من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

فإنّه يتعب نفسه من أجلها حتى يكون من الهالكين ، وأبرز مثل لهذه النزعة الفراعنة والطغاة الذين ينازعون الله رداء العظمة ، وإنّما أثار إبليس هذه النزعة في نفس آدم أبي البشر حين أطمعه في الخلود والملك الدائم.

وكفّار قريش وكلّ الكفّار في التاريخ والحاضر يتبعون هذه النزعة حين يرفضون التسليم للحق ، لأنّ تسليمهم للحق يفرض عليهم التسليم لقيمه وشرائعه ، ولمن يمثّل تلك القيم وينفّذ الشرائع من القيادات الإلهية.

وإنّ العلم ـ أيّ علم ـ يفرض على صاحبه مسئولية ولذلك فهو صعب مستصعب ، لأنّ احتمال المسؤولية أمر عظيم ، لذلك ترفض النفس البشرية الانفتاح أمام حقائق العلم إلّا بصعوبة بالغة.

ولكي نتخلّص من جذر الفساد في النفس وهو هذا الكبر ، علينا أن نستعيذ بالله ، لأنّ الشيطان غوي مضل مبين ، وهو يتقن أساليب المكر والخداع ، ويعرف من أين يدخل في قلب هذا البشر الساذج ، ولولا الاستعاذة بالله تضعف النفس أمام وساوسه وأمانيه.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

فهو يسمع أقوال المتكبرين والمجادلين ويبصر أعمالهم ، كما يسمع همسات المناجين ربّهم المستعيذين من مكر الشيطان ويبصر أعمالهم.

ونتساءل : كيف نستعيذ بالله؟

أوّلا : بالدعاء والمناجاة. والملاحظ أنّ المؤمن قد تهجم عليه أمواج البلاء أو صنوف الإغراء فيتردّد قليلا في الأمر ، ولكنّه بمجرّد أن يدعو الله حتى يعطيه القوة

١٠١

الكافية لمقاومة الشيطان.

ثانيا : بمعرفة الله والتقرّب إليه بذكره وتسبيحه والثقة بنصره.

[٥٧] ومن الوسائل الناجحة لمحاربة كبر النفس النظر في عظيم خلق الله وقيامه بذاته ، فهل أنا المتكبر أكبر أم الجبال أم الأرض أم الشمس والقمر؟! وأساسا : من أنا بالقياس الى هذا الخلق العظيم؟!

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)

تعالوا لننظر الى ملكوت السموات والأرض ، لنتعرف على الحجم الحقيقي لأنفسنا ، أنا واحد من خمسة آلاف مليون إنسان يمشون اليوم فوق كوكبنا ، والإنسان واحد من ألوف الأحياء ، والأحياء نوع من عشرات الأجناس غير الحية ، ثم كلّ ما في الأرض لا تحتلّ إلّا مساحة محدودة منها ، ثم إنّي لا أعيش عليها إلّا سنين معدودات ، لو قيست بالملايين من سني عمر الأرض لكانت كلحظة خاطفة.

ثم الأرض هذه تابع صغير للشمس ، فحجمها أقلّ من واحد الى مليون من حجم أمّها ، وهي لا تزال تعيش على مقربة منها كالرضيع لا يبتعد عن أمّه ، ولكن مع ذلك تبلغ المسافة بين كوكبنا والشمس حوالي ثلاثة وتسعين مليون ميل!!

أمّا الشمس فهي من عضوات مجرة تحتوي على نحو من مائة مليون شمس .. ولكن هذه المجرة ليست الوحيدة في هذا الفضاء الأرحب ، بل هي واحدة من عشرات الملايين من المجرّات اكتشفها البشر ، وكلّما اخترعوا أجهزة جديدة اكتشفوا ملايين جديدة من المجرّات ، حتى شاعت بين علماء الفضاء فكرة تقول : إنّ الكون يشهد ولادة مجرات جديدة لا تستطيع أن تلاحقها أجهزتنا المتطورة ..

الله أكبر .. من أنا أمام هذا الحشد من المجرات!

١٠٢

هكذا قال رسولنا الأكرم لزينب العطارة التي زارته في بيته قائلة : إنّما جئتك أسألك عن عظمة الله ، فقال : جلّ جلال الله ، سأحدّثك عن بعض ذلك.

ثم قال : وإنّ هذه الأرض بمن فيها ومن عليها عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي (١) ، وهاتان ومن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة في فلاة قي والثالثة .. حتى انتهى إلى السابعة ، ثم تلا هذه الآية : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٢)

ومضى الرسول (ص) يبيّن طبقات الأرض وما وراءها ، وأنّ الواحدة منها بالنسبة الى تاليتها كحلقة فلاة واسعة ، الى أن قال عن السماء : «والسماء الدنيا ومن فيها ومن عليها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قي ، وهذا وهاتان السماء ان عند الثانية كحلقة في فلاة قي ، وهذه الثالثة ومن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي ، حتى انتهى إلى السابعة ، وهذه السبع ومن فيهن ومن عليهم عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي (٣)

ومضى النبي (ص) يبين عظمة خلق الله حيث أنّ بعض خلقه أعظم من بعض كما الحلقة الصغيرة في الصحراء المترامية ، وهو أقرب مثل لاتساع المنظومات الشمسية والمجرّات وما أشبه.

فهل يحق لنا أن نتكبّر على ربّنا الواسع الذي وسع كرسيّه السموات والأرض أو ندّعى مقامه سبحانه؟!

هذا في أفق المكان وامتداده. أمّا عن الزمان وامتداده فنحن لسنا أوّل ما خلق

__________________

(١) القفر من الأرض.

(٢) الطلاق / ١٢.

(٣) التوحيد (للشيخ الصدوق) ص ٢٧٦.

١٠٣

الله ، ولن نكون آخر خلقه سبحانه ، جاء في حديث مأثور عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال في تفسير قوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١) قال : يا جابر تأويل ذلك أنّ الله عزّ وجلّ إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، جدّد عالما غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلّهم. لعلك ترى إنّما خلق هذا العالم الواحد وترى أنّ الله لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين» (٢)

وأخيرا يرى بعض علماء النفس أنّ أفضل وسيلة لتربية الإنسان أن يعطى له عند بلوغه مبلغ الرجال جهازان يرى بهما عظمة الخلائق ، جهاز ميكرسكوب يرى به عجيب لطف الصنع في خلقة الموجودات المتناهية في الصغر ، وجهاز تلسكوب يرى به عظيم القدرة في خلقة الأجرام المتناهية في الكبر.

[٥٨] هل يستوي من يستوعب هذه الحقائق ببصيرة قلبه فيكون كالبصير ، والذي هو أعمى حتى لو اقتربت منه حقائق الكون جميعا لا يعيها ولا يستوعب دروسها ، وتراه كالشرنقة لا يزال في تلك الزنزانة الضيقة من نسيج أهوائه وشهواته ووساوس الشيطان.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ)

أرأيت الذي قضى عمره في جزيرة مهجورة لا يعلم عن الدنيا شيئا ، هل يختلف

__________________

(١) ق / ١٥.

(٢) المصدر ص ٢٧٧.

١٠٤

بالنتيجة عمّن يعيش في غرفة ضيقة في وسط أضخم العواصم قد حجب نفسه عن كلّ ما حوله؟ كلا .. كذلك الكافر الذي تحيط به حقائق الكون فلا يستوعبها ، ولا يعيش قلبه في أجوائها ولا تعيها بصيرة نفسه ، بل هو في ظلام جهله وجهالته ، لا يعترف بشيء غير نفسه وأهوائها ، إنّه أشدّ عمى ممّن فقد عينيه. أليس كذلك؟

وكم هو فرق بينه وبين من يعيش عوالم الخلق جميعا في ضميره ووعيه ، ويرى نفسه منها ولا بدّ أن يتناغم سلوكه وسننها ، لأنّه يؤمن بربّها العظيم ، ويعمل الصالحات التي أمر بها كما أمر سائر العوالم بمثلها.

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ)

[٥٩] وفي خاتمة الدرس يلخّص السياق عبرة الحقائق التي ذكّر بها أنّها الساعة حيث يتبدّل النظام القائم هنا على أساس الابتلاء ، بنظام يقوم على أساس الشهود والجزاء.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها)

وكيف يرتاب في يوم تدلّ كلّ حقائق العالم على أنّه المنتهى ، فحكمة الله التي تتجلّى في كلّ خليقة صغيرة أو كبيرة تدلّنا بوضوح كاف على يوم الجزاء.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)

فلا تتبع سلوكهم ، وذرهم يخوضوا في لهوهم ، وأنقذ نفسك من المصير الذي ينتهون إليه بكفرهم بها.

١٠٥

وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ

١٠٦

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧)

١٠٧

وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ

هدى من الآيات :

لكي نعالج الكبر الذي انطوت عليه النفوس ، لا بدّ أوّلا : أن ننظر الى حجمنا بالقياس الى عظمة الخلائق ، ثانيا : إذا اطمأنّت النفس الى عظمة البارئ الذي خلقها وأتقن صنعها ، التجأت إليه بالدعاء ، وخلعت رداء التكبّر ، وارتدت ثوب العبودية لربّ العالمين ، أمّا الذين يستكبرون عن عبادة الله (وعن الدعاء وهو مخّ العبادة) فسيدخلون جهنّم داخرين ، ثالثا : نشكر ربّنا على نعمه التي تحيط بنا ، ولولا واحدة منها انعدمت حياتنا وتحوّلت الى جحيم لا يطاق ، فهو الذي جعل الليل سكنا والنهار معاشا ، إنّه فضل عظيم ، ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون (ولذلك تجدهم يستكبرون) .

ولماذا ينحرف البشر عن صراط الله الذي ربّاه ونعّمه ، وهو خالق كلّ شيء ، ولا سلطان إلّا سلطانه ، ولا إله إلّا هو الواحد الأحد؟ لأنّه يجحد بآيات الله (وهكذا عاد السياق الى موضوع رئيسي في السورة ، وهو التعامل مع آيات الله)

١٠٨

وآيات الله (التي هي السبل الى معرفته وعبادته) مبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا ، فهو الذي جعل الأرض قرارا والسماء بناء (هذا عن الآفاق) ، وهو الذي صوّر الإنسان في أحسن تصوير ، وأغدق عليه من رزقه الطيّب. إنّه ربّنا وربّ العالمين تبارك وتعالى.

وهو الحيّ الذي تفرّد بالألوهية فإليه لا بدّ أن يجأر الإنسان خالصا له الطاعة والانقياد ، وإنّ له الحمد كلّه ، لأنّه ربّ العالمين ، لأنه هدانا اليه بالبيّنات التي أرسلها ، ويتجلّى حمدنا له في تحدّي الكفّار الذين يدّعون الأنداد ، وكذلك في تسليمنا له. أو ليس قد أسلم له كلّ شيء في العالمين؟

من هذا الإنسان المسكين الذي يتكبّر على ربّه ، وينازعه رداء العزّة؟! إنّه مخلوق كان أصله التراب فجعله الله نطفة ثمّ علقة ثمّ أخرجه طفلا ورعاه حتى أضحى بالغا رشيدا ، وأحاطت به نعم الله حتى أمسى شيخا ، بينما البعض توفّاهم الله من قبل ، كلّ قد حدّد له أجلا ، كلّ ذلك بهدف أن يعرفوا ربّهم من خلال تطوّرات حياتهم ويعقلوا.

وبيده ـ لا بيد غيره ـ الحياة والموت ، وهو مطلق القدرة ، فعّال لما يريد ، وأمره ـ إذا قضى شيئا ـ بين الكاف والنون.

بينات من الآيات :

[٦٠] الذين يعيشون في غياهب السجون ، أو في ظلمات الحكم الطاغوتي ، أو في ذلّ المهاجر بعيدين عن الأهل والوطن. إنّ مثل هؤلاء سوف تهجم عليهم سحب اليأس والقنوط ، ويتعرّضون لموجات من الشك والارتياب. أحقّ نحن على حق أم هم؟ فلما ذا نراهم المسيطرين علينا ، وإلى متى؟

١٠٩

وأكثر من هؤلاء جميعا ، أولئك الذين يتحصّنون بالتقاة ، ويعيشون داخل الكيان الطاغوتي ، حيث يتعرضون لعمليات غسل الدماغ المستمرة ، وترتبط مصالحهم ورغباتهم ومجمل وشائج حياتهم بعجلة النظام ، وفي ذات الوقت يكتمون إيمانهم ، وتكاد صدورهم تتفجّر ضيقا بالأسرار التي يحملونها ، فما الذي ينقذهم من هذا الوضع ، وأيّ وقود إيمانيّ يمدّهم بطاقة الاستمرار وقدرة الاستقامة .. حيث لا صلة بالقيادة ، ولا تفاعل مع المجتمع الإيماني ، ولا جلسات للتعبئة الروحية ، ولا برامج اجتماعية ، ولا مصالح مشتركة مع المؤمنين.

لقد فتح الله لهؤلاء وأولئك جميعا باب الدعاء حيث تتصل قلوبهم بنور ربّهم مباشرة ، وينهلون من نبع التوحيد الأصفى ما يمدّهم بالرجاء والثقة والاستقامة فقال ربّنا :

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)

ما هو هذا الدعاء؟ قال المفسرون إنّه طلب الحاجة من الله ، وتفرّد ابن عباس بتفسير آخر حيث قال انّه توحيد الله ، ويبدو لي أنّ ابن عباس التقط إشارة خفيّة من الآية حيث أرهف سمعه الى ضمير «ادعوني» وعرف أنّ المعنى لا تدعو من دوني أحدا ، وحقّا : إنّ الإنسان إمّا أن يدعو ربّه أم يدعو الأنداد .. والله يأمرنا بدعوته دون الأنداد ، وسوف نرى ـ إن شاء الله ـ كيف أنّ الدعاء أسمى درجات التوحيد.

وعند ما وعد ربّنا الاستجابة فإنّ ذلك يكون شرطا ضمنيّا بأن يكون الدعاء خالصا لله ، كما قال سبحانه : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .

١١٠

ولعلّ في كلمة «إِذا دَعانِ» إشارة الى هذه الحقيقة ، كما نجد تصريحا بذلك في قوله «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» .

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)

لماذا اعتبر الدعاء عبادة؟ وأوعد الله على تركه النار؟ لكي نعرف الإجابة : دعنا نتساءل : ماذا كان محور الخلاف الأصلي بين الموحّدين والمشركين؟ هل كان في وجود الله؟ كلا ، هل كان في أسماء الله التي تتعلّق حسب المصطلح بذاته سبحانه؟ كلّا ، بل إنّ المشركين كانوا يعترفون بالله هو الخالق ، وقد قال ربّنا : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (١)

إنّما جوهر الخلاف ومحوره الأصيل في كلمة : إنّ الموحّدين يقولون : إنّ الله هو المهيمن المدبّر لأمور الله ، فهو القابض الباسط ، المحيي المميت ، المعزّ المذل ، وهو الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويدبّر الأمر ساعة بساعة ولحظة بلحظة ، بينما كان يرى المشركون عوامل حتميّة أخرى غير مشيئة الله في تدبير شؤون الخليقة ، فيتوجّهون الى تلك العوامل من دون الله.

على أنّ المشركين قلوبهم شتّى ، وآراؤهم في ذلك مختلفة ، إلّا أنّ أبعدها ضلالة ما قالته اليهود بأنّ يد الله مغلولة ، اتباعا لفلاسفة اليونان حيث زعموا بأنّ الله قد فرغ من أمر الخلق واستراح ولا يمكن له التأثير في الخلق أبدا.

وتتناقض رسالات الله عن فلاسفة البشر في هذا المحور ، حيث بشّرت البشرية بأنّ ربّهم قريب منهم ، يهيمن على حياتهم ، ويسمع نداءهم ، ويستجيب دعاءهم ، وتوضّحت هذه البصيرة الإلهية عبر آيات الذكر ، وفي تفسير أهل بيت النبي (ص)

__________________

(١) الزخرف / ٩.

١١١

لكلمة (البداء) التي تعني أنّ لربّنا سبحانه مطلق المشيئة في فعل ما يريد ، والذي تشير إليه الآيات القرآنية :

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١)

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٢)

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣)

(كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤)

(لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥)

أمّا الآيات التي تبيّن أنّ ربّنا استوى على العرش وأنّه المدبّر والمهيمن والحاكم وما أشبه مما تشير الى هذه الحقيقة بصورة مّا فهي كثيرة ، بل هي ـ في الواقع ـ المحور الأساس للقرآن كلّه.

وقد بيّنت آيات محكمات واقع البداء في عدّة سور .. قال الله سبحانه :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ

__________________

(١) هود / ١٠٧.

(٢) البروج / ١٥ ـ ١٦.

(٣) الأحزاب / ٣٧.

(٤) آل عمران / ٤٠.

(٥) الأعراف / ٥٤.

(٦) البقرة / ١٠٦.

١١٢

يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (١)

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢)

وجاء في تفسير أهل البيت لبصيرة البداء في القرآن الكثير من الأحاديث الشريفة ، فقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنّه قال لسليمان المروزي : ما أنكرت من البداء يا سليمان والله عزّ وجلّ يقول : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ، ويقول عزّ وجل : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ويقول : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ويقول : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) ويقول : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ويقول عزّ وجل : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ، ويقول عزّ وجل : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (٣)

وجاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال في تفسير قول الله عزّ وجلّ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) لم يعنوا بذلك أنّه هكذا .. ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص فقال الله جلّ جلاله تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ألم تسمع الله عزّ وجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤)

وذكر الفخر الرازي في تفسير الآية وجوها جاء في الرابع منها : لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة ، وهو إنّ الله تعالى موجب لذاته وإنّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلّا على نهج واحد ، وإنّه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث غير

__________________

(١) المائدة / ٦٤.

(٢) الرعد / ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) موسوعة البحار / ج ٤ ص ٩٥.

(٤) المصدر / ص ١٠٤.

١١٣

الوجوه التي عليها يقع فعبّروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغلّ اليد.

إنّ معرفة الله بأنّه قادر على كلّ شيء ، وأنّه فعّال لما يريد ، وأنّه كما أبدع الخلائق بعد ان لم تكن شيئا ، قادر على أن يبدع ما يشاء ، هي المعرفة الحق ، وهي التي تبعث على الثناء عليه وتوصيفه بالحمد والشكر ، وأيّ حمد أو ثناء لمن لا يقدر على تغيير شيء حسب ما يزعمون.

ولذلك كان الاعتراف بهذه القدرة للرب أي بالبداء أعظم عبادة وأفضل تعظيم.

جاء في الحديث عن زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق عليهما السّلام) :

«ما عبد الله بشيء مثل البداء» (١)

وفي حديث آخر عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال : «ما عظّم الله عزّ وجلّ بمثل البداء» (٢) وقال : «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه» (٣)

ومن مظاهر البداء الدعاء ، ذلك أنّ في الدعاء اعترافا بسلطان الله الفعلي والمباشر على الخليقة ، وأنه القادر على أن يصنع ما يشاء فيما خلق ، وأنّه المستعان على بوائق الدهور ونوائب الحياة ، ولذا أضحى الدعاء العبادة الأسمى ، وقال ربّنا سبحانه : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) .

وقد استعرض السياق القرآني كيف أنّ الرجال العظام بلغوا الدرجات السامية

__________________

(١) المصدر / ص ١٠٧.

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ١٠٨.

١١٤

بالدعاء ، شروعا من آدم أبي البشر حيث استغفر ربّه (بالدعاء) فغفر له ، وآتاه النبوّة والصفوة ، حتى نوح حيث دعا على قومه فأعانه الله عليهم بالطوفان العظيم ، وإلى إبراهيم الذي ما ونى عن الدعاء في كل موقع حتى اتخذه الله خليلا وجعله للناس إماما ، وإلى موسى الذي نصره الله على فرعون بالدعاء ، وكذلك سائر النبيين ، الذين ما فتئوا يدعون ربّهم ويستجيب لهم الله بخرق سنن الطبيعة ، فمثلا حين يرزق مريم من عنده ، يتذكّر كفيلها زكريا حاجة قديمة في نفسه ، فيدعو زكريا ربّه ويطلب منه ذرية ، فيرزقه الله يحيى وكانت امرأته عاقرا ، وقد بلغ من الكبر عتيّا ..

وهكذا يعرف من خلال حياة الأنبياء مقام العبد من ربّه ، وكيف أنّه مقام الطلب والدعاء ، وهو من أبرز ما يستفيده المؤمن من قصص قدواته الصالحة الأنبياء والأولياء ، وقد جاء في الأثر عن الإمام الباقر (ع) في تفسير قوله سبحانه (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) قال : «الأوّاه الدعّاء» (١)

وجاء في حديث آخر عن الإمام الرضا (ع) أنّه كان يقول لأصحابه : عليكم بسلاح الأنبياء ، فقيل : وما سلاح الأنبياء؟ قال : «الدعاء» (٢)

وللدعاء فوائد عاجلة نتذكّر معا بعضها :

ألف : إنّه أفضل دواء لداء الكبر في النفس البشرية. وإذا عرفنا أنّ الاستكبار أعظم حجاب بين العبد وربّه ، وهو العقبة الكأداء في سبيل الصلاح والفلاح ، وهو مصدر أكثر الفواحش والذنوب ، فسوف نعرف أهميّة الدعاء.

__________________

(١) موسوعة البحار / ج ٩٣ ص ٢٩٣.

(٢) المصدر / ص ٢٩٥.

١١٥

وهكذا نجد في السياق القرآني هنا ما يوحي بأنّ من يستنكف عن الدعاء فقد استكبر عن عبادة ربّه ، وأنّه سوف يدخل جهنم داخرا ، كما نجد هذه الآية تأتي في سياق معالجة كبر النفس الذي لن تبلغه ، الى جانب سائر طرق العلاج التي سبقت أو تأتي في هذه الآيات.

باء : الدعاء يلهم الأمل ويرفع اليأس ، ويعيد إلى القلب حيويته ونشاطه وعنفوانه.

أرأيت أعظم الهزيمة هزيمة القلب ، وأعقد المشاكل انهيار النفس؟ بلى. والدعاء هو الدواء. كيف؟

إنّ الداعي يرجو ربّه الكبير أرحم الراحمين فكيف يعتريه اليأس؟ وهل يظمأ من يرد على حياض مترعة؟ وقد روى عن الإمام الصادق (ع) انه قال : «إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم بعد ما أبرم إبراما ، فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ، ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء ، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يفتح لصاحبه» (١)

وروي عنه (ع) : «الدعاء كهف الإجابة كما أنّ السحاب كهف المطر» (٢)

وقد جاء في حديث ـ قدسي ـ مفصّل عن النبي (ص) عن جبرئيل عن ربّ العالمين أنّه قال : «يا عبادي كلكم ضالّ إلّا من هديته ، فاسألوني الهدى أهدكم ، وكلّكم فقير إلّا من أغنيته ، فاسألوني الغناء أرزقكم ، وكلّكم مذنب إلّا من عافيته ، فاسألوني المغفرة أغفر لكم .. الى أن قال ربّنا سبحانه : ولو أنّ أوّلكم

__________________

(١) المصدر / ص ٢٩٩.

(٢) المصدر / ص ٢٩٥.

١١٦

وآخركم ، وحيّكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم ، اجتمعوا فيتمنّى كلّ واحد ما بلغت أمنيته فأعطيته لم يتبيّن ذلك في ملكي ، كما لو أنّ أحدكم مرّ على شفير البحر فغمس فيه إبرة ثم انتزعها (١) ذلك بأنّي جواد ماجد واجد ، عطائي كلام ، وعداتي كلام ، فإذا أردت شيئا فإنّما أقول له : كن ، فيكون» (٢)

جيم : الدعاء يزيد العبد حبّا لربّه ، والحبّ أفضل علاقة تصل قلب الإنسان بربّ العالمين. إنّه يغمر القلب صفاء وعطاء ، وحبّا للناس وحبّا للحياة ، وبهجة وسكينة .. كذلك الدين ليس إلّا الحب ، وما أغلى قيمة الحبّ إذا كان الحبيب ربّ السموات والأرض.

وهل يشعر بوحشة من يعيش بقلبه في حضرة ربّه؟ وهل يحسّ بالفقر من يجد مليك السموات والأرض ، وهل يجد الذلّ سبيلا الى قلب جليس جبّار السموات والأرض؟

ومن أحبّ ربّه سارع الى طاعاته ، بلا تكلّف ولا توان ولا حزن ، وكانت الصلاة قرة عينه ، والزكاة مطيّة قربه ، والشهادة غاية مناه ، لأنّ فيها لقاء ربّه. وإنّ أولئك الذين منّ الله عليهم بحبّه لا يبيعون لحظة مناجاته بملك الدنيا ، لأنّ في تلك اللحظة وجدان الحقيقة ولذّة العمر ، وحلاوة اللقاء بالحبيب.

وهكذا جاء في النصوص انّ الله يحبّ الدعاء ويحبّ الدّاعين ، وهل يحبّ الله أحدا ثم لا يرزقه حبّه ، وهو أعظم نعمة؟!

قال النبي (ص) : «ما من عبد يسلك واديا فيبسط كفّيه فيذكر الله ويدعو

__________________

(١) معناه : إنّ كلّ تمنيات العباد ليست عند ملك الله الا بمقدار رأس ابرة بالنسبة الى بحر عظيم.

(٢) المصدر / ص ٢٩٣.

١١٧

إلّا ملأ الله ذلك الوادي حسنات. فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر» (١)

وقال الإمام الباقر (ع) : «ما من شيء أحسن الى الله من أن يسأل» (٢)

وقال الإمام الصادق (ع) : «الدعاء سلاح المؤمن ، وعمود الدين ، ونور السموات والأرض» (٣)

وقال النبي (ص) : «لا تعجزوا عن الدعاء فإنّه لم يهلك مع الدعاء أحد ، وليسأل أحدكم ربّه حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ، واسألوا الله من فضله فإنّه يحبّ أن يسأل» (٤)

وقال (ص) : «إنّ الله يحبّ الملحّين في الدعاء» (٥)

دال : الدعاء يوفّر نيّة المؤمن لمتابعة مسيرته نحو الأهداف الصالحة ، إذ مع طول الأمد يخبو الهدف في نفس صاحبه ، خصوصا إذا واجهته الصعاب ، فيتساءل : لماذا نسعى من أجله؟ وهل هو يستحقّ كلّ هذه التضحيات؟ فيأتي الدعاء ليكرّس الغايات النبيلة في النفس ، خصوصا الأدعية المأثورة التي ترسم لنا خريطة متكاملة للأهداف السامية ، فإذا بنا نزداد تعلّقا بها كلّما كرّرناها.

هاء : الدعاء يساهم في تزكية النفس والتقوى ، ذلك أنّ الإنسان ليعلم بفطرته أنّ دعاءه لا يستجاب إذا كانت بينه وبين ربّه حجب الذنوب أو لم يف بعهد الله ، وهكذا ينشط ـ بالدعاء ـ لتنفيذ واجباته.

__________________

(١) المصدر / ص ٢٩٢.

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ٢٩٤.

(٤) المصدر / ص ٣٠٠.

(٥) المصدر

١١٨

جاء في الأثر عن الإمام الصادق (ع): «أطب كسبك تستجاب دعوتك ، فإنّ الرجل يرفع اللقمة الى فيه حراما فما تستجاب له أربعين يوما» (١)

وروي عنه أنّه قال : قال رسول الله (ص) : «خمسة لا يستجاب لهم : رجل جعل الله بيده طلاق امرأته فهي تؤذيه وعنده ما يعطيها ولم يخلّ سبيلها ، ورجل أبق مملوكه ثلاث مرّات ولم يبعه ، ورجل مرّ بحائط مائل وهو يقبل إليه ولم يسرع المشي حتى سقط عليه ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يشهد عليه ، ورجل جلس في بيته وقال : اللهم ارزقني ولم يطلب» (٢)

والعامل المشترك بين هؤلاء جميعا : الاكتفاء بالدعاء عن السعي. (٣)

وكلمة أخيرة : إنّ من الناس من يحجم عن الدعاء بمجرّد تباطؤ الإجابة عنه وهو لا يعلم :

أوّلا : أنّ توفيقه للدعاء أعظم مما يطلبه ، وأنّ أجره عند الله أكبر بكثير من تحقيق رغباته العاجلة ، حتى أنّ المؤمن يتمنّى يوم القيامة أن لو كانت أدعيته جميعا غير مستجابة في الدنيا لما يجد من الثواب العظيم لمن لم يستجب دعاؤه.

ثانيا : قد يدعو الإنسان بما يضره فيرحمه الله بعدم استجابته ، ويبدله بما هو خير له.

ثالثا : بعض الدعاء يستدعي تغيير سنن الله التي لا تتبدّل ، كأن يدعو المرء توقّف الأرض عن الحركة أو ألّا يموت أبدا أو أن ينتهي الصراع القائم بين الناس أو

__________________

(١) المصدر / ص ٣٥٨.

(٢) المصدر / ص ٣٥٦.

(٣) للتفصيل في الدعاء يمكن مراجعة كتاب المؤلّف عن الدعاء.

١١٩

تتهاوى صروح الظالمين بلا جهاد وتضحيات ، فإذا لم يستجب له يصيبه اليأس.

رابعا : أنّ تأخير الاستجابة لا يعني التعرّض للقنوط إذ أنّ الله قد جعل لكلّ شيء قدرا.

ولعل الله سبحانه قد أمر له بالاستجابة ولكن وفق سننه الجارية مما يحتاج الى بعض الوقت ، وجاء في رائعة دعاء الافتتاح ما يهدينا الى حكمة التباطئ في الاستجابة :

«مدلّا عليك فيما قصدت فيه إليك ، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك ، ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي ، لعلمك بعاقبة الأمور ، فلم أر مولى كريما أصبر على عبد لئيم منك عليّ يا رب»

[٦١] حين تأوي الخلائق الى مساكنها عند هبوط الظلام ، وتستريح الى السكون والهدوء ، وتعيش خلايا الجسم والأنسجة في سبات بعيدا عن آثار أشعة الشمس ، تتجلّى نعمة الليل التي جعلها الله سكنا ، فلولاه لما تجلّت نعمة النهار للإنسان حين تستيقظ الطبيعة ، نباتها وأحياؤها ، وتلبس الكائنات حلّة الضياء حتى لكأنّ بعضها يبصر بعضا ، إذ سبات الليل وسكونه يمهّد لنشاط النهار وحركته وضيائه.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)

إنّه الله الذي قدّر الليل والنهار بهذه الدّقة المتناهية ، فلو لا حركة الأرض حول نفسها في مواجهة الشمس لما تعاقب الليل والنهار ، ولو دارت بسرعة أكبر مما عليها لتناثر ما عليها وتفكّكت وأصبحت كهشيم يذري في الفضاء الأرحب ، ولو دارت حول نفسها أبطأ ممّا عليها الآن لانعدمت الحياة بالبرد الشديد حينا وبالحرّ الشديد

١٢٠