غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ما يمكن اعتباره في الإطاعة الّتي هي حكم عقلي يستقلّ بها العقل ، وحينئذ ففي مثل المقام يحتمل دخل معرفة الواجب تفصيلا في الامتثال والإطاعة عقلا ، فلا بدّ من الإتيان به تفصيلا ولا يكفي الإتيان به رجاء أصلا.

والجواب منع كون التحرّك عن الإرادة مقدّم على التحرّك عن احتمالها بل هما سواء ، وذلك من جهة أنّ الإطاعة وان كانت بحكم العقل إلّا أنّ معنى كونها بحكم العقل إدراكه حسن الإتيان بالمأمور به ، وأمّا أنّه هل اعتبر في المأمور به أن يكون معلوما تفصيلا أم لم يعتبر؟ فهو من كيفيّات الإطاعة شرعا ، فالعقل لا مدخل له إلّا في إدراك حسن الإطاعة الّتي هي إتيان المأمور به سواء في التوصّليّات أو في التعبّديّات ، وأمّا كيفيّة الإتيان فأمر شرعي ، وحيث لم يعتبر الشارع المقدّس في إتيان المأمور به العبادي إلّا أن يكون متقرّبا به إلى المولى ومسندا إليه كما دلّت عليه رواية الوضوء (١) الدالّة على اعتبار كونه بنيّة صالحة كما مرّ ، فاعتبار غير التقرّب ـ كالتمييز والوجه ـ منفيّ قطعا لا أقلّ من أنّه مشكوك فيه فيجرى فيه البراءة الشرعيّة ، لإمكان اعتباره شرعا بالأمر الثاني المتمّم للجعل على رأيه قدس‌سره. وحينئذ فيجوز الاحتياط قطعا وإن أمكن العلم التفصيلي ، فافهم.

هذا كلّه في العبادات الاستقلاليّة.

وأمّا العبادات الضمنيّة كالشكّ في الأجزاء والشرائط فهي أيضا تارة يقع الكلام في ما شكّ في كون الأمر المتوجّه به إلزاميّا أم استحبابيّا ، واخرى في أصل توجّه الأمر به وعدمه.

أمّا الكلام في الاحتياط في الأوّل فلا ريب في جواز الاحتياط فيه والإتيان بذلك الجزء المردّد أمره بين كونه واجبا أو مستحبّا ، لأنّ من اعتبر قصد الوجه إنّما اعتبره في مجموع العمل لا في الأجزاء ، والمطلوب في العمل العبادي

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ٢٦٨ ، الباب ١١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٨١

أن يؤتى به مسندا إلى الله تعالى وبنيّة صالحة وهما موجودان في المقام ، فلا حاجة إلى قصد الوجه ، فافهم.

وأمّا الكلام في الاحتياط في الثاني وهو ما دار أمره بين كونه واجبا أو ليس بواجب ، فهو تارة على تقدير عدم وجوبه يكون مانعا عن صحّة العمل ومفسدا ، كمن شكّ في أنّ الواجب في كلّ ركعة من الصلاة ركوعان مثل السجود أو واحد فإنّه بناء على وجوب الواحد يكون إتيان الثاني مبطلا لكونه زيادة ركن. وهذا النوع ، الاحتياط فيه موجب لتكرار العمل ، وسيأتي الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وتارة لا يكون على تقدير عدم وجوبه مانعا نظير السورة ، وهذا أيضا لا مانع من الاحتياط فيه ، لأنّ المانع من الاحتياط في هذا القسم إمّا اعتبار قصد الوجه وليس معتبرا في الأجزاء إجماعا ، لأنّ اعتباره إمّا من جهة نقل الإجماع على اعتباره في العمل ، ومعلوم انتفاء نقل الإجماع بالنسبة إلى الأجزاء لو لم نقل بالإجماع على عدم اعتباره فيها.

وأمّا ما ذكره المتكلّمون : من أنّ قصد الوجه إنّما اعتبر في العمل لأنّ العمل الواجب مثلا معنون بعنوان حسن مجهول عندنا والحسن والقبح إنّما هي بالعناوين القصديّة ولا بدّ من إتيانه بذلك العنوان ، وحيث إنّه مجهول فيؤتى به للوجه الّذي أوجبه تحصيلا لذلك العنوان إجمالا وإشارة إجماليّة إليه بوجه العمل مثلا ، (ففيه : أنّ كون الحسن والقبح بالعناوين القصديّة إنّما هو في الامور العقليّة والشرعيّة وإلّا فالامور الشرعيّة كالصوم والصلاة وغيرها لم تؤمر بها بعناوين غير عناوينها المعلومة وهي كونها صلاة وصوما ، نعم لو سلّمنا صحّة هذا الوجه) (١) فمعلوم أنّ هذا الوجه إنّما يكون بالنسبة إلى مجموع العمل لأنّه المعنون بالعنوان الحسن لا الأجزاء إذ هي ليست بمعنونة أصلا.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٨٢

وإمّا أن يكون المانع من الاحتياط في هذا القسم ما ذكره النائيني قدس‌سره (١) في العبادة المستقلّة من زعمه أنّ الإطاعة القطعيّة مقدّمة على الإطاعة الاحتماليّة لحكم العقل بتقديم الاولى على الثانية لا أقلّ من الشكّ ، ولا بدّ من الإتيان بكلّ ما يشكّ فيه في المقام ، لأنّه شكّ في الإطاعة الّتي هي حكم عقلي وليست حكما شرعيّا حتّى ينتفي بالبراءة. لكنّ الميرزا النائيني نفسه قد ادّعى جواز الاحتياط هنا لأنّ الامتثال بالعمل المركّب قطعي وإن كان الأجزاء مشكوكا فيها والإطاعة بالنسبة إليها احتماليّة.

ولا يخفى أنّا لو قلنا بمقالته ـ من لزوم الموافقة القطعيّة في القسم الثاني من الاحتياط في العبادات المستقلّة ـ لقلنا في المقام بذلك أيضا ، لأنّ السائل لو سئل ما دعاك إلى التكبير؟ لقال : أمر المولى ، ولو سئل ما دعاك إلى القراءة؟ لقال : أمر المولى. أمّا لو قيل له : ما دعاك إلى قراءة السورة؟ يبقى متحيّرا ، فلا يجيب إلّا بقوله : احتمال أمر المولى. فإذا فرض أنّ العقل يحكم بأنّ الإطاعة الاحتماليّة في طول الإطاعة القطعيّة لم يكن وجه للاكتفاء بالاحتمال مع القدرة على القطع بالفحص ، فافهم وتأمّل أن لا فرق بين المقامين ، وحيث قلنا بجواز الاحتياط في العبادة المستقلّة لأنّ العقل لا يشكّ في كون الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي فنقول في المقام بجواز الاحتياط أيضا.

في الاحتياط الموجب للتكرار في العبادة

والكلام تارة فيما يوجب تكرار العبادة النفسيّة ، واخرى فيما يوجب تكرار العبادة الضمنيّة. أمّا الكلام في الاولى فقد ذكروا وجوها لبطلان الاحتياط المستوجب للتكرار في العبادة مع التمكّن من الامتثال التفصيلي بالفحص :

__________________

(١) انظر الفوائد ٣ : ٧٣.

٨٣

منها : أنّه لعب بأمر المولى فإنّ من اشتبهت عنده القبلة إلى أربع جهات واشتبه ثوبه الطاهر بنجس واشتبه محلّ سجوده بين طاهر ونجس مع قدرته على المعرفة التفصيليّة في جميع ذلك وصلّى صلاة واحدة فعدوله عنها إلى ستّة عشرة صلاة لعب بأمر المولى ، وهو مفسد للعبادة.

والجواب : أنّ هذا ليس لعبا بأمر المولى لأنّه ليس هكذا في جميع الموارد ، فإنّه قد يكون تكرار العمل أسهل من تحصيل العلم التفصيلي بالواجب لاحتياجه إلى امور مفقودة في المقام ، مع أنّه لو كان لعبا واقعا وحقيقة فالصلاة الصحيحة المأتيّ بها ضمن هذا اللعب ليست لعبا فهي صحيحة قطعا ، لأنّ اللعب والعبث واقع قبلها وبعدها وإلّا فإتيانها ليس عبثا قطعا ، لأنّ إتيانها بداعي أمر المولى المسلّم عنده. وحينئذ فاللعب والعبث بغيرها لا يقدح في صحّتها ، وبعبارة اخرى اللعب والعبث في إحراز الامتثال لا في أصل الامتثال.

ومنها : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) من أنّ الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي لأنّ العقل يقطع بأنّ امتثال أمر المولى القطعي مقدّم على امتثال الأمر الاحتمالي. ولو شككنا في ذلك فحيث إنّ المقام من مقامات الشكّ في الإطاعة الّتي هي واجبة بحكم العقل فالقاعدة هي قاعدة الشغل لا البراءة.

والجواب : مضافا إلى ما تقدّم من أنّ العقل لا يحكم إلّا بوجوب كون العمل مسندا إلى المولى في مقام الامتثال ، وهو حاصل في المقام ، ولو شككنا في كون الامتثال الإجمالي في عرض التفصيلي أو في طوله فالمورد من موارد البراءة لأنّ الشكّ في كيفيّات الإطاعة ، فإنّ الإطاعة إتيان ما أمر به المولى بأيّ كيفيّة كان والكيفيّة خارجة عن الإطاعة الّتي هي بحكم العقل ، وحينئذ فلو شكّ في اعتبار كيفيّة فيها فالأصل البراءة. مضافا إلى ذلك كلّه أنّ المقام من مقامات الامتثال

__________________

(١) انظر الفوائد ٣ : ٧٣.

٨٤

القطعي ، لأنّه يقطع بأنّ إحدى هذه الصلوات مأمور بها قطعا غاية الأمر أنّه لا يميّزها. وبالجملة فلو سلّمنا أنّ الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال التفصيلي القطعي فالمقام من قبيل الامتثال القطعي التفصيلي ، غاية الأمر أنّه يعوزه التمييز وسيأتي أنّه غير معتبر عنده أيضا. وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الاحتياط حيث يحتاج إلى التكرار في العبادة أولى بالجواز ممّا لا يحتاج ، لأنّه امتثال قطعي.

وأمّا الكلام في الثانية وهو جواز الاحتياط والامتثال الإجمالي إذا كان مستوجبا للتكرار في ضمن العبادة ، مثل ما لو شكّ في وجوب الجهر والإخفات في ظهر يوم الجمعة فهنا يمكنه أن يأتي بقراءة جهرية واخرى إخفاتيّة ويقصد بالواجب الواقعي الجزئيّة وبغيره القرآنيّة ، فمع تمكّنه من العلم التفصيلي بالواجب هل له الامتثال الإجمالي أم لا؟ الميرزا النائيني قدس‌سره على الجواز مفرّقا بينها وبين ما تقدّم بأنّ الأمر هنا قطعي (١).

والجواب : أنّا إن قلنا بكون الامتثال الاحتمالي في طول التفصيلي لا مجال هنا للصحّة أيضا ، لأنّ الأمر المتوجّه إلى الصلاة ينحلّ إلى أجزائها فيكون في كلّ جزء من أجزائها أمر ، فإذا قلنا بأنّ الامتثال التفصيلي للأمر يتقدّم على الامتثال الإجمالي له فهنا لا بدّ من التقدّم أيضا ، هذا كلّه حيث يكون العلم التفصيلي ممكنا.

وأمّا إذا لم يكن العلم التفصيلي ممكنا وكان الظنّ التفصيلي ممكنا ، فالظنّ تارة يكون معتبرا بالخصوص واخرى يكون اعتباره بدليل الانسداد ، فإنّ كان معتبرا بالخصوص فحكمه حكم العلم في الجواز ، لأنّ دليل الاعتبار أتمّ كشفه الناقص وجعله علما تعبّديّا ، إلّا أنّ بينه وبين العلم فرقا ، وهو أنّه مع العلم لا يمكن الاحتياط ومع الظنّ يمكن الاحتياط ، لأنّ الشكّ الوجداني لا يزيله دليل الاعتبار فيبقى معه مجال الاحتياط.

__________________

(١) انظر الفوائد ٣ : ٧٤.

٨٥

لكنّ الكلام كلّ الكلام في أنّه هل يتعين إتيان ما دلّ الدليل الظنّي على وجوبه أوّلا ثمّ إتيان الثاني رجاء أو لا يعتبر ذلك بل يجوز كيف اتّفق؟ ظاهر الميرزا النائيني لزوم تقديم امتثال مؤدّى الدليل الظنّي ثمّ الاحتياط (١) وذلك لبنائه المتقدّم من أنّ الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي فيقدّم ما دلّ الدليل على اعتباره قاصدا به الامتثال تفصيلا ثمّ يعقب بالصلاة الاخرى المحتملة. وكذا ظاهر جماعة في حواشي نجاة العباد حيث احتاطوا في صلاة المسافر إلى أربع فراسخ مع عدم قصد العود ليومه فقال بعضهم (٢) : يحتاط فيأتي بالقصر أوّلا ثمّ يأتي بالتمام ، لزعمه ترجيح أدلّة القصر ، وآخر (٣) عكس لزعمه ترجيح أدلّة التمام.

والّذي ينبغي أن يقال ـ سواء قلنا بأنّ الامتثال الإجمالي في عرض التفصيلي أو طوله ـ : لا فرق بين تقديم ما دلّ الدليل الظنّي على لزومه وبين تقديم الاحتمالي ، لأنّ الواجب بموجب الدليل الظنّي يلزم أن يجزم به ويقصد به الوجوب ، والثاني يلزم أن يؤتى به رجاء سواء قدّم أو أخّر. وحينئذ فمع اقتران ذي الدليل الظنّي بكلّ ما يعتبر في الواجب وإتيان الآخر رجاء فلا فرق في تقديم أيّهما وتأخير الثاني ، فافهم.

وأمّا إذا كان حجّية الظنّ بدليل الانسداد فهل يجوز الاحتياط والامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال الظنّي التفصيلي أم لا يجوز ذلك إلّا إذا تعذّر؟ فإن قلنا بجواز الامتثال الإجمالي في صورتي إمكان العلم والظنّ الخاصّ فجوازه هنا بالطريق الأولى ، وإن لم نقل بجواز ذلك في تينك الصورتين كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٤) ففيه إشكال. وقد تعجّب الشيخ الأنصاري ممّن يرى العمل بالأمارات

__________________

(١) انظر الفوائد ٣ : ٧٢.

(٢) هو الشيخ الأنصاري ، كما صرّح به في دراسات في علم الاصول ٣ : ٩٨.

(٣) السيّد الشيرازي ، راجع نجاة العباد : ١٣٦.

(٤) فوائد الاصول ٣ : ٧٢.

٨٦

من باب الظنّ المطلق ولا يرى جواز الاحتياط (١) إلّا أنّ الميرزا قدس‌سره ذكر أنّه لا تعجّب في ذلك على القول بالحكومة ، فإنّها مبنيّة على حرمة الاحتياط. نعم على القول بالكشف التعجّب بمحلّه ، إذ أنّه مبني على عدم لزوم الاحتياط لا عدم جوازه (٢).

وملخّص القول في ذلك : أنّ الظنّ الانسدادي بعد أن علمنا بتكليفنا وإنّا لسنا كالبهائم ، والعلم الإجمالي بالتكاليف وأن لا طريق إلّا الظنّ أو القرعة أو البراءة أو الاحتياط إلى تحصيلها ، وأنّ البراءة موجبة للخروج من الدين والقرعة لا يمكن جريانها ، وأنّ الاحتياط غير جائز أو غير واجب ، فإن قلنا بأنّه غير جائز للزوم الجزم بالنيّة فلا يبقى طريق للامتثال إلّا الظنّ ، فحيث إنّ الشارع يريد أوامره والتكليف بغير المقدور محال فلا بدّ من جعله الظنّ حجّة فنكتشف أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة. وحينئذ فالظنّ بحكم الظنّ الخاصّ في جواز الامتثال الإجمالي كما اخترناه ، بل هو ظنّ خاصّ إلّا أنّه اكتشف بدليل عقلي غير أدلّة خبر الواحد مثلا ، وقد ذكرنا جواز الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال الظنّي التفصيلي إذا كان الظنّ ظنّا خاصّا ، فالمقام منه وإن خالف الميرزا النائيني في الموردين فلم يجوّز الاحتياط فيه لزعمه تقدّم الامتثال التفصيلي على الإجمالي رتبة كما تقدّم ، فتعجّب الشيخ هنا في غير محلّه.

وإن قلنا بأنّ الاحتياط غير واجب وهو جائز ، وحينئذ فحيث إنّه يؤدّي إلى العسر والحرج أو للإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكلّي فلا بدّ من الاقتصار على بعض الأطراف وهو الاحتياط في المظنونات ، لأنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط في المظنونات وترك الاحتياط في المشكوكات والمحتملات وبقبح الاحتياط في المشكوكات والمحتملات وترك الاحتياط في المظنونات لأنّه ترجيح

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٧٣.

(٢) انظر فوائد الاصول ٣ : ٧١.

٨٧

للمرجوح على الراجح ، فهو في الحقيقة ليس حجّية ظنّ وإنّما هو احتياط في المظنونات ، ولذا لو أتى بالمظنونات حينئذ بالنيّة الجزميّة لم يصحّ العمل وكان مشرّعا. وحينئذ فالعمل بالامتثال الإجمالي الّذي هو عبارة عن الاحتياط في جميع الأطراف جائز قطعا ، لأنّ المظنون أيضا يؤتى به ضمنا مع غيرها وهي المشكوكات والمحتملات ، فتعجّب الشيخ هنا في محلّه.

وبالجملة فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي العلمي والظنّ بجميع أنواع الظنّ ، لأنّه لا يعتبر التمييز وليس لعبا بامتثال أمر المولى أصلا ، هذا تمام الكلام في القطع. وأمّا الكلام في الظنّ.

٨٨

الكلام في الظنّ وحجّيته

والكلام في إمكان جعله حجّة وعدمه ، وقبل الخوض في ذلك ذكر صاحب الكفاية أمرا لا بأس بذكره وذكر ما فيه بنحو الإجمال ، ذكر قدس‌سره أنّ الأمارات الغير القطعيّة ليست كالقطع في كون الحجّيّة من ذاتيّاتها ولوازمها بل الأمارات الظنيّة لا اقتضاء فيها للحجّية إلّا بعد طروء حالات وسير مقدّمات الانسداد. وبالجملة لا ريب في عدم اقتضائها للحجّية في مقام الثبوت للتكاليف وكذا في مقام السقوط أيضا خلافا لما يظهر من المحقّق الخوانساري قدس‌سره حيث يظهر منه الاكتفاء بالظنّ في مقام السقوط ، ووجّهه قدس‌سره باحتمال بنائه على عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، ثمّ أمر قدس‌سره بالتأمّل (١).

وكان وجهه هو أنّ البناء على عدم لزوم دفع الضرر المحتمل يجوّز الاقتصار في مقام الامتثال على المشكوك أيضا ، وأيضا فالنزاع في وجوب دفع الضرر المحتمل وعدم وجوبه بالنسبة إلى الضرر الدنيوي ، أمّا الضرر الاخروي فلا ريب في لزوم دفع ضرره. كما أنّ ما ذكره قدس‌سره من كون الظنّ على الانسداد فيه اقتضاء الحجّية لا يخفى ما فيه ، أمّا على الكشف فقد جعله الشارع ، فأين الاقتضاء مع عدم الجعل؟ وأمّا على الحكومة فليس الظنّ حينئذ حجّة بل يحتاط في المظنونات ، وإطلاق الحجّية عليه حينئذ مسامحة واضحة. وبالجملة فالظنّ ليس فيه اقتضاء للحجّية مطلقا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٧.

٨٩

في إمكان حجّية الظنّ واستحالتها

وقبل الخوض في ذلك نذكر المراد من الإمكان ، وأنّه الإمكان الذاتي وتقابله الاستحالة الذاتيّة أو الإمكان الوقوعي؟ الظاهر أنّ المراد من الإمكان الإمكان الوقوعي ، لأنّ القائل بالاستحالة ادعى أنّه يلزم من حجّية الظنّ لوازم فاسدة لا أنّ حجّية الظنّ ممتنعة ذاتا بمعنى أنّ تصوّر العقل لها يحيلها كاجتماع النقيضين.

ثمّ إنّا قبل ذكر حجّة المانع نتكلّم في مقتضى القاعدة وأنّها الإمكان أو الامتناع ، زعم الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي الإمكان لا الاستحالة (١) لبناء العقلاء على الإمكان حتّى يثبت الاستحالة وسيرتهم على ذلك قائمة.

وقد أورد عليه الآخوند قدس‌سره والميرزا النائيني قدس‌سره بإيرادات.

أمّا إيرادات الآخوند قدس‌سره فأوّلا : إنكار بناء من العقلاء على إمكان شيء بمجرّد عدم علمهم باستحالته.

وثانيا : ما فائدة هذا البناء منهم لو سلّم مع عدم العلم بإمضاء الشارع له؟ نعم هناك ظنّ بإمضائه حيث لم يردع الشارع عنه بحسب ما وصل إلينا وهو يوجب الظنّ بالإمضاء والكلام بعد في حجّية الظنّ.

وثالثا : أن لا فائدة في الإمكان ما لم يبلغ الوقوع لعدم ترتّب أثر عملي عليه ومع الوقوع لا فائدة في البحث عن الإمكان (٢).

وأمّا إيراد الميرزا النائيني قدس‌سره فهو أنّ بناء العقلاء على إمكان الشيء قبل ثبوت استحالته مسلّم إلّا أنّه في الممكنات التكوينيّة والكلام مع ابن قبة في الإمكان التشريعي وأحدهما غير الآخر فلا يكون بناء العقلاء مجديا في المقام أصلا (٣).

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ١ : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) انظر الكفاية : ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٣) انظر الفوائد ٣ : ٨٨.

٩٠

والظاهر أنّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره ثابت لا غبار عليه ولا يرد عليه أحد الإيرادات المذكورة في المقام أصلا ، مثال ذلك أنّ المولى لو قال : «أكرم العلماء» واحتملنا أن يكون إكرام الفسّاق غير مطلوب بل طلبه مستحيل ، لعدم الملاك واستحالة طلب ما لا ملاك فيه من المولى الحكيم فهل يتوقّف عاقل عن إكرامه؟ كلّا ثمّ كلّا ، بل إنّ بناء العقلاء على إكرامه ما لم يحرز عدم ملاك الأمر فيه.

وأمّا ما ذكره الميرزا قدس‌سره فلا نعقل له معنى صحيحا ، وذلك أنّ الإمكان والاستحالة ليس أمرا شرعيّا تارة وتكوينيّا اخرى بل هو تكويني دائما ، نعم قد يكون متعلّقه تشريعيّا لا هو ، وهذا لا يخلّ بالمقصود بعد ثبوت البناء العقلائي في الإمكان التكويني.

وأمّا ما ذكره الآخوند قدس‌سره فوارد لو كان مراد الشيخ قدس‌سره إثبات مجرّد الإمكان ، ولكنّ الظاهر من الشيخ ظنّا بل اطمينانا أنّ مراد الشيخ أنّ الظواهر الّتي دلّت على حجّية الظنّ هل بناء العقلاء على العمل بها مع الشكّ في إمكان الجعل واستحالته وإنّما يرفعون اليد عن العمل بها عند ثبوت الاستحالة أو أنّها لا يعمل بها ما لم يثبت الإمكان؟ وحينئذ فهنا أثر عملي في بنائهم ، ومع عدم ردع الشارع يحرز منه الإمضاء وليس ظنيّا فقط ، والإمكان ثابت لا جدال فيه بحسب الظاهر.

وبالجملة فالظاهر صحّة ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ الأصل إمكان حجّية الظنّ ما لم يثبت استحالة جعل الحجّية ، كما نسب إلى ابن قبة ذلك ، وقد احتجّ على ذلك باستلزامه تحريم الحلال وتحليل الحرام ، ومراده كما أوضحه المتأخّرون (١) يرجع إلى محذور في مقام الجعل ومحذور في مقام الملاك.

أمّا المحذور الأوّل : فهو أنّ المجعول بالدليل الظنّي إن كان موافقا للحكم الواقعي فهو جمع للمثلين ، وإن كان مخالفا له فهو جمع الضدّين ، وكلاهما محال قطعا بداهة من العقل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١١٠ و ١٢٣.

٩١

الثاني : وهو المحذور في مقام الملاك ، وهو أنّ العدليّة قد استقرّ بناؤهم على تبعيّة الأحكام الواجبة للمصالح الإلزاميّة والأحكام المحرّمة للمفاسد على فعلها بنحو يلزم تركها ، وحينئذ ففي جعل الظنّ حجّة لو أدّى إلى التحريم وكان الحكم الواقعي الإباحة فقد حرّم الحلال ونهانا عن عمل مع عدم ترتّب مفسدة عليه فيكون نهيه جزافيّا ، كما أنّه لو دلّ الظنّ على تحليل شيء كان حراما في الواقع فقد رخّص في حصول المفسدة الّتي يلزم تركها. وبالجملة يلزم أن لا تكون المصالح الإلزاميّة مصالح إلزاميّة ، فافهم وتأمّل.

ونحن نقدّم الجواب عن إشكال الملاك ـ الّذي هو الإشكال الثاني ـ أوّلا ثمّ نتعرّض للجواب عن الإشكال الأوّل الّذي هو إشكال اجتماع المثلين أو الضدّين.

فنقول : إنّ إشكاله الأوّل يكون تارة في صورة قيام الأمارة الظنيّة مثلا على وجوب ما كان مباحا أو حرمته ، واخرى على إباحة ما كان حراما أو واجبا ، وثالثة تقوم الأمارة على وجوب الحرام أو تحريم ما كان واجبا ، ففي الصورة الاولى لا يكون كثير إشكال ، إذ ليس فيه إلقاء في المفسدة ، وجعل الشارع حينئذ يكون من باب ملاحظة المصلحة النوعيّة بالنسبة إلى الأمارات ، إذ الجعل النوعي لا ينافيه عدم فائدة الجعل في فرد مع ثبوت الفائدة في النوع.

[وأمّا الكلام](١) في الصورة الثانية ففي صورة انسداد باب العلم يدور أمر المولى بين أن يجعل الأمارات فيحصل مقدار من الواجبات الواقعيّة أو لا يجعل الأمارة فلا يحصل شيء منها أصلا ، للإجماع على عدم لزوم الاحتياط وبقاء التكاليف الواقعيّة مطلوبة. وبالجملة يدور الأمر بين تحصيل بعض المصالح الإلزاميّة وبين عدم تحصيل شيء أصلا ، وليس الشارع هو الموقع في المفسدة حيث تدلّ الأمارة على إباحة المحرّم ، لأنّه لو لا الأمارة لكان يمكن أن يفعله أيضا ومعها قد يتركه أيضا.

__________________

(١) هنا كلمات غير مقروءة ، لعلّ منها ما أضفناه بين المعقوفتين.

٩٢

نعم ، حيث يدلّ الدليل الظنّي على حرمة الواجب أو وجوب المحرّم ـ الّذي هو الصورة الثالثة ـ يكون تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة من قبل المولى ولكنّه لا يضرّ ، لأنّه لو لم يفعل ذلك فيأمر باتّباع الدليل الظنّي لفاتت أكثر المصالح ولوقعت أكثر المفاسد الواقعيّة ، وحينئذ فحفظا للمصالح الّتي تدلّ عليها الأمارات وحذرا من المفاسد الّتي تكشف عنها الأمارات يجعل الأمارات ، ولا يضرّ بها حينئذ الوقوع في بعض المفاسد وتفويت بعض المصالح ، فإنّها قليلة جدّا بجنب المصالح المستوفاة من هذا الجعل. وبالجملة المصالح المستوفاة أهمّ من المصالح الفائتة والمفاسد المتجنبة أكثر من المفاسد الواقعة فيقدّم الأهمّ على المهمّ.

وإن كان الفرض صورة انفتاح باب العلم ـ كما هو ظاهر المستدلّ ـ فلا يقبح الجعل لها حينئذ ، إلّا إذا فرض أنّ الإصابة في صورة تحصيل القطع أكثر ، مع أنّه غير معلوم لإمكان اتّكال الإنسان على مقدّمات تفيده القطع ، مع أنّ مخالفتها للواقع أكثر من مخالفة الطرق الظنيّة ، وحينئذ فالفائت أيضا بواسطة جعل الطرق الظنيّة أيضا ليس بواسطة جعل الشارع وإنّما كان من الأوّل بل كان أوّلا أكثر كما هو الفرض.

ولا يرجع هذا إلى الانسداد كما أفاده الأنصاري قدس‌سره (١) لأنّ الانفتاح لباب العلم معناه إمكان الوصول لا الوصول الواقعي وليس كلّ ممكن واقعا ، فافهم.

ولو فرض أنّ المفاسد المترتّبة على جعل الأمارة أكثر من المفاسد المترتّبة على اتّباع طريق العلم إلّا أنّ هنا مصلحة نوعيّة يلاحظ بها المصالح النوعيّة ، وهي مصلحة التسهيل على المكلّفين باتّباع الأمارات الظنيّة ، لأنّ الرجوع إلى الطرق العلميّة يوجب زيادة مشقّة على المكلّفين ، فتكون المصالح الفائتة على تقدير الجعل متداركة بمصلحة التسهيل ، والمفاسد الواقعة أيضا تقابلها مصلحة التسهيل الّتي هي من المصالح النوعيّة ، على أنّه لو التزمنا بالقبح في هذه الصورة

__________________

(١) راجع الفرائد ١ : ١٠٩.

٩٣

ـ وهي صورة الانفتاح وفرض كون الوصول إلى الحكم الواقعي فعليّا لا ممكنا فقط وكان أكثر موافقة من اتّباع الظنّ ـ لم يضرّنا ذلك ، لأنّ الموارد الشرعيّة لم يعلم أنّها من هذا القبيل أي من قبيل ما رخّص فيه الشارع مع فرض الانفتاح والوصول الفعلي وأغلبيّة مطابقة العلم من الأمارة المجعولة ، هذا كلّه بناء على جعل الأمارات من باب الطريقيّة والكاشفيّة.

وأمّا بناء على جعلها من باب السببيّة فلا يرد إيراد ابن قبة أصلا ، (وإنّا وإن لم نوافق على كون هذه الأمارات حجّة من باب السببيّة إلّا أنّ إمكان ذلك كاف في إثبات إمكان حجّية الظنّ وهو المطلوب) (١) ، أمّا على السببيّة الأشعريّة ـ وهي عدم ثبوت أحكام واقعيّة بل الأحكام تابعة لمؤدّيات الطرق ـ فواضح ، لعدم الحكم الواقعي حتّى يستتبعه المصالح والمفاسد بل المصالح والمفاسد تابعة لمؤديات الطرق. ولكن هذه السببيّة باطلة عندنا إمّا للدور كما ذكره العلّامة قدس‌سره (٢) وهو أنّ الأمارة طريق للواقع فإذا فرض أنّ الواقع يتكوّن بها فيلزم وجوده قبلها بمقتضى طريقيّتها له والمفروض أنّه موجود بعدها ، وإمّا للإجماع على بطلانه ، وإمّا للأخبار (٣) الدالّة على وجود أحكام واقعيّة يشترك فيها العالم والجاهل والملتفت والغافل.

وأمّا على سببيّة المعتزليّة ـ وهي ثبوت أحكام واقعيّة إلّا أنّ قيام الأمارة يكون مانعا عن استمرارها وبقائها فتمحى أو تثبت مكانها مؤدّيات الطرق ـ فعدم ورود إيراد ابن قبة أيضا واضح ، لعدم ثبوت حكم واقعي عند قيام الأمارة حتّى تكون الأمارة مفوّتة لمصلحته. ولكن هذه السببيّة أيضا باطلة بالإجماع وإطلاق أخبار الاشتراك لما بعد قيام الأمارة.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) انظر نهاية الاصول : ٤٣٥ (مخطوط).

(٣) انظر الكافي ١ : ٤٠ ، باب سؤال العالم وتذاكره وص : ٥٨ ، الحديث ١٩ وص : ٥٩ ، الحديث ٢ وص : ١٩٩ ، الحديث ١ ، والبحار ١ : ١٧٩ ، الحديث ٦١.

٩٤

وأمّا على السببيّة الإماميّة وهي الالتزام بالمصلحة السلوكيّة (١) وذلك بأن يقال : إنّ قيام الأمارة لا يحدث مصلحة في المؤدّى ولكن سلوك هذه الأمارة قد يكون بمقدار ساعة وقد يكون بمقدار عشر ساعات وقد يكون إلى آخر العمر ، مثلا من قامت عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مثلا فيستند في إتيان صلاة الجمعة إلى تلك الأمارة فلا يصلّي صلاة الظهر ولا يقضيها خارج الوقت أيضا استنادا إليها ، وحينئذ فلو انكشف له خطاؤها فهي بمقدار ما استند فوات المصلحة إليها فسلوكها يتداركه ، مثلا لو صلّى أوّل الوقت صلاة الجمعة وبعد ساعتين انكشف له خطأ تلك الأمارة ، فما فاته وهو مصلحة أوّل الوقت يتدارك بالسلوك والاستناد ، وما لم يفته من إتيان الظهر يجب عليه أداؤه ، ولو انكشف خطأ الأمارة بعد خروج الوقت فما فات وهو مصلحة الوقت تتدارك بطول السلوك ، وما لم يفت وهو مصلحة القضاء يأتي به ، ولو لم ينكشف له حتّى مات فالسلوك هنا واف بتمام المصلحة ، وحينئذ فأين لزوم تفويت المصالح الملزمة أو الإلقاء في المفاسد الّتي يلزم تركها؟ (ولا يخفى أنّه لو كان سلوك الأمارة في ظرف الجهل بالواقع متداركا لما فات من مصالح بمقدار ما فات زمن السلوك للزم انقلاب الواقع من التعيين إلى التخيير بين هذين الشيئين وهما صلاة الظهر وسلوك الأمارة ولم يكن وجه لتعيينه بالظهر فتعيينه بالظهر لا يستقيم مع هذه المصلحة السلوكيّة ، فالإنصاف أنّها أيضا ممتنعة إمكانا فهي غير ممكنة كسابقتها للزوم انقلاب الواقع أيضا من التعيين إلى التخيير) (٢) ، هذا تمام الكلام في [الإشكال] الأوّل من تحليل إشكال ابن قبة.

__________________

(١) انظر في التصويب والتخطئة نهاية الاصول : ٤٣٦ ـ ٤٣٩ ، والفصول : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، والفرائد ١ : ١١٢ ـ ١١٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٩٥

وأمّا الكلام في الإشكال الثاني وهو إشكال اجتماع المثلين أو الضدّين ، وتقريره : أنّ الحكم المجعول في الطرق والأمارات إن كان مماثلا للحكم الواقعي لزم اجتماع المثلين ، وإن كان مخالفا لزم اجتماع الضدّين ، وكلاهما محال. وهذا الإشكال ـ وهو إشكال استحالة الاجتماع المثلين أو الضدّين ـ لا يخصّ الحكيم بل أنّ استحالة اجتماعهما ذاتيّة ، بخلاف الإشكال المتقدّم فإنّ تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ليس مستحيلا إلّا على الحكيم.

ولا يخفى أنّ دفع هذا الإشكال بالنسبة إلى اجتماع المثلين ليس بهذه الأهميّة ، لأنّ الحكم الثاني المماثل إن كانت مصلحته هي مصلحة الحكم الأوّل فلا يخفى حينئذ أنّه ليس حكما ذاتيّا أصلا وإنّما هو موصل للحكم الأوّل وطريق إليه ، نظير قول القائل «أكرم زيدا» فإذا فرض عدم وصول هذا الخطاب إلى المكلّف أو عدم معرفته بزيد فيخاطب ثانيا بقوله «أكرم ابن عمرو» مثلا فهو طريق موصل للحكم وليس حكما آخر. وإن كان فيه مصلحة اخرى غير مصلحته الأوّليّة كما لو قلنا بالسببيّة فهو يكون حينئذ مؤكّدا له ، نظير أمر الوالد ابنه بواجب شرعي ونذر الواجب وأمر السيّد عبده بما نذره بإذنه مثلا وغير ذلك من الواجبات المؤكّدة لجهتين فيها أو أكثر.

وإنّما الإشكال كلّ الإشكال في جواب إشكال اجتماع الضدّين ، وقد اجيب عنه بعدّة أجوبة :

فمنها : ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وملخّصه أنّ الجمع بين الضدّين لأدائه في الحقيقة إلى الجمع بين النقيضين من جهة أنّ البياض مثلا ضدّ السواد لكنّه لملازمته لرفع السواد يؤول إلى اجتماع النقيضين ، وقد اعتبر في استحالة اجتماع النقيضين الوحدات الثمانية وقد أضاف بعضهم إليها وحدة الحمل فصارت تسعة ، ومن جملة الوحدات الوحدة في الموضوع ، والموضوع هنا مختلف فإنّ الموضوع للحكم الواقعي

__________________

(١) انظر الفرائد ١ : ١٢٢ و ٤ : ١٢.

٩٦

هو الأشياء بما هي هي والموضوع للحكم الظاهري هو الأشياء بقيد الشكّ فإنّ الشكّ قد اخذ في موضوع الحكم الظاهري.

وقد اشكل على ما ذكره الشيخ أوّلا بأنّ هذا لو تمّ لا يجدي إلّا في الاصول فإنّها الّتي قد اخذ الشكّ في موضوعها ، ولا يسري إلى الأمارات من الطرق لأنّ الشكّ مورد فيها لا مأخوذ في موضوعها. وثانيا بأنّه في الاصول أيضا غير تامّ ، لأنّ الإهمال غير معقول في الحكم الواقعي. وحينئذ فلا بدّ من جعل الحكم الواقعي للأشياء بنحو الإطلاق والسريان ، إذ التخصيص بخصوص المعلومة موجب للتصويب. وحينئذ فإذا جعل الحكم الواقعي مطلقا إمّا بالإجماع والضرورة كما هو عند الشيخ (١) أو بمتمم الجعل كما هو عند الميرزا (٢) أو بالخطاب الأوّلي بعموم اللحاظ كما اخترناه يكون شاملا حتّى لصورة الشكّ ، فيجتمع الضدّان فيه في صورة الشكّ ، وهذا هو مراد الآخوند قدس‌سره بعبارته «فافهم» (٣).

ومن جملة الأجوبة عن إيراد ابن قبة ما ذكره الآخوند قدس‌سره وهو وإن كان بعبارات مختلفة فتارة يقول : إنّ الحكم الواقعي شأني ، واخرى يقول : إنّه إنشائي ، واخرى يعبّر بغيرهما إلّا أنّ الجامع لعباراته هو أنّ الحجّية إن كانت مجعولة بنفسها بنحو يكون المجعول هو التنجيز أو التعذير من غير أنّ ينتزع من حكم تكليفي أو ينتزع هو من الحكم التكليفي فلا حكم ظاهري أصلا ، وإن قلنا بانتزاعه من الحكم التكليفي أو انتزاع الحكم التكليفي منه ، فالجواب هو الحكم الواقعي في هذه لم يكن يجب امتثاله فليس مبعوثا نحوه أصلا وإنّما البعث والزجر نحو مؤدّيات الأمارة ، وحينئذ فلا يلزم اجتماع الضدّين أصلا (٤).

__________________

(١) انظر الفرائد ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ١١٤.

(٣) انظر الكفاية : ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٤) المصدر المتقدّم : ٣١٩ ـ ٣٢٢.

٩٧

ولا يخفى أنّ مراده قدس‌سره من الشانيّة للحكم الواقعي إن كان بمعنى أنّ مقتضى الحكم الواقعي موجود إلّا أنّ قيام الأمارة على خلافه مانع عن إنشائه وجعله ، فهذا هو عين تصويب الأشعري المجمع على بطلانه. وإن كان مراده أنّ الأحكام الواقعيّة طبعيّة ـ بمعنى أنّها أحكام لطبائع الأشياء مع قطع النظر عن عوارضها نظير جواز الصلاة فيما يحلّ أكله أي يحلّ أكله بحسب طبعه فلا يشمل ما يحلّ أكله من جهة الضرورة ، وكذا حرمة الصلاة في أجزاء ما لا يحلّ أكله أيضا بحسب طبعه وإلّا فلو حرم أكله لصوم في نهار شهر رمضان مثلا فيجوز الصلاة فيه ـ فمراده من الأحكام الواقعيّة أنّها ثابتة للأشياء بشأنها لكن قيام الأمارة يكون نظير عنوان الاضطرار موجبا لتغيّر العنوان الواقعي عمّا هو عليه إلى مؤدّى الأمارة ، فهذا عين التصويب المعتزلي المجمع على بطلانه أيضا.

وإن كان مراده أنّ الحكم الواقعي جعل من غير ملاحظة للخصوصيّات ، فإن اريد أنّه التفت إلى الخصوصيّات ولم يلحظها لعدم اعتبارها في الحكم فهذا معناه الإطلاق لأنّه رفض القيود وحينئذ ففي صورة قيام الأمارة يجتمع الحكمان ، وإن أراد أنّ الحكم مهمل من ناحية الخصوصيات فقد بيّنّا أنّ الحكم الواقعي لا يعقل أن يكون مهملا أصلا.

وإن كان المراد من الحكم الإنشائي أنّ الحكم الواقعي إنشائي ولم يصل إلى مرتبة الفعليّة في صورة قيام الأمارة على خلافه فقد ذكرنا أنّ فعليّة الحكم الواقعي وعدمها ليست بيد المولى ، بل أنّ الحكم إن كان موضوعه موجودا كان فعليّا ، وإن كان موضوعه مفقودا لم يكن فعليّا. وبالجملة فما ذكره الآخوند قدس‌سره لا يجدي طائلا فلا بدّ من جواب آخر.

ومنها : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وملخّصه ـ بعد حذف ما لا ربط له في المقام

__________________

(١) انظر الفوائد ٣ : ١٠٥ ، وأجود التقريرات ٣ : ١٢٨.

٩٨

من الزوائد ـ أنّ موارد الأحكام الظاهريّة الّتي اشكل عليها بما ذكر ابن قبة من اجتماع الضدّين لا تعدو موارد ثلاثة :

الأوّل : موارد الأمارات والطرق المخالفة للحكم الواقعي.

الثاني : ما اخذ الشكّ في موضوعه إلّا أن له نظرا إلى الواقع ، وهو المعبّر عنه بالاصول التنزيليّة كالاستصحاب وقاعدتي التجاوز والفراغ وغيرها مع مخالفتها للواقع.

الثالث : الاصول المحضة وهي ما اخذ الشكّ في موضوعها وكانت مبيّنة للعمل في ظرف الشكّ مع قطع النظر عن الواقع.

فأمّا القسم الأوّل فإنّما يتوجّه إشكال ابن قبة إذا قلنا إنّ الحكم الظاهري عبارة عن وجوب اتّباع الأمارة الظنيّة تكليفا ، وأمّا إذا قلنا بأنّ الحكم الظاهري عبارة عن جعل الحجّية الّتي هي أمر وضعي ولا يحتاج إلى أمر تكليفي يكون هذا الأمر الوضعي منتزعا عنه خلافا للشيخ الأنصاري حيث زعم إنّ الأحكام الصادرة من المولى يلزم أن تكون تكليفيّة ومنها ينتزع الأحكام الوضعيّة (١) بل المجعول كما قد يكون حكما تكليفيّا كذلك قد يكون حكما وضعيّا من غير حاجة إلى تكليف ينتزع منه الحكم الوضعي.

وحينئذ فالمجعول في الأمارات هو صفة المحرزيّة والوسطيّة في الإثبات ويترتّب عليها الأحكام العقليّة من التنجيز والإعذار وغيرها ، وبالجملة يجعلها علما تنزيلا رأسا من دون حكم تكليفي ، لما سيأتي من إمكان الجعل الاستقلالي في الأحكام الوضعيّة فإنّ هذا الجعل جعل يترتّب عليها آثاره وفوائده ، وبالجملة فالشارع بجعله تمّم كشفها وجعلها طريقا إلى امتثال أحكامه وألغى احتمال خلافها بجعله

__________________

(١) الفرائد ٣ : ١٢٦ (قال : المشهور ـ كما في شرح الزبدة ـ بل الّذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ـ كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين ـ أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي).

٩٩

وجعلها كالعلم في الكاشفيّة غير أنّ كاشفيّة العلم ذاتيّة له وكاشفيّتها بالجعل من قبل الشارع ، وحينئذ فإذا كان المجعول ما ذكرنا فليس المجعول حكما تكليفيّا وهو وجوب اتّباع الأمارة حتّى يلزم اجتماع الضدّين في المقام وهو واضح جدّا. نعم لو قلنا بمقالة الشيخ الأنصاري من انتزاع الحكم الوضعي من حكم تكليفي للزم ما ذكر لكنّه في الحقيقة من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع فإنّه لا حكم تكليفي في المقام أصلا.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال القسم الثاني وهو موارد الاصول التنزيليّة ، فإنّ المجعول فيها عين المجعول في الأمارات من صفة المحرزيّة والوسطيّة في الإثبات. نعم بينهما فرق [وهو] أنّ القسم الأوّل ليس الشكّ مأخوذا في موضوعها بخلاف الثاني فإنّ الشكّ قد اخذ في موضوعها لكن هذا لا يوجب تفاوتا فيما نحن فيه من كون المجعول هو الإحراز والوسطيّة في الإثبات. وبالجملة فإنّ لسان الدليل الدالّ على حجّية الاستصحاب مثلا لسانه إلغاء الشكّ وعدم ترتيب آثاره.

وبالجملة فصرف إمكان كون المجعول في المقامين هو صفة الإحراز كاف في حسم مادّة إشكال ابن قبة ولكن هو واقع أيضا لأنّ هذه الطرق الّتي جعل الشارع حجّيتها كلّها طرق عقلائيّة موجبة للظنّ النوعي في الحكم وجعل الشارع في الحقيقة إمضاء للحكم العقلائي وليس حكما تأسيسيّا ، ومن المعلوم أنّ العقلاء ليس عندهم أحكام تكليفيّة ، فمعنى إمضاء الشارع لما بنى عليه العقلاء إنّما هو الأخذ بطريقتهم في التوصّل إلى مطاليبهم بهذه الطرق والأمارات.

وبالجملة فإمضاء الشارع أدلّ دليل على ما ذكرنا من كون الجعل إنّما هو لصفة الإحراز والمتمّمية في الكشف. وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام الآخوند قدس‌سره حيث زعم أنّ المجعول هو التنجيز والإعذار (١) فإنّها أحكام عقليّة مترتّبة على المجعول الشرعي وهو الوسطيّة في الإثبات قهرا وليست هي مجعولة شرعا فافهم وتأمّل تعرف.

__________________

(١) انظر الكفاية : ٣١٩.

١٠٠