من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

حينا ، فسبحان الذي قدّر الليل والنهار وما أعجب حال الذي يستريح في كنف الليل ويتقلّب في كفّ النهار ثم يتكبّر على ربه؟!

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)

إنّهم لا يتذكّرون عظيم نعم الله عليهم ليل نهار ، وأنّه لا حقّ لهم فيها ، إنّما هي فضل من الله عليهم ومنّة ، وحق عليهم أن يشكروا ربّهم الذي منّ عليهم بهذا الفضل ، وأوفى الشكر أن يعرفوا بأنّه هو المنعم ، فتخشع قلوبهم لذكره ، ثم تسعى جوارحهم الى أوطان تعبّده.

[٦٢] أنظر الى ما حولك من الكائنات. أو لا ترى في كلّ شيء آثار قدرة الله ، ولطيف صنعه ، وواسع علمه وخبره ، وبالغ حكمته ، وحسن تدبيره؟ بلى. كلّ شيء يسبّح بحمد ربّنا العظيم ، وكلّ شيء ينطق بأفصح لغة بأنّ الله خالقه ومدبّر أمره ، فهل خلقت الأشياء بذاتها أم وجدت صدفة وبلا علّة ولا حكمة ولا تدبير؟!

أيّ عقل يتقبّل ذلك أم أيّ وجدان؟!

ثم أين ينحرف البشر عن خالق كلّ شيء؟! أإله من دونه يتجهون إليه ، أم يتيممون صوب الضلال البعيد؟!

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

أو يستقيم أن نقول : إنّ الله خالق كلّ شيء ، ولكنّ من يهيمن على الأشياء هو غيره؟!

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

١٢١

والإفك هو الانحراف ، وإنّما سمّيت الرياح الهوج بالمؤتفكات لانحرافها ، وانما جاءتها الكلمة بصيغة المجهول للدلالة على أنّ العوامل الخفيّة التي تصرف البشر عن صراط الله تجري بخلاف مصالحه حتى لكأنها تجبره على ذلك جبرا.

وانّه لو اعتصم الإنسان بالله لما قدرت تلك العوامل على إضلاله عن سبيل ربّه وربّ الكائنات.

[٦٣] وإنّما تهيمن عوامل الإفك على البشر ، لأنّه لم يسلم لآيات الله بالرغم من وحي الفطرة ودلالة العقل.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)

فليس من سبيل هدى إلّا في آيات الله ، فإذا جحدها الإنسان فإنّه ينحرف بفعل العوامل المضلّة.

ولا ريب أنّ من آيات الله كتاب الله ورسوله ، فمن لم يسلم لهما لم يعتصم بحبل الله ، ومن لم يعتصم بالله تقاذفته أمواج الفتن يمنة ويسارا ، وحرّفته عوامل الضلالة الى التّيه البعيد.

إنّ سبيل الله واحد ، وهو الكتاب والإمام ، فمن جحدهما ألزمه الله التّيه الى يوم القيامة.

وإنّ سبيل الله شرعة العقل المنوّر بالوحي ، فمن اتبع أهواءه ، وظنّ أنّ لله طرقا بعدد أنفاس الخلائق ، فقد افترى على الله بهتانا عظيما. أرأيت معالم الطريق وإشارات المرور لو لم تأبه بها في سيرك ، أين ينتهي بك المطاف؟ كذلك الذي لا يهتدي بمعالم الحقّ التي وضعها الله لعباده ، ولم يتبع رسالاته ورسله وأولياءه الذين

١٢٢

يدعون الى رسالاته ويجسّدون هدى رسله.

وكلمة أخيرة : تبيّن لنا خواتيم الآيات في هذا السياق درجات المعرفة وهي العلم والتذكّر والإيمان والتسليم والشكر ، كما تبيّن ما يخالفها من الإفك والجحود ، وهي في ذات الوقت الذي تعالج حالة الكبر ، تبيّن الموقف السليم من آيات الله ، وهو موقف الانفتاح والتسليم ، وتحذّر بشدة من الجحود بها الذي ينتهي الى الانحراف ، وهذا التحذير نجده بصفة مكرّرة في هذه السورة.

[٦٤] لا ينبغي لمن يتقلّب في نعم الله أن يتكبّر على ربّه أو يجحد بآياته ، فالله هو الذي جعل الأرض للإنسان قرارا ، فلو كانت جاذبية الأرض أقلّ أو أكثر إذا لصعبت الحركة فيها أو استحالت ، ولو كانت قشرة الأرض أسمك ممّا هي بمقدار بضعة أقدام لامتصّ ثاني أو كسيد الكربون الأوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة النبات ، ولو كان الهواء أرفع كثيرا ممّا هو فإنّ بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الغلاف الجوي كانت تدمّر الأرض ولو كانت مادّة الأوكسجين بنسبة ٥٠ خ أو أكثر في الهواء بدلا من ٢١ خ فإنّ جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم كانت عرضة للاشتعال ، لدرجة أنّ أوّل شرارة من البرق تصيب شجرة كانت تلهب الغابة نارا ، ولو أنّ نسبة الأوكسجين كانت أقل من ١٠ خ فإنّ مدنيّة الإنسان كانت غير موجودة (١)

هذه الأرض التي كيّفها الله حسب حاجات الإنسان ، أو إن شئت قلت خلق الإنسان بحيث يعيش عليها بتناسق دقيق ، إنّها قرار الإنسان.

أمّا البناء الذي يرتفع فوقه فهو السماء التي جعلها الله سقفا محفوظا ونحن عن آياتها معرضون ، فلا علم لنا حتى اليوم بجميع أسرارها ، بله المساهمة في صنعها

__________________

(١) بتصرّف عن كتاب العلم يدعو للإيمان ، ترجمة محمود صالح الفلكي ، في ظلال القرآن ص ٣٠٩٣.

١٢٣

إنّما هو فضل من الله ومنّة.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً)

ثم خلق الإنسان في أحسن صورة وأفضل خلق ، فما من شيء مخلوق من جماد أو نبات أو حيوان إلّا وفضل الله الإنسان عليه تفضيلا في قوّة بدنه وصلابة أعضائه وقدرة احتماله للصعاب ، وزّوده بالعقل والعلم وسائر الطاقات التي يسخّر بها الطبيعة.

لقد زوّد الإنسان بالحياء ليكون وسيلة تعايشه مع نظرائه والتصاقه بقيمه. أو ليس يقري الضيف بالحياء ، ويفي بالوعود بالحياء ، ويقضي الحوائج ، ويتحرّى الفضائل ، وينشد الكمال ، ويتنكّب الرذائل والقبائح بفضيلة الحياء التي خصّ بها دون سائر الخليقة؟ (١)

وزوّد بالنطق ليكون وسيلة التفاهم ، ونقل التجارب ، وتواصل المعارف ، وتنامي العلوم المختلفة.

فإنّه لو لم يكن له لسان مهيّأ للكلام ، وذهن يهتدي به للأمور ، لم يكن ليتكلم أبدا ، ولو لم يكن له كف مهيّأة ، وأصابع للكتابة ، لم يكن يكتب أبدا ، واعتبر بذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة. (٢)

وزوّد بالعلم عبر العقل والوحي ، وسخّرت به الطبيعة له حتى أصبح سيّدا مطاعا بين موجودات الأرض ، هذا إلى جانب جمال الصورة ، وحسن الوجه ، وتناغم الأعضاء.

__________________

(١) اكتسبنا الأفكار من كلمات الإمام الصادق (ع) في توحيد المفضّل ، من موسوعة البحار / ج ٣ ص ٨١.

(٢) المصدر / ص ٨٢.

١٢٤

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

إنّ نظرة الى الإنسان وإمكاناته وطبائعه وحاجاته ، ثمّ الى السماء والأرض وآياتهما وعطائهما ، والأنظمة الجارية فيهما ، تهدينا الى وحدة الخالق.

وإنّه هو ربّنا ، وهو ربّ العالمين ، للتطابق الدقيق والتناغم التامّ بين تصميم الكائنات وتصوير الإنسان الذي خلقت له.

ولا تسعنا عند ما ننعم النظر إلّا أن نسبّح بحمد الله ، ونتذكّر أنّ خيره عظيم وثابت ، وأنّه قد تضاعفت بركته ، وتكامل خلقه ، وحسن تدبيره.

[٦٥] ولكن حاجة الكائنات الى بعضها ، وحاجة الإنسان إليها ، دليل عجز الخلائق ومحدوديتها ، وبالتالي إنّه يكشف وجود نسبة من الموت ومن العدم فيها. فهذا الإنسان حيّ بعشرات الملايين من السنن التي تحيط به وقائم بها ومن دونها فهو ميّت ، دعنا نأخذ الطعام مثلا. أو يعيش البشر من دونه؟ وكذلك الهواء لو انعدم انعدمت حياته. أفلا يدلّنا على أنّه ميّت لولا الطعام والهواء؟ من ذلك نهتدي الى حاجة كلّ الطبيعة الى حيّ يزوّدها بحاجاتها ، ويدبّر أمورها ، وهو الله الحي.

ولكن يتّجه البعض الى المخلوقين في قضاء حوائجهم. أفلا يرون أنّهم بدورهم محتاجون؟

(هُوَ الْحَيُ)

حياته بذاته ، وحياة غيره به ، حياته سبقت الموت ، ووجوده سبق العدم.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

١٢٥

فلا حياة إلّا به ، وإذا لا سلطان إلّا سلطانه ، فمن طلب حاجة أو أراد عزّا فليجأر إليه خالصا له الدّين.

(فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)

وسلّموا له ، واحمدوه حتى يستجيب لكم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

فقد جاء في الحديث المروي عن الإمام عليّ بن الحسين (ع) : إذا قال أحدكم «لا إله إلّا الله» فليقل «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (١)

بلى. إذا عرفنا ربّنا بأسمائه الحسنى ، وأخلصنا له النيّات ، فإنّه يستجيب الدعاء بفضله ، جاء في حديث قال قوم للإمام الصادق (ع) : ندعوه فلا يستجاب لنا؟ قال : «لأنّكم تدعون من لا تعرفونه» (٢)

[٦٦] لقد تدرّج السياق معنا في مراتب الكمال خطوة فخطوة ، فعالج الكبر الذي يحجب صاحبه من الاهتداء بالآيات ، ويبعثه نحو الجدل فيها ، وبسط القول في آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا ، ثمّ أمرنا بالتسليم لله ربّ العالمين.

وها هو الآن يأمرنا بمواجهة الأنداد ، ذلك أنّ الإيمان الحقّ يتبيّن عند ما يحنف صاحبه عن البيئة الفاسدة ، ويتطهّر من دنس الشرك والخضوع لغير الله ، ويكون خالصا دينه لله .. ولن يكون ذلك مع مداهنة المشركين ، بل يجب تحديهم.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٥٣٤.

(٢) المصدر / ص ٥٣٥.

١٢٦

ورفضي للالهة المزيفة نابع من إيماني الخالص بالله والذي هداني إليه الله بالأدلّة البيّنة.

(لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)

وإنّنا نجد تأكيدا مجددّا على أنّ الله هو ربّ العالمين لتصفية ما تبقّى من آثار الكبر في النفس ، وهل يفكر عاقل بمنازعة ربّ هذه السموات الواسعة والأرضين التي نشاهد عن قرب عجزنا عن مواجهة بعض قواها؟!

[٦٧] ويستعرض السياق تدرّج الإنسان في مراحل الخلق طورا بعد طور ، وكيف أنّه يتقلّب في كفّ السنن الربّانية من لدن كان ترابا الى أن خلقه الله من نطفة ثم متقادما من ضعف الى ضعف حتى أضحى بشرا سويّا ، ثم ينكّسه الله في الخلق بعدئذ حتى يبلغ أرذل العمر ، فهل يجوز لمثل هذا الإنسان أن يستكبر أو يتكبّر؟!

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ)

عند ما خلقنا الله جميعا في صورة ذرّ من تراب الأرض مع أبينا الأكبر آدم أبي البشر.

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)

أمشاج بين الذكر والأنثى. ولو قدّر لنا أن نرى النطفة هذه لاحتقرناها ، واستصغرنا قدرها ، ولكنّها ـ بالتالي ـ طور من أطوار خلقنا.

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)

حينما تجتمع الخلايا الى بعضها وتتنامى حتى تبدو في صورة قطعة دم عالقة

١٢٧

بالرحم.

(ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)

ناشئا بحاجة الى حنين الأمّ وحماية الأبّ ، والمحافظة من عشرات الأخطار التي تحيط به لضعف بنيته وصغر حجمه.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ)

والله وحده يعلم كم هي السنن التي تساهم في بلوغ ذلك الوليد الصغير مرحلة الشباب والفتوة!

(ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً)

وتمرّ بكم ألوف الأخطار التي ينقذكم الله منها حتى يضحى الإنسان شيخا ، ولكنّ البعض يختطفهم ملك الموت قبلئذ ليكونوا عبرة لمن نعي.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى)

فلا يموت الشخص حتى يستوفي أجله في الدنيا. وكم من مريض دفن أو معارض للسلطات القويّة أو محارب في ميادين القتال ، يتطاول به العمر متجاوزا مئات العقبات ، بينما يموت الشاب الصحيح الذي يحيط نفسه بكلّ الموانع ، ليكونا معا دليلا على أنّ الأجل نعم الحارس.

(وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

وتعلمون أنّ مراد ربكم من تطوّرات الحياة أن تتعرّفوا عليه ، وأن تسلموا له ، وألّا تشركوا به شيئا.

١٢٨

هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)

١٢٩

كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ

هدى من الآيات :

في إطار معالجة داء الكبر الذي يحجب الحقائق عن الإنسان ، ويبعثه نحو المجادلة في آيات الله ، يذكّرنا الله بأنّ الحياة والممات بيده ، وأنّ قدرته لا تحدّ ، وأنّ عاقبة الكبر في الآخرة هي السوئى ، إذ الأغلال في أعناقهم ، والسلاسل تحيط بهم ، ويسحبون الى مأواهم الأخير عبر مياه حامية ، ويقذف بهم في النيران كما يقذف بالوقود في التنّور.

وخلال التعذيب الشديد يبكتون ليتمّ تعذيبهم نفسيا ، ويقال لهم : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (وتظنون أنّهم ينقذونكم من نار جهنّم لو ارتكبتم السيئات)؟!

قالوا : ضلّوا عنّا (فلا نرى لهم أثرا) ثم قالوا : إنّهم في الواقع لم يكونوا سوى أوهام وتخيّلات ، فيقال لهم : إذا ذوقوا عذاب الله جزاء فرحكم (النفسي) ومرحكم

١٣٠

(العملي) فيدخلونهم (بعد أن يتمّ تعذيبهم في القيامة) أبواب جهنم التي هي المثوى البئيس للمتكبّرين.

والملاحظ أنّ السياق الذي يذكّرنا منذ الآية (٣٥) عن الجدال في آيات الله بيّن أوّلا جزاء المجادلين في آيات الله جزاءهم في الدنيا بالختم على قلوبهم ، ثم بيّن أنّ دافعهم الكبر فعالجه (٦٥) وها هو يبيّن جزاءهم الأخروي (١)

بينات من الآيات :

[٦٨] كلّما قضيت على نسبة الكبر في قلبك كلّما اقتربت من حقيقة نفسك وحقائق الكائنات من حولك ، واقتربت من معرفة ربّك وأسمائه الحسنى التي تتجلّى في الخلائق ، فهذه الحركة النشيطة من الموت الى الحياة ومن الحياة الى الموت التي تقرّبنا الى كشف جوانب من ذلك اللغز الكبير في الموجودات الذي نسمّيه بالحياة ، هي أعظم مدرسة لمن طلب الحقيقة.

إنّنا أقرب شيء الى الحياة ، فكلّنا والحمد لله أحياء نعيش الحياة بكلّ جوارحنا وجوانحنا وأحاسيسنا ومعارفنا ، ولكن ـ في ذات الوقت ـ أبعد شيء عنها. ما هي الحياة حقّا؟ لعلّ هناك فروقا نتعرف عليها بين الحيّ والميت ، ولكن حقيقة الحياة هل عرفنا عنها شيئا؟ كلّا .. ثمّ ما هي القدرة المطلقة لربّنا العظيم الذي يحيي ويميت؟ وكيف نتلمّس يد الغيب تحرّك هذه الكائنات بين الموت والحياة؟

عند ما تدبّ أيّام الربيع الحياة في أشجار الحديقة القريبة منك ، وفي نباتها ، هل تدبّرت فيها لتقترب من لغز الحياة؟

عند ما استقبلت لأوّل مرّة وليدك الجديد وهو يحاول أن يتكيّف مع الدنيا

__________________

(١) اقتباسا من تفسير نمونه / ج ٢٠ ص ١٧٢.

١٣١

الجديدة ، هل فكّرت فيمن أحياه كما أحياك من تراب ثم من نطفة؟

وأكثر من ذلك حين تقف على جثمان فقيد ، هل تصوّرت الموت بجلاله ورهبته كيف اختطفه من بينكم ، وما الذي جرى عليه؟

إنّ بيننا وبين حقائق الخلق حجبا من كبر أنفسنا وغرورها ، تعالوا نخرقها لنعرف جانبا ممّا حولنا ، وليعرّفنا الربّ نفسه.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)

كيف يحيي ويميت؟ إنّ قدرته لا تحدّ فاذا قضى شيئا يكفي أن يلقي بأمره إليه فينفّذ فورا.

(فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

ولعلّ هذه الخاتمة جاءت لبيان عظمة الإحياء والإماتة ، وأنّهما يتحقّقان بأمر غيبي.

[٦٩] إذا كان موقف الإنسان من آيات الحقيقة وشواهدها سلبيّا منذ البدء ، لم يستطع بلوغ المعارف. أرأيت الذي يجحد أصلا بوجود المصباح ، كيف يستضيء بنوره؟ وهذه هي مشكلة أكثر الناس ، فهم يجادلون في آيات الله ، فلا يفتحون لها أفئدتهم ، بل ولا أبصارهم ، وذلك بسبب حواجز نفسيّة. ترى كيف ينبغي ثنيهم عن هذا الموقف؟

الجواب نجده في منهج القرآن عند ما يدعو إلى الله وعند ما يذكّرنا بآيات الله. إنّه في البدء يعالج هذا الموقف السلبي تجاه الآيات والذي يسمّيه بالمجادلة فيها ، ثم يستعرض الآيات بعدئذ.

١٣٢

ففي هذا السياق مثلا نجد القرآن قد بصّرنا في الآية (٣٥) بعاقبة الجدال في آيات الله ، وكيف أنّ الله يطبع على كلّ قلب متكبّر جبّار ، وضرب لنا مثلا من تكذيب فرعون ، وكيف زيّن له سوء عمله ، وصدّ عن السبيل ، وفي الآية (٥٦) عاد مرّة أخرى إلى قضية الجدل في آيات الله ، وبيّن كيف أنّه ينبعث من الكبر الذي لن يبلغه البشر ، ثم نسف أساس هذا الكبر المزيّف ببيان عظمة الخلق ، ثم عاد وللمرّة الثالثة الى ذات الموضوع في هذه الآية ليبيّن عاقبة الجدل وجزاءه في الآخرة.

وفي كلّ مرّة نرى السياق بعد أن يحذّر من مغبّة المجادلة في آيات الله ، يبيّن طائفة منها لتعمر القلب ـ الذي طهّر من حجب المعادلة والموقف السلبي تجاه الآيات ـ بضياء المعرفة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ)

إلى أيّ واد ضلال تسوقهم شهواتهم؟

ويبدو أنّ الآيات عامّة تشمل كلّ علامة تهدينا الى الحقيقة ، إلّا أنّها هنا جاءت بمناسبة الحديث عن أدلّة النشور وشواهد الجزاء والمسؤولية فهي تمهّد لذكر تلك الآيات.

[٧٠] أولئك الذين كذّبوا بالكتاب وبما أوحى الله إلى رسله من أحكام ينتظرهم جزاؤهم العادل.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا)

لعلّ ذكر الرسل هنا للدلالة على ضرورة التسليم للحقّ ، وأيضا للشخص الذي يمثّله وهو الرسول والإمام ، ذلك أنّ كلّ الوحي ليس مفصّلا في الكتاب ، بل منه ما

١٣٣

يبيّنه الرسول في سنّته ، وأنّ من كذّب رسولا واحدا أو بكتاب واحد فكأنّما كذّب بالكتاب كلّه وبالرسل جميعا.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

ويعرفون أيّ عذاب شديد يجزون به.

[٧١] إنّهم يسحبون بالأغلال التي في أعناقهم والسلاسل التي قيّدوا بها.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ)

يا للخزي! هكذا يقيّدهم الله بعد أن منحهم في الدنيا الحريّة فلم ينتفعوا بها ، بل قيّدوا أنفسهم بأغلال الشهوات وسلاسل الأنظمة الشركية.

[٧٢] ولكن .. في أيّ واد يسحبون؟

(فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)

يجرّون في ماء حار محموم ثم إلى أن يبلغوا النار التي يلقون فيها حتى تلتهب بأجسادهم كما يسجر التنّور بالوقود.

[٧٣ ـ ٧٤] كلّ ذلك ـ كما يبدو ـ يجري عليهم في يوم القيامة ، وقبل أن يقتحموا في نار جهنم يقرأ عليهم الحكم الصادر بحقّهم ، والجرم الذي استحقّوا به ذلك الحكم.

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

لقد آمنوا بالطاغوت ، وخضعوا للمجتمع الفاسد ، للمترفين وأدعياء العلم

١٣٤

والدّين ، وزعموا أنّ ركونهم الى تلك الآلهة المزيّفة تنجيهم من عذاب الله فسئلوا عنهم.

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا)

فلا نجد لهم أثرا. بلى. إنّهم ضلّوا عن الحقّ في الدنيا اعتمادا عليهم ، ولكنّهم اليوم قد ضلّوا عنهم.

(بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً)

هل إنّهم شرعوا في الكذب على ربّهم بعد أن وجدوا صرامة الجزاء ، وعنف التبكيت ، وخزي الشماتة ، أم أنّهم بيّنوا حقيقة طالما أخفوها في الدنيا ، وهي أنّ الكافرين لا يعبدون إلّا أسماء ، وإنّما الآلهة خيالات وأوهام.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)

حتى يعبدوا مجرّد أوهام ، لأنّهم كفروا بآيات الله ، وكذلك يذهب سعيهم في الحياة الدنيا سدى فلا يستفيدون منه في الآخرة.

[٧٥] لقد أذهبوا طيّباتهم في الدنيا ، وسعوا نحو اللّذات العاجلة دون الأهداف السامية.

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)

الذي لا يؤمن بالحساب يمتلئ غرورا ، ويسعى في الأرض بالباطل ، دون كوابح أو ضوابط ، ودون أن يأبه بمستقبل حياته أو عاقبة أفعاله ، ولعلّ هذا هو معنى

١٣٥

وإذا فاض غرور المرء طفق يمرح ، وينشط في اتباع الشهوات ، ويسرف في اللهو والطرب ، ويبتدع وسائل جديدة لقضاء الوقت (١)

[٧٦] وجزاء هذا الانسياق مع رياح الشهوات ، والترف في الملذات ، هو ذلك الحميم ، والسجر بالنار ، والتبكيت ، والخلود في جهنم.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)

ولماذا لا يدخلون من باب واحد؟ هل لكثرة عددهم أم لتنوّع جرائمهم ، حتى أدخل كلّ فريق من باب مختلف عن غيره؟ كلّ ذلك جائز ، وعلينا أن نسعى جاهدين لإغلاق كلّ أبواب النار من دوننا ، وذلك بتجنّب كل طرق الضلال وسبل الفساد.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)

وإنّ جذر سائر المفاسد هو الكبر الذي يتعالى به البشر عن سنن الله ، وجزاء المتكبّرين الخلود أبدا في جهنّم ، وساءت مصيرا.

__________________

(١) نقل عن اللغة : الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة ، والمرح شدّة الفرح والتوسّع فيه (تفسير نمونه / ج ٢ ص ١٧٦) .

١٣٦

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ

١٣٧

قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

١٣٨

وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ

هدى من الآيات :

ما هو موقف الرسول والرساليين من هؤلاء المجادلين في آيات الله الذين بيّن السياق فيما مضى من الآيات انغلاق قلوبهم ، وكبر صدورهم ، وعاقبة أمرهم؟

إنّ عليهم الصبر بانتظار وعد الله الحق ، وسواء أراهم الله بعض الجزاء الذي وعد أعداءهم أو توفّاهم قبلئذ فإنّ الأمر بيده ، وهذه سنّة الرسل الماضين ، سواء منهم الذين قصّ علينا القرآن عنهم شيئا أو لم يقصص ، فحتى الآيات التي تجلّت على أيديهم إنّما كانت بإذن الله ، ولم ينزل العذاب على أممهم إلّا بعد أن جاء أمر الله فقضي بينهم بالحق ، فنجي المؤمنون ، وخسر هنالك المبطلون.

ويذكّر السياق بآيات ربّنا ، وكيف جعل في الأنعام ألوانا من النعم ، نركبها ونأكل منها ، ونستفيد من أشعارها وأوبارها ونتزيّن بها ، ونشبع عبرها حبّ التملّك والسيطرة التي في أنفسنا ، وتحمل أثقالنا كما تحمل السفن .. وأعظم نعمة أنّه يرينا

١٣٩

بها آياته حتى نحظى بمعرفة خالقنا العزيز ، فما ذا ننكر من آيات ربّنا؟!

ولكي يرفع القرآن حجاب الغرور الذي يمنع الاهتداء بآيات الله ، يذكّرنا بعاقبة الكافرين بها ، ويأمرنا بأن نسير في الأرض لننظر كيف كان عاقبة الذين من قبلنا. أو لم يكونوا أكثر عددا منّا وأشدّ قوّة وأعظم آثارا في الأرض ، ولكنهم دمّروا شر تدمير لما كذّبوا ، ولم تشفع لهم مكتسباتهم المادية؟! إنّهم أنذروا عبر الرسل ، ولكنهم فرحوا بما لديهم من علم ضئيل واغترّوا به فلم يستجيبوا للنذر ، فأحاط بهم ما كانوا به يستهزءون.

واستمرّوا في غيّهم حتى رأوا بأس الله ، هنالك قالوا : آمنا بالله وحده ، وكفرنا بالشركاء من دونه .. ولكن هل نفعهم إيمانهم؟ كلا .. جرت سنة الله بعدم ذلك ، وخسر هنالك الكافرون.

أفلا نعتبر بمصيرهم ، ونستجيب لنذر الله ، ونستمع إلى رسله؟!

بينات من الآيات :

[٧٧] حين شاء الله خلق السموات والأرض لم يخلقهما فجأة بل قدّر لذلك ستة أيّام ، وهكذا كان عالمنا عجينا بالزمن ، وهكذا جرت سنّة الله في سائر ما يقضيه من شؤون الدنيا ، ولو افترضنا جدلا أنّ كلّ شيء يتحقّق فورا لكانت ملامح عالمنا مختلفة جدا عن واقعنا اليوم ، ولما تحقّقت حكمة الربّ في الابتلاء ، فهل كان مجرم يقترف ذنبا لو كان جزاؤه عاجلا ، أم كان بشرا يني من السعي نحو المكرمات لو جاء ثوابها فورا؟!

لا بدّ ـ إذا ـ من الصبر حتى يمضي الأجل المحدّد ، ويبلغ الكتاب نهايته ، وهنالك لا يتأخّر الجزاء ساعة واحدة ، فلو تكاثفت وتركزت جهود أهل الأرض

١٤٠