من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

السموات والأرض ، ووحيه تجلّ لحاكميته التامة علينا ، وأيّ تنكّب عن ذلك شقاق وضلال.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)

ما معنى العلو؟ وما معنى العظمة؟

العلي المرتفع في المكان ، فهل الله موجود في أعلى قمة في الكون؟ كلّا .. تعالى ربنا عن الحلول في مكان ، وهو شاهد حاضر (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (١) ، والعظيم في اللغة مشتقة من العظم ، وصاحب العظم الغليظ يسمّى عظيما ، فهل لله عظم سبحانه وتعالى؟!

عند تفسير هذه الألفاظ القرآنية ، وهكذا سائر أسماء الله يجب أن نأخذ الغايات ونترك المبادئ ، ذلك أنّ لكل لفظة مبدأ يكسها مدلولا حسيّا ماديّا ، وغاية تعطيها مدلولا معنويّا وقدسيّا بالنسبة الى الله ، فإذا كانت كلمة العلي تدل على علوّ المكان حسيّا ، فهو يشير الى السيطرة والتمكّن ، وربّنا عليّ بهذا المعنى ، كما أنّه عظيم بمعنى القوة والشدة والهيبة. وإنّما نستخدم هذه الألفاظ عند الحديث عن الله لسببين :

الأول : عدم وجود ألفاظ بديلة تدلّنا على تلك الغايات ، وحيث يريد القرآن تقريب تلك المعاني المطلقة لأذهاننا المحدودة التي عجزت حتى عن الإحاطة بالخلق استخدم هذه الألفاظ.

الثاني : لكي لا ننبهر بمخلوق حاز شيئا من القوة أو الهيبة أو .. أو .. فنعبده من دون الله ، فإذا بنا نخضع لفلان لأنّه صاحب ثروة أو قوة أو جمال أو هيبة ، بل

__________________

(١) سورة الحديد / (٤) .

٢٨١

نتذكّر صاحب الملك والعظمة و.. و.. الحقيقي ، وهو الله عزّ وجل الذي خلقه من بعد العدم فنسلم له أكثر فأكثر ، وبتعبير آخر لا بد أن ننطلق في تقييمنا للحياة من الإيمان بالله ، لأنّ كل ما فيها مخلوق له سبحانه ، وإذا اشتمل على شيء من الحسن فهو قبس صغير من أسمائه الحسنى.

[٥] (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ)

ربما يتصوّر البشر أنّ أقوى وأكبر شيء في الكون هو السموات بعلوّها وقصور علمه عنها ، حتى أنّ علماء الفلك كلما أجهدوا أنفسهم في اختراع أنواع المناظر ذات القوة الهائلة اكتشفوا المزيد من الكواكب والمجرّات حتى انتهى بعضهم الى النظرية القائلة بتوسّع الكون المستمر .. والقرآن هنا يهدينا الى أنّ هذه السماء التي هي أعظم شيء في نظرنا تكاد تتفطّر من خشية الله.

ومع أنّ السموات جمع مؤنث لغير العاقل ، والذي يناسبها هو كلمة «تتفطّر» ، نجد الآية هنا تعبّر عنها كما لو كانت من ذوي العقول : «يتفطّرن» ذلك للدلالة على أنّها في مقام العبودية لله والخضوع له شأنها شأن سائر العقلاء ، فهي تخشاه.

وكيف لا تتفطر السموات إذا تجلّى الربّ لها أو اخترقها وحي الله ، وهي مشفقة من الساعة ، منتظرة لأمر الله لطويها كطيّ السجلّ للكتب ، ولا تزال زجرات ملائكة الله تلاحق الأجرام السابحة فيها ألّا تحيد عن أمر ربّها قيد شعرة.

أعرفتم ماذا يعني وحي الله ، وما هي عظمة رسالات الله ، وأيّ مقام كريم ينبغي أن نجعلها فيه؟

سبحانك اللهم افتق عقولنا بنورك حتى نعرف قدر وحيك ، ولا نخسر الدنيا والآخرة بالإعراض عنه أو الاستهانة بأحكامه ..

٢٨٢

وقال المفسّرون : إنّ تفطّر السموات بسبب هبوط الوحي عبرها ، كما قال ربنا : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)

وقال بعضهم : بل بسبب صعود أنباء شرك الناس من خلالها ، كما قال ربّنا : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً)

ويبدو لي أنّ الأهم من كلّ ذلك عظمة الله وخشية عقابه ، فهي التي تكاد السموات يتفطّرن منها ، وتسبّح بحمده وتعبده ، وإن كنّا لا نرى ذلك أو نسمعه.

(وَالْمَلائِكَةُ)

وهم القوى العاقلة التي تشرف على جميع الأجرام السماوية والأنظمة والسنن الكونية تراهم يخشعون أمام جبروت الله وعزّته ، ويقدّسونه وينزّهونه عما لا يليق به ، ويتمّ التسبيح بما أعطاهم الله من نعمة الهداية ومن التوفيق للتسبيح ، ولعلّ هذا أحد معاني «بحمده» فإنّ معرفة الله لا تكون إلّا بذاته ، وكمال معرفته تنزيهه عن الشريك والشبيه ، وهو معنى التسبيح الذي لا يبلغه العبد إلّا بحمد الله ، أي بما يوجب الحمد من نعم الرب ، وتوفيقه ، ويعطي هذا التركيب «بحمده» معنى المقارنة أيضا ، لأنّ ربّنا تعالى هو كما جاء في الدعاء :

«يا من هو في شرفه عزيز ، يا من هو في عزّه عظيم ، يا من هو في عظمته مجيد ، يا من هو في مجده حميد» (١)

فهو في عين علوّ مقامه وقدسه ومجده وغناه حميد له الحمد كلّه والمحامد جميعا ، لأنّه تعالى شأنه لم يترك الخلق وشأنهم بل تعهّدهم بفواضل نعمائه وسوابغ آلائه ،

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء الجوشن الكبير / ص (٩١) .

٢٨٣

فكان له الحمد كما كان له المجد.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)

هذه علاقتهم بالله ، أمّا علاقتهم بمن في الأرض فهي الاستغفار لهم عند الرب ، حيث ترى الملائكة أنّ سكان الأرض لا يقدرون الله حقّ قدره بما يعصون ويذنبون.

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)

إيمانا منهم بسعة رحمة الله.

(أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

ولو لم يكن كذلك لما ترك على وجه الأرض من دابة بما عصوا الله ، ولعل الآية تبين حقيقة هامّة هي أنّ الله هو الذي يغفر ويرحم من يشاء ومتى أراد ، وخطأ الإعتقاد بألوهيّة الملائكة أو أنّها أنصاف آلهة ، بينما لا يعدو دورها الاستغفار للمؤمنين عند ربّهم الذي يقرّر قبول توبة أولئك وشفاعة هؤلاء أو لا يقبل حسب مشيئته التي لا يسأل عنها وهم يسألون.

[٦] وعجيب أمر البشر. إنّهم لا يستفيدون من واسع رحمة الله ، بل يتخذون الشركاء من دونه ، ويزدادون بعدا عنه كلّما توالت نعمه عليهم! وربنا يتوعّد هؤلاء بأنّه يكتب كل ما تعمله أيديهم وجوارحهم ليعاقبهم عليه عاجلا أو آجلا.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)

يعتقدون أنّهم هم الذين يرزقونهم ، ويمنعون عنهم الأخطار ، ويخطئون لأنّ الله هو الذي يرعاهم ويحفظهم.

٢٨٤

(اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ)

يحفظهم برحمته الواسعة التي تشمل العاصي والمطيع ، ويحفظ عليهم كلّ ما يصدر منهم ، وهم وحدهم يتحمّلون مسئولية أعمالهم.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)

فما على الرسول إلّا البلاغ.

[٧] إنّما تتلخّص مسئولية الرسول وكل مصلح في تبليغ رسالته للناس بإيصال صوت الوحي الى أكبر عدد ممكن منهم.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا)

وهذا من رحمة الله ورأفته أن يبعث للناس نذيرا بالوحي من أجل هدايتهم للحق.

ونقف قليلا عند لفظة «عربيّا» لنتساءل. لماذا يؤكّد القرآن في كثير من المواضع على عربيته؟

والجواب : إنّما يؤكّد الله على عربية القرآن ليقيم الحجة على الذين كفروا به حينما جاءهم الرسول يتلوه عليهم ، وذلك ببيان أنّ كفرهم لم يكن لغموض في الوحي فهو بلغتهم. وتعبير «عربيّا» لا يدلّ على لغة القرآن وحسب بل على وضوحه أيضا ، كما تدل كلمة أعجمي في البلاغة على الغموض.

ثانيا : لأنّ اللغة الوحيدة التي يمكنها أن تتسع لمعاني القرآن أكثر من غيرها هي اللغة العربية ، بعمقها ومرونتها ، ومن هنا يجب أن نعلم بأنّ السبيل الأفضل

٢٨٥

لإيصال معاني القرآن لغير العرب ليس ترجمة القرآن ، لأنّها تضيق بمعانيها ، وإنّما تعليمهم اللغة العربية.

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)

وإنّما يختار الله عواصم البلدان محلّا لتبليغ الرسالة ، لأنّها من الناحية الإعلامية أكثر وأشمل تأثيرا ، حيث تعتبر المركز لسائر الناس ، فأيّ حدث أو حديث يقع فيها يكون خبره أكثر شياعا مما لو وقع في غيرها ، ثم إنّها تحتل مركزا سياسيا واجتماعيا هامّا بين القرى الأخرى ، ففتح العاصمة يؤدّي في الأغلب الى فتح سائر القرى والمواقع الأخرى ، بالذات إذا كانت كمكّة في عهد الرسول (ص) مركزا لتجمّع القوى الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية ، التي تسيطر عليها آنذاك قريش ، وتتحكّم من خلالها في شبه الجزيرة.

وتدل الآية على أنّ الرسالة الإلهية كانت ذات أمواج متلاحقة ، فقد افتتحت بأمر الرسول بالقراءة : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، ثم أمرته بإنذار الأقربين : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، وتوسّعت الى قومه ـ صلّى الله عليه وآله ـ بقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وتواصلت حتى شملت العالمين فقال ربنا سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) .

ومع أنّ الرسالة كانت منذ البدء عالمية إلّا أنّها كانت واقعية أيضا تسعى نحو العالم عبر موجات متلاحقة بين الناس ، الأقرب فالأقرب ، واحقّ الناس بها وبحمل مسئولياتها الرسول وأهل بيته الذين نزلت في بيوتهم.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ)

وفي الأثناء لا بد للرسالي أن يستوعب الحياة بواقعياتها ، فلا ينتظر من الناس أن

٢٨٦

يؤمنوا جمعيهم برسالته ، فإذا ما كفروا بخع نفسه ، وشكّك في جهوده ورسالته ، فذلك من طبيعة البشر ، إنّهم بالتالي ينقسمون الى مؤمنين وكافرين.

(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ)

وهم الذين يؤمنون بالرسالة ، ويعملون بمضامينها.

(وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)

وهم الكافرون والعاصون.

وفي هذه الجملة «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» إشارة الى الخلاف البشري الذي يقسمهم الى خطّين : خط الحق ، وخط الباطل .. وسوف تبيّن الآيات القادمة هذه النقطة ، وتميّزها عن الاختلاف في الرؤى ووجهات النظر بين أهل الحق أنفسهم ، والذي يجب ألّا يبلغ حدّ الصراع بينهم.

٢٨٧

وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)

___________________

١١ [يذرؤكم] : ذرء بمعنى أوجد أي يخلقكم أنتم والأنعام «فيه» أي في هذا الجعل ، فإنّ امتداد نسل الإنسان والحيوان إنّما هو بجعل الأزواج ، ولذا ينقطع من لا زوج له.

٢٨٨

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)

٢٨٩

أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه

هدى من الآيات :

ما هي علّة اختلاف الناس؟ وكيف ينبغي أن نعالجه؟ ومن هو الوليّ حقّا يردّ اليه ما اختلف الناس فيه؟

هذه محاور الدرس من هذه السورة التي تعالج الخلافات الاجتماعية.

كان من الممكن أن يخلق الله البشر بصورة واحدة لا اختلاف بينهم ، وأن يجعلهم كلّهم من أصحاب الجنة ، ولكنّه تعالى ترك الإنسان يختار مصيره بإرادته بعد أن أوضح له سبيل الغي ، وهداه الى سبيل الرشاد.

وهكذا يؤكّد القرآن مبدأ الحرية التكوينية التي جعلها الله للبشر ، والتي صبغت حياتهم بصبغة الصراع الأبدي بين الحق والباطل.

فبينما يتبع فريق منهم ولاية الله ، يتبع الفريق الآخر الظالم لنفسه ولاية الشركاء المزعومين ، فالسبب الرئيسي لضلالة البشر وما يثير بينهم الخلاف من

٢٩٠

الحروب التي تنتهي الى الدمار والتخلف هو تركهم ولاية الله ، وتشبّثهم بالأولياء من دونه.

أمّا الخلافات الخارجة عن إطار صراع الحق والباطل ـ كالخلاف بين أهل الحق أنفسهم ـ فهي غير مشروعة ، إذ لا بد من حلّها بالعودة الى قيم الرسالة ومن يمثّل ولاية الله في الأرض ، ومن الناس من يدّعي الإيمان ولكنّه يتولّى غير الله ، وإنّما آية إيمان المرء أن يردّ ما تنازع فيه الى الله (والى رسالته ورسله) ثم يتحدّى الضغوط ، ويتوكّل على الله ، ويتضرّع إليه (ويتعوذ بحوله وقوته من شياطين الإنس والجن الذين ينزغونه في الاتجاه الخاطئ) .

(وولاية الله في المجتمع تجلّ لولايته في الكائنات) فهو الذي فطر السموات والأرض ، وخلق البشر أزواجا وكذلك الأنعام بهدف تكثير الخلق وانتشارهم ، وهو المحيط بهم علما! وبيده مفاتيح الرزق ، فيبسط لمن يشاء ، ويقدر على من يشاء (إنّما بحكمته البالغة ، لأنّه) بكلّ شيء عليم.

بينات من الآيات :

[٨] الاختلاف بين أهل الحق وأهل الباطل جزء من سنة الله في الحياة ، ليس لأنّه تعالى يريد أن يكون بعضهم من أصحاب النار والبعض الآخر من أصحاب الجنة ، بل لأنّه أعطاهم حرية الإختيار ، ومقتضى هذه الحرية أن يتبع البشر أحد الخيارين.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً)

وهذا لا يتفق مع طبيعة الحياة ، وهدف الخلق.

(وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ)

٢٩١

وهم المؤمنون الذين يأخذون بأسباب الهداية فيوفّقهم الله لبلوغها ، والآية تحذّرنا من الاغترار بإيماننا ، وذلك بالتأكيد على كونه من عند الله وبتوفيقه.

كما تبيّن لنا الآية بأنّ الآخر الذي يختار طريق النار ، إنّما يدخلها بإرادته ، وبإيكال الله له الى نفسه حيث يمنع عنه توفيقه ، فلا يحفظه من نوازع الشيطان ، ولا من ضغوط الحياة ، كما هو شأنه مع المؤمنين فإذا به ينقلب على عقبيه.

وهذا الإنسان قبل اختياره لطريق السعير كأيّ بشر فيه الخير والشر ، ولكنه بهذا الإختيار الخاسر يسلب منه عون الله وتوفيقه فيتمحّض في الشر ، ولهذا ترى أولياء الله المخلصين يلحّون على الله بأن لا يكلهم الى أنفسهم ، ولا يقطع عنهم توفيقاته.

يقول ابن أبي يعفور : سمعت أبا عبد الله (الإمام الصادق (ع) يقول وهو رافع يده الى السماء : «رب لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا» لا أقلّ ولا أكثر ، فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته ، ثم أقبل عليّ فقال : «يا ابن أبي يعفور! إنّ يونس ابن متّى وكله الله عزّ وجل الى نفسه أقلّ من طرفة عين فأحدث ذلك الظن» قلت : فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ قال : لا ولكنّ الموت على تلك الحال هلاك (١)

(وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ)

يشفع لهم ، ويخلّصهم من العذاب ..

(وَلا نَصِيرٍ)

يعينهم ، ولعلّ في هذا المقطع من الآية إشارة الى حقيقة هامّة : أنّ الظالم

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج (١٤) ص (٣٨٧) .

٢٩٢

لا يضرّ بنفسه فقط عند ما يتخذ من دون الله أولياء ، ويتبع الجبابرة ، بل ويظلم الآخرين أيضا ، ذلك لأنّه باتباعه الجبار (بل بمحض السكوت عنه) يساهم في سيطرته على الآخرين.

ولعلّ الآية تهدي أيضا ـ عند ما استخدم كلمة الظالمين ـ ألّا عدالة في غير ولاية الله ، وألّا نجاة من الظلم إلّا بالعودة إليها ، فما للظالمين من وليّ ولا نصير .. فمن رضي بحكومة الظالمين اكتوى بنارهم ، ولا يستجاب دعاؤه في الخلاص منها.

وبالرغم من أنّ لفظة الظالم قد يتسع مدلولها ليشمل كلّ منحرف إلّا أنّ انتخابها متناسب والسياق الذي يحدّثنا عن الولاية ، وحسب تعبيرنا القيادة وما تتبعه من فضّ الصراعات إمّا بعدالة أو بظلم.

[٩] بلى. إنّ الكافرين والمشركين اتخذوا أولياء من دون الله ، ولم يدركوا بأنّه وحده الوليّ الحقيقي للإنسان ، وصاحب القدرة المطلقة.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ)

لأنّ إليه مصيرنا ، وهو القاهر علينا.

(وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

أمّا الأولياء والأنصار المزعومون فإنّهم لا يقدرون على شيء إلّا بقدر ما يريده الله لهم ، فهم محدودون ، والأولى بالعاقل أن ينتمي الى صاحب القدرة المطلقة ، فعنده تتحقّق طموحاته ، ويصل الى أهدافه.

[١٠] ويبيّن ربّنا معنى الانتماء الحقيقي لولاية الله ، بأنّه ليس مجرّد الادّعاء ، والتمنّي في القلب ، وحتى طاعة الله في الأمور الاعتيادية التي لا تكلّف الإنسان

٢٩٣

جهدا ولا مصلحة ولا تنازلا ، إنّما التسليم لهذه الولاية في كلّ شأن ، وبالذات عند الصراع ، حيث يتشبّث الواحد بفكرته وموقفه ، وتثار فيه ذاتيّاته وعصبيّاته.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ)

أنّى كان هذا الشيء ، وفي أيّ جانب من جوانب الحياة ..

(فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ)

يستوحى من كتاب الله ، ومن أودع قلبه علمه من أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ وأتباعهم الفقهاء ، العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

ثم يقول القرآن عن لسان الرسول وكل مؤمن يسلّم لآياته :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)

وهذا تأكيد لانتمائه الى ولاية الله في مقابل اتخاذ أولئك الأولياء من دونه ، إذن فهو على عكسهم يستجيب لحكم الله ، ونتساءل : لماذا يؤكّد القرآن ضرورة التوكّل على الربّ هنا؟

والجواب : لأنّ الكثير من الناس يزعمون بأنّهم حينما يتنازلون للآخرين عند الاختلاف استجابة لحكم الله وأوليائه ، فإنّهم يعرضون أنفسهم للمخاطر ، لأن الطرف الآخر عندها سوف يتصرّف من موقع صاحب الحق ، ويستغل انتهاء الخلاف في صالحه لضربهم. إنّ هذا الشعور من وساوس الشيطان الذي يريد من خلالها تضخيم الاختلافات الاجتماعية ، وتفتيت الأمة الواحدة ، وكم من مظلوم أصبح أكثر جورا من ظالمة بسبب هذا الشعور الذي يثير في الإنسان ذاتيّاته السلبية!

٢٩٤

ولكي يقاوم الإنسان هذا الضغط يحتاج الى قوة نفسية كبيرة حتى لا يخشى من المستقبل بتطبيق الحق ، وهذه القوة يستمدّها المؤمن من التوكّل على الله والعودة إليه.

ثم إنّ التسليم لولاية الله يقتضي مواجهة الحكومات الظالمة ، وهي بدورها بحاجة الى استقامة عبر التوكّل على الله.

[١١] ويعالج القرآن الاختلاف من زاوية أخرى حينما يذكّرنا بأنّه من طبيعة الحياة ، التي تأبى اللون الواحد ، الأمر الذي يجعل الإنسان غير قادر على صبغها كلّها لمزاجه وطبيعته الخاصة ، ولكنّه عبثا يسعى لبلوغ هذه الغاية ، فترى البعض يريد التحدّث لكلّ الناس بلغته القومية ، أو أن يقلّدوا عاداته ، فإذا لم يستجيبوا له أبغضهم ، فالرومان صاروا يسمّون غيرهم بالبرابرة أي المتوحشّين ، واليهود اعتبروا أنفسهم الشعب القارئ بينما اعتبروا الآخرين أمّيّين لا يفقهون شيئا ، أمّا مدّعي الحضارة الحديثة فإنّهم يعتقدون بوحشية الشعوب غير الآريّة.

هذه من طبيعة الإنسان فهو يريد العالم كلّه لونا واحدا هو لون شخصيته وتطلّعاته ، والقرآن يؤكّد هنا الاختلاف الطبيعي في الحياة ، ويذكّر الإنسان بعجزه عن رفع أقرب الاختلافات إليه ، وهو اختلافه مع زوجته.

ولكنّ القرآن الكريم يقرّر مبدأ الاختلاف بين حقائق الخلق ، وعلينا الاعتراف به ، والتعرّف على حكمة الله فيه ، والسعي وراء تلك الحكمة ، وحكمة الاختلاف التكامل ، وليس الصراع ، فلقد جعل الله البشر شعوبا وقبائل بهدف التعارف (وليس التدابر والتباغض) ، وخلق الزوجين الذكر والأنثى ليتكاملا ، ولعلّ هذا أبرز أمثلة الاختلافات الفطرية.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً)

٢٩٥

وهذا في صالح الإنسان ، وبيان القرآن لانشطار الأنثى من نفس الذكر ، جاء لضرب الأفكار الجاهلية التي تزعم بأنّ الأنثى ذات روح حيوانية ، فبهذا الاختلاف يكون التنامي والتناسل ، ولكن لو تحوّل هذا الاختلاف الى خلاف بين الطرفين ، وانتهى بالتالي الى الطلاق والعداء. أفلا تنقرض البشرية من على وجه الأرض؟!

بلى. وهكذا لو اختلفت القبائل والشعوب ، وسعت لفرض عاداتها وطبائعها على الآخرين ، لأنّ الله خلق كلّ مجموعة بشرية لتحقّق هدفا خاصّا في الحياة ، أمّا لو تصارع الجميع لفرض شخصيتهم على بعضهم فسوف ينتفي التعارف والتعاون والتكامل مما يجعل الحياة جحيما لا تطاق.

(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)

أي يجعل تكاثركم وانتشاركم بسبب هذا الاختلاف ، ولعلّ من الحكم الأخرى للاختلاف إشعار الإنسان بعجزه الذي تدل عليه حاجته للآخرين ، والتي هي بدورها تدل على حاجته الى الله ، لأنّه الصمد الذي لا كفو له ولا شريك ولا شبيه.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

ونتساءل : لماذا أضيف كاف التشبيه على «مثل» ، في الوقت الذي كان يكفي أن يقال : ليس مثله شيء؟ هل الكاف هنا زائدة كما قال المفسّرون؟ أم في المعنى لطفا بديعا! نحن نميل ألّا ننسب الزيادة الى كلام ربّنا. اللهمّ إلّا التي نكون للتأكيد ، ولا معنى ظاهر للتأكيد هنا ، فنعود ونتساءل : إذا ما معنى الكاف؟ التفت بعض المفسرين الى معنى المثل الذي يختلف ظلاله عن كلمة (ند) أو شبه ومساوي وشكل ، حيث أنّ ظلال كلمة المثل توحي بجانب القيم

٢٩٦

والصفات والأسماء ، بينما ظلال الند توحي بالتشابه في الجوهر ، وظلال (الشبه) توحي بالتماثل في الكيفية ، أمّا كلمة (المساوي) فتوحي بالتشابه في الكميّة ، وإيحاء (الشكل) هو التماثل في المساحة. (١)

فإذا قلنا : «ليس كمثله» أي لا يشابه صفاته وأسماءه أحد ، فالكاف بمعنى التشبيه ، والمثل بمعنى مجمل الصفات والأسماء ، والله العالم.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

فلا يزعم أحد أنّه ما دام ربّنا لا شبيه له ولا كفو فهو بعيد عنّا لا يسمع ولا يرى ، كلّا .. إنّ تعاليه لا يتنافى وقربه الى درجة أنّه يسمع ما نقول ، ويبصر ما نفعل ، فهو رفيع الدرجات وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

[١٢] وهو الذي يرزق من يشاء ما يشاء ، فيعطي لشعب الطاقات والمعادن ، ولآخر العلم والإرادة ، فإذا بالناس يختلف بعضهم عن بعض لتتعاون البشرية مع بعضها ، كما أنّ ربّنا يفتح للبشرية أبوابا متعدّدة من الرزق ، وإذا ما نفذ شيء منه تلطّف عليهم بآخر يحلّ محلّه ، فإذا بالآفاق الواسعة تتفتّح بقدرة الله أمام البشرية لتجدّد الطاقات البديلة عن النفط الذي بات مهدّدا بالانتهاء. وما يدرينا لعلّهم يهتدون الى تحويل الماء الى طاقة محرّكة كما اهتدوا من قبل الى تفكيكه بقدرته تعالى!

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)

فلما ذا يحسد الناس بعضهم ، ويسعى كلّ واحد للتفرّد بالنعم ، وربّنا العليم ينزل من القدرات على من يشاء من البشر بقدر ، حسب حكمته البالغة؟

__________________

(١) تفسير نمونه / ج (٢٠) ص (٣٧٢) ، نقلا عن مفردات الراغب.

٢٩٧

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

وبالتالي فهو يبسط الرزق للناس ، ويعلم ما يحتاجون ممّا يقوّم حياتهم. ويختلف الرزق عن الكسب بأنّ الأوّل هو ما يتفضّل به الله على الإنسان ، بينما الثاني هو ما يسعى إليه بنفسه ، وهو تعالى يهب لكلّ واحد نوعا من الرزق ، وعلى الإنسان أن يسعى (ويكسب) ليجلب رزقه ، فالأرض والأنهار والنشاط والعقل كلّها رزق من الله ، أمّا الكسب فهو تسخير هذا الرزق ليتحوّل إلى حقول مزروعة.

وما يتفاضل به الناس ليس الرزق بل الكسب ، لأنّ الله رزقهم بصورة عادلة فهو إذا سلب من أحد رزقا أعطاه رزقا آخر يتفضّل به على غيره ، فشبه الجزيرة العربية التي جعلها الرب حارّة رطبة أودع فيها (٨٠ خ) من احتياطي النفط في العالم ، بينما جعل استراليا الفاقدة للنفط بلادا زراعية فإذا بها تغطّي قدرا كبيرا من احتياجات العالم ، وهكذا قسّم الموارد الزراعية والطبيعية بين البشر ، وعليهم أن يسعوا لتسخيرها لمصلحتهم!

[١٣] ولكنّ الناس حوّلوا اختلافاتهم الى خلاف وصراع لا يكتسب شيئا من الشرعية ، لأنّ رسالات الله كلّها واحدة ، وجاءت لتحلّ مشاكل الناس ، ومن أهمّها مشكلة الخلاف ، وربّنا إنّما بعث الأنبياء لتوحيد البشرية على أساس المبادئ.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى)

في الأحاديث المأثورة بعض التفصيل في شريعة الله التي نزلت على الرسل ، وفي الدين الذي أمرنا بإقامته ، ونختار منها حديثا مأثورا عن السيد عبد العظيم الحسني أنّه قال

٢٩٨

دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ فلمّا بصر بي قال لي : مرحبا بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّا ، قال : فقلت له : يا بن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضيّا ثبتّ عليه حتى ألقى الله عزّ وجلّ ، فقال : هاتها يا أبا القاسم ، فقلت : إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج من الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه ، وإنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، وخالق الأعراض والجواهر ، وربّ كلّ شيء ومالكه ، جاعله ومحدثه ، وإنّ محمدا عبده ورسوله ، خاتم النبيين فلا نبيّ بعده الى يوم القيامة ، وأقول : إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ علي بن الحسين ثمّ محمّد بن علي ثمّ جعفر بن محمد ثمّ موسى بن جعفر ثمّ علي بن موسى ثمّ محمد بن علي ثم أنت يا مولاي ، فقال عليه السلام : ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف الناس بالخلف من بعده قال : فقلت : وكيف ذاك يا مولاي؟ قال : لأنّه لا يرى شخصه ، ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، قال : فقلت : أقررت ، وأقول : إنّ وليّهم وليّ الله ، وعدوّهم عدوّ الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله ، وأقول : إنّ المعراج حق ، والمسائلة في القبر حق ، وإنّ الجنة حق ، والميزان حق ، وإنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، إنّ الله يبعث من في القبور ، وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقال عليّ بن محمد ـ عليهما السلام ـ : يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)

٢٩٩

لأنّ إقامته بتطبيق أحكامه تماما كفيلة بتنظيم حياة الناس وإسعادهم ، ثم نهى ربّنا عن التفرّق في الدين بسبب الأهواء والشهوات فقال :

(وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)

لأنّنا لو أقمنا الدين حقّا فلن يكون هناك مجال للتفرّق ، فالدين كلّه واحد وإن اختلفت الرسالات في صياغتها ، وهذه من أعظم وصايا الأنبياء للأمم وللبشرية جمعاء.

جاء في الحديث عن الإمام الرضا (ع) عن آبائه عن النبي (ص) أنّه قال :

قال الله جلّ جلاله : ما آمن بي من فسر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني (١)

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)

ولو تدبّرنا عميقا في هذا المقطع لاكتشفنا مدى علاقته بالمقطع السابق من الآية ، فهو يبيّن لنا بأنّ اختلاف الديانات السماوية ناشئ من تسرّب ثقافات الشرك المحيطة بها إليها ، فجوهر الدين واحد ولكنّ الرواسب والأفكار الغربية التي دخلت إليه هي التي أسست الخلاف بين رسالة وأخرى ، وهذه القاعدة تنطبق حتى على الرسالة الواحدة ، فالقرآن مثلا واحد وكلّه حق ، ولكن لماذا صار كل فريق من المسلمين يدّعي أنّه وحده يمثّل القرآن؟ لأنّ بعضهم أضاف اليه إضافات من أفكاره ومن الثقافات الغريبة عليه فلم يقم الدين ، ولأنّ هذه الأفكار والشهوات تختلف من فريق لفريق بل من شخص لآخر دبّ الخلاف بينهم ، بل بدى القرآن نفسه مختلفا للناس.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) ص (٥٦٥) .

٣٠٠