من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١)

ونتساءل : كيف نحن جميعا في النار إلّا المتقين؟

أرأيت جرثومة السل في المجهر؟ أو سمعت بفيروس الجذام؟ إنّهما في الواقع يمثلان ذات المرض الذي تظهر أعراضه على المسلول والمجذوم ، ولكنّ الخبير وحده يعرف ذلك ، أمّا الجاهل فتراه يستنكر أن تكون هذه الجرثومة وذلك الفيروس هو ذات المرض .. كذلك خبير المتفجّرات يعرف مدى قوة النار الكامنة في كيلو غرام من مادة متفجّرة حارقة ، أمّا الجاهل فلعلّه يحسبها ترابا ، كذلك الواعون يعرفون أنّ مال اليتيم هو ذاته اللهب إذا أكله الغاصب ، وأنّ الكذب ريحته نتنة تخرج من فم صاحبها وتنتظره على باب جهنم ، وأنّ الظلم اليوم ذاته ظلمات في القيامة ، وهكذا ..

[٤٢] والنار التي يدعو المؤمن للنجاة منها هي الكفر بالله الذي يتمثّل بالشرك به. فما هو الشرك؟ إنّه الخضوع لأحد من دون أن يأذن الله وينزل عليه سلطانا مبينا.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ)

لعلّ قوم فرعون كانوا جاحدين بالله رأسا ، أو كانوا مشركين وشركهم دعاهم الى الكفر ، لذلك قال لهم مؤمنهم :

(وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)

__________________

(١) مريم / ٧٢.

٨١

ونستوحي من هذه الآية كما من آيات أخرى أنّ مجرد التسليم لما لا يعلم الإنسان يقينا ان الله أمره به شرك.

وقد خلق الله الإنسان عبدا له لا لغيره ، ولم يأذن له بأن يتنازل عن حريته لأحد أبدا ، بل فرض عليه مقاومة من يريد سلب حريته والاعتداء على حرمة استقلاله ، واعتبر مجرد التسليم للطاغية شركا ، وإنّ الشرك لظلم عظيم.

أمّا دعوة الحق فهي الى الله :

(وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)

فبعزته يهيمن علينا ويفرض سلطانه ، وبمغفرته يقبل التوبة عن عباده المسرفين ، الذين طالما سكتوا عن جرائم الطاغوت ، وغدوا يأكلون رزق الله ويعبدون عدوّه ، كما قبل توبة السحرة.

[٤٣] لا ريب أنّ البشر ـ أنّى سخر القوى المادية ـ يحيط به الضعف من كل جهة ، فهو محكوم بسنن الله ، وإنّما يسعى للطغيان لعلّه يخفّف عن ضعفه ، لعلّه يمنع عن نفسه المرض والشيخوخة والموت ، فهو أضعف من أن يمنح الآخرين قوّة ..

وهكذا فهو ليس جديرا بالدعوة إليه.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ)

انها مجرّد خرافات وأوهام وأماني وغرور.

وتفسير كلمة «لا جرم» حرفيّا : لا قطع ، وتعني أنّه لا أحد قادر على قطع هذا الكلام أو نقضه ، فهو كلام حق ، وقد استخدمها مؤمن آل فرعون لمزيد من الثقة بهذه الحقيقة ، ولتحدّى حالة الخوف والرغبة عند أنصار فرعون الذين فقدوا كلّ

٨٢

استقلالهم وثقتهم بأنفسهم أمام طغيان فرعون .. وإن كانوا يتفكرون قليلا لعرفوا أنّ فرعون أضعف من أن يفرض عليهم سلطانه ، إنّه إن لم يكن أقلّ منهم قوة فلا ريب أنّه كواحد منهم ، وإنّما يستمدّ قوته من ضعفهم ، وهيبته من ذلّهم ، ولو أنّهم عرفوا قيمة أنفسهم حقّا لوجدوه تافها حقيرا ، وأنّه ـ بالتالي ـ ليس له دعوة ، ولا فرق بينه وبين صخرة صمّاء أو بقرة عجماء أو شجرة مسوسة. أرأيت هؤلاء الذين يعبدون صنما أو بقرا أو شجرة هل يعطيهم ما يعبدونه شيئا أم هم الذين يضفون عليه قداسة ويعطونه القوة على حسابهم؟

أمّا الله الذي يدعو إليه المؤمن فإليه مصير الجميع ، فهو خير من دعي وأكرم.

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ)

ثم ذكّرهم بالحقيقة الفطرية التي أودعت ضمير كلّ إنسان ، تلك هي أنّ الله الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا حكيما ، وانبثّت آيات عدله وحكمته في كلّ صغيرة وكبيرة ، لا يستقبل بترحاب المسرفين الذين تجاوزوا حدودهم ، واعتدوا على حقوق الآخرين ، إنّما يودعهم سجنه الأليم النار وساءت مصيرا.

(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ)

لو أيقن الإنسان حقّا أنّه يرد الى الله ، وأنّ الله هو الذي يحاسبه ويجازيه ، لارتدع عن الجرائم ، لأنه يعلم أنّ ربّه بصير بعباده ، وأنّه لا يمكن خداعه أو الهرب منه ، وأنه لا يظلم أحدا ، فهو الحكم العدل العزيز الجبار.

وهكذا نجد السياق يوصل المردّ الى الله بأنّ عاقبة المسرفين النار ، وهي حقيقة فطرية لا جرم فيها ولا جدال.

٨٣

[٤٤] إذا عرف المبتلى أنّ سبب آلامه سوء اختياره ، وأنّه كان يقدر أن يتقيها بحسن عمله ، ازداد إحساسا بالألم.

وهكذا ذكّرهم داعية الحقّ بأنّهم ـ في يوم الجزاء ـ سوف يذكرون ما قال لهم ، ويعلمون صدقه ، فيضاعف إلى ألم أجسادهم عذاب روحي شديد.

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ)

أمّا هو فقد بلغ أقصى درجات اليقين ، ففوّض أمره الى ربّه ، لذلك لا يحتمل قلبه الجدل في تلك الحقائق التي سردها.

(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ)

(إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)

فهو يعلم ما في صدور المفوّضين أمورهم اليه من إخلاص ويقين ، ولذلك فهو يأخذ بأيديهم.

ولعل ختام الآية يهدينا الى شرط التفويض ، وهو أعلى درجات اليقين ، وهو الإخلاص.

وهناك شروط أخرى للتفويض نجدها في الحديث الذي رواه البعض عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ :

المفوّض أمره إلى الله في راحة الأبد ، وعيش الدائم الرغد ، والمفوّض حقّا هو الفاني عن كلّ همّة دون الله تعالى ، كما قال أمير المؤمنين علي : رضيت بما قسم الله لي ، وفوّضت أمري إلى خالقي ، كما أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن

٨٤

فيما بقي .. قال الله عزّ وجلّ في المؤمن من آل فرعون : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) .

والتفويض خمسة (أي أنّها خمس كلمات) لكلّ حرف منها حكم ، فمن أتى بأحكامه فقد أتى به ، «التاء» من تركه التدبير في الدنيا ، و «الفاء» من فناء كلّ همّة غير الله تعالى ، و «الواو» من وفاء العهد وتصديق الوعد ، و «الياء» اليأس من نفسك واليقين من ربّك ، و «الضاد» من الضمير الصافي لله والضرورة إليه ، والمفوّض لا يصبح إلّا سالما من جميع الآفات ، ولا يمسي إلّا معافى بدينه (١)

[٤٥] وحين فوّض حزقيل أمره الى الله ، تولّاه ربّ العزة بأحسن وجه ، فحفظه من مكر آل فرعون ، بينما أحاط بهم سوء العذاب.

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا)

جاء في بعض التفاسير أنّه التحق بموسى (ع) وعبر البحر معه الى برّ الأمان ، وقال البعض : إنّه اعتصم ببعض الجبال وسخر الله الوحوش للدفاع عنه. (٢)

وجاء في حديثين عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ انّ عاقبة أمر حزقيل كانت الشهادة ، وأنّ الله سبحانه إنّما وقى دينه عن مكر أولئك المفسدين ..

قال : «والله لقد قطّعوه إربا إربا ، ولكن وقاه الله عزّ وجلّ أن يفتنوه عن دينه» (٣)

بلى. قد يختار ربّنا هذه الخاتمة الحسنى لبعض الدعاة إليه حين يعرف أنّ ذلك

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٥٢٠.

(٢) عن مجمع البيان عند تفسير الآية.

(٣) نور الثقلين / ج ٤ ـ ص ٥٢١.

٨٥

صلاح لهم وللقضية فيتقبّلها هؤلاء بكلّ رحابة صدر ، أوّلا : لأنّها غاية مناهم ، وثانيا : لأنّها تحقّق أهدافهم التي أخلصوا لها ، فإذا كان تحقيق الأهداف لا يمكن إلّا عبر الشهادة فأهلا بها وألف مرحبا.

(وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ)

لقد حقّ عليهم العذاب السيء لأنّهم ما استجابوا للنذير.

[٤٦] ما هو سوء العذاب الذي حاق بآل فرعون؟ كلّنا يعلم أنّهم أغرقوا في اليمّ ، وأورث الله بني إسرائيل ديارهم وأموالهم ، ولكنّ السياق هنا يتجاوز ذلك الى عذاب آخر أشدّ من الغرق. لماذا؟

إنّ الإنسان يعرف جانبا من أهوال الغرق ، خصوصا إذا شمل مئات الألوف من الناس ، كما جرى لآل فرعون. ولكن السياق يذكّرنا بأنّ هذه الأهوال بسيطة إذا قيست بعذاب الآخرة. أو ليس الموت مكتوبا على كلّ نفس؟ وأنّى كانت أسبابه فإنّ مرارته في لحظات. أمّا النار التي أنذر بها الوحي فهي خالدة. أمّا في البرزخ فإنّها :

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا)

ونستوحي من الآية أنّ أرواح الكفار تؤخذ كلّ يوم مرّتين إلى النار : أوّل النهار وآخره ، ولعلّ مجرد زيارة النار تعتبر عذابا سيئا ، إذ أنّهم يمسّهم لهيبها ، ويردعون بألوان العذاب فيها. أو أنّهم يدخلون سواء النار ليعذبوا فيها مباشرة.

وفي الحديث عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في تفسير هذه الآية أنه :

سأل أوّلا عن تفسير الناس لهذه الآية ، فقال : ما يقول الناس؟ قال الراوي :

٨٦

يقولون : إنّها في نار الخلد ، وهم لا يعذّبون فيما بين ذلك ، فقال : فهم من السعداء! فقيل له جعلت فداك! فكيف هذا؟ فقال : إنّما هذا في الدنيا ، فأمّا في نار الخلد فهو قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١)

وحسب هذا التفسير فإنّ أرواح الكفّار تعذّب في البرزخ بعذاب أخفّ من عذاب الآخرة ، ولذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنّه سئل عن أرواح المشركين؟ فقال : في النار يعذّبون ، يقولون : ربّنا لا تقم الساعة ، ولا تنجز لنا [ما] وعدتنا ، ولا تلحق آخرنا بأولنا (٢)

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)

[٤٧] ويبقى السؤال : لماذا أدخل الله كلّ آل فرعون أشدّ العذاب ، بينما المجرم الأصلي هو فرعون وجنوده؟

الجواب : إنّ الضعفاء منهم خضعوا لفرعون ، ورضوا به ، فشاركوه الجزاء الشديد ، ولم ينفعهم تبريرهم بأنّهم كانوا أتباعا لفرعون زاعمين أنّ فرعون والمستكبرين يتحمّلون عنهم وزر أعمالهم ، كلا ..

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ)

هنالك تسقط هذه الأعذار الواهية التي يحاول الضعفاء تبرير سكوتهم عن المستكبرين بها.

كما يقال مثلا : أنا عسكري وعليّ طاعة قيادتي ، أو يقال : المأمور معذور ، أو

__________________

(١) المصدر / ص ٥٢٣.

(٢) المصدر / ص ٥٢٣.

٨٧

يقال : بأنّ القيادة أعرف وأنّ الملوك أعلم بالصلاح وأبخص. كلا .. إنّ كلّ بشر مسئول بصورة مستقلة يوم القيامة عن كلّ مواقفه وأعماله.

[٤٨] وهكذا يسدل الستار على هذه المحاجة عند ما يكشف المستكبرون عن مدى عجزهم.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها)

نحن وأنتم ، فكيف نستطيع إنقاذكم ونحن لا نستطيع إنقاذ أنفسنا منها.

(إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ)

ولا أحد بقادر على أن يفرّ من حكومة الله.

وهكذا كشف السياق بأنّ الذين يدعون من دون الله ليست لهم دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأنّهم جميعا في النار ، كما بيّن السياق : نهاية الخضوع للطاغوت أنّها المشاركة معه في النار ، بينما عاقبة الثائرين عليه ، أنّ الله يحفظهم من مكر الطاغوت ، كما وقى مؤمن آل فرعون سيئات ما مكروا.

[٤٩] وبعد أن يقنط أهل النار من شفاعة بعضهم ، يدفعهم الألم الى التوسل بخزنة جهنم ، وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين وكّلوا بهم ، وكلّفوا بالإشراف على تعذيبهم ، فيتوسل بهم أصحاب النار لعلّهم يشفعون لهم عند ربّهم ليخفّف عنهم يوما من النار.

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ)

سواء المستكبرون منهم والضعفاء.

٨٨

(لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ)

وحفظة الجحيم.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ)

ونتساءل : لماذا لم يبادروا بالدعاء بأنفسهم؟ يبدو أنّه لا يحقّ لهم يومئذ التحدّث مباشرة مع ربّ العزة كما كان يحقّ لهم في دار الدنيا ، وإنها لفرصة نادرة ينبغي أن ننتهزها اليوم قبل فوتها غدا ، وقد جاء في الدعاء المأثور :

«اللهم أذنت لي في دعائك ومسئلتك ، فاسمع يا سميع مدحتي ، وأجب يا رحيم دعوتي» (١)

وسوف نتحدث إن شاء الله عن الدعاء وفضيلته قريبا.

(يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ)

فبعد أن فشلوا في إلقاء جانب من العذاب على بعضهم بحجة أنّهم السبب فيه ، حاولوا التخفيف في برهة زمنية ، مثلا بمقدار يوم من أيام الدنيا ، وهل كان ينفعهم التخفيف في يوم لو عادوا مرة أخرى الى النار؟! كلا .. ولكن لسوء العذاب وشدّة الألم كانوا يحاولون التخلّص منه بأيّة حجة ، ولكن عبثا.

[٥٠] لقد جاء رفض الخزنة لطلبهم كالصاعقة صدعت أفئدتهم ألما ، ليس فقط لأنّ بصيص الأمل الوحيد تبدّل عندهم إلى اليأس ، وإنّما أيضا لأنّه حفل بالشماتة ، ممّا أضاف ألما نفسيّا الى آلامهم الجسمية.

__________________

(١) دعاء الافتتاح من أدعية شهر رمضان.

٨٩

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ)

لقد عذّبوا بعد الإنذار ، والإنذار تمّ بوضوح كاف حيث حمله إليهم رسل الله مدعوما بالآيات البينات.

(قالُوا بَلى)

فاعترفوا بعدالة حكم الله عليهم بالعذاب.

(قالُوا فَادْعُوا)

ما شئتم كثيرا أو قليلا ، ولكن اعلموا أنّه عبث.

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)

فكما أنّ الضال كلّما جدّ في السير لم يبلغ هدفه ، كذلك دعاء الكافر الذي أضاع فرصته في الدنيا للتوبة ، وأخذ يدعو في الآخرة.

٩٠

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)

٩١

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)

٩٢

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ

هدى من الآيات :

في إطار الحديث عن صلابة الشخصية ، واستقامتها عند المؤمن ، الى درجة نراه يعيش في كنف الطاغوت وهو يكتم إيمانه عنه سنين عديدة ، ثم يتحدّاه في ساعة المواجهة مفوضا أمره الى الله .. في هذا الإطار تحمل آيات هذا الدرس وعدا من الله بنصرة رسله والمؤمنين بهم (بنصرة أهدافهم المقدسة) ويضرب لنا من قصة موسى مثلا حين أنزل عليه الهدى ، وضمّنه في كتاب أورثه بني إسرائيل ، ولكنّ النصر يأتي بعد عدّة أمور يوفّرها المؤمن :

أوّلا : الصبر انتظارا لوعد الله الحق.

ثانيا : الاستغفار من الذنوب (وإصلاح النفس حتى تتهيّأ لاستقبال النصر) .

ثالثا : تسبيح الله آخر النهار وأوّله.

٩٣

رابعا : التسليم للحق ، والاستعاذة بالله من الكبر الذي يبعث البعض نحو المجادلة في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، ذلك أنّ هذا الكبر (الذي ينشأ من النزوع نحو الربوبية) لا يبلغه الإنسان أبدا ، وما قيمة الإنسان حتى يتكبّر على ربّه؟! أولا يرى أنّ الله خلق السموات والأرض وهنّ أكبر منه؟! ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.

خامسا : العمل الصالح ، ذلك لأنّه لا يستوي الأعمى والبصير ، كما لا يستوي المسيئون والصالحون ، وأنّ الله يجازي كلا بعمله يوم تقوم الساعة ، وبالرغم من أنّها لا ريب فيها إلّا أنّ أكثر الناس لا يؤمنون.

بينات من الآيات :

[٥١] لقد وعد الله ـ ومن أصدق من الله قيلا ـ أن ينصر رسله الذين حمّلهم مسئولية بلاغ وحيه ، وأمرهم بأن يتوكلوا عليه ، ويفوّضوا أمورهم إليه ، وهيهات أن يخلف معهم وعده أو يخذلهم بعد أن أمرهم بالتوكّل عليه ، أو يتركهم بعد أن فوّضوا أمورهم الى حسن تدبيره.

وهذا النصر يمتدّ الى تابعي الرسل من المؤمنين ، لأنّهم جميعا يشتركون في المسؤولية والعاقبة.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا)

ولكي لا يزعم البعض أنّ نصر الله مخصوص بالآخرة فقد أكّد أنّ نصره يمتدّ من الدنيا إلى الآخرة :

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

٩٤

والقرآن الكريم كلّه شاهد على مسيرة النصر ، شروعا من نوح (ع) وانتهاء بمحمد (ص) ومرورا بسائر النبيين والصّدّيقين والشهداء والصالحين ، صلّى عليهم جميعا مليك السماء.

وإذا سرنا في الأرض ، وأثرنا ذخائر المدن ، وبحثنا عن بقايا الحضارات البائدة ، وجدنا شواهد التاريخ تدلّنا أيضا على تلك الحقيقة.

أمّا كتب التاريخ فبالرغم من أنّها تأثّرت بطبيعة المؤلفين لها إلّا أنّ من قرأ فيها الحقائق وترك التفسيرات يجد بين ثناياها ألف دليل ودليل على تلك الحقيقة.

وبكلّ المقاييس لا تزال حوادث الدنيا اليومية تشهد امتدادا لحركة الأنبياء ، عبر توسّع الديانات السماوية والمزيد من التوجّه الى تعاليمها.

بلى. إنّنا قد نجد مصير بعض الدعاة الشهادة أو لا أقل الاعتقال والتهجير ، فأين النصر منهم؟!

أو لم يقتل السبط الشهيد بكربلاء؟! كما قتل المئات من أنصار الحق بعد استتباب الأمر للأمويين؟! بلى. ولكنّ النصر المطلوب ليس دائما انتصار الأشخاص ، بل قد يفدي الشخص نفسه لدينه وقيمه راضيا مسرورا ، وقد عبّر أحد الشعراء عن هذه الحقيقة فيما يتصل بالإمام الحسين سيد الشهداء (ع) :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني

وعند ما سقط بطل الطف عن جواده مثخنا بالجروح البليغة ، وحوله تناثرت جثث أهل بيته وأصحابه ، وفي الأفق صيحات أطفاله : العطش العطش ، وعويل النساء والثكالى ، حينذاك جمع حفنة من التراب ، ووضع خدّه عليها ، وناجى ربّه قائلا : «إلهي رضا برضاك ، لا معبود سواك» بلى. إنّه كان يعلم أنّ السبيل

٩٥

الوحيد لحمل الرسالة إلى القلوب هو استشهاده ، وأنّ قطرة الدم أبلغ أنباء من الكتب والخطب.

ولا يزال السبط الشهيد عالما يستلهم منه أبناء أمتنا البطولات ، وينتصرون لدينهم بأنفسهم .. وكأيّن من مؤمن اعتلى عرش المشانق مطمئنا راضيا لتنتصر قيمه المقدسة ، وكأيّن من مجاهد آثر الشهادة على الحياة ليعلو بناء الحق والعدل ، ولتقوّض أركان الظلم والفساد.

وسؤال أخير : كيف ينتصر الربّ لرسله والمؤمنين؟

ليس بالضرورة أن يكون بصورة غيبية ، مما نجدها في طوفان نوح ، وتحوّل النار لإبراهيم الى برد وسلام ، وعصا موسى ، وإحياء الأموات عند عيسى ، وتأييد رسولنا الأكرم بالملائكة المسوّمين ، صلى الله عليهم جميعا.

بل قد يكون عبر السنن الجارية في الخليقة ، ذلك أنّ سنن الله الحاكمة في الكائنات قائمة على أساس الحق (فقد خلق الله السموات والأرض بالحق) ورسالات الله تهدينا الى ذلك الحق ، ورسل الله والمؤمنون مستقيمون عليه ، وتلتقي أفكارهم وأعمالهم عند نقطة الحق مع حركة الخلائق جميعا ، فلا جرم ينتصرون ، أرأيت لو أخبرت خصمك اللجوج أنّ الشمس تشرق بعد ساعة وكان حقا إنباؤك ، فعند الشروق تنهار مقاومته ، لأنّها سنة الله ألّا تتأخّر الشمس عن شروقها لمجرد أنّ شخصا لجوجا يجادل في ذلك ، كذلك حين أنبأت رسالات الله أنّ عاقبة الظالمين الدمار بالرغم من أنّهم يجادلون في ذلك ، إلّا أنه في ساعة الدمار لا أحد قادر على إنكار الحق ، هكذا سنن الله تجري في الاتجاه الذي تهتدي إليه رسالات الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

والتجلّي الأعظم لحقيقة رسالات الله لا يكون إلّا عند قيام الساعة ، ذلك لأنّ

٩٦

الدنيا دار ابتلاء ، وستبقى فيها فرصة الإنكار أو الجدل لمن حقت عليه كلمة الضلال ، فحتى عصا موسى الذي ابتلع حبال السحرة لم يفحم فرعون الجاحد بل قال للسحرة : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ. وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) .

وهكذا ذكّرتنا الآية هنا : أنّ النصر الشامل للرسل يكون عند انتهاء وقت الامتحان وحلول ساعة الجزاء.

(وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)

هنالك الولاية لله والشهادة لأوليائه ، حيث يرى الناس المقام الكريم والمقام المحمود للرسل والمؤمنين حيث يقومون بالشهادة لهذا فيدخل الجنة وعلى هذا فيدخله الله النار.

[٥٢] أمّا الظالمون فهم الخاسرون إذ لا تنفعهم الأعذار التي عادة يبرّرون بها ظلمهم في الدنيا ، كما أنّهم يلاحقون بلعنة الله والطرد عن بركاته ورحماته ، كما أنّ مستقرّهم الأخير يكون النار.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)

[٥٣] لقد نصر الله المؤمنين من بني إسرائيل عند ما هيّأ لهم قائدا كريما كموسى بن عمران ، وزوّده بالتوراة ، فيها هدى يحتوي على جملة القيم والتعاليم المباركة ، وفيها ذكرى ومواعظ لمن شاء أن يزداد قربا من ربّه ووصولا الى الحقائق التي هي اللباب والجوهر.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ)

٩٧

ويبدو أنّ الوراثة هنا توحي إلى أمرين :

الأوّل : إنّ الكتاب أعظم رأسمال وأكبر مجد ، وكان بمثابة المحور الثابت الذي تدور حوله فاعليّات الأمة.

الثاني : إنّ الكتاب ظلّ بينهم يرثه الجيل بعد الجيل بينما رحل عنهم قائدهم موسى عليه السلام.

[٥٤] ولم يكن وجود الكتاب بين بني إسرائيل بذاته مفخرة لهم بل الاهتداء به والتذكر بآياته وهذا كان خاصا بأولي الألباب.

(هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)

[٥٥] ماذا ينبغي أن يقوم به الرسل والمؤمنون تمهيدا لنصر الله ، بل وثمنا مدفوعا سلفا لهذه النعمة الكبرى؟

أوّلا : لا بدّ من الصبر ، والذي يعني ـ بمعناه الشامل ـ الصبر في تنفيذ الأوامر ، والصبر عند الشدائد ، وبكلمة : السعي والاجتهاد الآن انتظارا للنتائج المستقبلية ، فمن كان عجولا ، وكان يفتّش عن نتائج سريعة ، فإنّه لن يبلغ مناه .. ورأسمال الصبر الإيمان بوعد الله ، وأنّه حق لا ريب فيه.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)

ثانيا : الاستغفار الذي يسقط سدود الذنوب التي تمنع النصر الإلهي ، ويهيء أرضية الفتح ، ويوجه الإنسان الى نواقصه الذاتية لكي يصلحها.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)

٩٨

ثالثا : التقرّب الى الله بالمزيد من التسبيح والتقديس لمقام ربّنا الكريم ، حتى لا نظنّ بربنا ظنّ السوء فيوسوس الشيطان في قلوبنا الشكوك حول وعده أو نفقد خلال المسيرة شيئا من عزمنا في تأييد دينه.

رابعا : التقرّب الى الله بحمده عشيّا وبكورا ، ذلك أنّ حمد الله يجعلنا نتبصّر النعم التي أسبغها علينا فتمنع عنّا القنوط والنظرة التشاؤمية.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)

إنّ حمد الله يؤدّي الى تسبيحه ، فمن عرف أنّ ما تصيبنا من حسنة فمن عنده وما تصيبنا من سيئة فمن عند أنفسنا نزّه ربّه من النقص ونسبة السيئات إليه سبحانه.

ولعل هذا أحد معاني الباء في قوله «بحمد ربك» فيكون الحمد وسيلة التقديس لربّنا العظيم ، وهو أقرب من أن نجعل معنى الباء مجرد المعيّة ليكون المفهوم سبّح واحمد ربك.

[٥٦] ولا بدّ أن نسلّم لربّ العالمين ، ومعنى التسليم له الإيمان بآياته والاحتراز من الجدل فيها ، فمن يجادل فيها انطلاقا من أهوائه وبغير سلطان مبين وحجة واضحة من عقله فقد استحوذ عليه الشيطان ، وأثار في نفسه الكبر الذي انطوت عليه حيث نازعت ربّ العزة رداء الالوهية فأخزاه الله ولعنه وأبعده عن تحقيق مناه.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ)

المجادل في آيات الله يغلق منافذ قلبه عن النور. أو ليست آيات الله في الطبيعة وآياته في الكتاب تجلّيات لظهوره وأمواج نوره ، فمن نظر إليها نظرة ذاتية دون أن

٩٩

يجعلها وسيلة لبلوغ غيرها أصيب بالعمى. أرأيت الذي ينظر الى المرآة ليعرف طولها وعرضها ، لا يمكن أن ينظر الى صورته فيها ، أو رأيت الذي يلاحظ في علامات السير طبيعة خطّها وطريقة صنعها ، لا ينتفع بإشاراتها ، كذلك عالم الطبيعة الذي يركّز نظره في خصائص المادة دون أن يجعلها معبرا إلى أسماء الله.

ومن الناس من عقد عزمه على ألّا يعرف الحقيقة ، لأنّ الحقيقة تخالف ما انطوت عليه نفسه من الكبر ، بل إنّ مجرد التسليم لها يتنافى وحالة الكبر التي في قلبه.

بلى. إنّما يجوز الجدال في آيات الله إذا كان يملك الإنسان الحجة الكافية من الله ، حينئذ يمكن تفسير آية أو تأويلها انطلاقا من تلك الحجة ، وأخذا بمبدإ النسخ في الآيات كما قال ربّنا : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) .

أمّا من لا يملك حجة وسلطانا ، فلا يجوز له إلّا التسليم.

(بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ)

ويبدو أنّ المراد منه الوحي.

(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ)

ما هو ذا الكبر الذي لا يبلغوه؟ هل هو مطلق الكبر وحبّ الذات ، وهو النفس؟ أم أنّه أكبر من ذلك؟

يبدو لي أنّه نزعة الألوهية في النفس ، حيث يزعم الإنسان أنّه قادر على بلوغ درجة الألوهية بإمكاناته المحدودة ، وبعمره القصير .. ولعل سائر الخصال الذميمة تنبع من هذا الإحساس الخاطئ ، وبالرغم من أنّ الإنسان لن يحقّق هذه الرغبة

١٠٠