توفي بحلب سنة إحدى وثلاثين وكان في الدولة الجركسية قاضيا بحماة ، ثم تحاشى عن منصب القضاء واختار العزلة ليكون العز له ، فبقي بها إلى أن كانت الدولة العثمانية فهاجر إلى حلب ومكث بها على حشمته ورياسته وأبهته وجلالته بحيث لا يخرج من منزله بسويقة حاتم إلا للصلاة بالجامع الأعظم. وكان إذا جاء لصلاة جمعة أو عيد جاء هو وولداه قاضي القضاة نور الدين والمقر البدري بدر الدين ومن معهم من الأتباع على أسلوب الأكابر في المسير حيث يتقدم هو ، ثم يتلوه ولده الأول ثم الثاني ثم الأتباع ، وفي الجلوس على السجادات بترتيبهم ذلك. ومع ذلك فلم يسلم هو وولداه عند اجتماعهم من قول بعض أعاديهم : انظروا هذا أقضى القضاة وذلك قاضي القضاة وذلك شيخ الإسلام ، وهذا منه مبني على الفرق الذي كان في الدولة الجركسية بجعل أقضى القضاة لمن كان نائبا في القضاء وقاضي القضاة لمن كان مستقلا به بناء على أن قاضي القضاة أرفع من أقضى القضاة خلافا للزمخشري فإنه عكس حيث قال في قوله تعالى في هود (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)(١) أي أعلم الحكام وأعدلهم ، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعدل والعلم. ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين ، أي والحال أن معناه ذلك.
وقد صرح الفاضل ناصر الدين أحمد المالكي في كتابه «الانتصاف من الكشاف» بأن العكس رأيه ، قال : والذي يلاحظونه الآن أن القضاة يشاركون أقضاهم في الوصف وإن فضل عليهم فترفعوا أن يشركهم أحد فأفردوا رئيسهم بنعته بقاضي القضاة أي هو الذي يقضي بين القضاة لا يشاركه أحد في وصفه ، وجعلوا أقضى القضاة يليه في الرتبة. قال : وقد أطلق على عليّ أقضى القضاة فلا حرج أن يطلق على أعدل قضاة الزمان وأجلهم وأعلمهم قاضي القضاة وأقضى القضاة أي في زمنه وبلدته. وأنشدوا :
وكل قرن ناجم في زمن |
|
فهو شبيه زمن فيه بدا |
وعلى هذا الذي قاله فلعل عليا رضياللهعنه هو أول من لقب أقضى القضاة ، كما أن القاضي أبا يوسف صاحب الإمام الأعظم هو أول من لقب قاضي القضاة على ما هو مسطور في بعض كتب التاريخ.
__________________
(١) هود : ٤٥.