كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة فى التواتر ، وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك ، إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والآخر : أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضعها واضع لهذه المعانى ، لاشتهر ذلك وعرف ، فإن ذلك مما تتوفر الدواعى على نقله.
قلنا : أما الأول فغير صحيح ، لأن كل واحد منّا حين سمع لغة مخصوصة من إنسان ، فإنه لم يسمع منه أنه سمعه من أهل التواتر ، وهكذا بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه ، مما لا يفهمه كثير من الأدباء ، فكيف يدعى عليهم أنهم علموه بالضرورة؟ بل الغاية القصوى فى راوى اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح ، أو إلى إسناد متقن ، ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين.
وأما الثانى فضعيف أيضا ، لأن ذلك الاشتهار إنما يجب فى الأمور العظيمة ، وليس هذا منه ، سلمنا أنه منه ، لكن لا نسلم أنه لم يشتهر ، فإنه قد اشتهر ، بل بلغ مبلغ التواتر : أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوص كالخليل ، وأبى عمرو ، والأصمعى ، وأقرانهم ، ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ، ولا بالغين حد التواتر ، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم.
أقصى ما فى الباب أن يقال : نعلم قطعا أن هذه اللغات بأسرها غير منقولة على سبيل الكذب ، ونقطع بأن فيها ما هو صدق قطعا ، لكن كل لفظة عيّنّاها فإنا لا يمكننا القطع بأنها من قبيل ما نقل صدقا ، وحينئذ لا يبقى القطع فى لفظ معين أصلا ، هذا هو الإشكال على من ادعى التواتر فى نقل اللغات ... هذا كلام الإمام (١).
__________________
(١) الإمام فخر الدين الرازى كما تقدم.