من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

لذلك ونحن نسعى لتنظيم أنفسنا وأمورنا استعدادا لمحاربة العدو.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)

والعزم في الأمور هو أن لا يأخذ الإنسان الأمور مأخذا هيّنا دون التخطيط الدقيق لها والسيطرة عليها ، بل الحسم والإرادة القوية لتحقيق الأهداف المنشودة ، بعيدا عن روح التشفّي ، وذلك لا يتأتّى إلّا بالصبر والحلم.

ويبدو أنّ هذه الآيات وبالذات الأخيرة منها تهدف ـ فيما تهدف ـ تربية نفوس المؤمنين على مقاومة الترف والتعجّل وفورات الغضب التي تصيبهم في لحظات الضعف فتذهب بحلمهم وأناتهم ورفقهم وتلطّفهم ، وربما كشفت عن واقعهم ، وأفسدت خططهم الرسالية.

بينما حاجة المؤمنين الى الصبر بانتظار اللحظة المناسبة حاجة مضاعفة ، من أجل ذلك أوصى أئمة الهدى المجاهدين ضد الطاغوت بكظمهم الغيظ ، واعتبروا ذلك من الحزم الذي يساهم في نجاح المهمات الصعبة.

قال الإمام الصادق (ع) :

«كظم الغيظ من العدو في دولاتهم تقية (تقاة) حزم لمن أخذ به ، وتحرّز عن التعرّض للبلاء في الدنيا ، ومعاندة الأعداء في دولاتهم ، ومماظتهم (١) في غير تقية ترك لأمر الله ، فجاملوا الناس يسمن ذلك لكم عندهم (٢) ولا تعادوهم فتحملوهم على رقابكم فتذلّوا» (٣)

__________________

(١) المماظة : شدة الخلق والمنازعة.

(٢) اي ينمي قدركم عندهم.

(٣) المصدر / ص (٤٩) .

٣٨١

ويبلغ بالإمام زين العابدين التأكيد على كظم الغيظ تقية درجة يقول :

«وددت أنّي افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض ساعدي : النزق وقلّة الكتمان» (١)

وتزداد صفة العفو أهمية عند المقدرة ، وبالذات عند سيطرة فريق على آخر ، وما أحوج حكّام المسلمين اليوم الى هذه الصفة الإيمانية التي كانت رمز بقاء الإسلام وانتشار نوره ، أفلا تأسّوا برسولهم الكريم الذي عفى عن قريش بعد أن شنّت عليه (١٧) حربا بكلمة واحدة قائلا : «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وعفى عن قاتل حمزة عمّه الكريم ، بالرغم من أنّ قتله أحدث في فؤاده جرحا نازفا ، بل وعفى عن تلك المرأة اليهودية التي سمّته ، وسبّبت ـ بالتالي ـ في وفاته حسب بعض النصوص!

ويروي الإمام الباقر (ع) قصة عفوه عن اليهودية هكذا :

«إنّ رسول الله أتى باليهودية التي سمّت الشاة للنبي فقال لها : ما حملك على ما صنعت؟ فقالت : قلت : إن كان نبيّا لم يضرّه ، وإن كان ملكا أرحت الناس منه ، قال : فعفا رسول الله عنها» (٢)

إنّ خلق الرسول كان من أعظم أسباب انتشار نور الإسلام وعزّة المسلمين ، وقد قال (ص) :

«ما أعزّ الله بجهل قط ، ولا أذلّ بحلم قط» (٣)

__________________

(١) المصدر / ص (٤١٦) .

(٢) المصدر / ص (٤٠٢) .

(٣) المصدر / ص (٤٠٤) .

٣٨٢

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)

٣٨٣

أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ

هدى من الآيات :

في إطار بيان مبدأ «الشورى» والذي يتجلّى في النظام السياسي الكفيل باحترام الرأي ، والتسليم للحق ، وإتماما لما ذكر في الآيات السابقة من واجب مقاومة الظالمين والإنتصار منهم ، يبصرنا السياق بالعاقبة السوئى للظلم. أو ليس الظلم أكبر عقبة في طريق النظام الشوروي الصالح والتي لا بدّ للمؤمنين من تصفيتها؟

أولى السيئات التي تلحق الظالمين الضلالة «وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .

والثانية : الندم البالغ حينما يرون العذاب فاذا بهم يتساءلون بذلّ : هل الى رجوع سبيل؟

والثالثة : خشوعهم الذليل عند ما يعرضون على النار ، حتى أنّهم ينظرون إليها من طرف خفي ذلّة وصغارا.

٣٨٤

والرابعة : التبكيت الذي يلاحقهم من عند المؤمنين حيث يذكّرونهم بأنّهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

والخامسة : خلودهم في العذاب.

ولقد فقدوا أنصارهم الذين التفّوا حولهم في الدنيا فلا أحد ينصرهم هنالك في الآخرة.

بينات من الآيات :

[٤٤] في فاتحة الدرس وخاتمته نقرأ عن ضلالة الله ، وأنّ من يضلّه الله لا وليّ له ولا سبيل أمامه ، ولا ريب أنّ فقد الهداية أعظم مصيبة وأكبر خسارة ، وأنّ الله لا يضلّ أحدا إلّا بسبب ارتكابه جريمة كبيرة. أو ليس الله بأرحم الراحمين ، فكيف يحجب نور هدايته عن البشر وهو لا يملك هاديا سواه؟

وهنا يطرح السؤال التالي : لماذا لا تكون الهداية إلّا عبر النهج الإلهي؟

إنّ للهداية شروطا ثلاثة وهي :

أوّلا : وجود نور من عند الله يهدي الإنسان الى الطريق.

ثانيا : وجود إرادة عند البشر يتغلّب بها على شهواته وسائر العقبات التي تمنعه من رؤية النور.

ثالثا : انعدام الحجب التي تمنع النور ، كما الرؤية لا تتمّ إلّا بضياء وبصر وألّا يكون بينهما حجاب ساتر.

ولا تتوفّر هذه الشروط لبشر إلّا بإرادة الله تعالى. دعنا نفصّل القول في ذلك ،

٣٨٥

فعن الشرط الأوّل نقول : من الذي يهب لنا العقل والعلم؟ من الواضح أنّ العلم بوسائله القديمة والحديثة عجز عن إصلاح ألياف المخ التي تتلف ، فكيف يعطي الإنسان نورا؟ كما لا يزال الجنون لغزا أمام الطلب والعلم البشري إلّا بعض أنواعه البسيطة ..

كما أننّا نمرّ في حياتنا بعهود ثلاثة يتضح لنا من خلالها أنّ العقل والعلم من عند الله عزّ وجل ، ففي عهد الطفولة يولد الإنسان وهو لا يعلم شيئا (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١) ، وفي عهد القوة عند ما يكون المرء في عزّ شبابه ، وحيث قواه العقلية والجسمية والنفسية في أوج قوتها ، لا يكتشف إلّا بعض الأمور ، وقد يفقد علمه بالنسيان وعقله بغلبة الغضب ، ثمّ يبدأ مسيرته المنتكسة علميّا وجسميّا ونفسيّا ، فإذا به ينقص علمه (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٢) .. ومن الأمور التي تتكرّر لكلّ بشر في جانب العلم من حياته أنّه قد تبدو له بعض الأمور واضحة ولكنّ عقله يعجز عن استيعابها وإذا به يلهمها إلهاما ، وإلى هذه الحقيقة يشير أكثر المفكّرين والمبتكرين في كلامهم عن كيفية وصولهم الى المعرفة ، وإن كانت مذاهبهم تختلف في تفسير ماهيّة الإلهام ومصدره.

وفي النصوص الإسلامية نجد بيانا لحقيقة العلم ، ففي سورة العقل نقرأ : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٣) إذن فالقراءة وهي إحدى طرق العلم والمعرفة لا تكون إلّا بالله الذي يتكرّر ذكر اسمه في أوّل كلّ سورة تذكيرا بذلك ، والحديث

__________________

(١) النحل / (٧٨) .

(٢) يونس / (٦٨) .

(٣) العلق / (١ ـ ٥) .

٣٨٦

المأثور عن الإمام الصادق (ع) يقول :

«ليس العلم بالتعلّم ، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة ، واطلب العلم باستعماله ، واستفهم الله يفهمك» (١)

وحينما نعود الى تجاربنا الشخصية في الحياة والى وجداننا وفطرتنا نكتشف بأنّ العلم ليس من ذات أنفسنا ، كما أنّه ليس من ذات الأشياء ، وإنّما هو حالة في قلوبنا مستجدّة ، وبالرغم من وجود إثارات خارجية له إلّا أنّه غير تلك الإثارات ، بل مثله مثل العين التي تثيرها الأشياء بما فيها من أنوار إلّا أنّنا لو لم نملك عينا لم تنفعنا إثارة الأشياء أبدا ، كذلك الإثارات التي تبدو عندنا أسبابا للعلم فمن دون حالة العلم لما نفعتنا شيئا. إذا العلم من عند الله.

الشرط الثاني : من الذي جعل لكلّ شيء علامة تدلّ عليه ، أو ليس الله؟ كما العين تبصر ولكن بشرط وجود النور المنعكس من الأشياء عليها ، كذلك العلم يكتشف الحقائق بشرط وجود دلالة منها عليها ، والله هو الذي جعل لكلّ شيء دلالة عليه.

وكلّ شيء يكشف عن نفسه من خلال أمارات وعلامات ظاهرة ، فآبار النفط ، وعيون الماء ، والمناجم ، جعل الله لها جميعا آية تدلّ عليها ، فمثلا قديما كانوا يكتشفون المياه بواسطة غصن أخضر يمشون به في عرض الصحراء ، فإذا مال الى جهة مّا تأكّدوا من وجوده فيها. من الذي جعل هذه العلاقة بين الغصن والماء؟ إنّه (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) والإمارات والآيات التي أودعها

__________________

(١) بح / ج (١) ص (٢٢٥) .

(٢) طه / (٥٠) .

٣٨٧

الله في الخلق بمثابة النور الذي يكشفها للإنسان ، وقد قال رسولنا الأكرم (ص) :

«إنّ لكلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا»

ولو أخفى الله شيئا ، ولم يجعل بينه وبين علم الإنسان علاقة ، فمن الذي يمكنه أن يهدينا إليه؟ وفعلا أخفى الله عن علم الإنسان أكثر ممّا أظهر.

الشرط الثالث : ولأنّ الإنسان يفقد قدرته على الرؤية والتمييز في بعض الحالات ، كالغضب الشديد ، أو الاهتمام بقضية معينة ، أو عند الشهوة ، إذ ينعدم حينها شعوره الداخلي ، فهو بحاجة الى إرادة قوية يتغلّب بها على تلك الحالات ، والإرادة من الله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) كما أنّ قوّة الإرادة وضعفها بيد الله ، ولو لا تأييده لخارت أمام الضغوط ، وإذا لم يهتد أبدا.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ)

يستطيع هدايته أو إنقاذه من مصيره الأليم. فإذا كان يستحقّ النجاة فإنّ الله أحقّ بنجاته ، لأنّه خالقه وبارئه وأرحم به من كلّ شخص ، فمن لا يرحمه أرحم الراحمين ، ومن لا يسعه حلم الله الواسع وكرمه العظيم ، ترى هل من رحمة تسعه أو حلم أو كرم؟

ونقرأ في سورة الرعد : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١) والذي يتبع السبل الأخرى غير سبيل الله المتمثّل في رسالاته وأوليائه ، فإنّه يكتشف خطأه وضلاله البعيد يوم القيامة ، أو حتى في الدنيا عند الجزاء.

__________________

(١) الرعد / (١٤) .

٣٨٨

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ)

وقد انتهت الفرصة التي أعطيت لهم ليجرّبوا بها إرادتهم.

(يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)

إنّهم وقد انتهى بهم الظلم الى نار جهنم يتمنّون الكرّة ليختاروا هدى الله على ضلالات الشيطان ، ولكن هيهات ، هل تعود عقارب الزمن الى الوراء ، هل الشباب يردّ الى العجوزة المتهاوية ، أم تعود نضارة الطفولة الى من عركته السنين ، وبلغ من العمر عتيّا؟!

حقّا تثير هذه الحقيقة النفس من أعماقها ، فأيّ خسارة كبري تلحق بالظالمين ، بل أيّ ثمن يسوى في مقابل هذه الخسارة التي لا تعوّض؟!

[٤٥] وتتواصل الآيات في بيان عاقبة الظالمين الذين لو تسنّى لهم لماتوا ملايين المرّات حسرة على التفريط في جنب الله ، وهم يتعذّبون نفسيّا وجسديّا ، نفسيّا لأنّهم يشعرون بالذلّة والمهانة بعد العلوّ والتكبّر في الدنيا ، وجسديّا لأنّهم سيصيرون حطبا لجهنم.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ)

إنّ أهمّ العقبات النفسية التي تعترض طريق الإنسان الى الهداية هو التكبّر ، الذي أخرج إبليس من الجنة ، ولا زال يخرج به إبليس أبناء آدم من رحمة الله الى غضبه وعذابه ، وعلى الإنسان أن يقاوم جموح النفس المتكبّرة ، بتصوّر تلك اللحظة التي يعرض فيها المتكبّرون على النار ، خاشعة نفوسهم من الذلّ.

وهذا الخشوع السلبي لا يتجاوزه الإنسان إلّا بخشوع الإيمان الإيجابي ، ولذلك

٣٨٩

جاء في الدعاء :

«اللهمّ ارزقني خشوع الإيمان قبل خشوع الذلّ في النار»

وحيث تبلغ الذلّة بالظالمين ذروتها يوم القيامة فهم لا يستطيعون الالتفات الى من حولهم بكامل نظرهم وأعينهم ، وبالذات أولئك الذين أظهروا أنفسهم مظهر المؤمنين ، وخدعوا الناس في الدنيا ، ولذلك فإنّهم حينما يريدون الالتفات الى الناس ، أو حتى مجرّد رفع طرفهم نحو الآفاق ، يختلسون النظرات ذلّة ومهانة.

(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)

بحيث لا يرون أحدا ، وهذه من طبيعة المجرم ، أو الإنسان حينما يصعد عنده الشعور بالذّل.

وقال البعض : إنّ شدّة العذاب تمنعهم من النظر إلى النار ، ولكنّهم ينشدّون إليها خوفا منها وفرقا ، ولذلك تراهم ينظرون إليها من طرف خفي ، كالذي حكم عليه بالإعدام ينظر الى المشنقة نظرا خفيّا ، بعكس الذي ينظر الى روضة غنّاء فإنّه يملأ منها عينيه.

أمّا الصالحون فإنّهم يستفيدون من هذا الموقف موعظة وعبرة ..

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

بسبب ظلمهم وضلالهم. لقد وفّر الله سبحانه فرصة عظيمة للإنسان حيث أعطاه قوى نفسه ، ومتعة بأهليه ، والظالمون يفقدون هذه الفرصة ، فلا يعملون بأنفسهم عملا صالحا حتى يستفيدوا من طاقاتهم يوم القيامة ، ولا يربّون أهليهم

٣٩٠

على العمل الصالح حتى يستفيدوا من حسنات ذريّتهم يومئذ ، وهكذا تكون خسارتهم مضاعفة في ذلك اليوم الرهيب.

(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ)

أي دائم لا يخرجون منه.

[٤٦] كما أنّ الظالمين يخسرون أنصارهم وأعوانهم يوم القيامة ، حيث تنقطع كلّ العلاقات والروابط التي منعتهم في الدنيا من الاستقامة على الطريق ..

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ)

وهذا المعنى يتكرّر عشرات المرّات في القرآن ، ولكن لماذا تؤكد الآيات على أنّ الذين يعتمد عليهم الإنسان ويتوسّل بهم ويعبدهم ، كالطواغيت ، وأصحاب القوة والمال ، وأصحاب العلم الضّال والشهرة لن ينفعوه؟ لأنّ من أعظم عوامل الضلالة أصحاب السوء الذين يغترّ بهم الظالم فيتوغّل في اغتصاب حقوق الناس اعتمادا عليهم. أفلا يتفكّر أنّهم لا ينفعونه شيئا يوم القيامة؟!

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)

إلى الهداية ، لأنّ السبيل الوحيد إليها هو سبيله.

وأخيرا :

نتساءل : ما هي علاقة هذه المجموعة من الآيات والأفكار المستوحاة منها بموضوع الوحدة ومعالجة الاختلافات الاجتماعيّة؟

إنّ القرآن الحكيم يسعى لمعالجة جذور الفساد والاختلاف ، ومن أهمّها

٣٩١

الضلالة ، ذلك أنّ البعض يعرف الحقيقة بينما يجهلها البعض الآخر ، الأمر الذي ينتهي الى الخلاف في أغلب الأحيان ، والقرآن يعالج الضلالة البشريّة مؤكّدا بأنّ سببها الابتعاد عن منهج السماء ، فإذا ما عاد الى الله واستجاب لدعوته اهتدى الى الحق ، وابتعد عن التكبر الذي يقف بصورة أو بأخرى خلف الصراعات الاجتماعية.

٣٩٢

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ

___________________

٤٨ [وما لكم من نكير] : أي منكر ينصركم ، أو إنكار : بمعنى إنكم لا تقدرون على الاستنكار لشدّة الهول والفزع أو لما ترون من عدم الفائدة في إنكاره.

٣٩٣

لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

٣٩٤

جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ

هدى من الآيات :

تتواصل خاتمة آيات السورة لتطهير الأفئدة من غفلتها عن الرسالة ، واتكالها على الرسول ، وغرورها بما تملك ، وجزعها مما تفقد ، كيف.؟

يهزّ مطلع الدرس القلب هزّا عنيفا بعد أن يأمره بالاستجابة للرسالة فينذره بيوم عظيم لا يردّه شيء ، هنالك حيث لا ركن يلجأون إليه ، ولا نصير ينكر ما يفعل بهم.

ثم ينسف فكرة الاتكال في الهداية ، فحتى الرسول لا يتحمّل المسؤولية إلّا بقدر تبليغ الرسالة.

ويحطّم غرور الإنسان ، ويعريه على ضعفه ، وكيف يهتزّ فرحا برحمته ، ولا يلبث أن يتميّز كفرا ويأسا إذا أصابته سيئة ، أفلا يهديه ذلك الى أنّه لا يملك من أمره شيئا ، وأنّ لله ملك السموات والأرض ، وأنّه يخلق ما يشاء ، وأنّه الذي يقسم

٣٩٥

رحمته بين عباده كيفما يشاء ، فيهب لهذا ذكرانا ، ولذلك إناثا ، ويجعل الثالث عقيما؟

ويكرم من يشاء بأعظم مكرمة وهي الوحي ثم يمضي السياق في بيان حقائق عن الوحي ، فتكتمل السورة التي تبيّن جوانب عن النظام السياسي في المجتمع المسلم بالحديث عن الوحي. أو ليس هو محور هذا المجتمع ، وقيمة نظامه السياسي؟

بينات من الآيات :

[٤٧] أعظم ما يعاني منه البشر الغفلة ، حيث تحيط بهم مشاكل يومية تنسيهم قضاياهم الهامّة ، وعادة تحجب الشجرة الناس عن رؤية الغابة المترامية .. ويعالج الذكر هذه الحالة بالإنذار الصاعق من يوم القيامة حيث لا يمكن الفرار من أهواله.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ)

بالاستماع الى داعيه ، والتسليم للحق الذي نزل معه ، والطاعة للقيادة التي أمر بها.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ)

وهل يرد أحد ما يريده الله تعالى؟

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ)

فلا أحد ينصر أحدا.

(وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)

[٤٨] ويعالج القرآن ـ وفي أكثر من آية ـ عقبة نفسية أمام تحمل مسئولية

٣٩٦

الايمان ، حيث ترى الإنسان ينتظر من يحمّله الإيمان تحميلا ، ويزعم أنّه ما دام لا يوجد من يكرهه على الإيمان فهو معفي عنه وعن التزاماته.

كلّا .. الإيمان مسئوليتك قبل أيّ شخص آخر. أو ليست فائدته لك ، وخسارته ـ إن خسرته ـ عليك ، فما ذا تنتظر؟ إنّ الرسول ليس إلّا مبلّغ ، فإن شئت آمنت بحرّيّتك ، وإن شئت اشتريت العذاب بما اخترته لنفسك من الكفر.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)

وهذا دور كلّ قائد رسالي في أيّ مجتمع وأيّ زمان ، وكفى بذلك مسئولية كبيرة يتحمّلها. وإذا ما أعرض الناس عمّا يدعوهم إليه فلا يدلّ ذلك على قصور في الرسالة ، ولا تقصير في القائد ، بمقدار ما يدلّ على ابتعادهم عن ميزان العقل الثابت ، واتباعهم لطبائعهم المتقلّبة ، والتي تتأثّر بالضغوط والعوامل الخارجية ، والتي يستعرضها السياق هنا ليهدي الإنسان الى مراكز ضعفه ، لكي لا يستبدّ به الغرور فيكفر.

إنّ ضعف الإنسان يتمثّل في تقلّب حالته النفسيّة مع تقلّبات الظروف الخارجة عن إرادته ، فهل تكون هذه الحالة ميزانا صالحا لتقييم الحق والباطل ، أو منهجا سليما للسلوك ، أم لا بد من اتباع الرسول.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها)

وتوقّف عند حدود النعمة دون التفكير فيما يترتّب عليها من مسئولية ، وقد نهى الله عن الفرح قائلا : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) وقال في موضع آخر : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ

__________________

(١) القصص / (٧٦) .

٣٩٧

الْعَذابِ) (١) والفرح المنهيّ عنه هو حالة الإشباع التي تؤدّي الى الغرور أو نفي المسؤولية والوصول الى الكمال. وهذا الشعور يوقف مسيرة التقدّم عند الإنسان ، وعلى العكس من ذلك لو أشعر نفسه بأنّ أمامه مسئوليّات أخرى لم يؤدّها ، فإنه يستشعر الحزن في نفسه لاعتقاده بالتقصير في عمله.

وهكذا أوصانا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حين قال :

«واعلموا عباد الله! إنّ المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلّا ونفسه ظنون عنده ، فلا يزال زاريا عليها ، ومستزيدا لها ، فكونوا كالسابقين قبلكم ، والماضين أمامكم ، قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل ، وطووها طيّ المنازل» (٢)

وأوصى الإمام الكاظم بعض ولده بذلك قائلا :

«يا بنيّ عليك بالجد ، لا تخرجنّ نفسك عن حدّ التقصير في عبادة الله وطاعته فإنّ الله لا يعبد حقّ عبادته» (٣)

وهناك جانب آخر من طبيعة البشر هو اليأس عند المصيبة والابتلاء ، حيث ينسى نعم الله عليه بسبب مصيبة يتعرّض لها في حياته ، ممّا يدلّ على مدى ضعفه.

ولماذا يكفر بالنعم؟ لأنّه فقد بعض المال أو أصابه شيء من المرض ، أفلا فكّر في سائر نعم الله التي لا يزال يتقلّب فيها ، ألا تذكر أيّام الرخاء والراحة عند ما كان يفرح بالنعم ويحسب أنّها دائمة لا تزول عنه أبدا؟!

بلى. ينبغي أن يركّز المبتلى نظره في سائر نعم الله عليه ، فيستعيد شخصيّته ،

__________________

(١) آل عمران / (١٨٨) .

(٢) موسوعة بحار الأنوار / ج (٦٨) ص (٢٣١) .

(٣) المصدر / ص (٢٣٥) .

٣٩٨

ويثق بربّه ، ويسرع في مقاومة البلاء بروح إيجابية ، كما ينبغي أن يتذكّر أبدا نعم الله السابقة عليه فيزداد بالله أملا وله حمدا كثيرا ، كما فعلت امرأة أيّوب حيث حاول إبليس إغواءها عند ما أحيط بها البلاء ، فنهرته واستقامت على صبرها وتجلّدها حتى فرّج الله عنها .. جاء في الحديث : إنّه جاءها ذات يوم فقال لها : ألست أخت يوسف الصديق (ع)! قالت : بلى. قال : فما هذا الجهد؟ وما هذه البلية التي أراكم فيها؟ قالت : هو الذي فعل بنا ليؤجرنا بفضله علينا ، لأنّه أعطاه بفضله منعما ، ثمّ أخذه ليبتلينا ، فهل رأيت منعما أفضل منه؟! فعلى إعطائه نشكره ، وعلى ابتلائه نحمده ، فقد جعل لنا الحسنيين كلتيهما ، فابتلاه ليرى صبرنا ، ولا نجد على الصبر قوة إلّا بمعونته وتوفيقه ، فله الحمد والمنة ما أولانا وابتلانا (١)

هكذا يوجّه المؤمنون الابتلاء والمصيبة ، ويقاومون وساوس الشيطان الذي يحاول تحريف مسيرتهم ، بينما يكفر سائر الناس بسبب الابتلاءات التي يتعرّضون لها ، والتي لو درسناها لوجدنا أكثرها تحلّ بهم لذنوبهم وما قدّمته أيديهم من سيئات.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)

يكفر بالنعم القديمة كما يكفر بسائر النعم التي تحيط به الآن ، فتظلم الدنيا في عينيه ، ويفقد القدرة على مقاومة البلاء والتمتّع بالرخاء.

[٤٩] هذا ضعف الإنسان ، وخور عزمه ، أفلا اتصل بالقوة التي لا تقهر ، وبالملك الذي لا يحد ، وبالعزّة التي لا تغلب ، بالله القويّ العزيز؟

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج (١٢) ص (٣٥٢) .

٣٩٩

ومن أوسع ملكا ممّن يملكهما ، ومن أنفذ ملكا ممّن خلقهما؟ أو ليست السموات مطويّات بيمينه؟ ثم إنّ ملكه لا يحدّ بالسموات والأرض ، لأنّه :

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ)

دون أن يحقّ لأحد الاعتراض عليه أو السؤال.

وتتجلّى هذه المشيئة في مختلف جوانب الحياة ، ومن بينها تصرّفه في أعظم ما خوّله للإنسان من الملك وهو الولد.

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ)

فلا الذي يريد الله أن يكون نسله كلّهم إناثا قادرا على إنجاب الذكور ، ولا العكس. ولعلّ تقديم الإناث على الذكور كان للدلالة على أنّ البنت هي الأخرى هبة من الله عظيمة ، أو لأنّ الجاهليين كانوا لا يحبّون الإناث ، ولكن الله ـ بالرغم من ذلك ـ يهب الإناث ، فهو الواهب لما يشاء ، كيف يشاء ، أفلا يدلّ ذلك على سعة ملكه ، وشدّة هيمنته؟

[٥٠] (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً)

أي يجعل النسل من الجنسين الإناث والذكور.

(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً)

فلا يهب له شيئا ، وهذه المشيئة ليست اعتباطية ، وإنّما تدخل ضمن حكمة الله وإرادته المطلقة.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)

٤٠٠