من هدى القرآن - ج ١٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-15-7
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٠

الآخرين ليس استخدام منطق القوة وإنّما استماعها والإصغاء لصاحبها ، فإن كانت خاطئة فليس ذلك مما يضرّ السلطة إذا كانت على الحق ، وإن كانت صادقة وسليمة فيجب إتباعها والانتفاع بها ، وإلّا فإنّ العاقبة ستكون غير محمودة إذا رفض الإنسان الحق.

(وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)

وهو الذي يتحمّل مسئولية رأيه وموقفه.

(وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) .

هكذا تساءل مؤمن آل فرعون : لماذا تقتلون موسى؟ فهو إن كان كاذبا لم نخسر نحن شيئا ، وإن يكن صادقا فالأمر خطير بالنسبة لكم؟ وكان هذا السؤال كافيا لو انطلق منه فرعون وحاشيته أن يوصلهم الى الحق ، ولكنّ الشك المنهجي لا ينفع الذين حجبت شهواتهم عقولهم ، وأرادوا الإسراف في اللّذات ثم تبريرها بالأعذار والأسباب الكاذبة.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ)

فقلبه متجه الى الشهوات كلية.

(كَذَّابٌ)

يستخدم لسانه في تبرير شهواته ، والخلط بين الحق والباطل وهذه من أخطر المشاكل التي يبتلى بها الإنسان ، ولذلك قال رسول الله (ص) : «أعوذ بالله من قلب مطبق ولسان مطلق» .

[٢٩] ويبيّن المؤمن السبب الذي جعل فرعون وقومه يكفرون بموسى (ع) وهو

٦١

الخلط بين الحق والقوة ، فقد زعموا بأنّ ما عندهم من قوة ظاهرة تغنيهم عن البحث الجاد من أجل الوصول الى الحق والالتزام به.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ)

فأنتم أصحاب القوّة الماديّة والسيطرة الاجتماعية ، ولا أحد ينافسكم ، ولكن هل تبقى هذه القوة وتستمر؟ ثمّ إذا حلّ غضب الله فهو لا يرد.

(فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا)

وبالطبع سوف تكون الإجابة على هذا السؤال بالنفي (لا أحد) إذن فما قيمة القوة التي لا تمنع عن أصحابها الأذى؟ وكل هذه الأسئلة والتي ستليها يجمعها سياق واحد هو : محاولة المؤمن من خلالها إثارة الشك المنهجي في النفوس وقيادتها للحق.

ولعل المؤمن أفلح في إيجاد جبهتين في صفّ الحاكمين ، مما دفع فرعون للتدخل من أجل حسم الخلاف وإنهائه لصالحه.

(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ)

قطع عليهم مسيرة الشك المنهجي والتفكير ، قائلا : إنّكم لا تحتاجون الى التفكير ، ولا أن تروا شيئا ، فأنا أفكّر وأرى لكم ، ولا أرى إلّا الحق ولا أهدي إلّا إليه ، فيجب عليكم أن تسلّموا لي تسليما مطلقا ، وهذا هو ديدن الطغاة في كلّ مكان وزمان ، وبالذات في الدول الديكتاتورية التي يعتقد حكّامها بأنّ صحفهم وإذاعاتهم وبالتالي رأيهم وفكرهم وحده الذي يجب أن تؤمن به الجماهير ، ومن هنا نهتدي إلى أنّ فرعون الذي حاربه موسى لم يكن سوى مظهر من مظاهر الطغيان عبر التاريخ.

٦٢

[٣٠ ـ ٣١] وإذا كان كلام فرعون هذا قد أخضع ظاهرا من كان حوله ، فإنّ المؤمن بقي متصلّبا في نصرته للحق ، والتزامه ببصيرة الهدى ، رغم تضليل الطاغوت ، وهكذا ينبغي للمؤمنين في كل الأمكنة والعصور.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ)

وهم كلّ جماعة يتحزّبون على أساس الهوى ضد الحق ومن يمثّله ، وكمثل لهذه الفئة يشير القرآن إشارة عابرة إلى طوائف منهم ذهبت قصصهم عبرا وأحدوثات في الأمم الغابرة.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)

فهؤلاء وإن اختلفوا في تاريخهم وقصصهم وفي عاقبتهم إلّا أنّهم متشابهون في جحودهم الحق ، إذ كذّبوا الرسل وخالفوا رسالاتهم ، وهذا الربط بين أحداث التاريخ ثم الاهتداء بها الى سنّة الله في الحياة يدلّ على عمق البصيرة والإيمان عند مؤمن آل فرعون.

وبعد أن وجّه هذا الداعية العقول الى عبر التاريخ من خلال أحداثه المأساوية الفظيعة يؤكد على عدالة الله وأنّ ما يصير إليه البشر نتيجة تفكيرهم وسلوكهم لا نتيجة قدر إلهيّ ظالم ، حاشا لله.

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)

بل العباد هم الذين يظلمون أنفسهم حينما يخالفون الحق وسنن الحياة.

[٣٢ ـ ٣٣] ثم تابع تحذيره من يوم غضب الله.

٦٣

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ)

حيث ينادي كلّ شخص بالآخرين لعلهم ينقذونه من العذاب. وكلمة «أخاف» التي يقولها المؤمن دليل على شفقته ورأفته بالناس.

ثم يبين واقع ذلك اليوم.

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ)

لأنّ ما يعصم البشر من عذاب الله ونقمته هو الإيمان والعمل الصالح ، وليس عندكم من هذا شيء.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)

فالهداية مرتبة رفيعة لا يصل إليها كلّ إنسان ، ومن يريد الهداية فإنّها لا تحصل بالبحث عن الحق وتزكية النفس وحسب ، إنّما لا بد من التوسّل بالله ودعائه ، لأنّ الهدى الحقيقي لا يكون إلّا من عنده وبإرادته ، والدليل على ذلك أنّه تعالى حينما يضلّ أحدا فلا سبيل بعدها لهدايته.

٦٤

وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي

___________________

٣٧ [تباب] : هلاك وخسارة ، من تبّ بمعنى هلك وخسر.

٦٥

آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)

٦٦

وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ

هدى من الآيات :

يشكّل نموذج فرعون في حكم مصر المحور المناقض ليوسف (ع) الذي حكم تلك الديار أيضا ، وحينما لا يريد الإنسان أن يؤمن فسوف يجادل في آيات الله سواء هبطت على يوسف (ع) الملك المقتدر ، الذي جمعت فيه الصفات الحسنة الماديّة والمعنويّة ، أو أنزلت على موسى (ع) الراعي الفقير والمنتمي الى طائفة مستضعفة مظلومة. ونموذج فرعون يناقض كلتا الرسالتين ، لأنّ مقياس الإيمان أو الكفر هو القلب فتارة يكون خاشعا يسلّم للحق ولمن يجسّده في المجتمع ، وتارة يكون متكبّرا يكفر بكلّ ذلك ، مهما كان الشخص الذي يمثّل الحق ، ومهما كانت الآيات بيّنة واضحة.

ويذكّر ربنا في هذا الدرس بهذه الحقيقة ، فبينما نجد شخصا كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه مزروعا في قلب النظام الطاغوتي ، ومحاطا بكلّ إرهاب فرعون وإغرائه وتضليله ، نجد شخصا آخر يعيش في كنف يوسف (ع) ، حيث الملك والرخاء

٦٧

والهداية ، ولكنّه يكفر في قلبه بالحق ، ولا يؤمن إيمانا حقيقيّا بيوسف وبربه.

بينات من الآيات

[٣٤] يوسف (ع) هو أحد الأبناء الاثنى عشر ليعقوب (ع) والذي يسمّى بالعبرية إسرائيل أي عبد الله ، ومن صلب هؤلاء الإخوة انسلّ بنو إسرائيل في اثنى عشر سبطا وقبيلة ، ويوسف كان أحد آبائهم الكبار.

وقد بعث يوسف (ع) بالرسالة وأصبح ملكا مقتدرا يخضع له أهل مصر ، فقد جمعت عنده الكمالات المادية بالملك والسيطرة ، والمعنوية بالرسالة ، وبالرغم من ذلك كفر به البعض ، ولكنّهم قالوا في أنفسهم : لا نظهر هذا الكفر بل ننتظر حتى يموت يوسف فنسيطر بعده على الحكم والملك.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ)

موسى (ع) .

(بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ)

لأنّ قلوبكم لا تريد الإيمان ، وإلّا فالأدلة واضحة.

(حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً)

مع أنّه ـ عليه السلام ـ جاءهم بالخير والفضل ، ولا يدلّ موقفهم إلّا على الضلال الذي كتب عليهم بسبب إسرافهم وتردّدهم في الريب.

والآية توحي بأنّ شعب مصر أسلم ظاهرا على يد يوسف إلّا أنّه كان يحبّذ العودة إلى ضلالته ، لأنّه كان فاسدا بالإسراف والارتياب ، وسرعان ما عاد إلى

٦٨

كفره بعد هلاك يوسف ، وكأنّه قد استراح بموت يوسف .. وهناك أحاديث تدلّ على إسلام الشعب المصري على يده.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ)

وهنا تكشف الآية عن سبب موقفهم المنحرف من الحق ، وهو إسرافهم من الناحية العملية ، فلا يقنعون بما عندهم من الخير والنعمة ، وارتيابهم من الناحية النظرية والنفسية ، فلا يسلّمون للحق والبينات ، وإذا أمعنّا النظر لوجدنا كلتا الصفتين تنتهيان إلى صفة واحدة هي عدم التسليم للحق ، وعدم الاكتفاء بما أعطاهم الله ، وطلب المزيد ، المزيد من النعم الى حدّ الإسراف ، والمزيد من الأدلّة إلى حدّ الجدل في الآيات الواضحات.

وتدلّ هذه الآية على أنّه كانت ليوسف رسالة الى قوم مصر ، وقد وفّر الله لهم فرصة الهداية بهذه الصورة الفريدة حيث جعل مليكهم الحبيب رسولا إليهم لعلّهم يهتدون. ولعلّ الحكمة في ذلك كانت شدّة تعلّق الشعب المصري ذا الحضارة النهرية بالسلطة السياسية مما حدى بموسى ـ عليه السلام ـ أيضا الى التوجّه الى شخص فرعون الحاكم الأعلى لبلادهم.

[٣٥] ونسأل : من هم المرتابون؟ ويجيب القرآن : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) ، ويحاولون تحريفها من دون أدنى حجة ، والحال أنّ الذي يخالف فكرة مّا لا بد أن يأتي بأخرى مثلها أو أفضل منها.

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ)

وتشمل الآية ـ كما يبدو ـ الذين يحرّفون آيات الله ، ويتصرّفون فيها بغير تفويض من الله ، فهم يضعون أنفسهم مواضع الحكم بلا سلطان من الله.

٦٩

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا)

فالله يمقتهم فيذلّهم في الدنيا ويضلّ أعمالهم ولا يدعهم يفلحون أبدا. أمّا الذين آمنوا فيمقتونهم فلا ينخدعون بهم ولا يسلّمون لقيادتهم. وهاتان عاقبتان سيئتان لهم. أمّا العاقبة السوءى فهي سلب فرصة الهداية عنهم إلى الأبد ، وذلك بإطفاء شعلة الهدى من قلوبهم.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)

والجبّار هو الذي يسعى لقهر الآخرين والتسلّط عليهم ، وهي من نزعات الملوك والحكّام الظلمة. أمّا المتكبّر فهو الذي لا يتواضع للحق ، ولا يقتنع بواقعه ، إنّما يتصوّر نفسه دائما أكبر من حجمه الحقيقي ، ومن هذه صفته فإنّ قلبه يصير منغلقا فيختم الله عليه بسلب نور العقل والفطرة منه.

والتعبير القرآني دقيق جدا حينما قال : «كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» ومع أنّ بعضا من المفسّرين قالوا بأنّه يساوي قولنا : قلب كل متكبّر جبّار ، إلّا أنّه يبدو أنّ السياق القرآني أراد بيان حقيقة هامّة هي : إنّ الطبع على القلب تختلف نسبته باختلاف الصفات السلبية عند الإنسان ، فقد يطبع الله بنسبة خمسين بالمائة على قلب الزاني أو السارق ، أمّا المتكبر الجبّار فإنّه يطبع على قلبه كلّه أي مائة بالمائة ، وهذا يكفي لبيان الخلفيّات السيئة جدا لهاتين الصفتين.

[٣٦ ـ ٣٧] ولأنّ بني إسرائيل لم يؤمنوا إيمانا حقيقا في ظلّ يوسف الملك النبي فقد ابتلاهم الله بفرعون يحكم من ذات الأريكة ، وشتّان بين الإثنين ، وحقّا إنّها عاقبة الكفر بالنعمة.

ويوجّهنا السياق هنا إلى النهايات السيئة لهذا التحوّل ، لعلّنا ننتبه الى أنّ

٧٠

الكفر برسالات الله ، والإسراف والارتياب والتكبّر والتجبّر ، وبالتالي التملّص من مسئوليات النظام العادل والحاكم العادل ـ كيوسف عليه السلام ـ قد لا تظهر عاقبته في البداية ولكنّها عند الختام ، حيث يكون مصير المجتمع ما انتهى إليه أهل مصر ، إذ ابتلوا بحاكم مثل فرعون. وهكذا علينا ألّا تخدعنا المظاهر الخلّابة لحضارة الشهوات بل ندرسها من خلال نهاياتها المأساوية ، وما قيمة بداية الغرور مع عاقبة السوء.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ)

بعد أن فشل فرعون في إقناع من حوله بضرورة قتل موسى (ع) ، ممّا أثبت ضعف حجته ، حاول الاعتماد على القوة المادية لفرض سيطرته على الجماهير ، وهذه مرحلة من المراحل التي تمرّ بها الحضارات ، فهي تبدأ بالقيم قوية حيوية ، وتبلغ المظاهر المادية قبل أن تصل نهايتها إمّا بالدمار الشامل أو حالة العبثية المطلقة والانطواء التام. وهكذا نظام فرعون حينما تبيّن لهم خواؤه المعنوي وفراغه العلمي ، توجّه الى البنايات الضخمة ، حيث بنى صرحا عظيما حاول الوصول به الى إله موسى ، وهذا مؤشّر واضح على نظرته الشيئية للحياة ، وسعيه لتحدّي القيم المعنوية بالمظاهر المادية.

إنّه سعى نحو مواجهة إله موسى عزّ وجل ، وتحدّيه سبحانه بما لديه من إمكانات محدودة ، كما فعل نمرود حين أمر بإعدام سجين وإطلاق الآخر ، وقال لإبراهيم متحدّيا ربّ العزّة : أنا أحيي وأميت ، وهكذا يفعل الطغاة في كلّ عصر. إنّهم يقومون ـ أمام كلّ حركة تحررية ـ باستعراض قوّتهم لفرض الهيبة التي تكاد تسقط أمام عاصفة الثورة.

وقد يكون فرعون هو الذي بنى بعض أهرامات مصر حسبما توحي به هذه الاية

٧١

الكريمة ، والتي كان يسعى من خلالها لتضليل الناس وبلوغ أعلى مكان في نظره وهي أسباب السموات.

(أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً)

وهذا ديدن الطغاة. إنّهم يستصدرون الأحكام في مختلف القضايا بعيدا عن المنهجية السليمة حيث يعلم فرعون بأنّ الإله الحق الذي يدعو إليه موسى (ع) لا يدرك بالمقاييس المادية ، ولكنّه أخذ يستخدم منهجا ماديّا بحتا للتعرّف على الله ـ سبحانه وتعالى ـ والنتيجة التي سيصل إليها حتى إذا قدّر أنّه بلغ السموات العلى خاطئة ، وعلى ضوء هذا المنهج سيكون موسى كاذبا.

ومن المعروف أنّ فرعون كان يسخّر المستضعفين لبناء الصرح سخرة وبلا أجور ، وكان الكثير من هؤلاء التعساء الذين كان يحشرهم من مختلف أنحاء مصر يموتون تحت ضغط الكدح ، وسوء التغذية ، وانتشار الأمراض ، وكان قد خصّص الى جنب أهرامات مصر أراضي واسعة لاستقبال جثث هؤلاء المساكين مما أثار هذا العمل بذاته غضب الجماهير ، وهيّأ أرضية التحوّل عند شعب مصر.

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ)

بسبب تراكم العادات والممارسات السيئة على قلبه المتكبّر الجبّار ، فكان يرى الباطل حقّا والعكس ، الى هذا المستوى الهابط من الإعتقاد ، حيث زعم أنّه يتحدّى بقوّته المحدودة إرادة الله. ألم ير الجبال كيف أرساها الربّ ، وأنّه إذا صعد عليها رجل لا يرى السماء إلّا بمثل ما يراها على الأرض؟! أو لم يعلم أنّ عاصفة واحدة تكفي لاقتلاع مظاهر قوّته في لحظة؟! وقد جاء في الحديث : أنّ هامان رفع الصرح حتى منعته العواصف من الاستمرار ، ولم يلبث أن جاءت عاصفة رهيبة

٧٢

وقضت عليه. (١)

ومن جملة الآثار النفسية التي يخلّفها العناد والإصرار على ممارسة السيئة الصدّ عن سبيل الله.

(وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ)

وهو القيادة الرسالية التي تمثّل رسالة الله ، والتي تهدي البشر الى ربّه الرحيم ، وهل يخضع المتكبر الى الحق ، أو هل يرتضي الجبّار العدل؟ كلّا .. إذن فهو سوف يتبع الباطل في الحياة ، وحيث رفض السبيل الى الله (القيادة الرسالية) فسوف يحاربها ويكيد لها.

ولكن سنّة الله وإرادته فوق محاولات فرعون الفاشلة لإطفاء نوره عزّ وجل.

(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ)

أي يحوطه الفشل والخسران من كلّ جانب.

[٣٨] وهنا يبرز على مسرح الأحداث مرة أخرى مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه ثم تحدّى به الطاغوت في اللحظة المناسبة فحاز على فضيلة الكتمان وفضيلة التحدّى معا ، وهي كلمة الحق عند السلطان الجائر. ونحن إذا تعمقنا في قصة هذا المؤمن من خلال القرآن الحكيم ، نعرف حينها المعنى الحقيقي للتقيّة في الإسلام ، ويجب أن نبلور هذا المفهوم لأنّ التقاة تحوّلت لدى الكثير الى تبرير للتقاعس والنكوص عن الجهاد ، بينما التقية (التقاة) في مفهوم الرسالة هي العمل والجهاد المركّز والمستمر بعيدا عن أعين الطغاة حتى تحين لحظة التحدّي الكبير. وهل يحتاج

__________________

(١) نقلا عن موسوعة بحار الأنوار / ج ١٣ ص ١٢٥.

٧٣

الى الكتمان إلّا من يجاهد الطغاة؟!

إنّ البعض يجعل كلمة التقية بديلا عن العمل والتحرك في ظروف القمع والإرهاب ، ولكنّه لا يتحرّك حتى في الظروف المناسبة ، ومثال ذلك الكثير من الشعوب التي ترفض التجاوب مع الحركات الرسالية وتعلّل ذلك بوجود الإرهاب ، ولكنّها ترفض الجهاد حتى في المهجر حيث لا إرهاب ولا شرطة.

إنّ (التقاة) حقّا هي أن تحافظ على نفسك وتحركك الجهادي بعيدا عن سطوة الظالم في ظلّ الإرهاب ، لتحتفظ بقوتك ليوم الصراع.

وهكذا كان مؤمن آل فرعون (حزقيل) يكتم إيمانه ، ويتحرّك في ظلّ توجيهات القيادة الرسالية ، منتظرا الساعة المناسبة لتفجير الصراع مع الطاغوت ، وها قد حلّ أوانها حيث جمع فرعون وزراءه وأنصاره وقوات جيشه وسحرته ليقرّروا قتل موسى (ع) ، فاستبسل من بينهم وتحدّى الظلم والظالمين ليضرب لنا مثلا صادقا عن التقية التي يرتضيها الله تعالى ، وهي النابعة من الإيمان والإرادة والتخطيط والعمل ، وليست الناتجة عن خور العزيمة وخوف الإنسان وحبّه للراحة. فهي إذن تمهيد للتحدي ، وجمع للقوى ، لتفجير الصراع في وقته المناسب.

وهكذا استطاع مؤمن آل فرعون تعويق مؤامرات فرعون التي استهدفت قتل موسى عليه السلام ، وبذلك وفى ربّنا عهده لرسوله الأمين بنصره وتأييده.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ)

فهو من جهة تحدّى فرعون ، ومن جهة أخرى طالب من حوله باتباعه ، وهكذا ينبغي للرساليين أن يثقوا برسالتهم في الحياة ، وأن يطرحوا أنفسهم قادة للناس بديلا عن القيادات الفاسدة.

٧٤

[٣٩] وحيث شخّص المؤمن جذر الانحراف ونقطة الضعف التي تدعوهم للالتفاف حول فرعون واتباعه وهي المادية التي تتجسّد في اللهث وراء حطام الدنيا ، ذكّرهم بالآخرة التي تتميّز عن الدنيا بنوعيّة نعيمها الأفضل ، بينما الدنيا بما فيها تشبه المتاع الذي يأخذه المسافر معه وهو قليل ومحدود ، كما أكّد على مفارقة أخرى هامّة هي : انّ نعيم الآخرة دائم لا ينتهي حيث يلغى فيها حساب الزمن ، بينما الدنيا محدودة جدّا.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ)

وهل يختار العاقل تلك على هذه؟!! كلّا ..

[٤٠] ويمضي المؤمن في بيان معالم ثقافته الرسالية رغبة منه في إنقاذ الناس من ضلالات الطاغوت ، قائلا :

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها)

عدالة ورحمة من الله بعباده ، ولعلّه أراد من ذلك فضح سياسة فرعون القائمة على الظلم والجور.

(وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)

فالمقياس عند الله هو العمل ، أمّا التمايزات المادية والظاهرية ـ التي تقرها الأنظمة البشرية الفاسدة ـ فلا معنى لها أبدا. بلى. هناك أمر واحد يرتكز عليه العمل فلا يقبل إلّا به وهو الإيمان. والذين يتوفّر لديهم هذان الشرطان (العمل+ الايمان) هم الذين يدخلون الجنة.

(فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)

٧٥

إنّ مشكلة الكثير من الذين يرفضون الإيمان بالحق والعمل به هو انّهم ينظرون له من خلال البلاء والمعاناة التي يستتبعها الإيمان به ، وليس من علاج لهذه المشكلة أفضل من التوجيه الى نعيم الآخرة الذي هو ثمرة الإيمان والعمل. وحيث ركّز المؤمن حديثه مع أتباع فرعون الغارقين في المادة أراد علاج هذه المشكلة ، فهم يتساءلون : نحن الآن نترك فرعون ونخسر هذا النعيم فما ذا نجد باتباع الحق؟

٧٦

وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ

٧٧

(٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)

٧٨

وأفوّض أمري إلى الله

هدى من الآيات :

كما البرق الخاطف في جوّ مدلهم في ليل داج ، شعّت كلمات المؤمن في بيت فرعون ، وهم يتآمرون على حياة صاحب الرسالة موسى بن عمران عليه السلام.

لقد قال لهم : إنّني أدعوكم لنجاة أنفسكم من النار التي تحيط بكم ، بينما أنتم تدعونني لألتحق بكم في سواء اللهب. بلى. إنّ الكفر بالله والشرك به (واتباع سلطة غير شرعية) ان ذلك بذاته النار التي هم فيها ، أمّا هو فإنّ دعوته الى النجاة منها بالإيمان بالله العزيز الغفّار.

أنتم تدعونني الى الشركاء الذين لا ينبغي أن يدعو أحد إليهم ، لأنّهم تافهون حقراء ، بينما أنا أدعوكم الى من إليه مصيرنا جميعا ، وأنتم تدعونني الى الإسراف الذي لا ريب ينتهي بصاحبه الى النار ، بينما أدعوكم الى التقوى.

وتحدّاهم (حين لم يستجيبوا له) بأنّه ينتظر وإياهم عاقبة الأمر حين يستذكرون

٧٩

إنذاره ، أمّا هو فقد فوّض أمره الى الله الذي وقاه سيئات ما مكروا ، بينما أحاط بآل فرعون سوء العذاب ، ففي عالم البرزخ يعرضون على النار صباحا ومساء ، وإذا قامت الساعة يذوقون في جهنم أشدّ العذاب.

هنالك حيث لا ينفع الضعفاء تبريرهم بأنّهم إنّما اتبعوا كبراءهم فلذلك لا بد أن يتحملوا عنهم نصيبا من العذاب ، كلا كل من الضعفاء والمستكبرين في النار بحكم الله الذي لا ينقض حكمه أحد.

بينات من الآيات :

[٤١] لا يطيب الموت في فم أحد إلّا أنّ المترفين أشدّ هيبة منه ، لأنّهم أحرص على حياة الدنيا ، وأعمق اغترارا بزخارفها ، ولا بد أن يضرب الدعاء إلى الله على هذا الوتر الحسّاس في أفئدة المترفين ، ويذكّروهم بالموت وما بعد من الجزاء الشديد ، وكفى به موعظة لمن يريد هدى وخلاصا.

وهكذا فعل مؤمن آل فرعون حين ذكّرهم بعاقبة الدعوتين ، دعوة الحق ودعوة الباطل.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ)

إنّهم الآن في النار وقد أحاطت بهم من كلّ صوب ، السياسة طغيان ، والإقتصاد ترف ، والتربية انحراف ، والاعلام ضلالة ، فهم يتقلبون في سرادقات الجحيم ، وإنما يدعوهم المؤمن للنجاة ، بما تحتاجه من همّة وسعي واجتهاد ، ولكنهم يدعونه الى التوغّل في النار.

والآية تشملنا أيضا ، فباستثناء المتقين يعيش الناس في سواء النار ، ما دامت الشهوات تقودهم ، والفساد يحيط بهم ، وقد قال ربّنا سبحانه : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا

٨٠