وكان قاضيا جليلا نبيلا عاقلا ساكنا محترما مداريا ، إلا أنه كان ينسب إليه أشياء لا تليق ، منها الرشوة ظاهرا مع أنه كان كثير الصيام والحج ، وكان يقول : ليس في قضاة الإسلام أقدم هجرة مني ، فإنه ولي قضاء بلدة المعرة سنة ثلاث وثلاثين ، ولما كان ثلاث وستين وسبعمائة توجه القاضي كمال الدين المذكور إلى الحجاز ، فلما توجه منها اجتمع عليه جماعة من أعيان الحلبيين ومشايخهم وهم قاضي القضاة جمال الدين أبو إسحق إبراهيم ابن العديم الحنفي وقاضي القضاة شرف الدين بن فياض الحنبلي والشيخ شهاب الدين أبو العباس الأذرعي والشيخ كمال الدين عمر بن العجمي والإمام الخطيب شهاب الدين أحمد الأنصاري والشيخ زين الدين أبو حفص الباريني الشافعيون وغيرهم من الحنفية وكتبوا في حقه محاضر ، فلما بلغ ذلك القاضي كمال الدين المذكور توجه إلى الديار المصرية من الطريق ولم يتوجه إلى الحجاز ، وكان بالقاهرة الأمير يلبغا الخاصكي صاحب القاضي كمال الدين المذكور وجهز طلب المذكورين ، فتوجهوا إلى القاهرة ، وذلك في سنة أربع وستين ، فلما وصلوها طلبهم الأمير يلبغا المشار إليه وقام مع القاضي كمال الدين قياما عظيما فاجتمعوا عند الأمير يلبغا. وأما القاضي كمال الدين فإن الأمير يلبغا أنزله عنده في بيت ، فلما اجتمعوا بالأمير يلبغا شرعوا يذكرون مثالب القاضي كمال الدين التي رموه بها ، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم الأمير يلبغا : فإذا تاب أما تقبل توبته؟ فسكت الجماعة ، ثم دخل عليهم بالصلح فلم يسعهم مخالفته ، فعند ذلك طلبه من البيت المذكور وهم قاعدون فجاء القاضي كمال الدين وحضر معهم وتعاتبوا. ثم إن الأمير يلبغا قام وأصلح بينهم وأعطاهم نفقته ، بلغني أنه أعطى كل قاض ثلاثة آلاف درهم وكل فقيه منهم ألف درهم وقال لهم : شوشنا عليكم يا جماعة.
ثم توجه القاضي كمال الدين إلى حلب قاضيا على عادته وتوجه المذكورون إلى حلب ولم يحصل لهم من القاضي كمال الدين بعد ذلك أذى ولا صدر منه شيء ، فإنه كان عاقلا ساكنا كثير الاحتمال والإغضاء والمسامحة ، وحصل على ثروة كبيرة ، ثم عزل ، ثم ولي قضاء حلب ، ولم يزل قاضيا بحلب إلى أن توفي نهار يوم السبت تاسع شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ودفن في بيته ، ثم نقل بعد سنتين إلى خارج باب المقام إلى تربة الفردوس ظاهر حلب تغمده الله برحمته ا ه (الدر المنتخب).
وقدمنا في الجزء الرابع (في الكلام على درب البنات بعد ترجمة أحمد أبي المكارم