غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

كلّي الحدث ، لأنّ استصحاب تخصّص الكلّي السابق بخصوصيّة الأصغريّة يعيّن كون الحادث هو الأصغر ، لأنّه يشكّ في انقلاب الحدث الأصغر إلى الأكبر فيستصحب عدم الانقلاب بناء على أنّ حدوث الجنابة توجب الانقلاب للأصغر إلى الأكبر ، وكذا بناء على كون حدوث الجنابة يوجب شدّته فيشكّ في حدوث الشدّة وعدمها ، وكذا بناء على أنّهما أثران لا تضادّ بينهما فيشكّ في حدوث الآخر والأصل عدمه ، فالكلّي الّذي كان متخصّصا بالخصوصيّة السابقة يشكّ في انقلابه إلى غيرها.

وبالجملة ، فالحقّ كما في العروة (١) من التفرقة بين المسبوقيّة بالأصغر فلا يجب الجمع وبين عدم المسبوقيّة بالحدث الأصغر فيجب لعدم ما يوجب انحلال العلم الإجمالي على الثاني بخلافه على الأوّل (فإنّ إطلاق عبارة العروة بوجوب الجمع بين الوضوء والغسل محمول على صورة عدم كون الشاكّ محدثا بالأصغر كما يظهر بالتأمّل) (٢) ، فافهم.

[تحقيق شبهة السيّد الصدر]

ثمّ إنّه بعد ما حقّقنا جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي نتعرّض لما ذكره السيّد الصدر قدس‌سره وملخّصه أنّه بعد البناء على جريان استصحاب الكلّي وأنّ ملاقي بعض اطراف الشبهة المحصورة محكوم بالطهارة شرعا ، فلو أنّ عندنا عباءة نعلم إجمالا بنجاسة أحد طرفيها إمّا العالي أو الداني ، فلو غسلنا الطرف العالي منها فعلى تقدير كونه هو النجس فقد طهر قطعا ، وعلى تقدير كون الداني هو النجس فالنجاسة باقية قطعا ، وحينئذ فقد دار أمر النجاسة بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ، فلو لاقى الطرف الّذي لم يغسل الماء فالماء محكوم

__________________

(١) انظر العروة الوثقى ١ : ٣٠٨ فصل في مستحبّات الجنابة ، المسألة : ٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية للدرس.

٥٨١

بالطهارة ، لأنّ ملاقي أحد أطراف الشبهة محكوم بالطهارة شرعا فإذا لاقى الطرف المغسول ذلك الإناء الّذي لاقاه الطرف الداني ، فباستصحاب النجاسة الكلّي يحكم بالنجاسة ، فالحكم بطهارة الماء مع الالتزام بجريان القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي غير ممكن.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عن هذه الشبهة المسمّاة بالشبهة العبائيّة لتمثيل السيّد بالعباء فيها بجوابين :

أحدهما في الدورة الاولى ، وملخّصه : أنّ استصحاب الكلّي هو الّذي يكون الأمر فيه مردّدا بين فردين من ماهيّة ، وأمّا مثل العباءة في المثال فليس استصحابا للكلّي ، وإنّما هو مثل زيد مثلا لو كان في الدار ثمّ علمنا بسقوط الجانب الغربي منها فزيد إن كان في الجانب الغربي فقد مات ، وإلّا فهو حيّ ، فهذا من استصحاب الفرد المردّد وليس من استصحاب الكلّي.

ولا يخفى عليك أنّ هذا ممّا لا ينبغي صدوره منه قدس‌سره فإنّه إن لم يكن هذا من استصحاب الكلّي فهو استصحاب شخصي ، فإنّ زيدا في المثال الّذي ذكره لو شكّ مقلّده في موته حتّى يعدل عن تقليده لسقوط الجدار عليه وموته ، له أن يستصحب حياته فيبقى على تقليده ، فالإشكال وإن انتفى على تقدير تسليم ما ذكره قدس‌سره عن الاستصحاب الكلّي بدعوى أنّه لا يرد على الاستصحاب الكلّي إلّا أنّ أصل الإشكال لم يندفع.

والثاني في الدورة الثانية ، وملخّصه : أنّ هذا الاستصحاب الكلّي إن جرى فهو مثبت ، بيان ذلك أنّ الأثر المتصوّر في المقام إمّا حرمة الصلاة بها ولا يتوقّف على الاستصحاب للعلم الإجمالي المنجّز ، وإمّا نجاسة الملاقي فهي موقوفة على إحراز الملاقاة وإحراز نجاسة الملاقى بالفتح ، أمّا الملاقاة فهي في المقام محرزة

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٢٢ ، وأجود التقريرات ٤ : ٩٤.

٥٨٢

بالوجدان حسب الفرض ، وأمّا نجاسة الملاقى فاستصحاب وجود كلّي النجاسة فيها لا يثبتها إلّا بالملازمة العقليّة.

ولا يخفى أيضا عليك أنّه لو أراد السيّد استصحاب وجود كلّي نجاسة العباءة كان ما ذكره الميرزا في جوابه متينا إلّا أنّ للسيّد أن يجري استصحاب نجاسة ذلك الخيط النجس بخصوصه الّذي لاقى الماء قطعا. فتكون النجاسة محرزة بالأصل ، والملاقاة لما هو نجس بالنجاسة المحرزة بالأصل محرزة بالوجدان حسب الفرض.

فالتحقيق أن يلتزم بنجاسة الملاقي لكلّ طرفي العباءة ، لأنّ استصحاب الطهارة في الماء محكوم بهذا الاستصحاب ، لأنّ العبرة في باب الاستصحاب بتحقّق اليقين السابق بنجاسة الملاقي والشكّ اللاحق في زوالها ، فبملاقاة الطرف السفلى لم يحكم بنجاسة الملاقي لعدم حصول اليقين بملاقاة ما كان نجسا له ، ولكن بملاقاة الطرف العالي المقطوع الطهارة يتحقّق حينئذ اليقين بملاقاة ما كان نجسا ، فيحكم بنجاسة الملاقى بالفتح وهو الماء لتحقّق استصحاب كلّي النجاسة الّتي لاقت الإناء ، فقد تمّت أركان الاستصحاب ، فإنّ الملاقاة محرزة بالوجدان ونجاسة الملاقى بالأصل.

بقي شيء وهو أنّ كلّما ذكرنا في حجّية الاستصحاب من كونه حجّة سواء كان الشكّ في المقتضي أو كان في الرافع يجري هنا. ومن اختار حجّيته في خصوص الشكّ في الرافع اختار هنا ذلك ، لاتّحاد الدليل وعدم دليل خاصّ للكلّي. فتمثيل الشيخ الأنصاري بالبقّة والفيل (١) الّذي هو من قبيل الشكّ في المقتضي إنّما ذكره مثالا لا على خصوص رأيه ، بل ذكره مثالا لمن يرى الحجّية على الإطلاق ، فافهم.

(ثمّ إنّ من ثمرات جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي أنّه لو علم بنجاسة شيء مثلا وتردّدت نجاسته بين العرضيّة لتزول بالغسل

__________________

(١) لم نقف عليه في الفرائد إلّا أنّه رحمه‌الله ذكر هذا المثال : «كما لو تردّد من في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلّا سنة ، وكونه حيوانا يعيش مائة سنة». راجع الفرائد ٣ : ١٩٢.

٥٨٣

والذاتيّة كي لا تزول ، فتارة لا يعلم حالته السابقة من حيث الحكم بالطهارة أو النجاسة ، مثل ما إذا كان فرش من شعر أصابه بول وشككنا في كونه شعر معز ليطهر بالتطهير أو شعر خنزير ليكون باقيا على النجاسة ، فإن بنينا على استصحاب العدم الأزلي فأصالة عدم كونه شعر خنزير تجري فيكون شعرا بالوجدان لاقى نجاسة وليس شعر خنزير بالأصل فيطهر بالغسل ، وإن لم نجر الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فيستصحب كلّي النجاسة بعد الغسل فيحكم بنجاسته.

واخرى يكون ذلك الشيء محكوما بالطهارة سابقا كالصابون المجلوب من بلاد الكفر إذا تنجّس بنجاسة عارضيّة ، فإذا شكّ في كون الزيت الّذي فيه زيت طاهر ذاتا كزيت النبات مثلا أو زيت نجس ذاتا كزيت الميتة ، وقد كان قبل عروض النجاسة العرضيّة محكوما بأصالة الطهارة فلا يبعد أن يكون من أحكام الجسم الطاهر شرعا أنّه إذا لاقته نجاسة عارضيّة ، طهارته إذا غسل ، فكونه طاهرا يثبت بالأصل وكونه جسما لاقته نجاسة بالوجدان فيثبت طهارته بالغسل) (١).

وأمّا القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي وهو أن يقطع بانعدام الفرد المتيقّن وإنّما يشكّ في بقاء الكلّي من جهة احتمال مقارنة فرد آخر ـ مع هذا الفرد المقطوع انعدامه ـ لم ينعدم ، فيستند وجود الكلّي إليه ، أو يشكّ في حدوث فرد آخر بعد انعدام الفرد المتيقّن يستند إليه وجود الكلّي ، والظاهر عدم حجّيته بكلا شقّيه خلافا للشيخ الأنصاري في الشقّ الأوّل (٢) فإنّه قدس‌سره زعم جريان الاستصحاب فيه ، لأنّ الخصوصيّة الفرديّة كانت واسطة للعلم بتحقّق الكلّي في الخارج ، ونسبة وجود الكلّي إلى كلّ فرد على حدّ واحد ، وحينئذ فمع احتمال مقارنة فرد له من أوّل الأمر يحصل الشكّ في انعدام الكلّي المتيقّن سابقا فيجري الاستصحاب.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٦.

٥٨٤

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ الخصوصيّة الفرديّة كما هي واسطة للعلم بوجود الكلّي واسطة في تحقّقه ، فإنّ المتيقّن وجود الكلّي في ضمنه لا في ضمن غيره ، وقد زال فالمتيقّن مقطوع الارتفاع ، ولا يمكن أن يكون الكلّي من حيث ذاته مستصحبا ، لأنّ الكلّي من حيث هو لا يتّصف بوجود ولا بعدم ، بل لا بدّ أن يكون استصحابه من حيث وجوده ، فإذا فرض أنّ المتيقّن هو الكلّي المتخصّص بخصوصيّته قد زالت قطعا ، فما هو مركز اليقين قد زال ، فأيّ شيء يستصحب؟

وقد ظهر الفرق بين القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي والقسم الثاني فإنّه في الثاني يحتمل البقاء ، لأنّ المتيقّن السابق يحتمل أن يكون باقيا من أوّل الأمر إلى الآن كما لو كان الحيوان فيلا مثلا وهذا بخلافه على الثالث فإنّ المتيقّن زائل قطعا.

نعم ، حيث يكون الفرد الحادث معدودا من مراتب الفرد الأوّل عرفا ، كما في السواد الخفيف بالإضافة إلى السواد الشديد يجري الاستصحاب ، إلّا أنّه ليس من أقسام استصحاب الكلّي بل هو استصحاب شخصي لا كلّي (*) ، لأنّ المفروض أنّه هو عين الأوّل عرفا ، بل ودقّة كما ذكر في محلّه في برهان أصالة الوجود ، وهو نظير الأحوال العارضة للمكلّف ، مثلا إذا فرض أنّ زيدا كان صحيحا وقد ارتفعت صحّته قطعا ونشكّ في بقاء حياته فهل يتوقّف أحد في استصحاب حياته.

وبالجملة ، فعدّ هذا من أقسام استصحاب الكلّي تسامح واضح.

(بقي الكلام في أنّ الوجوب والاستحباب من ثالث أقسام القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي نظرا إلى أنّ التفاوت بينهما بشدّة الطلب وضعفه وأنّ الوجود واحد ، أم أنّ النظر العرفي الّذي هو المعيار في باب الاستصحاب يراهما فردين متباينين ، فلا يجري الاستصحاب لو قطع بزوال الوجوب

__________________

(*) قد اختار سيّدنا الاستاذ أيّده الله تعالى في دورته اللاحقة أنّه من القسم الأوّل من أقسام استصحاب الكلّي لا الثالث ولا استصحابا شخصيّا.

٥٨٥

واحتمل بقاء الرجحان في ضمن الاستحباب؟ وكذا الحرمة والكراهة كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١).

الظاهر أن يفصل ، فإن اريد من الاستصحاب استصحاب إرادة المولى الّتي قد ارتفعت شدّتها قطعا ونحتمل بقاءها في غير رتبة الشدّة فهو موقوف على أن يكون المستصحب مجعولا أو ذا أثر مجعول وليس ، إذ الإرادة من الصفات التكوينيّة ليست مجعولة ولا أثر شرعي مجعول ليترتّب عليها ، إذ ترتّب الطلب عليها نظير ترتّب الأكل على إرادته أيضا تكويني.

هذا على مختار صاحب الكفاية أمّا على مختارنا من أنّه لا نعتبر أكثر من وجود أثر للمستصحب ولو بقاء ليكون رافعا للغويّة الجعل فيكفي وجود الأثر لنفس التعبّد الاستصحابي وهو في المقام موجود ، فإنّه يثبت بالاستصحاب بقاء كلّي الرجحان وإن لم يثبت الاستصحاب ، لأنّه مثبت ، إلّا أنّ كلّي الرجحان كاف في الأثر.

وإن اريد من استصحاب الرجحان الوجوب والاستحباب فلا ريب في أنّهما اعتباران متغايران عرفا فلا يجري الاستصحاب حينئذ لتغايرهما عرفا) (٢).

ثمّ إنّ هنا كلاما للفاضل التوني ذكره في مقام الحكم بطهارة الجلد المنبوذ أو اللحم المنبوذ المشكوك تذكيته بعد إحراز قابليّته لها ، فقد ذكر وجهين للحكم بالطهارة :

أمّا الأوّل فهو أجنبيّ عن استصحاب الكلّي إلّا أنّا نتعرّض له وهو أنّ أصالة عدم التذكية الّتي من أجلها حكم المشهور بالنجاسة له لا يثبت الموت حتف الأنف إلّا بالأصل المثبت ، مضافا إلى أنّها معارضة بأصالة عدم الموت حتف أنفه ، فإنّ كلّا منهما عنوان وجودي فإذا تساقطا فالمرجع أصالة الطهارة (٣).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) الوافية : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٥٨٦

وقد اجيب (١) بأنّ الميتة ليس من العناوين الوجوديّة ، بل هي عبارة عن غير المذكّى تذكية شرعيّة كما لو لم يسمّ عليه عمدا أو لم يوجّه إلى القبلة عمدا. ولو قلنا بأنّ الميتة عبارة عمّا مات حتف أنفسه ، فالحكم بالحرمة والنجاسة ليس مختصّا به بل يشمل غير المذكّى شرعا وإن لم يمت حتف أنفه.

ولا يخفى عليك أنّ حرمة الأكل والصلاة به ثابتان لمطلق غير المذكّى لقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(٢) ولقوله عليه‌السلام ما مضمونه : إذا علمت أنّه ذكي قد ذكّاه الذابح أو الذبح (٣). إلّا أنّ الحكم بالنجاسة ليس محمولا على غير الميتة ، فإذا سلّمنا أنّها ما استند موته إلى غير السبب الشرعي ، وليست ما لم يذك الّذي هو أمر عدمي بل هو أمر وجودي ، فبأصالة عدم التذكية لا يثبت إلّا على الأصل المثبت ، ولذا لا يحكم بالنجاسة فيه فيكون الحقّ مع التوني ، فافهم.

الوجه الثاني لما ذكره الفاضل التوني من عدم إجداء أصالة عدم التذكية هو أنّ عدم التذكية قد يكون لحياة نفس الحيوان وقد يكون لموته بغير تذكية ، فاستصحاب عدم التذكية التي كانت حال الحياة لا يجدي لزوالها قطعا ، واستصحاب عدم التذكية مقارنا لزهاق الروح لا يجدي أيضا للشكّ في تحقّقه ، فجريان الاستصحاب هنا مبنيّ على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ولا نقول به (٤).

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّ عدم التذكية ليس له فردان زال أحدهما قطعا ويشكّ في حدوث الثاني ، فإنّ العدم واحد وإنّما اختلف مقارناته ،

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٣ : ١٩٨.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٥٠ ، الباب ٢ من أبواب المصلّى ، الحديث الأوّل وفيه : قد ذكّاه الذبح.

(٤) انظر الوافية : ٢١٠.

٥٨٧

ففي الأوّل كان مقارنه الحياة وفي الثاني يقارنه زهوق الروح. وأمّا نفس عدم الذكاة فواحدة حتّى قبل وجود الحيوان إلّا أنّها حينئذ عدم أزلي ، وكيف كان فالعدم واحد ، ولا ينافيه عدم الأثر له بحدوثه بل يكفيه الأثر بقاء ، فليس الاستصحاب فيه استصحابا كلّيا بل هو استصحاب شخصي وهو واضح.

وأمّا القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلّي وهو ما لو تعلّق يقينان بأمرين يحتمل اتّحادهما بحسب الوجود الخارجي ، مثلا لو قطعنا بكون زيد في الدار ثمّ تيقنّا بوجود متكلّم في الدار أيضا ، فأحد اليقينين تعلّق بزيد والثاني بعنوان متكلّم ثمّ خرج زيد فنحتمل أن يكون المتكلّم زيدا وقد خرج ونحتمل أن يكون غيره فهو باق ، فهل يجوز الاستصحاب لعنوان كلّي الإنسان المتكلّم نظرا لتعلّق اليقين والشكّ به ، أو لا نظرا إلى أنّ كونه غير زيد غير متيقّن.

والفرق بين هذا القسم والقسم الثالث أنّ القسم الثالث فيه يقين واحد تعلّق بفرد مقطوع الارتفاع والشكّ في حدوث فرد آخر مقامه ، وهنا نحتمل أن يكون المتكلّم السابق بنفسه باقيا.

والفرق بين هذا القسم والقسم الثاني هو أنّ القسم الثاني المتيقّن فيه مردّد بين الفرد الطويل والفرد القصير ، وهنا ليس كذلك إذ المتيقن بالعنوان الأوّلي زائل قطعا ولكنّ المتيقّن بالعنوان الثاني لم يعلم زواله مع احتمال انطباقه على المعنون الأوّلي فيكون زائلا ، وعدمه فيبقى.

وبالجملة ، فالظاهر جريان الاستصحاب فيه أيضا ، إذ أنّ الأخبار لا يظهر منها اعتبار كون المتيقّن أمرا خاصّا ، بل : «لا تنقض اليقين بالشكّ» في المقام صادق فإنّه متيقّن بوجود إنسان متكلّم يشكّ في ارتفاعه وعدمه فيجري فيه الاستصحاب بلا كلام لوجود أركانه. فمن أجنب فاغتسل ثمّ بعد ليلة رأى منيّا في ثوبه يحتمل أن يكون من الجنابة السابقة فهو متطهّر أو من جنابة لا حقة فهو جنب يجري في حقّه استصحاب الجنابة ، يعني أنّه متيقّن أنّه حين خروج هذه الجنابة كان جنبا

٥٨٨

ويشكّ في ارتفاعها فيستصحب ، وكونها في المقام معارضة باستصحاب طهارته حين أكمل غسله لا يمنع جريانها فيتعارضان ويتساقطان.

وللمحقّق الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره تفصيل في هذا القسم وان لم يصطلح عليه باستصحاب الكلّي في مصباحه (١) وحاصله أنّ المتيقّن بالعنوان الثاني إن قطع بأنّه غير الأوّل ولكن شكّ في صدوره قبل ارتفاع أثر الأوّل فيكون الرافع رافعا لهما ، أو بعده فلم يرتفع أثره فيجري فيه الاستصحاب ، مثلا إذا قطع بأنّ هذا المنيّ قطعا ليس من الجنابة الاولى الحاصلة أوّل ليلة الخميس ، لكن احتمل أن يكون حدوثها في نصف ليلة الخميس أو آخرها فترتفع بالغسل صبيحة الخميس ، ويحتمل أن يكون حدوثها ظهر الخميس أو عصره فهي باقية ، ففي مثل هذا النحو يجري الاستصحاب.

وإن لم يقطع بأنّه غير الأوّل بل احتمل أن يكون هو من آثار الجنابة الاولى فلا يجري الاستصحاب للشكّ في حدوثها والأصل العدم.

ولا يخفى أنّه لا فرق بين الصورتين ، (فإنّ أصالة عدم حدوث السبب (الفرد) الثاني إن جرى منع عن الاستصحاب في القسمين ، وإن لم يجر ـ لأنّا في مقام استصحاب الكلّي ، وهو إنّما يقدح في الاستصحاب الفرد كما هو الظاهر ـ فلا فرق بين الصورتين) (٢) فإنّا لا نستصحب السبب وإنّما نشير إلى الجنابة الّتي في الثوب بخصوصها فنقول عند خروج هذه الجنابة : كنت جنبا قطعا وأشكّ في ارتفاعها سواء قطعت أنّها غير الاولى أو احتملت أنّها هي ، لصدق النقض عرفا.

وربّما اشكل على جريان الاستصحاب في كلا القسمين المذكورين بأنّ المقام من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، إذ الموجود : «لا تنقض اليقين بالشكّ»

__________________

(١) انظر مصباح الفقيه كتاب الطهارة : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ (الحجرية).

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٨٩

ونحتمل أن يكون هذا نقضا لليقين باليقين ، إذ على تقدير كونه هو الحدث الأوّل يكون قد ارتفع قطعا.

ولا يخفى عليك أنّ اليقين ليس من الامور القابلة لأن يشكّ فيها واحتمال كون النقض نقضا باليقين هو معنى الشكّ ، (فإنّ المرتفع يقينا هو ذات الحدث السابق لا بوصف كونه حاصلا عند خروج هذا المنيّ مثلا ، بل هو بهذا الوصف مشكوك الارتفاع) (١) ، وسيأتي فيه الكلام عند تعرّض الآخوند لاعتبار اتّصال زمن الشكّ بزمن اليقين.

هذا تمام الكلام في استصحاب الكلّي. وقد ظهر أنّ القسم الأوّل والثاني والرابع يجري فيها استصحاب الكلّي دون الثالث بكلا شقّيه خلافا للشيخ الأنصاري حيث جوّزه في الأوّل وهو ما احتمل وجود فرد مقارن لوجود الفرد المتيقّن زواله (٢).

وربّما اشكل على الشيخ الأنصاري في ذلك بأنّ من نام ثمّ جلس صباحا واحتمل جنابته أن يجب عليه الاغتسال مضافا إلى الوضوء ، لأنّه بمجرّد الوضوء يشكّ في ارتفاع كلّي الحدث السابق ، إذ يحتمل مقارنة الحدث الأكبر للحدث الأصغر. والجواب بأنّه في أوّل الليل كان محدثا بالأصغر قطعا ولم يكن محدثا بالأكبر قطعا فيستصحب تلك الحالة ، إذ أنّ الحدث الأصغر الغير المجامع للحدث الأكبر هو الّذي يجب له الوضوء ، هذا تمام الكلام في استصحاب الكلّي.

التنبيه الخامس : في جريان الاستصحاب في التدريجيّات

ويقع الكلام في نفس الزمان أوّلا فنقول : إنّ الزمان بنفسه أمر موجود بحسب الدقّة العقليّة وبحسب البرهان العقلي أيضا ، إذ وجود الجزء الّذي لا يتجزّأ محال ،

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) فرائد الأصول ٣ : ١٩٦.

٥٩٠

وهذا الوجود نحو من أنحاء الوجودات متصرّم ومنقض أو لم يتحقّق ولم يوجد؟ ولو تنزّلنا وقلنا بأنّه بحسب الدّقة لا وجود له ، لانصرام كلّ جزء من أجزائه القابلة للتجزئة إلّا أنّ الاستصحاب ليس للجزء وإنّما هو لمجموع أجزاء متفرّقة إلّا أنّها بحسب العرف ترى شيئا واحدا ، فيصدق حينئذ «لا تنقض اليقين بالشكّ» كما يأتي ، فيجري استصحاب بقاء الليل واستصحاب بقاء النهار حيث يشكّ في ارتفاعهما. وأمّا إذا شكّ في أمر عدمي وهو غروب الشمس مثلا فجريان الاستصحاب فيه وهو استصحاب عدم غروبها أظهر وأوضح لعدم كونه تدريجيّا ، ضرورة أنّه لم تكن غاربة فيستصحب عدم غروبها أو عدم طلوعها حيث يشكّ في الطلوع بالنسبة إلى الآثار المترتّبة على هذه الامور العدميّة ، فافهم وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الاستصحاب يجري في الزمان سواء علم أمده وشكّ في تحقّق ذلك الأمد أو شكّ في أصل أمده ، والأوّل من قبيل الشكّ في الرافع لتحقّق استعداد البقاء ، والثاني من قبيل الشكّ في المقتضي إلّا أنّ مثل استصحاب الزمان كبقاء رمضان لا يثبت به إلّا بقاء رمضان فترتّب عليه آثار بقاء رمضان ، ولكن لا يثبت به أنّ اليوم المشكوك من شهر رمضان إلّا على لازمه العقلي وهو الأصل المثبت ، فلا يكاد يجدي استصحاب الزمان لإثبات أنّ الزمان اللاحق من شهر رمضان ، فإذا كان الزمان قيدا للوجوب فقط يجدي ، وأمّا إذا كان قيدا للوجوب وللواجب فلا يجري إلّا على القول بالأصل المثبت كما في الصلوات اليومية فإنّها مقيّدة بوقوعها في أزمنة خاصّة.

وقد تنبّه الشيخ الأنصاري قدس‌سره لورود هذا الإيراد وزعم جريان استصحاب الحكم فيستصحب الحكم الثابت لشهر رمضان بالنسبة إلى يوم يشكّ فيه أنّه من رمضان أو شوّال (١).

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٥.

٥٩١

وقد أيّده الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بدعوى أخذ الزمان في متعلّق الاستصحاب فيستصحب حكم ذلك الزمان الّذي هو شهر رمضان ، وهذا الاستصحاب الحكمي وإن خلا عن إشكال الاستصحاب الحكمي ، لعدم بقاء موضوعه إلّا أنّ فيه إشكال السببيّة ، فإنّ استصحاب الحكم مسبّب عن استصحاب الموضوع فإن جرى في الموضوع أغنى عنه وإلّا فلا يجري في الحكم أيضا ، فإنّ استصحاب حكم ذلك الزمان أيضا لا يثبت أنّ هذا الزمان شهر رمضان إلّا بالأصل المثبت ، وأخذ الزمان في متعلّق الحكم المستصحب لا يحسم مادّة الإشكال.

وقد تخلّص الآخوند قدس‌سره عن هذا الإشكال في مثل من كان صائما ممسكا وشكّ في انقضاء النهار حتّى يجوز له الإفطار ، وعدمه حتّى لا يجوز باستصحاب حكم الإمساك الّذي كان صبحا (٢) وهو حسن في مثل هذا المثال ممّا كان حكم فيه للعمل الّذي كان متلبّسا فيه ، ولا يكون حكما كلّيا حاسما لأصل الإشكال ، بل يحسمه في مثل هذا وأشباهه ممّا كان متلبّسا بالعمل ويشكّ في خروج الوقت الّذي قيّد به ذلك العمل ، فيقال : كان الإمساك في النهار فنستصحب كون الإمساك في النهار إلى الآن ، أمّا لو لم يكن شارعا في الصلاة وأراد استصحاب النهار ليصلّي فلا يجديه هذا الاستصحاب (لعدم مسبوقيّة الصلاة بكونها في الوقت إلّا على القول بالاستصحاب التعليقي ولا نقول بحجّيته. ومن يقول بحجّيته كالشيخ الأنصاري (٣) وأكثر المتأخّرين عنه (٤) لا يقولون به في الموضوعات ، وإنّما يخصّونه بالأحكام) (٥).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، وفوائد الاصول ٤ : ٤٣٧.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٣) انظر فرائد الاصول ٤ : ٢٢٣.

(٤) منهم : المحقّق الآخوند في الكفاية : ٤٦٧ ، والمحقّق العراقي في نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع : ١٧٣ ، والمحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية : (٥ ـ ٦) : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٥) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٩٢

فنقول في الجواب : إنّ الواجبات المقيّدة بالزمان أكثرها ، إن لم يكن كلّها مقيّدة بامور عدميّة مقارنة للزمان ، مثلا الصلاة مقيّدة بعدم غروب الشمس أو عدم انتصاف الليل أو عدم طلوع الفجر أو الشمس كما لا يخفى ذلك على من لاحظ لسان الأخبار مثل قوله عليه‌السلام : «ثمّ أنت في وقت منهما حتّى تغيب الشمس» (١). وكذا نظائرها (٢) ممّا ورد في تحديد الأوقات ، وحينئذ فكما أنّه لو رأى الشمس بالوجدان يصلّي وتكون صلاته أدائيّة ، كذلك إذا استصحب عدم غروب الشمس فإنّ الوقت باق بحكم الأصل المجعول حجّة من قبل الشارع المقدّس.

ثمّ إنّه لو فرض أنّ هناك جملة من الامور ليست مقيّدة بأمر عدمي يكون مقارنا للزمان في الوجود نقول : إنّ اعتبار الزمان قيدا ليس على حدّ سائر القيود كالطهارة وغيرها ، وإنّما اعتبارها فيه باعتبار كون الزمان ظرفا لها والتعبير بالقيديّة مسامحة ، وحينئذ فلا يعتبر وقوع الصلاة في الزمان الخاصّ من باب أنّه قيد لا بدّ من تحقّقه ، إذ ليس الزمان والصلاة من قبيل العرض ومحلّه حتّى يعتبر الاتّصاف لذلك المحلّ بالعرض ، وإنّما معنى اعتبار الزمان ليس إلّا اعتبار الصلاة مقارنة لذلك الزمان بحسب الوجود الخارجي ، فإذا كان ذلك كذلك فباستصحاب بقاء الزمان يثبت أحد الجزءين وبالوجدان يثبت الجزء الثاني.

نعم لو كان المأخوذ بالدليل عنوان بسيط منتزع من هذه المقارنة الخارجيّة لم يثبته الاستصحاب إلّا بالأصل المثبت ، كما احتمله الشيخ الأنصاري قدس‌سره في مسألة الشكّ في إدراك الإمام راكعا من أنّ الموضوع إدراك الإمام راكعا بمعنى مقارنة ركوع المأموم مع ركوع الإمام (٣) فالمقارنة هي الموضوع للحكم بالصحّة ،

__________________

(١) الوسائل : ٣ : ٩٢ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الحديث ٥.

(٢) انظر المصدر المتقدّم : أبواب المواقيت ، خصوصا الباب ١٧ و ٢١ و ٢٦ وغيرها.

(٣) انظر كتاب الصلاة (للشيخ الأنصاري) ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

٥٩٣

وهي لا يثبت بكون ركوع المأموم محرزا بالوجدان وركوع الإمام بالتعبّد الاستصحابي إلّا بنحو الترتّب على اللازم العقلي وهو الأصل المثبت.

وبالجملة ، الموضوع إن كان مركّبا من العرض ومحلّه كزيد وعدالته فلا معنى للتركيب إلّا أخذ عنوان الاتّصاف موضوعا ، وهو لا يتحقّق بإحراز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل إلّا بنحو الإثبات ، وإن كان الموضوع مركّبا من غيرهما فلا معنى للتقييد إلّا المقارنة بحسب الوجود الخارجي كما في جميع الشرائط كالطهارة للصلاة وغيرها ، سواء كان الموضوع مركّبا من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض لا ربط لأحدهما بالآخر فلا معنى للتقييد إلّا اعتبار المقارنة خارجا.

نعم لو انتزع من اقترانهما عنوان بسيط فلا بدّ من إحرازه ولا يحرزه الاستصحاب لأحد الجزءين ووجدان الآخر خارجا ، فاعتبار التقييد بين العرض ومحلّه لا يمكن إلّا بنحو الاتّصاف ، واعتبار التقييد بغير ذلك لا معنى له إلّا اعتبار تقارنهما في التحقّق إلّا إذا انتزع منهما عنوان بسيط. وتقيّد الصلاة أو الصوم بالزمان من هذا القبيل ، بمعنى اعتبار وقوع الفعل من الصلاة أو الصوم والزمان الفلاني متحقّق خارجا ، فلا مانع من إثبات أحدهما بالتعبّد الشرعي والآخر بالوجدان. نعم لو كان من قبيل العرض ومحلّه لكان الإشكال محكّما إلّا أنّه بما ذكرنا ظهر أن لا إشكال ، فافهم.

وأمّا الزمانيّات فالكلام فيها يقع في موردين ، أحدهما : ما كان كالزمان في عدم اجتماع جزءين في زمن واحد ، الثاني : أن لا يكون كذلك وإنّما يكون زمانيّا بلحاظ تقيّده بالزمان ، فالأوّل كالحركة والتكلّم والجريان والكتابة ممّا هو نظير الزمان في عدم اجتماع جزءين منه في زمان واحد. فيقع الكلام في الحركة أوّلا وفي التكلّم ثانيا ، وفي الجريان ثالثا.

أمّا الكلام في الحركة ، سواء كانت حركة في الأين كالمشي أو في الكيف كالنموّ مثلا ، فالكلام فيها عين الكلام في نفس الزمان ، فإنّها أيضا لا يكاد يجتمع منها

٥٩٤

جزءان في آن واحد كما ذكر في الزمان ، وقد ذكرنا نحن في الزمان أيضا أنّها موجود واحد عقلا وأنّه نحو وجود له هذا الوجود وأنّ الاتّصال مساوق للوحدة ، وعين الكلام يجري في الحركة فلو كانت الحركة متحقّقة وشكّ في زوالها فتستصحب ، سواء كنّا محرزين مقدار الاقتضاء فيها وأنّها يوم مثلا ولكنّا شككنا في أنّ ذلك المقتضي هل قارنه مانع أم لا؟ أو كنّا شاكّين في أصل ثبوت المقتضي بالنسبة إلى ما بعد هذا الزمان لعدم العلم بحال المقتضي أو للعلم بانتهاء الاقتضاء والشكّ في عروض مقتض آخر للحركة أم لا.

خلافا للميرزا النائيني قدس‌سره (١) فإنّه أجرى الاستصحاب في الأوّل دون الأخيرين لزعمه حجّية الاستصحاب في خصوص ما إذا كان الشكّ شكّا في الرافع ، وإنّما يكون الشكّ في الرافع في خصوص ما إذا احرز اقتضاء بقاء الحركة هذا اليوم وشكّ في تحقّق رافع يرفع أثر الاقتضاء ، بخلاف الأخيرتين ، فإنّ الشكّ في بقاء الحركة للشكّ في مقدار الاقتضاء أو في حدوث اقتضاء آخر.

على أنّ خصوص الثالث لا يجري فيه الاستصحاب لمانع آخر وهو عدم تحقّق الوحدة ، فإنّ تعدّد المقتضي يوجب تعدّد الأثر ، فالحركة حدوثا غير الحركة بقاء لتعدّد المقتضي ، فهما شيئان وليس شيئا واحدا حتّى يجري فيه الاستصحاب ، إلّا إذا قلنا بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ولا نقول به. وهذا بخلاف الزمان فإنّ الاتّصال فيه مساوق للوحدة.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره من زعم المانع الثاني في خصوص الأخير لا وجه له ، إذ تعدّد المقتضي للشيء الواحد لا يقتضي تعدّده وجودا ، مثلا إذا سجد بمقتض ثمّ حدث المقتضي الآخر لبقائه ساجدا فبقي ساجدا ، فهل يقال : إنّ هذا زاد سجدة أو سجودا؟ كلّا ، وحينئذ فتعدّد المقتضي لا يوجب تعدّد الأثر أصلا ، والاتّصال مطلقا

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٨.

٥٩٥

مساوق للوحدة ، كان في نفس الزمان أو الحركة من الزماني. وحيث عرفت أنّ الاستصحاب يجري حتّى فيما إذا كان الشكّ في المقتضي فلا مانع من جريان الاستصحاب في الصور الثلاثة.

ودعوى : أنّ أصالة عدم حدوث المقتضي الثاني حاكم ورافع للشكّ ، إذ لو علمنا بعدم المقتضي الثاني في الثالث فلا شكّ في البقاء حينئذ ، مدفوعة بأنّه مثبت ، لأنّ ترتّب عدم الأثر على أصالة عدم حدوث المقتضي عقلي فيكون من الاصول المثبتة.

بقي شيء وهو أنّ زعم الآخوند قدس‌سره تخلّل السكون في البين في مثل الحركة (١) ممنوع ، إذ إن كان مراده من السكون البطؤ في السير بحيث يعدّ سكونا عرفا كما في نموّ الشجر والإنسان فليس هذا سكونا حقيقيّا وإطلاق العرف عليه أنّه سكون خطأ في التطبيق ، وإن كان في غير ذلك كالحركة في المشي ، فليس فيها سكون عرفي ولا حقيقي أصلا. فما ذكره قدس‌سره بقوله : بل وإن تخلّل بما لا يخلّ عرفا ، لا يتمّ في مثل الحركة أصلا.

وأمّا الجريان فالكلام فيه عين الكلام في الحركة بل هو قسم من الحركة ، فإنّه حركة الماء وانتقاله من مكان إلى آخر ، ويأتي فيه عين ما ذكر في الحركة من كون الشكّ تارة في المقتضي واخرى في الرافع ، وأنّ الوحدة فيها حقيقيّة لا عرفيّة فقط ، وأنّ الاتّصال مساوق للوحدة ، فعدّ النائيني (٢) له قسما في قبال الحركة لم يعلم وجهه.

وأمّا التكلّم فالكلام فيه عين الكلام في المتقدّم غير أنّ الكلام لا يكون الاتّصال فيه مساوقا للوحدة ، فليس فيه وحدة حقيقيّة ، إذ المتكلّم لا بدّ له من سكون للنفس مثلا ، فالوحدة في التكلّم اعتباريّة تتبع اعتبار المعتبر ، مثلا القصيدة يعتبرها المنشئ لها كلاما واحدا ، فلو شكّ في أنّه انتهى من قراءتها أم لا فيستصحب قراءتها وكذا الكلام في القرآن.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٤.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٤٤١.

٥٩٦

وبالجملة ، فهذا السكوت المتخلّل لا يخلّ بصدق كونه قارئا للقصيدة ، تاليا للقرآن ، مصلّيا مثلا ، وكذا غيرها من التدريجيّات.

وبالجملة ، فلا فرق بين التكلّم وغيره ـ من الجريان والحركة ـ إلّا في أنّ الاتّصال الحقيقي هناك هو الموجب للوحدة ، والاعتبار هنا هو الموجب لها ، لعدم الاتّصال الحقيقي.

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الزمانيّات.

وأمّا القسم الثاني وهو ما لم يكن زمانيّا بذاته إلّا أنّه اخذ فيه الزمان فصار زمانيّا بهذا اللحاظ ، وهذا قسّمه الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى قسمين ، لأنّه تارة يكون الزمان مأخوذا فيه بنحو القيديّة ، واخرى يكون مأخوذا فيه بنحو الظرفيّة (١) ، فإن اخذ فيه بنحو القيديّة (لم يجر فيه الاستصحاب ، بخلاف ما اخذ على نحو الظرفيّة فيجري فيه الاستصحاب.

والظاهر عدم الفرق بينهما ، فإنّ الزمان ظرف دائما ولا نتصوّر أن يكون مأخوذا قيدا على غير نحو الظرفيّة) (٢). فإن كان سبب الشكّ فيه من جهة الشكّ في بقاء القيد الّذي هو الزمان وارتفاعه وكان منشأ الشكّ اشتباه الامور الخارجيّة بحيث كانت الشبهة موضوعيّة ـ كما إذا علمنا أنّ وجوب الجلوس مغيّا بالزوال وشككنا في تحقّق الزوال وعدمه من جهة السحاب الساتر للشمس ـ فاستصحاب نفس الزمان لا ريب فيه ، على ما مرّ من أنّ معنى التقيّد ليس إلّا الاجتماع في الزمان وصدوره مقترنا بهذا الزمان على ما مرّ إشكالا وجوابا. وأمّا استصحاب الحكم فيه فغير جار ، لأنّه إن جرى الاستصحاب في الموضوع ـ كما هو الحقّ بالتقريب المتقدّم ـ أغنى عنه ، وإن لم يجر ـ لأنّه مثبت ـ فلا يجري في الحكم لذلك.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٢.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٩٧

وأمّا إذا كانت الشبهة حكميّة ، سواء كانت مفهوميّة كما إذا علمنا أنّ آخر وقت الظهرين غروب الشمس وشككنا في مفهوم الغروب أنّه استتار القرص عن الأنظار أو غيبوبته في الأفق ، أو كانت الشبهة من جهة تعارض النصوص والأخبار ، فالصحيح عدم جريان الاستصحاب للحكم ، لأنّ الحكم إن كان في الواقع معلّقا على استتار القرص عن الأنظار فقد انقضى قطعا وإلّا فهو باق قطعا ، فالقضيّة المتيقّنة غير متّحدة مع القضيّة المشكوكة ، إذ على تقدير كون الحكم مقيّدا باستتار القرص عن الأبصار فإثبات الحكم بعده من باب إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وليس هذا هو معنى الاستصحاب.

هذا إن قلنا بجريان الاستصحاب حتّى في الشكّ في المقتضي. وأمّا إذا قلنا بعدم جريانه إلّا في الشكّ في المانع فعدم الجريان حينئذ أوضح ، لعدم إحراز مقتضي الحكم ، وقد علّل الميرزا المنع به (١).

وأمّا استصحاب الموضوع فغير جار أيضا لعدم إحرازه ، إذ لو كان الموضوع هو عدم الاستتار عن العين فقد ارتفع قطعا ، وإن كان الموضوع هو عدم الغيبوبة في الأفق فلا شكّ لنا فيه حتّى يستصحب ، واستصحاب عدم تحقّق الغاية إن اريد به استصحاب عدمها بخصوصها فلا يمكن ، لأنّها إمّا حاصلة قطعا أو غير حاصلة قطعا ، واستصحاب عدم تحقّق كلّي الغاية بوصف الغائيّة هو بعينه استصحاب الحكم ، وقد مرّ أنّه غير جار.

نعم ، لو احتمل كون التقييد بالزمان ليس بنحو تمام المطلوب ، بل احتمل أن يكون بنحو تعدّد المطلوب فلا مانع حينئذ من جريان استصحاب الوجوب بعد تحقّق خروج الزمان الّذي قيّد به الواجب ، بناء على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ١٠٩.

٥٩٨

ومن هذا القبيل مسألة ترتّب القضاء على الأداء مع قطع النظر عن أدلّة القضاء ، فبناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية يجري استصحاب كلّي وجوب طبيعة الصلاة إلى ما بعد الوقت فلا يحتاج إلى أدلّة القضاء ، ولا يعارضه إلّا ما ذكرنا من استصحاب عدم الجعل ، أي عدم جعل الوجوب لما بعد الوقت ، فإنّ جعل الوجوب لما بعد الوقت غير معلوم من أوّل الأمر فاستصحاب عدم الجعل يعارضه.

وأمّا من بنى على عدم جريان استصحاب عدم الجعل ، لأنّه مثبت كما زعمه النائيني قدس‌سره (١) فلا محيص له عن القول بتبعيّة وجوب القضاء لوجوب الأداء بالاستصحاب.

(أمّا لو وجب عليه الجلوس إلى الزوال وشكّ في وجوب آخر بعد الزوال لدليل آخر محتمل فلا ريب في عدم جواز استصحاب الوجوب السابق ، لانتفاء موضوعه. وزعم الشيخ الأنصاري جريان استصحاب العدم (٢) إلّا أنّ الميرزا زعم عدم جريان استصحاب العدم (٣) لأنّ الجلوس بعد الزوال لم يكن محكوما بالعدم إلّا من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، واستصحاب العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي مثبت ، واستصحاب عدم الجعل لنفي المجعول أيضا مثبت.

ولا يخفى أنّه بناء على استصحاب العدم الأزلي فالمستصحب هو العدم النعتي في الأوّل ، كما أنّ الجعل والمجعول لا فرق بينهما إلّا اعتبارا ، فاستصحاب عدم الجعل لنفي المجعول ليس مثبتا فلا مجال لطرح الاستصحاب والرجوع إلى الاصول الأخر كما ادّعاه النائيني قدس‌سره (٤)) (٥).

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١١٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٢.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١١٢ ـ ١١٣.

(٤) المصدر المتقدّم.

(٥) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٩٩

التنبيه السادس : في الاستصحاب التعليقي

وفيه قولان : أحدهما : الجريان ، والثاني : العدم. وهو الأقوى. ثمّ لا يخفى أنّ الكلام في استصحاب الحكم التعليقي إنّما هو بعد جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية (*) وأمّا إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية فبطلانه غنيّ عن البيان ، إلّا أنّه لو قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية يقع الكلام في الاستصحاب التعليقي.

والكلام فيه يتوقّف على تقديم مقدّمة ، وهي أنّ الشكّ في جميع موارد الشكّ ، إمّا أن يتعلّق بموضوع أو حكم ، وتعلّقه بالحكم لا بدّ أن يكون من جهة أخذ عنوان موضوعا للحكم ويشكّ في تحقّق ذلك العنوان بقاء وعدمه ، وذلك فإنّ الحكم قد يتعلّق بعنوان يفهم العرف بمناسبة الحكم والموضوع أنّ العنوان لا مدخليّة له في ثبوت الحكم وإنّما جعل مرآة لذات المعنون ، فالحكم دائر مدار ذات المعنون مثل قوله : الحنطة حلال ، فإنّ العرف يرى هذا الحكم ليس دائرا مدار عنوان الحنطة ، بل يجري بنفس دليل الجعل حتّى لو صارت تلك الحنطة دقيقا أو خبزا أو غيرهما من فروعها.

وقد يتعلّق الحكم بعنوان يقطع العرف أيضا بمناسبة الحكم والموضوع دوران الحكم مدار ذاك العنوان ويرى إسراءه إلى ذات المعنون مع خلوّها عن ذلك العنوان ، من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر أو من قبيل الحكم الثاني المماثل بحيث لا يعدّه هو عين الأوّل ، وذلك مثل قوله : المسكر حرام ، والكافر نجس ، فإنّه لو زال عنه وصف الإسكار وعنوان الكفر لا يرى العرف ثبوت الحكم الأوّل له ، فلو ثبت الحرمة أيضا والنجاسة يرى العرف أنّه حكم مماثل للحكم الأوّل لا نفسه.

__________________

(*) لا يخفى أنّ الاستصحاب التعليقي يجري حتّى إذا قلنا بمنع جريان الاستصحاب في الحكم الكلّي للمعارضة ؛ لأنّ بجريانه يسقط استصحاب عدم الجعل لمعارضته به ، بخلاف ما لو قلنا بعدم جريانه فاستصحاب عدم الجعل حينئذ محكّم لا معارض له. (الجواهري).

٦٠٠