من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

فلا أمل للمجرمين من الفكاك من العذاب حيث لا يخفّف عنهم ، وهم مبلسون فيه لا يرجون الخلاص.

[٧٦] فهل ظلمهم الله حين أدخلهم هذا المصير؟ كلا ..

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)

إذ بعث الله لهم أنبياء ، وتعاهدهم بالنعم ، وأمهلهم بأن أعطاهم الفرصة بعد الفرصة ، وحين يأخذهم الجليل بالعذاب ، ويكبّهم في النار ، فهل هو ظالم لهم؟! كلا ..

ولا بد أن نتلوا هذه الآيات وكأنّنا المعنيّون بها حتى ننتفع بها.

[٧٧] (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)

جاء في الحديث : «إنّ أهل النار إذا دخلوها ، ورأوا نكالها وأهوالها ، وعلموا عذابها وعقابها ، ورأوها كما قال زين العابدين (ع) : «ما ظنّك بنار لا تبقي على من تضرّع إليها ، ولا يقدر على الخفيف عمّن خشع لها ، واستسلم إليها ، تلقي سكّانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال وشديد الوبال» يعرفون أنّ أهل الجنة في ثواب عظيم ، ونعيم مقيم ، فيؤمّلون أن يطعموهم أو يسقوهم ليخفّف عنهم بعض العذاب الأليم ، كما قال الله عزّ وجلّ جلاله في كتابه العزيز : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) قال : فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة ، ثم يجيبونهم بلسان الاحتقار والتهوين : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) قال : فيرون الخزنة عندهم وهم يشاهدون ما نزل بهم من المصاب فيؤمّلون أن يجدوا عندهم فرحا بسبب من الأسباب ، كما قال الله جلّ جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ)

٥٢١

الْعَذابِ) قال : فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة ، ثم يجيبونهم بعد خيبة الآمال : (قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) قال : فإذا يئسوا من خزنة جهنّم ، رجعوا الى مالك مقدّم الخزّان ، وأمّلوا أن يخلّصهم من ذلك الهوان ، كما قال جلّ جلاله :(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) قال : فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة وهم في العذاب ، ثمّ يجيبهم كما قال الله في كتابه المكنون : (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) قال : فإذا يئسوا (يأملون) من مولاهم ربّ العالمين الذي كان أهون شيء عندهم في دنياهم ، وكان قد آثر كلّ واحد منهم عليه هواه مدّة الحياة ، وكان قد قدّر عندهم بالعقل والنقل أنّه أوضح لهم على يد الهداة سبل النجاة ، وعرّفهم بلسان الحال أنّهم الملقون بأنفسهم الى دار النكال والأهوال ، وأنّ باب القبول يغلق عن الكفّار بالممات أبد الآبدين ، وكان يقول لهم في أوقات كانوا في الحياة الدنيا من المكلّفين بلسان الحال الواضح المبين : هب أنّكم ما صدّقتموني في هذا المقال ، تجوّزون أن أكون من الصادقين؟ فكيف أعرضتم عني ، وشهدتم بتكذيبي وتكذيب من صدّقني من المرسلين؟! وهلا تحرّزتم من هذه الضرر المحذّر الهائل؟ أما سمعتم بكثرة المرسلين ، وتكرار الرسائل؟ ثم كرّر جلّ جلاله مرافقتهم في النار بلسان المقال فقال : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فقالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) فيقفون أربعين سنة ذلّ الهوان لا يجابون ، وفي عذاب النار لا يكلّمون ، ثم يجيبهم الله جلّ جلاله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) قال : فعند ذلك ييأسون من كلّ فرج وراحة ، ويغلق أبواب جهنّم عليهم،ويدوم لديهم مآتم الهلاك والشهيق والزفير والصراخ والنياحة» (١) .

وفي روايات أخرى : إنّ الله عند ما يقول لهم : إنّكم ها هنا ماكثون ، يقولون

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٨ / ص ٣٠٤

٥٢٢

لمالك : ادع لنا ربّك أن يسمح لنا بالبكاء على أنفسنا ، فبعد أربعين سنة يأتيهم الجواب من الله أن ابكوا ، فيبكون. وهل البكاء آنئذ ينفعهم؟! كلا .. نستجير بالله من النار.

٥٢٣

لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ

___________________

٧٩ [أبرموا] : أحكموا ، وحاكوا المؤامرات ضدّ الحق.

٥٢٤

لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)

___________________

٨٨ [وقيله] : أي قول الرسول.

٥٢٥

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ

وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ

هدى من الآيات :

ينذر القرآن الذين يعاندون الرسالة ، فلا يتبعون الحق ، بأنّ عنادهم سوف يسلّط عليهم عذابا لن يحيد عنهم.

وإذا عاند الإنسان الحق فإنّه سوف ينكر كلّ شيء حق بلا تورّع (وقد رأينا كيف أنّ بعض الفلاسفة في التاريخ أنكر الوجود الذي هو أظهر وأجلى شيء عرفه البشر ، فقالوا : إنّ ما نراه لا يعدو كونه خيالات) .

ثم يبيّن ربّنا سفه ما يقوله المشركون من أنّ لله ابنا ، وذلك بأن يردّ عليهم الرسول (ص) أنّه أوّل العابدين لله ، وأنّ كلّ شيء مخلوق لله ، وليس من شيء قائم بذاته ، إنّما الله القائم على كلّ شيء ، فلو لا أنّه يمسك السموات والأرض لزالتا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده! وكما في التكوين كذلك في التشريع ، فلو أراد الله أن يفقر أحدا هل يغنيه أحد؟! أو أراد أن يضلّه هل يهديه أحد؟!

٥٢٦

وآخر الآيات تتحدّث عن الله الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ، ولا يحتاج الى ابن ، وأنّنا إليه راجعون ، وأنّ الذين يعبدون من دون الله لا يملكون شفاعة ، فلن تشفع لهم الجنّة ولا الأصنام ، ولكنّ الشفاعة عند من يكذّبون بهم من الرسل والأنبياء.

وهؤلاء الذين يكذّبون بالرسل إنّما يكذّبون بالله ، ولئن سألتهم من خلق الخلق وخلقهم ليقولنّ الله. إنّهم يعترفون بالله تكوينيّا ، فهو الذي خلقهم وخلق كلّ الخلق ، ولكن لا يؤمنون بالله تشريعيّا ، إذ أرسل إليهم الرسل ، وأيّدهم بآياته ، فما فائدة إيمانهم بأنّ الله خالقهم ، إذ لم يؤمنوا بأنّ الله هو الوحيد الذي يجب أن يشرّع ، لأنّ شرعه سبحانه يتناسب مع أهداف الخلقة ، ولا أقدر على التشريع إلّا من خلقنا.

وأخيرا يحدّد السياق العلاقة المثلى مع هؤلاء القوم المتمثلة في العفو عنهم ، والدعوة الى السلام ، وترك أمرهم الى يوم القيامة.

بينات من الآيات :

[٧٨] إتماما للحديث عن النار ، وعقب أن يردّ عليهم مالك بأنّهم ماكثون أبدا في النار ، يبيّن لهم سبب ذلك ، قائلا :

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)

قال ابن عباس : إنّ المراد من الأكثر هنا هو الكل. ولعلّه فهم من الآية أنّ عادة البشر هي كراهية الحق إلّا من عصمه الله ، ونستلهم من ذلك أنّ على الإنسان أن يتجاوز في ذاته هذه الكراهية بعزم الإرادة حتى يبلغ الحق ، أمّا إذا استرسل مع هواه فسوف يقوده الى الباطل.

٥٢٧

[٧٩] لا ينفع التحدّي والعناد شيئا ، لا بدّ من التسليم والطاعة ، وإذا زعم الكافرون أنّهم قادرون على مواجهة الحق وأهله ، بالكيد المتين ، والعزم الشديد ، والمكر الخفي ، فليعلموا بأن الله أمتن كيدا ، وأشدّ عزما ، وهو خير الماكرين.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ)

إذا كانوا قرّروا أن لا يؤمنوا بالله ، فقد قرّرنا وأبرمنا أمرا ، فكان أمرنا أنّهم في النار خالدون ، ماكثون فيها خاسئون ، والإبرام هو القرار الذي لا تراجع فيه أو تردّد.

[٨٠] بعد أن قهر الله كبرياءهم ، بإنذارهم بنار جهنم ، وتصوير ذلّهم وخزيهم ، وردّ طلباتهم حتى بالإعدام للنجاة من عذاب النار .. وبعد أن أوصل ذلك بإنكار الحق وهدّدهم بأنّ تحدّيه لا يجديهم نفعا وانبأنا بأنّ كراهية الحق حالة عامة وعلينا معالجتها في أنفسنا ، بالخوف من عاقبة الكفر بالحق.

أقول بعد أن أسقط ربّنا هذه الحواجز التي تفصل البشر عن الإيمان بالحق ، أخذ ينسف تبريرا يحتمي الى ظلّه الكفّار ، حين يزعمون أنّهم قادرون على إخفاء كفرهم عن الله بالنفاق.

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى)

نسمع سرهم الذي يحدثون أنفسهم به فقط ونجواهم الذي يتحدثون به في مجالسهم الخاصة.

(وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)

وليس رسل الله يكتبون عليهم أعمالهم فقط ، بل وهم «لديهم» عندهم

٥٢٨

حاضرون وفي الروايات : ان الملائكة الكتبة تجلس في حنك الإنسان ، فما يلفظ من قول الا كان عليه رقيب عتيد.

ولكي نقتلع جذور النفاق من أنفسنا فليس أفضل من استشعار علم الله بالسر والنجوى.

جاء في الدعاء : «إلهي وسيدي فأسألك بالقدرة التي قدّرتها ، وبالقضية التي حتمتها وحكمتها ، وغلبت من عليه أجريتها ، أن تهب لي في هذه الليلة ، وفي هذه الساعة ، كلّ جرم أجرمته ، وكلّ ذنب أذنبته ، وكلّ قبيح أسررته ، وكلّ جهل عملته ، كتمته أو أعلنته ، أخفيته أو أظهرته ، وكلّ سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين ، الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني ، وجعلتهم شهودا عليّ مع جوارحي ، وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم ، والشاهد لما خفي عنهم ، وبرحمتك أخفيته ، وبفضلك سترته» (١)

[٨١] وعاد القرآن ينفي الشرك ، وأن يكون للرحمن ولد ، لكي لا يظنّ الإنسان أنّ بمقدوره الفرار من حكومة الله الى ظلّ الشركاء ، كلا ... ليس أمام البشر إلّا طريق واحد ، هو طاعة الله ، وتحمل مسئوليّاته.

ثم انّ سورة الزخرف تطهر قلب الإنسان من عبادة الثروة والسلطة ، بينما الشرك تجسيد لهذه العبادة ، فالمشركون أنّما عبدوا الأنداد لأنّهم زعموا أنّها رمز المال والبنين ، وهكذا نجد السياق فيها يدحض الأفكار الشركية ، ويستجلي بصائر التوحيد.

ومن تلك الأفكار ما زعمته النصارى في نبيّهم أنّه ابن الله ، وقد بيّن القرآن إنّما هو عبد أنعم الله عليه ، ولكي يحصّن القرآن المسلمين من الغلوّ في دينهم ، كما

__________________

(١) دعاء كميل

٥٢٩

فعلت الأمم السابقة ، فإنّ هذه الآية تبيّن أنّ نبيّنا محمدا (صلّى الله عليه وآله) ليس إلّا عبدا لله ، بل هو أوّل العابدين له ، وكيف يكون العبد ربّا أو ولدا لله؟!

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)

ولا ريب أنّ محمدا أعظم الأنبياء ، فإذا كان هو أذلّ العابدين ، فكيف يكون غيره ابنا لله؟! تعالى الله عما يصفون.

وهكذا نفت الآية الكريمة الشريك عن الله ببلاغة نافذة ، من هنا قال كثير من المفسّرين : انّ كلمة «إن» هنا نافية ، ومعناها : ليس للرحمن ولد. ويبدو أنّ معنى النفي مفهوم من مجمل تركيب الجملة ، وليس من كلمة «إن» .

وروى السيوطي عن ابن عباس أنّه قال (في الآية) : لم يكن للرحمن ولد ، فأنا أوّل العابدين ، وروي عن الحسن وقتادة أنّهما قالا : ما كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين ، قال : يقول محمد : فأنا أوّل من عبد الله من هذه الأمّة ، وروي عن مجاهد : قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أوّل العابدين ، فأنا أوّل من عبد الله وحده وكذّبكم بما تقولون. (١)

ومثل هذا روي عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «(إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ، أي الجاحدين» (٢) والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره.

ويبدو أنّ الآية تنفي أيضا الأسس الفاسدة لنسبة الولد الى الله سبحانه ، ذلك أنّهم زعموا أنّ الأعظم مالا يكون الأقرب الى الله ، وتسقط عنه المسؤوليّات ،

__________________

(١) الدّر المنثور / ج ٦ ص ٢٤

(٢) نور الثقلين / ج ٤ ص ٦١٦.

٥٣٠

كلا .. إذا كانت الولادة صحيحة ـ وهي غير صحيحة ـ فإنّ الأقرب الى الله هو الرسول ، وليس أصحاب المال ، ونحن حين نرى أقرب الناس الى الله أشدّهم خوفا منه ، وأكثرهم عبادة له ، وأعظمهم تمسّكا بالدّين ، فإنّنا نهتدي ألّا شريك له ، ولا يجوز لغير الرسول ـ بطريقة أولى ـ أن يتهرّب من المسؤولية بدعوى أنّه ابن الله أو منتم الى ابن الله.

إنّ من أهمّ الدواعي الى الغلوّ في الدّين ، وادّعاء الصلة النسبية بين ربّ العرش سبحانه والأنبياء عليهم السلام (كعزير عند اليهود ، والمسيح عند النصارى) التهرّب من المسؤولية ، بدعوى أنّ ابن الله ينجيهم من عذاب الله ، ويفديهم بنفسه للخلاص من نقماته ، وبدعوى أنّهم أولاد الله ، بانتمائهم نسبيّا أو سببيّا الى الله.

ألم يزعم اليهود أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه؟ أو لم يتخذوا من تلك العقيدة الفاسدة تبريرا لعدوانهم على سائر الناس ، والقول بأنّه ليس عليهم في الأميّين سبيل؟! كذلك زعم الجاهليّون العرب أنّ انتسابهم الى إبراهيم الخليل (ع) يكفيهم فخرا،ومن الله قربى!

أو لم يزعم بعض المسلمين أنّ مجرّد حبّهم للرسول وأهل بيته (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه يغنيهم عن العمل؟!

كلا .. ليس للرحمن ولد ، والدليل على ذلك أنّ الرسول هو أوّل العابدين لله ، وإذا كان له ولد لم يكن أوّل من يعبد الله ، ذلك الرسول الأقرب الى الله.

والملائكة ليسوا أولاد الله ، لأنّهم عباده المكرمون ، لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون.

وعيسى (ع) ليس ولد الله ، لأنّه ليس إلّا عبدا أنعم الله عليه.

٥٣١

وهذا التفسير يبدو لي واضحا ومتفقا مع سائر الآيات ، كما هو متفق مع تفسير الرعيل الأوّل من المفسّرين .. بينما ذهب السّدّي وتبعه آخرون أنّ معنى الآية : لو كان للرحمن ولد فأنّا أحقّ الناس بعبادة ذلك الولد لأنّي أوّل العابدين ، «فإنّ السلطان إذا كان له ولد فكما يجب على عبده أن يخدمه فكذلك يجب عليه أن يخدم ولده» (١) ولا أستحسن هذا التفسير ، بالرغم من ميل كثير من المتأخّرين اليه ، لأنّه لا ينسجم مع النهج الذي نعهده في بصائر القرآن ، والله العالم.

ويبقى سؤال : كيف ذكر الرسول أنّه أوّل العابدين وقد جاء متأخّرا زمنيّا عن سائر الأنبياء المخلصين في طاعة الله؟

تجيب النصوص الدينية عن ذلك بما يلي :

إنّ نبيّ الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوّل من عبد الله وسبّحه ، وقد جاءت الروايات مؤكّدة على ذلك ، فقد روي :

عن أبي ذر الغفاري عن النبي صلّى الله عليه وآله (في خبر طويل في المعراج ساقه الى أن قال) : «قلت ـ يا ملائكة ربي هل تعرفونا حقّ معرفتنا ، فقالوا : يا نبيّ الله وكيف لا نعرفكم وأنتم أوّل ما خلق الله؟ خلقكم أشباح نور من نوره ، في نور من سناء عزّه ، ومن سناء ملكه ، ومن نور وجهه الكريم ، وجعل لكم مقاعد في ملكوت سلطانه ، وعرشه على الماء قبل أن تكون السماء مبنيّة ، والأرض مدحيّة ، ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيّام ، ثم رفع العرش الى السماء السابعة فاستوى على عرشه وأنتم أمام عرشه تسبّحون وتقدّسون وتكبّرون ،

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي / ج ٢٧ ص ٣٣٠

٥٣٢

ثم خلق الملائكة من بدء ما أراد من أنوار شتّى ، وكنّا نمرّ بكم وأنتم تسبّحون وتحمدون وتهلّلون وتكبّرون وتمجّدون وتقدّسون ، فنسبّح ونقدّس ونمجّد ونكبّر ونهلّل بتسبيحكم وتحميدكم وتهليلكم وتكبيركم وتقديسكم وتمجيدكم ، فما أنزل من الله فإليكم ، وما صعد الى الله فمن عندكم ، فلم لا نعرفكم؟» (١)

وجاء في الرواية عن المفضّل عن أبي عبد الله (ع) قال : «يا مفضّل! أما علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو روح إلى الأنبياء (ع) وهم أرواح قبل خلق الخلق بألفي عام؟ قلت : بلى. قال : أما علمت أنّه دعاهم الى توحيد الله ، وطاعته ، واتباع أمره ، ووعدهم الجنة على ذلك ، وأوعد من خالف ما أجابوا إليه وأنكره النار؟ فقلت : بلى» (٢)

وعن أبي عبد الله (ع) قال : إنّ بعض قريش قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : بأي شيء سبقت الأنبياء وفضّلت عليهم ، وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال : إنّي كنت أوّل من أقرّ بربّي جلّ جلاله ، وأوّل من أجاب ، حيث أخذ الله ميثاق النبيّين ، وأشهدهم على أنفسهم : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا : بَلى» فكنت أوّل نبي قال : بلى ، فسبقتهم الى الإقرار بالله عزّ وجل (٣)

وفي الدعاء عن الامام الهادي (ع) يصف الرسول (ص) وآله : «خلقكم الله أنوارا فجعكم بعرشه محدقين» (٤)

[٨٢] (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)

لو أنّهم عرفوا شيئا من عظمة ربّهم لما خرقوا له بنين وبنات ، ولما شبّهوه

__________________

(١) بح / ج ١٥ ص ٨

(٢) المصدر / ص ١٤

(٣) المصدر / ص ١٥

(٤) الزيارة الجامعة.

٥٣٣

بأنفسهم في الأمثال والصفات. إنّه هو الله ربّ السموات والأرض ، وربّ القدرة العظيمة. وفي الحديث : «ربّ المثل الأعلى عمّا به مثّلوه ، ولله المثل الأعلى الذي لا يشبهه شيء ، ولا يوصف ، ولا يتوهّم» (١)

[٨٣] ربما ضر المزيد من الاهتمام بجدال المشركين ، ويكفي أن ندعوهم الى الهدى ، ونبيّن لهم الحجج ، فإذا عموا عنها تركناهم يخوضون في غيّهم ، ويلهون أنفسهم بأفكارهم الضالّة ، ويلعبون في الحياة بلا هدف حكيم ، حتى يلاقوا يوم الجزاء العادل الذي يعدهم الله.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)

ولعلّ الخوض هنا يساوق اللهو وهو ما يصرف الإنسان عن الواقع ، بينما اللعب هو السعي المنظّم لأهداف غير رشيدة (حسبما يبدو لي) .

وحين يبتعد الإنسان عن هدى ربّه فهو بين فكرة باطلة يلهو بها عن الحق وسعي دؤوب لغير الأهداف المشروعة ، وقد قال ربّنا سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) .

أمّا المهتدون الى ربّهم فعقولهم تستنير بضياء المعرفة ، وتزداد ولها الى الحقائق ، أمّا سعيهم فهو دائب في سبيل تحقيق الفلاح والرضوان.

وبتفكّر أعمق سنصل الى الحقيقة التالية : إنّه الإيمان بالله وحده الذي يجعل الفكر يعمر بهدف سام ، هو معرفة الله أكثر فأكثر ، كما يجعل عمل الإنسان ذا معنى وذا هدف مقدّس هو ابتغاء مرضاة الله.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٦١٧

٥٣٤

[٨٤] إنّه الله الذي وسعت رحمته وقدرته وهيمنته وتدبيره السموات والأرض ، يدبّرهما بذات النظام الحسن الحكيم ، فلا فطور ولا خلل لا في أصغر موجود ولا أكبر.

إنّ وحدة التدبير دليل على وحدة الخالق ، ووحدة الحاكم والمهيمن ، وهي حجة بالغة ضد أولئك الذين زعموا أنّ للأرض آلهة وللسماء إله ، فما لله لله وما لقيصر لقيصر ، كلا .. كلّ شيء لله ، واليه المصير.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ)

وآيات الله تهدينا الى بالغ حكمته وعلمه.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)

وهل ينبغي أن يخرق لله ولد أو يشرك به شيء؟ كلا .. والعجيب أنّ حالة الجدل قد بلغت بالبعض الى اتخاذ هذه الآية الكريمة مادة للجدل ، كما جاء في الحديث التالي :

في الكافي عن هشام بن الحكم قال : قال أبو شاكر الديصاني : إنّ في القرآن آية هي قولنا ، قلت : وما هي؟ فقال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) ، فلم أدر بما أجيبه ، فحججت فخبرت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ فقال :

«هذا كلام زنديق خبيث ، إذا رجعت اليه فقل : ما اسمك بالكوفة؟ فإنّه يقول : فلان ، فقل له : ما اسمك بالبصرة؟ فإنّه يقول : فلان ، فقل : كذلك الله ربّنا ، في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله ، وفي القفار إله ، وفي كلّ مكان إله» .

٥٣٥

قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته ، فقال : هذه نقلت من الحجاز! (١)

[٨٥] (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)

وهذه الآية تجيب على إشكال سابقتها ، فهو إله في السماء ، وإله في الأرض ، إلّا أنّ السموات والأرض ملكه ، وتحت قبضته .. وتبارك مصدر البركة.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

[٨٦] وحين تقوم الساعة ، ونرجع الى الله ، فهل يملك الشركاء المزعومين الشفاعة؟ كلا ..

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

كما أنّه في عالم التكوين ليس هناك الله وابنه ، فكذا في عالم التشريع ، فإنّه لا شفيع عند الله إلّا من شهد بالحق ، فالفضل آنئذ لله ، والقدرة له وحده ، وهو يمنع من قدرته ما يشاء دون أن تنقص قدرته مقدار ذرّة ، ومن دون أن يصير ذلك صاحب قدرة ذاتيّة ، وليس باستطاعة أحد أن يقف أمام الله ، فالكلّ مهما أوتوا عبيد له سبحانه ، وإنّه لا يشفع أحد لأحد إلّا من شهد بالحق.

وفي الرواية عن رسول الله (ص) قال في هذه الآية : «هم الذين قد عبدوا في الدنيا ، لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم» (٢)

[٨٧] وهؤلاء الذين عبدوا غيره ، ولم يشفع لهم أحد ، لأنّ الله لا يقبل الشفاعة

__________________

(١) المصدر

(٢) تفسير البرهان / ج ٤ ـ ص ١٥٦

٥٣٦

لأحد إلّا من شهد بالحق له سبحانه ، هؤلاء ..

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)

فالله يحاكمهم ، وأفضل حكم فطرتهم ، فيقول لهم : من خلقكم؟ ولا يملكون ان يقولوا غيره سبحانه.

لقد كانوا يعترفون بأنّ الله خالق السموات والأرض ، ولكنّهم كانوا يزعمون ـ مع ذلك ـ وجود قدرة ذاتية لسواه ، شأنهم شأن أغلب البشر اليوم حيث أنّهم يغترّون بمظاهر القوة عند الطغاة والمتجبّرين ، فيخضعون لهم ، ويذرون حكم الله الحق الى أحكامهم الجائرة.

[٨٨] لقد بلغ الاهتمام بشأن الدعوة عند الرسول (ص) حدّا جأر الى الله ، وأخذ يشكو اليه عدم إيمان قومه.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)

ولعلّ التعبير ب «قوم» للدلالة على أنّهم اجتمعوا على ترك الإيمان.

[٨٩] فكيف ينبغي التعامل مع قوم لا يؤمنون؟

تحدّد الآية الأخيرة من هذه السورة العلاقة السليمة معهم ، قائلة :

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

إنّها علاقة العفو عن جرائمهم بحقّه ، والسلام معهم ، والمؤمن يحمل في داخله قلبا يسع الدنيا ويزيد ، لأنّ نظره الى الآخرة ، ولا يأبه بما يجري حوله هنا.

٥٣٧

الفهرست

سورة غافر

فضل السورة............................................................ ٧

الاطار العام............................................................ ٩

غافر الذنب وقابل التوب............................................... ١٦

فالحكم لله العلي الكبير................................................. ٢٤

يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور..................................... ٣٧

ومن يضلل الله فماله من هاد............................................ ٥٣

وما كيد فرعون إلا في تباب............................................ ٦٧

وأفوض أمري الى الله................................................... ٩٧

فاصبر إن وعد الله حق................................................. ٩٣

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم....................................... ١٠٨

كذلك يضل الله الكافرين............................................. ١٣٠

وخسر هنالك المبطلون................................................ ١٣٩

سورة فصلت

فضل السورة........................................................ ١٥٣

الإطار العام......................................................... ١٥٥

٥٣٨

فاستقيموا إليه واستغفروه.............................................. ١٦١

وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام.......................................... ١٦٦

قالتا : أتينا طائعين................................................... ١٨٣

وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا....................................... ١٩١

وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم............................................. ٢٠٤

قالوا ربنا الله ثم استقاموا............................................... ٢١٧

لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله.............................. ٢٣٣

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم.................................... ٢٥١

سورة الشورى

فضل السورة........................................................ ٢٦٥

الإطار العام......................................................... ٢٦٧

وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا......................................... ٢٧٧

أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه............................................ ٢٩٠

واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم.................................... ٣٠٥

أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين...................................... ٣٢٠

لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى................................ ٣٢٩

ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض............................... ٣٥٤

وأمرهم شورى بينهم.................................................. ٣٦٧

ألا إن الظالمين في عذاب مقيم......................................... ٣٨٤

جعلناه نورا نهدي به من نشاء.......................................... ٣٩٥

٥٣٩

سورة الزخرف

فضل السورة........................................................ ٤١٧

الاطار العام......................................................... ٤١٩

قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.............................................. ٤٢٧

سبحان الذي سخر لنا هذا........................................... ٤٣٦

أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم.............................. ٤٤٥

إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا....................................... ٤٥٨

ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا............................. ٤٧٣

أم أنا خير من هذا الذي هو مهين؟!................................... ٤٨٧

ولا يصدنكم الشيطان................................................ ٤٩٨

ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون..................................... ٥١٤

وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله................................ ٥٢٦

الفهرست........................................................... ٥٣٨

٥٤٠