المتقدّمة من تهوين شأن الدنيا ، وتسفيه من يتخذ متاعها مقياسا للحق ، ذلك أنّ علاج الميل الى الدنيا معرفة حقيقتها ، ولكن كيف يتمّ ذلك؟

إنّما بذكر الله فهو نور ، وحين يعرض عنه البعض يبتلون بالشياطين من الجن ، وبقرناء السوء من أبالسة الإنس الذين يزيّنون للمحرومين أعمال السلاطين والمترفين من أدعياء العلم والدين.

وعند لقاء الله في ذلك اليوم الرهيب يكتشف المرء مدى خسارته ، فيقول لقرين

٤٧٣

السوء الذي أضلّه : يا ليت كنّا متباعدين في الدنيا كما تباعد المشرق عن المغرب ، ولكن هيهات لا ينفع يومئذ التبرّي من قرينه الذي يلازمه الى الأبد.

وحين يضلّ الله أحدا لا تنفعه دعوة الرسول أو عظة الناصحين. أو يسمع الأصمّ ، أو يهتدي الأعمى ، ومن هو في ضلال بعيد؟! (بهذا يشير الذكر الى مسئولية الإنسان عن هداه أو ضلالته) .

أمّا الرسول فما عليه إلّا البلاغ فإذا عذّب الله أولئك الضلّال بعد أن يذهب به أو في حياته فإنّ الأمر بيد الله يعذّبهم آجلا أو عاجلا.

إنّما عليه (وعلينا نحن التابعين له) أن يستمسك بالوحي (ولا تزلزله دعايات المترفين) فهو على صراط مستقيم.

إنّ القرآن هو ذلك الذكر الذي يعالج أمراض القلب ، والتي يجمعها حبّ الدنيا ، وهو للرسول أوّلا ، ولقومه الأقرب فالأقرب ، وسوف يسألون جميعا عنه.

(وهو الشرف الذي يسمو على شرف المال والجاه عند قريش ، لأنّه يدخل المؤمن حصن التوحيد ، ويفكّ عنه أغلال الشرك) .

والتوحيد هو رسالة الأنبياء (وهو يتنافى والخضوع لأصحاب القوّة والثروة) .

بينات من الآيات :

[٣٦] كيف نواجه إغراء المادّة ، ونتجاوز الافتتان بما لدى الكفّار من مظاهر القوّة ، وزخرف الحياة؟ إنّ الإنسان من تراب وكلّ شيء يحنّ الى أصله ، فحبّ الدنيا عميق في كيان الإنسان وهو رأس كلّ خطيئة ، فكيف الخلاص منه؟

٤٧٤

علما بأنّه من دون التطهّر من حبّ الدنيا لا يخلص توحيد الإنسان ، بل يظل يخلط عملا صالحا وآخر سيّئا ، بل يشوب نيّته نزغات شيطانية حتى في الصالحات من أعماله ، لا يخلص ـ مثلا ـ لقيادة الحق إلّا عند ما توفّر له متاع الحياة الدنيا ، فإذا محّص بالبلاء أنهار في وادي الشرك.

الإجابة تتلخّص في كلمة ذكر الله ، فيه تفيض النفس سكينة ، والقلب اطمئنانا. إنّه النور الذي يهزم ظلام الجهل والوسوسة والغفلة عن الفؤاد ..

فعند ما تعصف وساوس الشيطان بالنفس ، وتتلاحق عليه نزغاته وهمزاته ، لا يجد الإنسان مفرّا إلّا الى الله. أو لم يقل ربّنا : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢) .

ولكن البعض يعشو عن ذكر الله ، يتغافل عنه ويتجاهله ، لا يستعيذ بالله ، يستسلم لنزغات الشيطان ، ولا يتذكّر أنّه عدو مبين ، وهنالك يتمكّن منه الشيطان ، ويعيّن له الله قرين سوء من الشياطين يقوم بأمرين :

الأوّل : يمنعه من عمل الخير ، ولا يدعه يسلك سبيل الرشاد ، فيسلب بذلك توفيق الهداية عنه.

الثاني : يزيّن له سوء عمله فيراه حسنا فلا يفلح أبدا.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ)

قالوا أصل العشو النظر ببصر ضعيف ، يقال عشى إذا ضعف بصره ، وأظلمت

__________________

(١) الأعراف / (٢٠٠) .

(٢) الأعراف / (٢٠١) .

٤٧٥

عينه.

(نُقَيِّضْ)

نعيّن أو نتيح.

(لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)

يلازمه ولا يدعه لوحده ليله ونهاره.

ولعل استخدام اسم «الرحمن» هنا لبيان مدى عمى الرجل الذي يعشو عن النظر الى آثار من وسعت رحمته كلّ شيء. أفلا التجأ إليه من عادية إبليس ، وفرّ الى كهف رحمته من عدوّه المبين؟!

[٣٧] (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)

بالضبط نقيض ما تفعله الملائكة بقلب المؤمن حيث تثبّته على الطريق ، وتزيل عن طريقه العقبات حتى يتوفّق لعمل الخير ، بينما قرين السوء يسوّف صاحبه التوبة ، ويعرقل مسيرته الى الله ، ويلقي عليه الكسل كلّما قام الى الصلاة أو دعي الى فعل الخير. إنّه يملأ قلبه وعودا كاذبة وأماني ووساوس.

بل قد يفتح الشيطان أمام صاحبه بابا مستقبليّا من الخير حتى يمنعه عن الخير العاجل ، ثم يمنعه عن ذلك الخير أيضا.

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)

هكذا يزيّن الشيطان لقرينه الضلال حتى يحسبه هدى. وما دام الإنسان يشك في طريقته يرجى له النجاة ، ولكن حينما يزيّن الشيطان له عمله فلا يجد في نفسه

٤٧٦

داعيا الى التفكّر في صحّة نهجه وسلامة خطّه ، لا ينجو أبدا.

ونستوحي من الآية بصيرتين :

الأولى : إنّ الخطوة الأولى في سبيل الضلال كما في طريق الهدى يخطوها الإنسان بكامل حريّته ، فإذا عشى عن ذكر الرحمن أضلّه الله بقرين السوء ، وإذا تذكّر بصّره وأعاذه من شر الشيطان.

إذا فمسئولية الإنسان الكبرى هي اختيار الهداية بالاستعاذة بالله ، بالإقلاع عن حالة التكبّر الدونيّة الى سماء العبوديّة لله.

الثانية : لا يلغي مسئولية الإنسان عن عقائده وأفعاله أنّه يحسب أنّها صحيحة ما دام هذا الحسبان آت من تزيين الشيطان. إنّه كمن يلقي بنفسه من شاهق يتحمّل مسئولية عمله حتى ولو فقد الإختيار أثناء دحرجته بين الصخور. لماذا؟ لأنّه هو الذي سلب نفسه القدرة حين رمى بنفسه من عل .. كذلك الذي يرفض الالتجاء الى الله فيقيّض الله له شيطانا يضلّه. إنّه لا يزال مسئولا عن ضلالته لأنّ بدايتها منه.

وهكذا مجرّد الإعتقاد بشيء لا يبرّر المضيّ فيه ما لم يعتمد على منهج سليم ، وإلّا فكثير من المجرمين يعتبرون أفعالهم صالحة.

[٣٨] إذا أردت أن تعرف حقيقة شيء في الدنيا فانظر كيف يتجسّد في الآخرة ، إذ أنّ تلك الدار هي المقياس. إنّها الحصاد الأكبر بينما الدنيا مزرعة وهل يعرف الزرع إلا بالحصاد.

وإنّما يصوّر لنا كتاب ربّنا مشاهد الآخرة ، ويبثّ في كلّ موضوعة صورا

٤٧٧

مناسبة لها من واقع الآخرة ، بهدف جعلها مقياسا ، ولعلّنا نقترب أكثر فأكثر الى حقائق الخلق ، ولا ننظر الى ظاهر من الحياة الدنيا.

وهنا في سورة الزخرف حيث تبيّن آياتها المحور السليم للحياة وهو التوحيد ، لا المال ولا الصداقة القائمة على أساسه ، يبيّن لنا القرآن مشهدا من مشاهد الصراع القائم هنالك بين أصدقاء السوء هنا ، فيقول :

(حَتَّى إِذا جاءَنا)

وحضر عند ربّه هذا الذي عشى عن ذكر الله.

(قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)

يتمنّى يومئذ أن يكون بينهما ما بين المشرق والمغرب لما يجد من سيئات الاقتران به.

[٣٩] كلّا .. لا ينفع التبرّي من البعض ، ولا ينفع التبرير ، لأنّ الظلم قد وقع فعلا بكامل اختيارهم ، والنار تسع الجميع.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ)

أي لا يجديكم نفعا أنّكم تمنّون التباعد عن بعضكم ، إذ أنّه جاء متأخّرا بعد أن ظلمتم أنفسكم.

(إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ)

قالوا : لا ينفعكم اشتراككم في العذاب شيئا إذ لا تتقاسمون العذاب بل لكلّ الحظ الأوفر.

٤٧٨

وقالوا : لا يتسلّى أحد بعذاب غيره فليست هنالك البلية إذا عمّت طابت ، لأنّ العذاب هنالك لا يطيب لأحد أبدا ، لأنّه شديد ودائم.

ولأنّ قرناء السوء في خصام دائم مع بعضهم فلا يسلّى أحد أبدا.

[٤٠] وحين يضلّ قرين السوء صاحبه يكون مثله مثل الأصم والأعمى.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ)

كلّا .. لأنّ جهاز الاستقبال معطّل عنده فكيف يستمع ، وقد قال الشاعر :

لقد أسمعت إن ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

(أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

كلّا .. لأنّ من انحرف عن الطريق قليلا ترجى أوبته إليه ، ولكنّ الذي شطّ بعيدا حتى أحاطت به الضلالة كيف يمكن هدايته.

هكذا ينبغي اليأس عمن استبدّ بقلبه حبّ الدنيا فأخذ يقيس كلّ شيء بالمال والجاه ، والقوّة الظاهرية. إنّه في ضلال مبين ، ولا يعجبك ما عنده فتفكّر في كسبه بأيّة وسيلة فتقدّم له التنازلات من دينك ومواقفك ، كلّا .. ما عند الله خير وأبقى.

[٤١] إنّ عاقبة هؤلاء العذاب في الدنيا وقبل العذاب الأكبر عند ربّهم ، وسواء تمّ ذلك بعد وفاتك أو في حياتك فإنّهم معذّبون ، فلا تغررك أموالهم وأولادهم ، ولا يحزنك مكرهم ودعاياتهم ، ولا تستعجل عليهم فإنّ العذاب الذي ينتظرهم شديد.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ)

٤٧٩

إنّ وجود الرسول والمؤمنين بين الكفّار قد يؤخّر عنهم العذاب الى أجل محدود ، قال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١) .

[٤٢] وقد يعذّب الله الكفّار في عهد الرسول وبمشهد منه أو من الدعاة من أتباعه ، لكي يريهم قوّته ويقرّ أعينهم بنصره.

(أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)

فلا تنفعهم ثروتهم أو قوّتهم شيئا.

[٤٣] ولأنّ عاقبة الكفّار الدمار فلا بدّ من مواجهة إغرائهم وإرهابهم ، ولا يمكن ذلك إلّا بالتمسّك الشديد بالرسالة.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)

لينظر المؤمن الى الظواهر السياسية والاجتماعية من خلال بصائر الوحي ، لكي لا يتأثّر بها سلبيّا ، وليطبّق مناهج الرسالة بدقّة حتى يمكّنه الله في الأرض ، لأنّ كلّ بند من بنود الشريعة قوّة واقتدار ، وليكن واثقا من سلامة خطه فإنّ الثقة بالنصر طريق إليه.

(إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

[٤٤] وليس الشرف في أموالهم ومناصبهم ، وإنّما هو في الوحي الذي يعبق ذكر المتمسكين به في كلّ أفق.

__________________

(١) الأنفال / (٣٣) .

٤٨٠