من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

جميعا لتمديد حكم ظالم بلغ أجله لحظة واحدة لما قدروا.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)

سوف يدمّر الظالمون شر تدمير ، وسوف تلاحقهم لعنة اللاعنين ، وسوف ينتصر الربّ لرسالاته ، ويمكّن المستضعفين في الأرض ، كل ذلك وعد من الله ، ولن يخلف الله وعده ، ولكنّه بحاجة الى الصبر.

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)

بما أنّ الرسول ومن يتبع نهجه لا يبحث عن النصر لنفسه ، بل لرسالته ، فإنّ النتيجة عنده واحدة سواء انتصرت مبادؤه في حياته أو بعد وفاته.

إنّ الرسول والمؤمنين قد شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ، ولا يبحثون عن تشفّي نفوسهم بالانتقام من أعدائهم ، بل يفوّضون أمرهم الى ربّهم فسواء انتصروا أم توفوا ، فإنّهم قد أدّوا واجبهم.

حقّا إنّه أعلى درجات الإيثار ، يؤدّب الله بها من اصطفاهم من عباده الأكرمين!

كم هي صعبة (وعظيمة في ذات الوقت) أن يستخلص قلب الداعية من كلّ رغبة خاصّة حتى ولو كانت رغبة الانتقام من أعداء الله.

ولكن هذا هو المطلوب في حركة أتباع الأنبياء ، ولولاه لكانت تزيغ عن الصراط المستقيم ، ولا نعدم الاطمئنان إليها وإلى حملتها ، ولم تقم الحجّة على عباد الله حيث أنّ طلاب المناصب كثيرون ، ولو وضع هؤلاء أيضا المنصب نصب أعينهم لاشتبه الأمر على عامّة الناس ، فلعلّ هؤلاء أيضا اتخذوا الدّين وسيلة

١٤١

للسلطة ، كلا .. إنّ هؤلاء من نمط آخر ، فحتى لو سعت إليهم السلطة سعيا ابتعدوا عن لذاتها وبهارجها ، فهذا قدوتهم المثلى سيد البشر محمد بن عبد الله وخاتم النبيين (ص) سعت إليه قريش يعرضون عليه أجمل نسائهم ، وأصفى أموالهم ، والملك عليهم ، فرفض إلّا تبليغ دعوته.

ولو خالط حبّ الدنيا قلب الداعية أثّر من حيث يدري أو لا يدري على قرارته الإستراتيجيّة ، ذلك أنّ عمل الإنسان إنّما هو تجسيد لنيّاته ، وقد قال ربّنا : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ، فشخصية الإنسان الداخلية تبرز من خلال أعماله شاء أم أبى ، وهكذا تنحرف الرسالة عن مسيرها القويم ، إذا لم يخلص حملتها نيّاتهم لله.

وإنّ فريقا من المنتمين الى الحركات الرسالية يزعمون أنّها حركات سياسية ولكن بصبغة إلهية ، فإذا زويت عنها المكاسب العاجلة لمصلحة سائر السياسيين اتّهموا قادة الحركة بالسذاجة والانطواء ، وحين يطول انتظارهم للنصر تراهم يرتابون في القيم رأسا ، وينسحبون عن الساحة ، كلا .. إنّها حركات دينية أوّلا ، وسياسية ثانيا ، ذلك أنّهم لا يصوغون استراتيجيتهم وفق المتغيّرات السياسية ، بل حسب الواجبات الدينية ، وأعينهم مسمّرة على أجر الله ورضوانه قبل أن ترمق ملامح نصره ، ولذلك تراهم لا يداهنون أعداءهم ، ولا يتنازلون عن قيمهم ، ولا يخادعون الناس ، ولا يمالئون المترفين على حساب دينهم ، ولا يخشون قوة كبري ، ولا يظلمون قوة صغرى.

فهذا الإمام علي ـ عليه السلام ـ حين أشار عليه قومه ببعض الحيل السياسية نهرهم قائلا : «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟!» (١)

__________________

(١) نهج البلاغة / خ ١٢٦ ص ١٨٣.

١٤٢

والحكمة في ذلك أنّ الهدف الأوّل لأنصار الرسالة تكريس الحق وإنذار الناس به ، وقد لا تكون السلطة أفضل وسيلة لذلك ، إذ قد يكون أثر حركة معارضة في توجيه الحالة الاجتماعية أشدّ وأبقى من تأثير السلطة الحاكمة.

وقد يكون المطلوب إيجاد قوة رسالية ضاغطة باتجاه القيم في مواجهة قوة كافرة تضغط باتجاه الضلال ، وفي هذا الوقت تكون السلطة غير مناسبة لإيجاد تلك القوة.

وقد يخشى أن يولد الإنتصار في غير أوانه فيكون ناقصا ، ويجهض سريعا ، وبتعبير آخر قد يمنع النصر العاجل المحدّد نصرا آجلا أرسخ جذورا وأوسع فروعا.

وقد تكون شهادة الرسالي أقوى حجّة لسلامة خطّه وصحة دعوته من انتصاره ، فتكون هي الغاية السامية له ..

لذلك نجد الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ اندفع للشهادة قائلا :

«خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف» .

ثم ناضل أعداء الرسالة ، حتى إذا قدّم كلّ أنصاره وأهل بيته وحتى طفله الرضيع ، واحتمل جسده عشرات الجراحات ، وخرّ على الأرض صريعا ، قال :

«إلهي رضا برضاك ، لا معبود سواك»

[٧٨] تلك هي سنّة الأنبياء جميعا ، إنّهم يتجرّدون لرسالات ربّهم ، ويخلصون لله نيّاتهم وأعمالهم ، وحتى الآيات التي تنزل عليهم كانت بإذن الله.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ)

١٤٣

ولأنّك في خطّهم وعلى السبيل الذي مضوا عليه فلا بدّ أن تهتدي بسيرتهم ، وتنظر الى سنّة الله فيهم.

(مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)

جاء في حديث مأثور عن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ : «خلق الله عزّ وجلّ مأة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي ، أنا أكرمهم على الله ، ولا فخر. وخلق الله عزّ وجلّ مأة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي ، فعلي أكرمهم على الله وأفضلهم» (١)

وجاء في حديث مأثور عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «بعث الله نبيّا أسود لم يقصّ علينا قصته» (٢)

وكلّ أولئك الرسل مضوا على هذه السنة ، وهي :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

فحتى الآيات التي تشهد على صدق نبوّته ليست بإذنه وإنّما بإذن الله سبحانه.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)

الذين أعرضوا عن رسالة الله وخالفوا رسله ، وهكذا حين فوّض الرسل أمورهم الى الله سبحانه أحسن الله تدبيره ، وانتقم بشدة ممّن خالفهم ، بعد انقضاء أجلهم.

[٧٩] الآيات الخارقة التي كان المبطلون يزعمون أنّهم إنّما يؤمنون بالرسالة إذا

__________________

(١) تفسير نمونه نقلا عن موسوعة بحار الأنوار ج ١١ ـ ص ٣٠.

(٢) نور الثقلين / ج ٤ ـ ص ٥٣٧.

١٤٤

وقعت ، ليست ـ في الواقع ـ مختلفة عن آيات الله المبثوثة فيما حولهم ، إلّا أنّهم تعوّدوها فلم تعد تثر فيهم الإعجاب ، وإنّهم لو شاؤوا الإيمان لكفتهم هذه الآيات شواهد على توحيد الله ، ولكن قلوبهم كانت عليلة ، وهم بحاجة الى استيعاب عبرة الأمم الذين خسروا حين جاءتهم الآيات التي طالبوا الرسل بها.

وهكذا نجد السياق ينذر ـ من طرف خفي ـ بمصير أولئك الغابرين كلّ من لا يفتح أبواب فؤاده لآيات الله في الخليقة.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها)

فهي ذات الأنعام ولكنّ الله جعل فيها فوائد عظيمة للبشر فمنها ركوبكم.

(وَمِنْها تَأْكُلُونَ)

والمسافة شاسعة بين حاجة الأكل وحاجة الركوب ، فبينما الأكل طعام الإنسان لا بدّ أن يكون متناسبا مع متطلبات جسده وليّنا ، وقابلا للقضم والهضم ، نجد مركبه ينبغي أن يكون قويّا ومتناسبا وطبيعة الأرض سهلها وحزنها وجبلها وحرّتها!

دعنا نقيس السيّارات التي اخترعناها لسيرنا ، هل تتشابه وخلق الله؟ إنّها بحاجة الى وقود لا يوجد في كلّ أرض ، بعكس طعام الأنعام النابت من كلّ أرض توجد فيها ، وهي بحاجة الى مصانع ، بينما الأنعام تتوالد ، وهي ليست قابلة للأكل بعكس الأنعام .. وأخيرا فهي بحاجة الى طرق معبّدة ، بينما تسير الأنعام في أشدّ السبل وعورة. أو لا يدلّ ذلك على حسن تدبير الله لحياة الإنسان؟!

وبالرغم من أنّ مكاسب الحضارة الحديثة بدورها شاهدة على عظمة الله ، لأنّها

١٤٥

بالتالي تهدينا الى عظيم خلق الإنسان الذي سخّر الله له الطبيعة بالعلم والقدرة ، إلّا أنّها تكشف أيضا عن خبايا الطبيعة المحيطة بنا ، والتي هي خليقة الله ، ومن أحسن منه خلقا وتدبيرا.

[٨٠] وفي الأنعام منافع أخرى في جلودها وأوبارها وأشعارها وحتى في فضلاتها ، واليوم حيث أغنى الله الإنسان بوسائل السير السريعة عن الأنعام لا زلنا بحاجة ماسّة الى تلك المنافع.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ)

قالوا : تحمل أثقالكم الى بلاد بعيدة ، وتقضون بها حوائجكم ، ويبدو لي أنّ في الآية إشارة الى الزينة التي جعلها الله للإنسان في الأنعام ، حيث قال ربّنا سبحانه : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) .

ومعروف العلاقة الحميمة التي تنشأ بين الأنعام ومالكيها بسبب وجود هذه الحاجة في الصدر.

(وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)

فالله الذي خلق الإبل ليطوي به الإنسان المفاوز البعيدة ، هو الذي أجرى سننه في البحر ، وسخّر للإنسان الفلك ليحمله عبر المحيطات الى البلاد البعيدة.

[٨١] فهذه آيات الله يستعرضها ربّنا في كتاب الخليقة وفي ثنايا كتابه المرسل ، ليعرّف نفسه إلينا من خلالها ، حتى لا نكاد نقدر على إنكارها لشدّة وضوحها وكثرتها وتنوّعها ، فإذا ضلّ الإنسان فإنّما يضلّ على نفسه ، وبعد كمال النعمة وإتمام الحجة.

١٤٦

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)

[٨٢] وماذا يغني الإنكار ـ لو أنكرتم ـ عنكم شيئا؟! إنّ الحجة قد تمّت ، والإنذار قد كان بالغا ، والانتقام شديد ، ولكم في حياة الغابرين عبرة لا ينبغي تجاوزها ، أولئك أيضا أنكروا اعتمادا على قوّتهم وغرورا بما لديهم من علم ، واستهزءوا بالحقائق إيغالا في اللهو واللعب ، فانظروا كيف كانت عاقبة أمرهم ، فما راعهم إلّا وبأس الله على رؤوسهم ، فأعلنوا الإيمان لعلّه يدفع عنهم قضاء الله ، ولكن هيهات!

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)

لينظروا مصارع عاد وثمود وأصحاب الأيكة ، وليقرأوا على بقايا قلاع بعلبك ، وأهرامات مصر ، وأطلال مدينة بابل ، وما في المدائن و.. و.. تاريخ الظالمين.

بلى. ساروا وقرءوا وحفظت كتب التاريخ ، ومتاحف البلاد ، وروايات الناس كثيرا من هذه الحقائق ، ولكنّ الإعتبار هو المهم.

(فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

وهل أنّهم انتهوا لقلّة عددهم ، أو ضعف عدّتهم ، ومحدودية آثارهم بالقياس إليهم؟ كلا ..

(كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ)

لقد عمّروا الأرض بإثارة التراب وتغيير ملامحه أكثر مما فعل هؤلاء فما أغنت عنهم القصور الشامخة ، والقلاع المنيعة ، والمنائر الضاربة في السماء.

١٤٧

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)

[٨٣] لقد اعتمدوا على منطق القوة فرفضوا المنطق السليم ، وأرادوا دعم منطقهم بأموالهم وآثارهم في الأرض ، زاعمين أنّهم على حقّ لأنّهم الأقوى ظاهرا ، وأنّ علمهم هو الأفضل لأنّهم أكثر عددا وعدّة.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)

ولعلّ معنى الفرح هنا : الاستغناء به عن العلوم الأخرى ، كمن يعتزّ برأيه ، وهذا يوجب الانغلاق دون الأفكار الجديدة ، وهذه ـ في الواقع ـ عادة الظالمين حيث أنّهم يصابون بالتعصّب والتقليد حتى لكأنّ قلوبهم في أكنّة ، يخشون من كلّ جديد ، وينغلقون دون كلّ دعوة.

وهذا ليس من حكمة العلماء إنّما هي صفة أصحاب القوة ، فالعلم بذاته يدعو إلى التواضع ، ويهدي صاحبه الى آفاق جهله ، وآماد المعارف التي يجب عليه السعي إليها ، وقد شبّه بعضهم العلم بحلقة في صحراء الجهل كلّما اتسعت حدودها كلّما لامست مساحات جديدة من هذه الصحراء ، لذلك ترى أحد العلماء يقول عند موته عند ما يسأل : ماذا علمت؟ يقول : علمت بأنّي لا أعرف شيئا.

بلى. إنّنا نجد بعض الجهلاء اليوم يفتخرون بعلم العلماء (لا علمهم هم) ويرفضون رسالة الله اعتمادا على تقدّمهم العلمي ، بينما نجد علماءهم يزدادون تواضعا للحقائق كلّما ازدادوا علما.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

لقد استهزءوا بالحقائق فأهلكتهم ، واليوم حيث يستبدّ بالمستكبرين في الأرض

١٤٨

غرور القوة ، ويفرحون بما لديهم من العلم ، وينغلقون دون دعوات الإصلاح التي يحملها أنصار الرسالة ، ويستهزءون بالإنذار تلو الإنذار الذي يبلّغه أصحاب الرسالة بأنّ عاقبة هذه الحضارة ليست بأفضل من عاقبة الحضارات الماديّة السابقة ، وأنّ الجهل ، والأنانية ، والظلم ، والترف ، والغفلة ، وسكر الغنى ، وغرور القوة ، وكلّ الصفات الرذيلة التي انتشرت في الأرض عاقبتها الدمار ، إمّا بحرب ثالثة لا تبقي ولا تذر ، أو بصاعقة منشأها ارتطام كوكب بكوكبنا ، أو زلزال مدمّر كالذي يتنبّأ به بعض العلماء فيما يتعلّق بغرب أمريكا أو ما أشبه ..

وإذا كان كلّ ذلك الإنذار يذهب سدى فإنّنا نخشى من مصير رهيب نسأل الله العلي القدير أن يرحم البشرية ، وأن يهدينا والعالم الى نور الإسلام الحق.

[٨٤] هؤلاء يعرفون الحقائق ، ولكنّهم ينكرونها غرورا ، لذلك تراهم يؤمنون بالله عند ما ينزل عليهم بأسه.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ)

من سلطان ومال وضلال.

إنّ غرورهم بالقوة والثروة ، وتعصّبهم لضلالاتهم ، يسمّى كلّ ذلك شركا في هذه الآية ، وقد كفروا به ولكن بعد فوات الفرصة.

[٨٥] إنّ الكفر بالأنداد ، ورفض الآلهة المزيّفة ، كان ينبغي أن يسبق البلاء حتى يكون نافعا ، لأنّ الدنيا دار ابتلاء ، ووقت الابتلاء ينتهي عند رؤية العذاب

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)

إنّ الايمان ينفع قبل حلول البلاء ، تلك سنة لا تتحوّل فيمن مضى وفيمن يأتي.

١٤٩
١٥٠

سورة فصّلت

١٥١
١٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال :

«من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة حدّ بصره ، وسرورا ، وعاش في الدنيا محمودا مغبوطا»

(تفسير نور الثقلين / ج ٤ / ص ٥٣٨)

عن أبي عبد الله (ع) :

إن العزائم أربع : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» والنجم ، و «الم تَنْزِيلُ» السجدة ، و «حم» السجدة

(المصدر)

١٥٣
١٥٤

الإطار العام

تفتتح السورة ببيان عن القرآن الذي فصّلت آياته ببلاغة نافذة تنفع العلماء الذين تبشّرهم بالحسنى ، كما تنذر المعرضين الذين لا يسمعون آياته.

وتلخّص هذه الفاتحة المحاور التالية للسورة :

المحور الأوّل : الجحود والإعراض والاستكبار الذي ابتلي به أكثر القوم حتى زعموا أنّ قلوبهم في أكنّة فلن تهتدي أبدا ، ويذكر السياق عوامل هذه الحالة الشاذة ، ويعطي وصفة العلاج لها.

ويقارن الذكر بين هذه الحالة الموغلة في الضلالة ، وما عليه المؤمنون الذين استقاموا فنزلت عليهم الملائكة ، واشتغلوا بالحمد والتسبيح لله بلا كلل ولا سأم.

وتكاد تكون هذه المقارنة أبرز سمات هذه السورة المباركة ، فإذا تلونا في الآية (٥) قول الجاحدين (فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) متحدين بكل صلافة الرسالة الإلهية ، فإننا نتلوا في الآية التالية (٦) قوله :

١٥٥

(فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) ليتحدى المؤمنون صلافة الجاحدين بما يفوق إصرارهم ، ويهزم عنادهم!

وحين نقرأ في الآية (٢٥) : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) حيث يبيّن القرآن مدى شقاء هذه الطائفة الجاحدة حتى لزمتهم كلمة العذاب ، فإنّنا نقرأ في الآية (٣٠) : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) . فهناك قرناء السوء ، وهنا أولياء الرحمة.

وأخيرا حين يبيّن السياق في الآية (٣٨) استكبار أولئك الجاحدين ، يبيّن أن من عند الله لا يسأمون عن التسبيح.

ولمعالجة حالة الإعراض عن الذكر والجحود في آيات الله ينذرهم الربّ في دنياهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (١٣) ، كما ينذرهم في عقباهم بنار السعير في يوم تشهد عليهم جوارحهم (١٩) .

ويشير السياق الى بعض عوامل الإعراض كالظن السيء بالله ، وقرناء السوء ، واللّغو في القرآن (التضليل) ، ويحذّر مرّة بعد مرة من العذاب الشديد الذي ينتظر الجاحدين حتى أنّهم يبحثون هنالك عمّن أضلهم من الجن والإنس ليجعلوهم تحت أقدامهم (٢٣) .

كما يبشّر الذين يذكرون ويستقيمون على الذكر بالسداد والنصر في الدنيا ، والجنة والرضوان في الآخرة.

المحور الثاني : التذكرة بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، حيث يبيّن القرآن هنا قصة خلق الكائنات في أيّام أو مراحل (٩) وأنّ من آياته الشمس والقمر حيث يدعو الى نبذ السجود لها ، وإنّما التوجه الى خالقها بالسجود والتسبيح ، وأنّ من

١٥٦

آياته إحياء الأرض بعد موتها ، وهو الذي يحيي الموتى (٢٧) ويردّ إليه علم الساعة ، وما تخرج من الثمرات من أكمامها (٤٧) .. ويستعرض جانبا من أطوار النفس البشرية حيث ترى الإنسان لا يسأم من دعاء الخير ، ولكنّه إذا مسّه الشر تراه يؤسا قنوطا ، وحين يرزق نعمة يفقد من الفرح توازنه ، وإذا أصابه السوء فهو ذو دعاء عريض (٤٩) .

وكما هو منهج القرآن البديع في سائر السور حيث يوصل الآيات الشاهدة على الحق بالإنذار من الإعراض عنها ، ذلك أنّ بيان الآيات لا يجدي الجاحد نفعا ، فلا بد إذا من استصلاح الأرض قبل أن يزرع فيها الحب ، كذلك نجد في هذه السورة كيف تتماوج الآيات بين إنذار المعرضين عن الآيات وبين بيان آيات الله في الآفاق والأنفس ، مثلا بعد الآية (٣٩) التي تلفت النظر الى خشوع الأرض قبل أن ينزل الله عليها الماء فتهتز وتربو وتحيى ، وقبل الآية (٤٧) التي تبيّن علم الله بالساعة وبالثمرات التي تخرج من أكمامها ، نجد الآيات (٤٠) تنذر الذين يلحدون في آيات الله أنّهم لا يخفون على الله ، وأنّ الذين كفروا بالذكر لا يفلحون ، لأنّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم يذكر بعض أعذار الجاحدين من قبل ومن بعد الرسول.

وتتميّز السورة بقوّة الطرح ، وشدة نبرات السياق ، خصوصا فيما يتصل بالإعراض والجحود في آيات الله ، كما تتميّز بالمفارقة الحادّة بين طرفي الصراع ، بين من يصرّ على الجحود ومن يستقيم على الطريق.

١٥٧
١٥٨

سورة فصلت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ

___________________

٥ [أكنّة] : أي أغطية فإن أكنّة جمع كن وهو الغطاء.

[وقر] : أي ثقل عن استماع القرآن.

١٥٩

هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)

___________________

٨ [غير ممنون] : أي غير مقطوع ، فإنّ «ممنون» منّ بمعنى قطع أو من «المنّ» بمعنى الأذى الذي يكدّر الإحسان ، أي غير مكدّر بالمن.

١٦٠