من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

جاء في الأثر في تفسير هذه الاية الكريمة عن يعقوب الأحمر قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام نعزيه بإسماعيل فترحم عليه ثم قال : إنّ الله عزّ وجلّ نعى الى نبيّه صلّى الله عليه وآله نفسه فقال : «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، ثم انشأ يحدث فقال : إنّه يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد ، ثم يموت أهل السماء حتى لا يبقى أحد الا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل عليهم السلام ، قال : فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عز وجل فيقال : من بقي؟ ـ وهو أعلم ـ فيقول : يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل ، فيقال له : قل لجبرئيل وميكائيل فليموتا ، فيقول الملائكة عند ذلك : يا ربّ رسوليك وأمينيك؟ فيقول : إنّى قد قضيت على كلّ نفس فيها الروح الموت ، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزّ وجلّ فيقال له : من بقي؟ ـ وهو أعلم ـ فيقول : يا رب لم يبق الا ملك الموت وحملة العرش ، فيقال : قل لحملة العرش فليموتوا ، قال : ثم يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقال له : من بقي؟ ـ وهو أعلم ـ فيقول : يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت ، فيقال له : مت يا ملك الموت فيموت ، ثم يأخذ الأرض والسماوات بيمينه ويقول : أين الذين كانوا يدعون معي شريكا؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر؟ (١)

[١٧] ثم يبيّن القرآن أنّ كون الملك للواحد القهار لا يعني أنّه يجور على الناس ، تعالى ربّنا عن الظلم والحيف ، إنّما يحاسبهم على أساس المقاييس العادلة التي جاءت ببيانها رسالات الأنبياء.

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ / ص ٥١٦.

٤١

في السر أو العلانية ، قليلا كان أو كثيرا ، والآية تلغي المقاييس الأخرى الباطلة ، كالفداء والشفاعات المزعومة ، أو أن ينتفع الإنسان لمجرّد انتمائه ظاهرا للحق ، وذلك حينما تؤكد المسؤولية «بما كسبت» وتركّز الآية الكريمة هنا على العدالة الإلهية فتقول :

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)

لأنّه مطلق العلم والقدرة ، ولأنّه يحاسب الناس على ضوء المقاييس والحجج ، وإذا كان الإنسان بعلمه وإمكاناته المحدودة قد اكتشف جهاز الكومبيوتر الذي يفحص الأمتعة والحقائب من خلال الشاشة في لحظات فكيف بربّنا وهو سريع الحساب؟!

فلا يتوهّم البعض أنّ كثرة عدد البشر وتنوّع ما يكتبونه بما لا يحصى يمنع ربّنا من الدقة في الحساب أو النصف فيه ، كلا .. إنّه سريع الحساب يحصي عليهم حتى أنفاسهم وخفيّ ضمائرهم فيحاسبهم جميعا على كلّ ذلك في ساعة يوم القيامة.

[١٨] (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ)

وهو أحد أسماء يوم القيامة ، ولعلّ كلّ اسم من أسماء الآخرة جاء بمناسبة معيّنة أو بحالة معينة.

ولهذا الاسم عدّة معان :

منها : أنّ القيامة قريبة جدا ، من أزف الأمر إذا دنا وقته واقترب ، وفعلا الساعة قريبة فلا تفصلنا ـ نحن البشر ـ عنها عمليا إلّا زجرة الموت ، وبعده يغفل عن أكثر الناس حتى قيام الساعة فيكونون كمن غطّ في نوم عميق سحابة نهاره

٤٢

فيتصل عنده أوّل يومه بآخره ويكون ما يحدث عليه آخر النهار قريبا من أول النهار.

أمّا الذين محضوا الإيمان والكفر فإنّهم إذا ماتوا قامت قيامتهم ، فتدفع أرواح المؤمنين في الجنان فور انتقالها من أبدانهم ، ويعرض على أرواح المعاندين النار غدوّا وعشيّا كآل فرعون ، فالقيامة إذا قريبة منّا جميعا. وفي القرآن إشارة الى هذا المعنى في قوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١)

ومنها : أنّ العذاب يكون قريبا من الناس في ذلك اليوم ، أو أنّ روح الإنسان يقرب خروجها من جسده لأهوال ذلك اليوم.

(إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ)

وربما يكون المقصود من القلب هنا بالإضافة إلى الروح ، القلب بواقعه المادي ، ذلك أنّ الإنسان يحسّ وكأن قلبه يصعد الى الأعلى عند ما يتعرّض للفزع ، وبالذات إذا كان مفاجئا لا يتوقعه ، ولأنّ الناس كلّهم مشغولون بأنفسهم لا يجد الواحد طرفا يمكنه أن ينفعه يظهر له ما في نفسه لذلك يخفي الجميع ما في صدورهم ويكظمون غيظهم ، وحتى إذا أرادوا البوح فهل هي إلّا ندامة وخسارا! بالإضافة إلى هيبة ذلك اليوم التي تعقل ألسنتهم ، وإلى الملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يأذنون لهم بالكلام ، وإلى خشوع الأصوات جميعا لربّ العالمين ، فهم لهذه الأسباب وغيرها يضطرون للكظم بالرغم من شدّة غيظهم حتى ليكادون يتميّزون حنقا.

(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ)

وهو أقرب الأصدقاء وأحبّهم للإنسان ، إذ تنقطع بينهم الروابط والعلاقات.

__________________

(١) النازعات / ١٣ ـ ١٤.

٤٣

(وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)

والشفيع هو الوسيط الذي يعرف الشخص ويقضي حاجته عند الآخرين ، وقد تعوّد الظلام في الدنيا على التوسّل بالشفعاء في بلوغ مآربهم وحلّ مشاكلهم ، ولكنّهم في الآخرة لا يجدون الى الشفعاء سبيلا ، لأنّ الذين اعتمدوا عليهم من أئمة الظلم هم بدورهم يريدون من يشفع لهم ، ولو افترضنا أنّ أحدا صالحا أو طالحا تحمّل هذه المسؤولية وحاول الشفاعة للظلمة فإنّه لا ينفعهم شيئا ، إذ لا تعتبر الشفاعة عند الله للظلمة إنّما تنفع من تكون مسيرتهم العامة في الحياة سليمة ، فتأتي الشفاعة لترفع عنهم تبعات الذنوب الجزئية.

فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ أنّه قال : ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك وندم عليه ، وقد قال النبي (ص) : «كفى بالندم توبة» ، وقال : «من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» ، فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما ، والله تعالى يقول : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١)

هكذا نعرف أنّ الشفاعة إنما هي للتائبين الذين تسوؤهم سيئاتهم فيندمون عليها ، وكفى بالندم توبة.

وحيث أكد ربّنا على أنّ الشفاعة لا تنفع الظالمين ، لأنّهم إنّما اعتقدوا بالشركاء وبشفاعتهم ليتهربوا من المسؤولية ، فأراد الله بذلك تأكيد المسؤولية عليهم ، ونفي هذه الذريعة التي يتوسّل بها البعض لاجتراح الجرائم.

[١٩] ويمضي السياق مؤكدا مسئولية البشر بأنه تعالى يحصي عليه كلّ شيء ،

__________________

(١) المصدر ص ٥١٧.

٤٤

ولا تفوته من تصرفاته صغيرة ولا كبيرة ، ويكفي بهذا وازعا إيّاه عن المعصية ، ودافعا نحو تحمّل المسؤولية.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ)

حيث ينظر الإنسان الى ما حرّم عليه أو أن يستخدم نظرة في غير أهدافه ، كالتجسس على الناس وحسدهم ، والنظر إلى أعراضهم وعموم عوراتهم وأسرارهم.

وفي الحديث قال الراوي : سألت أبا عبد الله عن قوله عزّ وجلّ : «يعلم خائنة الأعين» فقال : «ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء وكأنّه لا ينظر؟ فذلك خائنة الأعين» (١)

وجاء في تفسير هذه الآية : أنّ النبي (ص) حينما فتح الله له مكة المشرّفة أهدر دم بعض المشركين ، وكان بينهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجاء إليه عثمان يستأمنه منه فسكت النبيّ طويلا ليقتله بعض المؤمنين ، ثم أمنه بعد تردّد المسألة من عثمان ، وقال : أما كان منكم رجل رشيد يقوم الى هذا يقتله؟! فقال عباد بن بشر : يا رسول الله إنّ عيني ما زالت في عينك انتظارا أن تومئ فأقتله ، فقال (ص) : «إنّ الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين» (٢)

بلى. قد تفوت نظرات الخيانة بني البشر ، أمّا الله فلا يفوته منها شيء .. وكيف يكون ذلك وهو يحيط بنوايا الإنسان وما ينطوي عليه قلبه؟!

ولو تعمّقنا في هذه الآية الكريمة ، واعتبرنا بها لاستطعنا أن ننزع من قلوبنا بذور النفاق وجذور الخيانة ، لأنّ الإنسان حينما يتحسّس رقابة الله عليه ، ويستشعر

__________________

(١) المصدر ص ٥١٧.

(٢) المصدر

٤٥

حقيقة علمه تعالى بما في قلبه فإنّه لن ينافق أو يخون ، ولن تأخذه روح اللامبالاة بالذنب.

(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ)

من نوايا يسعى نحو تحقيقها ، والتي قد تخفى في بعض الأحيان عن الإنسان نفسه.

[٢٠] (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ)

وإنّما يكون قضاؤه حقّا لحكمته وإحاطته بما يحكم فيه ، فمهما حاول أحد أن يتعلّل ويقدم المعاذير ليفلت من العدالة فلن يستطيع أبدا ، لأنّ الله يعلم الغيب والشهود حتى نوايا الضمير ، وعلى الإنسان أن يبحث عن الحق ويلتزم به فهو وحده الذي ينفعه عند الله.

وكلمة «بالحق» توحي بأنّ وسائل الحكم ونتائجه كلّها حق ، فربّنا يعتمد الحق في تحديد الموضوع ، ويعتمده أيضا في تحديد الحكم وتنفيذه ، أما الآخرون الذين يشرك بهم الظلمة وجهّال الناس فإنّهم لا مقياس لهم في الحياة والحكم فلا يصيبون حتى جزء من الحق.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)

والسبب بالإضافة الى اعتمادهم الأهواء والشهوات في قضائهم أنّهم لا يحيطون بموضوعات الحكم إحاطة تامّة ، فحكمهم قائم على الشهادات الظاهرية أو الظنون والتخرّصات ، أمّا الله فهو يحيط إحاطة مطلقة بكلّ شيء مما يجعل حكمه حقّا تامّا.

٤٦

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ)

الذي يحيط بكلام الناس وما تنطوي عليه نفوسهم.

(الْبَصِيرُ)

الذي يرى تصرّفاتهم وأفعالهم.

وفي الآية إيحاء بأنّ الباطل لا يمثّل شيئا. أو ليس الباطل كان زهوقا ، فالشركاء المزعومين يقضون بالباطل الذي لا يمثّل شيئا ، ويا لروعة الكلمة وبلاغة التعبير ، فهم لا يقضون ـ عند الله ـ شيء بالرغم من أنّ الطغاة يتشدقون بألوف القوانين التي يتظاهرون أنّهم يقضون بها خلافات الناس ، بينما يعقّدون بها في ـ الواقع ـ أوضاع الناس ، ويزيدون بأحكامهم الباطلة هذه الصراعات ، فيا لخسارة تابعيهم! .

[٢١] إنّ تحمّل أمانة المسؤولية لأشد على قلب الإنسان من حمل الجبال الراسيات ، وإنّه ـ في ذات الوقت ـ السبيل الوحيد لنجاته ، والقرآن يهدينا الى ذلك بحجج شتى ، أبرزها بيان عاقبة أعمال البشر في الآخرة وقد تحدّث السياق عنه آنفا ، والحجة الثانية بيان عاقبة أعماله هنا ، ولكن كيف نعرف ذلك؟ إنّما بالنظر في أحداث التاريخ ، التي تكشف عن خطأ التكذيب بالحق ، وبالتالي ضعف الإنسان أمام إرادة ربّه المتجلّية في سنن الحياة.

وأصدق كتاب ينبّؤنا عن حقائق التاريخ ـ بعد القرآن ـ آثار الغابرين على الطبيعة ، فلا بد من السير في الأرض وقراءة تلك الآثار.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ

٤٧

قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ)

يعني قوة أبدانهم أو عموم أسباب القوة التي اجتمعت عندهم بحيث استطاعوا إعمار الأرض ماديّا بما لم يصل الى مستواه الأقوام الذين يعنيهم القرآن بخطابهم.

إلّا أنّ هذه القوة وتلك الآثار لم تكن قائمة على أساس صالح ينميها ويحافظ على كيانها ، إنّما كانت القوة تزيدهم غرورا ، والإعمار يزيدهم كفرا وفسادا ، ممّا دعاهم للإسراف في المعصية اعتمادا عليهما.

(فَأَخَذَهُمُ اللهُ)

ولكن ليس بظلم وإنّما بالحق.

(بِذُنُوبِهِمْ)

ولم يكن ثمة أحد ينقذهم من عذاب الله وأخذه.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)

فلم تنفعهم قوتهم وقدراتهم شيئا عند العذاب ولا أولئك الشركاء الذين اعتقدوا بهم ، إنّ الواقي الوحيد هو عمل الإنسان الصالح الذي لم يتزوّدوا منه بالرغم من وصية ربّهم حين قال لنا : «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» .

[٢٢] ويبين القرآن السبب في هلاكهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)

والرسل إنّما بعثهم الله ليستنقذوهم من الذنوب وما تنتهي إليه من العذاب ، ولكنّهم رفضوهم وتمسكوا بقيادة الطواغيت ، ورفضوا رسالاتهم وتمسكوا بالعقائد

٤٨

والأفكار المنحرفة ، فما بقيت ضمانة لهم تمنع عنهم العذاب.

(فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)

وإذ يصف الله نفسه هنا بالقوة وشدّة العقاب فلكي يبيّن لنا نوع العذاب الذي حلّ بهم ، ببيان صفات منزلة عليهم ، ولكي يبين لنا من جانب آخر أنّه لم ولن يقدر أحد على منع العذاب عن الظالمين والكافرين حين ينزل بساحتهم.

[٢٣] وكشاهد على تكذيب الأقوام تضرب الآيات لنا مثلا من واقع موسى (ع) مع قومه الذين كذّبوا برسالته.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ)

ولعلّ الآيات هي التوراة ، وأمّا السلطان المبين فلعلّها المعاجز الّتي أظهرها الله على يد نبيّه (ع) كالعصا واليد البيضاء.

[٢٤] وقد جاء موسى (ع) لتغيير الواقع المنحرف ، ومقاومة الفساد المتمثّل في الطاغوت وأعوانه ، وكل من يجسّد ذلك الواقع.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ)

وهؤلاء هم نماذج مختلفة ، كلّ واحد منهم يمثّل جانبا من الفساد ، فرعون يجسّد الطاغوت الحاكم ، وهامان يمثّل الجهاز الإداري له ، بينما يمثّل قارون بماله الرأسماليّة التي تمتصّ خيرات الشعوب ، وقد جاء موسى (ع) لتصفية هذه الأجهزة الثلاثة.

(فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ)

٤٩

وواجهوا بهذا المنطق الباطل الحجج الظاهرة والبينات فكان عاقبتهم الدمار كما تفصّله الآيات التالية.

٥٠

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ

٥١

لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)

___________________

٣٢ [يوم التّناد] : أصله التنادي ، وإنّما حذف الياء تخفيفا ، والمراد به : أمّا يوم نزول العذاب ، فإن فيه ينادي كلّ إنسان صاحبه بالفرار والحذر ، وأمّا يوم القيامة حيث ينادي أهل النار أهل الجنة : «أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» وينادي أهل الجنة أهل النار : «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» .

٥٢

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ

هدى من الآيات :

تتكرر في القرآن قصة موسى مع فرعون وذلك لأسباب شتّى من أهمّها أنّ هذه القصة تكشف خلفيّات الصراع بين المستضعفين والمستكبرين ، والذي ينتهي بانتصار المستضعفين حين يتوسلون بالله ، ويتبعون القيادة الشرعية التي تستمد مواصفاتها من الحق المتجلّي في رسالة الله.

بينات من الآيات :

[٢٥] حينما جاء موسى بالتوراة وواجه فرعون وأتباعه بالبيّنات لم يكن عندهم منطق حقّ لمواجهته ، لهذا توسلوا بالإرهاب الذي يمثّل منطق القوة.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ)

٥٣

وقد كانوا يريدون من وراء ذلك الضغط عليهم لكي يتنازلوا عن مسيرتهم الثورية ، ويتخلّوا عن الجهاد تحت راية الحركة الرسالية وقيادتها المتمثلة في نبيّ الله موسى (ع) ، وهذا من أهمّ ما يتوسل به الطغاة في خططهم الرامية لمواجهة الحركات الجهادية عبر التاريخ ، ولكن إذا استقامت الجماهير وواجهت طلائعها الضغوط بوعي وحزم استطاعت إفشال خطط الطغاة.

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)

والكيد هو الخطة الماكرة التي يستهدف صاحبها النيل من عدوّه ، وربّنا يصف كيد الكافرين والطغاة (كفرعون) بأنّه لا ينتهي الى النتيجة التي يتطلعون إليها ، بل ربما جاءت النتيجة مخالفة لمصالحهم ، لأنّ أمرهم يشبه من يرمي في الظلام ولا يدري لعلّه يقتل أقرب الناس إليه.

والسبب أنّ الخط الإستراتيجي العام للكفّار خط منحرف ، فكلّما حاولوا تكتيكيّا أن يخططوا لأنفسهم انتهت خططهم للفشل بسبب انحراف أفكارهم ، كما لو افترضنا شخصا يريد الذهاب الى مدينة تقع شمالا ولكنّه يتحرك باتجاه الجنوب ، فإنّه مهما حاول أن يكون تحركه دقيقا ومدروسا فلن يصل الى هدفه المنشود ، وفكر الكفّار خاطئ لأنّهم يكفرون بالنقطة المحورية في الخليقة وهي الإيمان بالله عزّ وجل.

[٢٦] فالجانب الأول من خطتهم أن يفصلوا الناس عن الحركة الرسالية من خلال الإرهاب والضغوط ، أمّا الجانب الثاني منها والذي يستهدف القضاء على التحرّك الثوري في المجتمع فهو القضاء على النبي موسى (ع) محور الحركة وقائدها.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى)

٥٤

ومن كلمة فرعون «ذروني» يتضح أنّ خلافا تفشّى في بيته حول تحديد الموقف المناسب من النبي (ع) ، ولعلّه كان من رأي جماعة منهم بالاستماع الى دعوته ومقارعة الحجة بالحجة وكان يمنع هذا الرأي فرعون من قتله ، وحيث يعلم هو بخطئه وقصوره عن مواجهة موسى ورسالته بهذا الأسلوب حاول تجاوز هذا الرأي وإقناع أصحابه بقبول خطته القاضية بتصفية موسى (ع) تصفية جسدية ، وطالما يتكرّر وبصورة مستمرة في الثورات أنّ مفجّرها يثير الخلاف في صفوف الطاغوت وقراراتهم تجاه الثورة.

ولأنّ فرعون تبنّى قرار التصفية الجسدية أراد إقناع المخالفين له بصحة رأيه ، وذلك بتبرير أنّ موسى (ع) لم يكتف بقوة المنطق وحسب وإنّما تسلح أيضا بمنطق القوة. اذن مواجهته بهذا الأسلوب أمر موضوعي في رأي الطاغوت.

(وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)

الذي تحدّانا به كثيرا ، وهذا منطق كلّ الطغاة ، إنّه لو كان الثائرون على الحق إذن لكانوا أقوياء ولانتصروا لأنفسهم فعلا! إلّا أنّ خلط القوة بالحق ، وجعل القوّة الظاهرية الآنية مقياسا لمعرفة الحق من الباطل خطأ كبير يقع فيه الطغاة ، لأنّ الحق والقانون لا يتحدّد بالقوة والإرهاب ، فقد يكون الحق ضعيفا لعوامل خارجة عن إرادة أصحابه ، وقد يكون الباطل قويّا ولكن هذا لا يبدّل الباطل حقّا والحقّ باطلا أبدا ، وفي ما يلي من الآيات نجد المزيد من البيان في خطأ هذه الفكرة التي يعتمدها الطغاة في تضليل الناس لأنّ هذه الفكرة من الأسس التي تقوم عليها الأنظمة الفاسدة وتعطيها صبغة الإرهاب والقمع ، الذي يسعى الطغاة لتبريره بشتّى الحجج ، فهذا فرعون يحاول تبرير قراره الإرهابي وتهيئة المعارضين له لقبوله.

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)

٥٥

أي أفكاركم وثقافتكم ، وكلّ أفكار يلتزم بها الناس فهي دينهم ، وتبدّل ثقافة الناس من ثقافة التخلف والقابلية بالطاغوت الى ثقافة ثورية حضارية من أشد الأمور خطورة على الطواغيت ، فهم يخافون من حدوث ذلك كما صرّح فرعون بنفسه.

أو ليس النظام الطاغوتي هو إفراز لثقافة المجتمع ، وبقاؤه يعتمد على سكوته؟ إذن فأيّ تغيير إيجابي في هذه الثقافة يعني تغيّر النظام الحاكم أيضا.

وحيث أحسّ فرعون بخطورة الحركة الرسالية سعى بالإضافة الى ضغطة على تيّارها الاجتماعي ومؤيديها لفصلهم عنها ، وقراره بقتل قائدها ، سعى الى إثارة الناس ضدها عن طريق الإيحاء لهم بأنّها تحارب دينهم وما التزموا به هم وآباؤهم ، هذا فيما إذا سكت فرعون ، أمّا إذا عارض موسى فسوف تقع الفتنة بين الناس ، وتسبّب في قتل الناس وتدمير اقتصادهم ، هكذا صوّر فرعون لقومه وقال :

(أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ)

وهاتان التهمتان هما في عرف السياسيين اليوم أخطر ما يمكن توجيهه للمعارضة وخاصة في البلاد الديكتاتورية ، والقرآن يختصر بهذه العبارات الموجزة موقف الطغاة من الحركات التغييرية في كلّ مكان وزمان.

[٢٧] أمّا موسى (ع) فهو في الوقت الذي تحدّى هذا الغرور والعنجهية الفرعونية ، لم يعتمد على ذاته ، ولا على منطق القوة ، إنّما اعتمد وكسائر الأنبياء والربّانيين على قوة ربّه وقوة الحق الذي يؤمن به ويجاهد من أجله.

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ)

٥٦

والتكبّر والكفر بيوم الحساب ، هاتان الصفتان تنتهيان الى شيء واحد ، هو ضياع المقاييس عند الإنسان ، فإذا به يعتقد بأنّ ما تشتهيه نفسه هو الحق ، فبتكبره لا يخضع للحق ، وبكفره بالجزاء لا يتحسّس المسؤولية ، ولمقاومة شرّ هذا النوع من الرجال لا بدّ من الاستعاذة بالله ، أوّلا : للاستقامة أمام إغرائهم وإرهابهم ، وثانيا : للاستلهام من الوحي سبل مقاومتهم.

[٢٨] وينعطف السياق القرآني ليكشف جانبا من الصراع الداخلي الذي يدور في صفوف الطاغوت ، حيث الموقف الرسالي الحاسم لمؤمن آل فرعون من النظام الفاسد ، والذي يكشف ظهوره في هذا الموقع من الصراع عن مدى تغلغل الحركة الرسالية في الأجهزة الفرعونية ، كما يعكس محتوى الاستعاذة بالله وكيف أنّ ربّنا ينصر رسله برجال ادخرهم لمثل ذلك.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ)

وهو حزقيل الذي بقي إيمانه طيّ الكتمان دهرا طويلا حسب بعض الأخبار ، وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على أنّ أساليب النضال ليست واحدة ، بل ينبغي لكلّ مناضل أن يتحرّك في جهاده من الخندق المناسب ، وإذا كانت خنادق الجهاد تختلف ـ كما صوره ـ من شخص لشخص ومن ظرف لآخر فإنّ الهدف يبقى واحدا والمحتوى هو المحتوى ، بينما يقتضي الأمر الإلهي أن يفجّر موسى (ع) صراعا صريحا مع الطاغوت ، ويتساقط أتباعه من بني إسرائيل كأوراق الخريف بعاصفة الإرهاب ، نجد هذا المؤمن المجاهد يحتفظ بمركزه في بيت فرعون ، ليقوم بدور أساسي في هدم نظامه.

فبينما كان الطاغوت جالسا يتباحث أمر موسى (ع) مع خاصته ليكيدوا به ويقتلوه ، والكل يزعم بأن لا غريب بينهم ، وإذا بالمؤمن ينهي فترة الصمت

٥٧

والكتمان ويستنكر عليهم قرارهم المنحرف.

(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)

وهذا هو الحقّ والواقع.

(وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ)

ثم إنّ دعوته لم تكن مجردة ، إنّما كانت مدعمة بالأدلة والبراهين التي تؤكد صدقها ، وإنها ليست من عند موسى نفسه بل من ربّ الخلائق ، ولعل هذا الحدث كان ذا أثر عميق على فرعون وقادة نظامه ، أن ينهض من بينهم شخص يؤيد المعارضة وينتمي لها.

من هنا ينبغي لأولئك الذين يتوبون لله من أعوان الظلمة ، أن يدركوا أهمية كتمانهم ، فلا يظهرون قرارهم بالتوبة ، وإنّما يبعثون بشخص موثوق أو برسالة ، أو يلتقون هم بأنفسهم بالقيادة الدينية الواعية ، ويستطلعون رأيها ، ويعرفون مسئوليتهم والدور المناسب الذي يجب أن يمارسوه ، كما فعل نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء الى رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله! إنّي قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي ، فمرني بأمرك ، فقال له رسول الله (ص) إنّما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت (يعني شط الأعداء وجبنهم) فإنّما الحرب خدعة ، فانطلق نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة فقال لهم : إنّي لكم صديق والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد (ص) بمنزلة واحدة. إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإنّما قريش وغطفان بلادهم غيرها ، وإنّما جاؤوا حتى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا

٥٨

يبرحوا حتى يناجزوا محمدا ، فقالوا له : قد أشرت برأي ، ثم ذهب فأتى أبا سفيان وأشراف قريش فقال : يا معشر قريش إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم ، وفراقي محمدا ودينه ، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ ، فقالوا : نفعل ما أنت عندنا بمتهم ، فقال : تعلمون أنّ بني قريظة فد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد فبعثوا إليه أنّه لا يرضيك عنّا إلّا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ثم نكون معك عليهم حتى نخرجهم من بلادك فقال : بلى. فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا ، واحذروا ، ثم جاء غطفان وقال : يا معشر غطفان إنّي رجل منكم ، ثم قال لهم ما قال لقريش ، فلما أصبح أبو سفيان وذلك يوم السبت في شوّال سنة خمس من الهجرة بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أنّ أبا سفيان يقول لكم : يا معشر اليهود إنّ الكراع والخف قد هلكا وإنّا لسنا بدار مقام فاخرجوا الى محمد حتى نناجزه ، فبعثوا إليه : إنّ اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتى نناجز محمدا فقال أبو سفيان : والله قد حذرنا هذا نعيم ، فبعث إليهم أبو سفيان : إنّا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا ، وإن شئتم فاقعدوا ، فقالت اليهود : هذا والله الذي قال لنا نعيم ، فبعثوا إليهم ، إنّا والله لا نقاتل حتى تعطونا رهنا. وخذّل الله بينهم ، وبعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتى انصرفوا راجعين. قال محمد بن كعب قال حذيفة بن اليمان : والله لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلّا الله ، وقام رسول الله (ص) فصلّى ما شاء الله من الليل ثم قال : ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنة. قال حذيفة : فو الله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجهد والجوع ، فلمّا لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدّا من إجابته ، قلت : لبيك! قال اذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئا حتى ترجع ، قال : وأتيت

٥٩

القوم فإذا ريح الله وجنوده يفعل بهم ما يفعل ، ما يستمسك لهم بناء ولا تثبت لهم نار ولا تطمئن لهم قدر ، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحاله ثم قال : يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه ، قال حذيفة : فبدأت بالذي عن يميني فقلت : من أنت؟ قال : أنا فلان ، ثم عاد أبو سفيان براحليه فقال : يا معشر قريش! والله ما أنتم بدار مقام ، هلك الخفّ والحافر ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء ، ثم عجل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها. قال : قلت في نفسي : لو رميت عدوّ الله فقتلته كنت قد صنعت شيئا ، فوقرت قوسي ، ثم وضعت السهم في كبد القوس ، وأنا أريد أن أرميه فأقتله ، فذكرت قول رسول الله (ص) : «لا تحدثنّ شيئا حتى ترجع» ، قال : فحططت القوس ثم رجعت الى رسول الله (ص) وهو يصلّي فلّما سمع حسي فرّج بين رجليه فدخلت تحته ، وأرسل على طائفة من مرطة (يعني الكساء ، ولعلّ الرسول كان يريد أن يخفيه حتى عن المسلمين ليبقى مجهولا في تحرّكه) فركع وسجد ، ثم قال : ما الخبر؟ فأخبرته (١)

ولا ريب أنّ الدور الذي مارسه مؤمن آل فرعون (حزقيل) لم يكن بعيدا عن قرار القيادة الرسالية المتمثلة يومئذ في شخص موسى (ع) فقد بقي إيمانه طيّ الكتمان مدّة طويلة ، كان خلالها حذرا قويّ المراوغة ، فلم يفتضح أمره أبدا ، وكان ثابت العقيدة ، راسخ الإيمان ، فلم تغيّر المناصب ولا المغريات من موقفه ، وهو مع ذلك لم يعتبر الكتمان هدفا في حركته ، إنّما اعتبره وسيلة لهدف ، لهذا فجّر صراعه مع الطاغوت حيث كانت الظروف مناسبة للإعلان عن موقفه الواقعي ، وذلك حينما دافع عن موسى (ع) وعارض الطغيان الذي مارسه فرعون ونظامه الى حد رفض الآراء المعارضة ومواجهتها بالقتل والإرهاب ، قائلا : بأنّ الموقف السليم تجاه آراء

__________________

(١) مجمع البيان / ج ٧ ـ ٨ ص ٢٤٤ ـ ٣٤٥.

٦٠