غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّه ورد النهي عن القطع الحاصل من القياس في رواية أبان (١) فلا يخفى ما فيه :

أوّلا : ضعف سند الرواية.

وثانيا : ضعف دلالتها إذ لا تصريح فيها بأنّ أبانا كان قاطعا ، نعم كان مطمئنّا.

وثالثا : أنّه عليه‌السلام أزال قطعه لا أنّه نهاه عن العمل على طبق قطعه مع فرض وجود قطعه ، وهذا أمر ممكن ، إذ لا تنازع في أنّ المولى يستطيع أن يزيل قطع إنسان فلا يعمل به ، كما أنّه يمكن أن ينهاه أوّلا عن الخوض في مقدّمات بخصوصها لئلّا يحصل له القطع منها. أمّا إذا حصل له القطع فبعد حصوله له لا يعقل أن ينهاه عن العمل به لاستلزامه جمع الضدّين في نظر القاطع أو في نفس الواقع ، وما يكون محالا في نظر المخاطب به يستحيل جعله ، فافهم.

(ورابعا : أنّ محلّ الكلام أن يكون القطع من طريق مانعا عن لزوم العمل على طبق الحكم وإن كان الحكم ثابتا في الواقع ، ومعلوم أنّ الحكم الّذي قطع به أبان لم يكن في الواقع أصلا ، فتأمّل) (٢).

فظهر ممّا ذكرنا أنّ القطع الطريقي لا يمكن أن يؤخذ في موضوع حكم نفسه لأدائه إلى الدور كما تقدّم ذكره.

(ثمّ إنّ ما ذكرناه من استحالة تقييد التكليف بالعلم به إنّما هو في مقام الجعل والاعتبار ، وأمّا التقييد به في مقام المبرز فلا مانع منه ، نظير أن ينادي المولى عبيده العشرة الّذين يعلم عدم بلوغ صوته إلّا إلى خمسة منهم ويجعل تكليفه مقيّدا بخصوص من بلغه صوته منهم لا مطلقا ، وهذا أمر ممكن لا مانع منه. فإن أراد

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ١٣ ـ ١٤.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤١

الأخباريّون ذلك فهو أمر ممكن ثبوتا ، كما أنّ الإطلاق ممكن ثبوتا أيضا ، فيقع الكلام في مرحلة الإثبات معهم) (١).

وأمّا أخذه في موضوع الحكم المماثل مثل أن يقول : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك الصلاة بوجوب ثان غير الوجوب الأوّل فلا بأس به ولا مانع عنه ونلتزم بالتأكّد حينئذ ، (لما هو معلوم من كون النسبة بين القطع بوجوب الصلاة ونفس الوجوب عموما من وجه ، ففي مورد الاجتماع يتأكّد الحكم كسائر موارد العموم من وجه) (٢).

وأمّا أخذه في حكم ضدّه فمحال لما ذكرنا من أنّه يستلزم جمع الضدّين في نظر المخاطب به ، وكلّما كان محالا في نظر المكلّف به استحيل جعله ، فافهم.

في القطع المأخوذ في موضوع حكم مخالف لمتعلّقه

القطع المأخوذ في موضوع حكم مخالف لحكم متعلّقه مثل : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدّق بدرهم ـ مثلا ـ وقد قسّمه العلّامة الأنصاري إلى قسمين :

أحدهما : أن يؤخذ بنحو الصفتيّة.

والثاني : أن يؤخذ بنحو الطريقيّة (٣).

وقد قسم الآخوند قدس‌سره كلّا من القسمين إلى ما كان تمام الموضوع ، وما كان جزء الموضوع (٤) فتصير الأقسام على رأيه أربعة.

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) انظر الفرائد ١ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٤) كفاية الاصول : ٣٠٣.

٤٢

وقبل الخوض في الأقسام ينبغي تقديم امور :

الأوّل : أنّ المراد بكون القطع مأخوذا بنحو الموضوعيّة هو الموضوعيّة الواقعيّة لا في لسان الدليل ، ومعنى الموضوعيّة الواقعيّة أنّ الموضوع لحكم التصدّق بدرهم واقعا هو القطع بوجوب الصلاة وليس المراد الموضوعيّة بلسان الدليل الحاكي ، لأنّ أخذ القطع بلسان الدليل الحاكي لا يكون موضوعيّا دائما بل قد يكون طريقيّا مثل قولنا : إذا قطعت بأنّ هذا جلد ما لا يؤكل لحمه ليس لك أن تصلّي به ، ومعلوم أنّ القطع إنّما اعتبر هنا طريقا كاشفا وليس له دخل في النهي عن الصلاة به ، نظير قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(١) بناء على إرادة الرؤية من الشهود لا على إرادة الحضور من الشهود ، فيكون مؤدّاه : صم للرؤية وأفطر لها.

الثاني : في معنى الطريقيّة والصفتيّة فنقول : إنّ من قطع بقيام زيد مثلا فيحصل له صفة القطع بها بمعنى عدم تردّده وشكّه بذلك ، فهذه الصفة من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، وليس من الصفات الّتي ليست إلّا صرف الإضافة نظير الفوقيّة والتحتيّة ، بل هي لها ما بإزاء في الخارج وهو ارتفاع التردّد. كما أنّ هذا القاطع أيضا ينكشف له أنّ هذا القيام حاصل لزيد مثلا. وحينئذ فقد يكون القطع مأخوذا في الموضوع من الجهة الاولى فيسمّى قطع موضوعي بنحو الصفتيّة ، نظير الوسواسي الّذي لا يحصل له صفة القطع بطلوع الفجر فينذر إن قطعت بطلوع الفجر أتصدّق بدرهم شكرا لله تعالى ، فإنّ قصد هذا الناذر من نذره تحصيل هذه الصفة له ورفع التردّد الناشئ من وسوسته. وقد يؤخذ القطع لكاشفيّته عن الواقع وليس لرفعه التردّد أصلا ، نظير من نذر إن قطعت بطلوع الفجر أتصدّق

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

٤٣

بدرهم لقصد إيقاعه صلاته أوّل الوقت مثلا لا لرفع تردّده لعدم تعلّق غرضه به أصلا ، فيكون مأخوذا بنحو الطريقيّة.

الثالث : أنّ القطع الموضوعي بنحو تمام الموضوع ، بمعنى أنّ موضوع الحكم الواقعيّ وجدان هذه الصفة وارتفاع هذا التردّد ، سواء طابق الواقع أم لا. ومعنى المأخوذ بنحو جزء الموضوع أنّ الموضوع القطع بشرط مطابقته للواقع ، فالموضوع هو العلم بمعنى القطع الّذي يكون المقطوع به ثابتا في الواقع. وحينئذ فالقطع المأخوذ بنحو الصفتيّة ينقسم إلى ما كان تمام الموضوع نظير مثال نذر الوسواسي ، وإلى ما كان جزء الموضوع مثل : إذا وجدت هذه الصفة عندي وارتفع تردّدي وكان الأمر كذلك واقعا أتصدّق بدرهم.

ولكنّ القطع المأخوذ بنحو الطريقيّة والكاشفيّة لا يمكن أن يكون إلّا جزء الموضوع ، لأنّ كونه تمام الموضوع يستدعي دوران الحكم مداره مع قطع النظر عن الواقع ، والمفروض أنّه قد اخذ بنحو الكشف والطريقيّة فيتنافيان ، لأنّ كونه جزء الموضوع يستدعي وجود المقطوع به في الواقع جزء آخر إذ المفروض أنّه كاشف عن الواقع ، فإذا لم يكن الجزء الثاني موجودا فمعناه أنّه ليس بكاشف ، فالمأخوذ بنحو الطريقيّة دائما هو جزء الموضوع ولا يمكن أن يكون تمامه للزوم التنافي ، إذ معنى كونه تمامه أنّه ليس بكاشف ولا طريق ، فكونه تمام الموضوع ينافي كونه كاشفا واقعا ، والمفروض أنّه كاشف واقعا فهو جزء الموضوع لا تمامه. وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١). فالحقّ أنّ أقسام القطع الموضوعي المأخوذ في موضوع حكم آخر ثلاثة : صفتي بقسميه ، وكاشفي بنحو يكون جزء الموضوع ، فإذا ضمّ إليها القطع الطريقيّ صارت الأقسام أربعة.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ١١.

٤٤

(ولكنّ التأمّل الصادق يقضي بصحّة ما أفاده الآخوند قدس‌سره من تقسيم القطع الموضوعي إلى الأقسام الأربعة (١) بيان ذلك أنّ القطع وإن كان أمرا بسيطا إلّا أنّه ينحلّ إلى امور ثلاثة :

الأوّل : جزم النفس وارتفاع تردّدها.

الثاني : انكشاف المعلوم وظهوره من حيث كونه انكشافا وظهورا.

الثالث : انكشاف الواقع.

فإن لوحظ من الجهة الاولى كان مأخوذا بنحو الصفتيّة تمام الموضوع أو جزؤه ، وإن لوحظ من الجهة الثانية وهي جهة الانكشاف المحض كان مأخوذا بنحو الكاشفيّة تمام الموضوع ، وإن لوحظ من الجهة الثالثة كان مأخوذا بنحو الكاشفيّة جزءا ، فأخذ القطع كاشفيّا تمام الموضوع ممكن ، بل واقع في مثل الفتوى والشهادة إذ المقصود أن تكون الفتيا عن علم له ، وكذا الشهادة عن انكشاف له وإن لم يكن الواقع كذلك. نعم مانعيّة العلم بالنجاسة لصحّة الصلاة اخذ العلم فيه جزءا بنحو الكاشفيّة ، ولذا لو علم بالنجاسة ثمّ نسي وصلّى ثمّ ظهر أنّه لم تكن نجاسة فصلاته صحيحة) (٢).

في قيام الأمارات مقام القطع

لا ريب في قيام الأمارات الّتي دلّ الشارع على حجّيّتها مقام القطع الطريقيّ في ترتيب آثار القطع بدليل حجّيّتها ، لأنّ دليل الحجّيّة دالّ على ترتيب آثار الواقع عليها وإلغاء احتمال الخلاف ، فتترتّب عليها آثار القطع من التنجيز عند المصادفة ، والإعذار عند الخطأ ، وإذا خالفه المكلّف يكون متجرّيا تجري عليه أحكام التجرّي وآثاره.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٥

وإنّما الكلام في قيام الأمارات بدليل حجّيّتها مقام القطع المأخوذ على نحو الموضوعيّة.

فربّما يقال بقيام الأمارات مقامه بجميع أقسامه. وربّما يقال بعدم قيام الأمارات بدليل حجّيّتها مقامه بجميع أقسامه كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١). وربّما يقال بقيام الأمارات بدليل حجّيّتها مقام المأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفيّة دون المأخوذ بنحو الصفتيّة ، وعليه الشيخ الأنصاري (٢) والميرزا النائيني (٣) ـ قدّس سرهما ـ والآخوند منع قيام الأمارات مقام القطع مطلقا بدليل حجّيّتها ، أمّا إذا كان هناك دليل غير دليل الحجّيّة دلّ على جعل الأمارات موضوعات كالقطع بجميع لوازمه فلا مجال للإنكار عليه ، لأنّ الشارع بيده موضوعات أحكامه فلا حقّ لأحد في الاعتراض عليه أصلا. وإنّما منع الآخوند قدس‌سره من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي لأنّه زعم أنّ دليل الحجّيّة يمكن أن يكون ناظرا للواقع فيكون قد نزّل الأمارة مقام القطع الطريقي بما أنّه كاشف عن الواقع فتكون الأمارة ملحوظة بنحو الآلة ، وأن يكون ناظرا إلى الصفة الحاصلة من الأمارة كالظنّ وضعف التردّد ، فيكون النظر للأمارة نظرا مستقلّا وهو القطع الموضوعي ودليل الحجّيّة واحد فلا يمكن أن ينزّله منزلة القطع ، لأدائه إلى اجتماع اللحاظين : الآليّة والاستقلاليّة في آن واحد. ثمّ أورد على نفسه بأنّ أدلّة الحجّيّة تكون مجملات حينئذ ، وأجاب بأنّها ليست مجملات أصلا لبناء العرف على تنزيلها منزلة القطع آليّا كما هو واضح (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠٥.

(٢) الفرائد ١ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) فوائد الاصول ٢ : ٢١.

(٤) انظر كفاية الاصول : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

٤٦

ولا يخفى عليك ما في كلامه قدس‌سره أمّا أوّلا فلأنّ الجمع بين اللحاظين إنّما يكون على القول بكون مؤدّيات الطرق والأمارات أحكاما واقعيّة مجعولة من قبل الشارع المقدّس ، ولا يلتزم قدس‌سره به أصلا ، مع أنّه مؤدّ إلى الالتزام بالتصويب المجمع على بطلانه ، وهو تصويب المعتزلة القائلين بأنّ لله أحكاما واقعيّة ما لم تقم أمّارة على خلافها فيغيّر الحكم الواقعي ويجعل على طبق الأمارة القائمة (١) وإنّما يلتزم قدس‌سره في موارد قيام الطرق والأمارات بجعل ما كان ثابتا للقطع عقلا من التنجيز والإعذار لها فيقول بجعل التنجيز لها ، بمعنى أنّها إذا قامت على موضوع أو حكم مثلا فيترتّب عليه شرعا ما يترتّب على القطع عقلا من التنجيز إذا صادف الواقع والإعذار إذا خالفه ، فهو قدس‌سره ملتزم بجعل ما للقطع من الآثار للأمارات شرعا ، وعليه حينئذ لا يرد إيراد اجتماع اللحاظين ، لأنّ النظر الآلي مفقود في المقام.

(وبعبارة اخرى ، ليس في دليل الحجّيّة تنزيل للمؤدّى وإنّما فيها الإلزام بالسير على مقتضى الأمارة كالسير على مقتضى القطع ، فله أن يرتّب آثار وجوب السورة بقيام الأمارة بوجوبها فيقرأها في الصلاة ، كما له أن يفتي بوجوبها فيما اخذ فيه القطع موضوعا) (٢). مع أنّ ما ذكره من جعل التنجيز والإعذار غير مرضيّ عندنا ، لأنّ دليل جعل الحجّيّة إمّا أن يوسّع الموضوع أو يوسّع الحكم ، وحيث إنّ الحكم العقلي لا يعقل أن يثبت لغير مورده ، لأنّ الحكم العقلي إنّما يتبع موضوعه. وحينئذ فلا بدّ من توسعة الموضوع ، فمعنى جعل الشارع للحجّيّة ليس إلّا جعل الطريقيّة بمعنى أنّ طريقيّة القطع ذاتيّة ولكن طريقيّة الأمارات جعليّة بمعنى إلغاء احتمال الخلاف.

وحينئذ فإذا صار بسبب توسعة الشارع من أفراد القطع ترتّب عليه عقلا ما يترتّب على القطع من الأحكام العقليّة كالتنجيز والإعذار ، وصار طريقا جعليّا ،

__________________

(١) انظر نهاية الاصول : ٤٣٤ (مخطوط).

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٤٧

فالشارع لم يجعل إلّا الطريقيّة له ، (ولو كان المجعول هو التنجيز والإعذار من دون جعل الطريقيّة لزم تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لعدم كون الأمارة بيانا ، والحكم العقلي غير قابل للتخصيص ، فافهم) (١).

ولا يخفى أنّ جعل الطريقيّة إنّما هي جعل طريقيّة ظاهريّة كطريقيّة القطع ، فلو خالفت الواقع لا يترتّب عليها أثر أصلا ، وإنّما تترتّب آثار الواقع ، فافهم. نظير القطع لو انكشف خطاؤه عينا ، وحينئذ فإذا جعل الشارع المقدّس طريقيّة الأمارة لترتيب آثار الواقع المنكشف فترتيب آثار نفس الانكشاف أولى بالترتّب ، فيترتّب التنجيز والإعذار قسرا عليه بلا حاجة إلى جعل الشارع لذلك ، كما ذكره قدس‌سره فتأمّل.

وبالجملة ، فلو كان معنى جعل الحجّيّة جعل المؤدّى لزم اجتماع اللحاظين وكان وجها للمنع كما ذكره قدس‌سره إلّا أنّه لا يلتزم به كما قدّمنا ، وهو غير صحيح في نفسه ، لعدم دليل من أدلّة الحجّيّة يدلّ على جعل المؤدّى أصلا. وأمّا قوله عليه‌السلام : ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان (٢) المراد منه ليس جعل المؤدّى أصلا وإنّما معناه أنّ الشكّ الّذي يعتريكم في روايتهما ألغوه ، يعني ما أدّيا عنّي فكان مشكوكا لكم فهو عنّي ، بمعنى رتّبوا آثار القطع عليه ، وحينئذ فجعل المؤدّى ثبوتا غير ممكن لأدائه إلى التصويب المجمع على بطلانه ، وإثباتا أيضا غير صحيح ، لعدم دليل يدلّ عليه.

وبالجملة ، فالحقّ أنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتيّة ، وذلك لأنّ الصفة وهي عدم التردّد له مدخليّة في الحكم. ولا ريب أنّ دليل حجّية الأمارة لا يرفع التردّد وجدانا ، وإنّما يرفعه تعبّدا ، فالصفة لا يمكن أن توجد بدليل الحجّيّة. ولكن لا يخفى أنّه لا قطع يؤخذ في موضوع حكم شرعي بنحو الصفتيّة أصلا ، فالبحث فيها بحث علمي لا جدوى فيه عملا.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٤٨

نعم ، ربّما توهّم أخذ القطع في مقام الشهادة بنحو الصفتيّة ، وكذا أخذ القطع في الركعتين الأوّلتين فيقال حينئذ : إنّ الأمارة مثلا إذا قامت على الملكيّة أو على الركعتين فهل دليل الحجّيّة في تلك الأمارة كافل بقيامها مقام القطع الصفتي فيجوز له الشهادة أم لا؟ ولكنّ الإنصاف أنّه لم يؤخذ القطع في كلّ منهما إلّا بنحو الكشف عن الواقع ، لأنّ الإمام عليه‌السلام أشار إلى الشمس ثمّ قال : على مثلها فاشهد أودع (١) يعني إذا انكشف لك الواقع انكشاف الشمس ، ولا ريب في ظهوره في المأخوذ بنحو الكشف. وكذا في الركعتين فإنّ في أخبارها : حتّى تثبتهما أو حتّى تحرزهما ، ومعلوم أنّ الإثبات والإحراز فرع للثبوت واقعا ، فيكون مأخوذا على وجه الكاشفيّة والطريقيّة ، فافهم.

(وقد ذكر الآخوند قدس‌سره في حاشيته على الرسائل (٢) وجها لا مكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي بتقريب أن دلالة دليل الحجّيّة إنّما كان بلحاظ الآليّة وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فهذا هو مدلول دليل الحجّيّة بحسب المطابقة إلّا أن الملازمة محقّقة بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل القطع التعبّدي بالمؤدّى منزلة القطع الحقيقي بالواقع.

إلّا أنّه ضعّفه في الكفاية (٣) بأنّ تنزيل الجزء للمركّب موقوف على تحقّق أثر له وتحقّق أثره موقوف على تنزيل الجزء الآخر ، إذ المفروض أنّ الأثر مترتّب على المركّب ، والمفروض أنّه بالملازمة فهو موقوف على الدلالة المطابقيّة وهذا هو الدور المحال.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٥٠ ، الباب ٢٠ من أبواب الشهادات ، الحديث ٣.

(٢) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٩.

(٣) كفاية الاصول : ٢٦٤.

٤٩

ولا يخفى عليك أنّا قد أنكرنا الدلالة المطابقيّة ذاتها ؛ لأنّه ليس مفاد دليل الحجّيّة جعل المؤدّى بمنزلة الواقع لأدائه إلى التصويب ، بل إنّ الآخوند نفسه لم يلتزم به لأدائه إلى ما ذكر ، وإنّما التزم بجعل التنجيز والإعذار كما تقدّم إلّا أنّا نتكلّم في الكبرى الكلّية وإن لم يكن لها مصداق في المقام فنقول إنّ دليل الحجّيّة إن كان مركّبا من جزءين كالماء الكر مثلا ، فإن أحرز جزءاه بالوجدان أو التعبّد أو بالتفريق فلا كلام ، وإن قام الدليل على أحد الجزءين ولم يكن لهذا الجزء أثر شرعي يصح الجعل بلحاظه كما لو استصحبت كرّية المائع فإنّها لا أثر لها ما لم يحرز كونه ماء ، فصونا لكلام الحكيم عن اللغوية لا بدّ من الالتزام بكون ذلك المقام بخصوصه يجعل لازمه الّذي هو الجزء الثاني وإن لم يرد فيه دليل بالخصوص فنلتزم بعدم شمول الإطلاق له حينئذ ، بمعنى أنّ دليل التنزيل لا يشمل هذا الفرد كما في الأصل المثبت ؛ لأنّ الشمول مع عدم الأثر لا معنى له والأثر مستلزم للدور ؛ لأنّ الملازمة موقوفة على الدلالة المطابقيّة فإن كانت الدلالة المطابقيّة موقوفة على الدلالة الالتزامية لزم الدور المحال ، وما ذكر من المثال ليس مثالا للازم والملزوم وإنّما هو مثال للموضوع المركب من جزءين ، فافهم) (١).

وأمّا قيام الأمارة مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفيّة بدليل حجّيّتها فلا مانع منه ؛ لأنّ دليل حجّيّتها إنّما يتكفّل جعل الطريقيّة لها ، فحيث إنّ الظنّ ليس طريقا تامّا فدليل حجّيته يتمّم كشفه الناقص ويكون ملغيا لاحتمال الخلاف بمعنى أنّه يجعله قطعا فتترتّب عليه أحكام القطع من التنجيز والإعذار وغيرهما. وحينئذ فلو قام الدليل على أنّ ظنّ الإمام أمارة للمأموم فيكون ظنّ الإمام بمنزلة قطع المأموم في ترتيب آثار الواقع عليه ، وإذا ترتّبت آثار المنكشف تترتّب آثار نفس الكشف من التنجيز والإعذار عقلا عليه.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٠

فيصحّ أن تقوم الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكاشفيّة ، (ولو لا ذلك لم يكن لمجتهد أن يفتي ، لأنّه إنّما يحصل الحكم بالأمارات وليست علما لو لا التنزيل. كما أنّ به تنحلّ عويصة الإشكال في إجراء الاستصحاب حيث يثبت الحكم الّذي يراد استصحابه بالأمارة ، إذ قد اخذ في موضوع الاستصحاب عدم نقض اليقين بالشكّ ، فلولا أنّ الأمارة يقين لم يجر استصحاب ذلك الحكم) (١). بل اليقين الّذي جعل غاية في دليل الاستصحاب أيضا تقوم الأمارة مقامه ، إذ لو لا ذلك لأشكل تقديم الأمارة على الاستصحاب ، مثلا لو شكّ الإنسان بعد أن كان متطهّرا في أنّه نام أم لا فقامت البيّنة على أنّه نام فلو لا أنّ البيّنة هنا تكون يقينا جعليّا من قبل الشارع لم يكن لرفع اليد عن الاستصحاب وجه بسبب الأمارة ، لعدم ترجّحها عليه من جهة الحكومة ، لأنّ كلّا منهما يترتّب عليهما التنجيز والإعذار ، فافهم وتأمّل. وتمام الكلام في أواخر مباحث الاستصحاب في تعارضه مع الأمارة.

في قيام الاصول مقام القطع

ويقع الكلام في الاصول المحرزة تارة ، وفي غيرها اخرى.

أمّا الكلام في الاصول المحرزة وهي نظير الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز بناء على أنّهما من الاصول ، وأمّا بناء على أنّهما من الأمارات كما هو غير بعيد فلا كلام لنا عنهما.

(والظاهر أنّ الاصول المحرزة من الأمارات الّتي هي في طول الأمارات الاصطلاحيّة ، وما ذكر فرقا بين الاصول والأمارات بأنّ الأوّل ما أخذ الشكّ في موضوعه والثاني ما كان الشكّ موردا له ، فمن المشهورات الّتي لا أصل لها ،

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥١

لأنّ الشكّ مأخوذ في موضوع الجميع ولذا لا تكون البيّنة حجّة عند العالم باشتباهها ، ولاستحالة الإهمال في الواقعيّات ، فلا بدّ من كون موضوع الجميع هو الشاكّ واقعا وإن لم يؤخذ في لسان الدليل ، لأنّ العبرة بالموضوع ثبوتا لا إثباتا. وكونها ـ يعني الاصول المحرزة ـ في طول الأمارات الاصطلاحيّة لا يضرّ بكونها أمارات ، لتقدّم بعض الأمارات على بعض في الاصطلاحيّة أيضا لاقتضاء أدلّتها ذلك. وإذا كانت الاصول المحرزة من الأمارات فقد قدّمنا حكم الأمارات وحكمها حكمها في قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي على نحو الطريقيّة جزء الموضوع أو تمامه.

نعم ، لا يجوز قيام الاستصحاب مقام القطع المأخوذ في موضوع الإخبار ، لأنّ الإخبار إن كان على خلاف الاستصحاب فهو إخبار مع العلم بالعدم لو فرض حجّية الاستصحاب ، وإن كان الإخبار على طبق الاستصحاب كان إخبارا بعلم فأين الإخبار بغير علم الّذي نهي عنه في الكتاب والسنّة؟ فلا يبقى له مورد لو كان الاستصحاب علما فتكون لغوا وهو باطل.

ووجه تقدّم الأمارات عليه هو عدم المورد لها لو عكس الأمر أوّلا وإطلاق دليل الحجّيّة لعدم تقييده من قبل العقل بأزيد من صورة العلم الوجدانيّ بالخلاف ، إذ لا استحالة لأزيد من ذلك بخلاف الاصول التنزيليّة فقد أخذ فيها الشكّ وظاهره الشكّ من جميع الجهات والتعبّد رافع للشكّ ، فتأمّل) (١).

ومعنى كونها اصول محرزة أنّها قد أخذ الشكّ في موضوعها وهي مع ذلك لها نظر إلى الواقع ، فهي تشارك البراءة وغيرها في كون موضوعها الشكّ ولكنّها تفارقها أنّها مع ذلك لها نظر إلى الواقع. إذا عرفت هذا فالأصول المحرزة تتمّ بدليل حجّيّتها مقام القطع الطريقي قطعا ، لأنّ دليل حجّيّتها يجعلها من أفراد القطع بإلغاء احتمال الخلاف ، والمفروض أنّ لها نظرا إليه ، فهي من موارد البيان ،

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٢

فمع وجود دليل حجّيته يرتفع موضوعات اللابيان ، لأنّ الشارع جعله بيانا. فلا يكون العقاب مع وجود الاستصحاب أو غيره لو خالفه المكلّف عقابا بلا بيان ، ولا تكون المؤاخذة بلا برهان ، بل يترتّب عليه جميع ما يترتّب على القطع الطريقي من التنجيز والتعذير وغيرها.

وأمّا قيام الاصول المحرزة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتيّة فلا ريب في بطلانه ، لأنّ هذه الصفة من الصفات التكوينيّة فلا يمكن أن يكون دليل حجّية الاستصحاب مكوّنا لها كما تقدّم في الأمارة.

وأمّا قيام الاصول المحرزة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكاشفيّة ، فالقطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكاشفيّة له جهتان ، فإنّه تارة يؤخذ من حيث إحراز الواقع من حيث هو واقع ، واخرى يؤخذ من حيث البناء القلبي على إحراز الواقع ، فإن كان مأخوذا في الموضوع على نحو الكاشفيّة من حيث إحراز الواقع فلا ريب في عدم قيام الاصول المحرزة مقامه ، لأنّها ليست محرزة إلّا من حيث العمل لا من حيث إحراز الواقع بما هو واقع ، وإن كان القطع مأخوذا في الموضوع على نحو الكاشفيّة من حيث البناء العملي فلا ريب في قيام الاصول المحرزة لأنّ إحرازها من حيث العمل موجود بدليل حجّيّتها فافهم وتأمّل.

وأمّا الاصول الغير المحرزة فلا تقوم مقام القطع الطريقي (*) ، لأنّ دليل حجّيّتها ليس ناظرا في جعلها إلى إحراز الواقع بها وإنّما هو ناظر إلى الرجوع إليها في مقام العمل. ومعلوم أنّ القطع الطريقي إنّما هو طريق إلى الواقع ، فكيف يقوم الاصول مع عدم نظرها إلى الواقع مقام ما هو محرز له وناظر إليه.

__________________

(*) لأنّها إن كانت عقليّة كالبراءة والاحتياط العقليّين فليس معناهما إلّا إدراك العقل ذلك ولا معنى لقيامه مقام القطع ، وإن كانت شرعيّة فمعناه حكم الشارع بفراغ الذمّة أو بلزوم إحراز الفراغ ولا معنى لقيامه حينئذ مقام القطع ، إذ هو كما يقال : وجوب الصوم يقوم مقام القطع أم لا ، إذ لا معنى لقيام الحكم مقام القطع. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

٥٣

وكذا لا تقوم الاصول الغير المحرزة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتيّة ، وهو واضح جدّا. وكذا لا يقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الكاشفيّة أيضا ، لعدم كونها ناظرة إلى الواقع كما قدّمناه ، وترتيب آثار القطع من التنجيز والإعذار غير تنزيلها منزلته ، فافهم.

بقي الكلام فيما ذكره الآخوند قدس‌سره من جواز أخذ القطع بحكم في مرتبة من مراتبه في موضوع نفس ذلك الحكم في مرتبة اخرى (١) وذلك فيما لم يكن الحكم فعليا من جميع الجهات بأن يقال : إذا قطعت بوجوب التصدّق إنشاء يجب عليك ذلك الوجوب الإنشائي فعلا ، أو يجب عليك التصدّق وجوبا آخر ، أو يحرم عليك التصدّق فعلا.

ولا يخفى عليك أنّ هذا الكلام منه قدس‌سره مبنيّ على أنّ الحكم له مراتب أو مرتبتان ، وأمّا إذا قلنا : إنّ الحكم ليس له إلّا مرتبة جعل ومرتبة مجعول ، فهل يمكن حينئذ أن يؤخذ القطع بمرتبة الجعل في موضوع الحكم بمرتبة المجعول؟ الظاهر أنّه لا يمكن ذلك ، لأنّ الحكم المقطوع به إن كان القاطع من أفراده لزم محذور الدور ، إذ القطع به يقتضي تحقّقه وإن لم يحصل القطع به. وأخذ القطع موضوعا معناه توقّف الحكم على حصول القطع ، وإن لم يكن القاطع ممّن يشملهم الحكم المقطوع كان من أخذ القطع في موضوع حكم آخر وهو جائز كما تقدّم ، لأنّ بالقطع بمرتبة الجعل يحصل موضوع حكم مرتبة المجعول فيترتّب حكم المجعول الأصلي لوصوله إلى مرتبة الفعليّة حينئذ ، فافهم.

نعم ، يمكن أن يقال : إذا قطعت بصدور الأمر الامتحانيّ من المولى يجب عليك التصدّق بدرهم ، إلّا أنّ هذا خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ الأمر الامتحاني ليس حكما ، فلا يعدّ من مراتب الحكم ، فافهم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠٧.

٥٤

هذا تمام الكلام في القطع وأقسامه من الطريقيّ المحض والموضوعي على نحو الصفتيّة جزءا للموضوع أو تمام الموضوع أو بنحو الكاشفيّة جزءا للموضوع أو تمامه فقط.

وأمّا الكلام في الظنّ وأنّه هل يمكن أخذه في الموضوع :

الكلام في انقسام الظنّ

كما ينقسم القطع إلى طريقي وموضوعي قد اخذ على نحو الطريقيّة أو الموضوعيّة والصفتيّة تمام الموضوع أو جزءه كذلك ينقسم الظنّ إلى طريقي وموضوعي بنحو الصفتيّة أو الطريقيّة تمام الموضوع وجزءه.

أمّا الطريقي فهو أن يعمد الشارع إلى قسم من أقسام الظنّ فيتمّ كشفه الناقص بأن يجعله حجّة فيلغي فيه احتمال الخلاف الموجود وجدانا في نظر الظانّ ، وحينئذ فيترتّب عليه أحكام القطع من التنجيز والتعذير والتجرّي ، وهذا ممّا لا ريب فيه وقد وقع كما في خبر الواحد. وأمّا المأخوذ على نحو الطريقيّة لحكم متعلّقه في موضوع حكم آخر مثل ما لو قيل : إذا ظننت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدّق ، فهذا واضح لا ريب فيه أيضا ولا في صحّته.

وأمّا أخذه في موضوع حكم متعلّقه : فتارة يكون ذلك الظنّ حجّة عند الشارع.

واخرى لا يكون حجّة.

فإن كان حجّة فلا يمكن أخذه موضوعا لحكم ضدّ ما تعلّق به مثل قوله : إذا ظننت بوجوب الصلاة تحرم الصلاة عليك ، لأدائه إلى اجتماع الضدّين ، لأنّ تعلّق الظنّ المعتبر يقتضي ترتيب آثاره فكيف يكون موضوعا لترتيب ضدّها.

وأمّا أخذه موضوعا لحكم مماثل مثل قوله : إذا ظننت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة ، فلا ريب في صحّته والالتزام بالتأكّد فيه حتّى إذا منعنا ذلك في القطع ، لأنّ القاطع لا يحتمل الخلاف بخلافه هنا ، إذ احتمال الخلاف في المقام وجداني وإنّما ألغاه الشارع ، فلا يلزم اجتماع المثلين حتّى في نظر نفس الظانّ.

٥٥

ومن هنا ظهر أنّ قياس الميرزا النائيني (١) الظنّ على القطع في جميع الأحكام لا يخلو من نظر ، إذا اجتماع المثلين في نظر القاطع محال ، إلّا أنّه في الظنّ لا يلزم اجتماع المثلين ، إذ احتمال الخلاف موجود في الظانّ ، وإن كان غير معتبر عند الشارع إلّا أن يقال : إن احتمال اجتماع المثلين غير ممكن أيضا. والالتزام بالتأكّد يقتضي جوازه في صورة القطع ، ولا يلتزم الميرزا النائيني بالتأكّد في القطع فالظنّ مثله ، فافهم. وهذا لا يفرق فيه بين كونه تمام الموضوع أو جزءه.

وإن كان الظنّ غير معتبر فأخذه في موضوع حكم مضادّ لحكم متعلّقه بنحو تمام الموضوع ممكن ، مثل ما إذا كان قيام الظنّ القياسي بحرمة شيء مثلا يوجب فيه مصلحة ، أو قيام الظنّ الاستقرائي بحرمة التتن مثلا توجب فيه مصلحة تقتضي إيجابه مثلا فيقول : إذا قام الظنّ القياسي على حرمة التتن فهو واجب ، أو على وجوب الصدقة فهي حرام مثلا.

وأمّا أخذه في موضوع حكم مماثل مثل قوله : إذا ظننت بوجوب الصلاة يجب عليك الصلاة ، فإنّ كان الظنّ تمام الموضوع أيضا فهو ممكن أيضا. وإن كان جزء الموضوع فربّما يقال بعدم إمكانه ، لأنّ الحكم الّذي لا يعقل أن يصل إلى مرتبة الفعليّة فجعله مستحيل ، وإنّما لا يصل هذا إلى مرتبة الفعليّة ، لأنّ الجزء الثاني هو كونه كذلك في الواقع ، ولا يمكن إحراز كونه كذلك في الواقع ، لأنّ إحرازه إمّا بالظنّ والمفروض أنّه غير معتبر ، وإمّا بالقطع وحينئذ يخرج عن كونه ظانّا لأنّ القطع لا يجتمع مع الظنّ. وجوابه أنّه يمكن أن يكون هناك طريق لا يفيد الظنّ قد جعله الشارع حجّة كاليد مثلا أو الاستصحاب ، ومع ذلك يتعلّق به ظنّ غير معتبر فيكون مظنونا. وحينئذ فيحرز كونه كذلك واقعا بذلك المحرز لا بالقطع ولا بالظنّ الغير المعتبر ، وحينئذ فيجوز أن يكون جزء للموضوع ، فافهم.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ٣١ ـ ٣٧.

٥٦

وأمّا أخذ الظنّ بحكم أو موضوع في موضوع ضدّ ذلك الحكم مثل قولك : إذا ظننت بحرمة الخمر يجب عليك شربه ، أو إذا ظننت بخمريّة شيء يجب عليك شربه ، فقد زعم الآخوند قدس‌سره إمكانه (١) بزعم أنّ الحكم الواقعي له مرتبة غير مرتبة الحكم الظاهري ، فيمكن أن يكون الظنّ بالحكم الواقعي مأخوذا في الحكم الظاهري ، كما جاز أخذ الشكّ بالحكم الواقعي موضوعا في الحكم الظاهري ، كما في موارد الأحكام الظاهرية فإنّه قد اخذ في موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي.

والميرزا النائيني قدس‌سره زعم استحالة أخذ الظنّ بالحكم الواقعي في موضوع حكم مضادّ له للزوم اجتماع الضدّين (٢) وذلك لأنّ الحكم الواقعي بحرمة الخمر شامل لصورة الظنّ به قطعا ، فإذا جعل وجوب شرب الخمر في صورة الظنّ بالحكم الواقعي لزم اجتماع الضدّين ، ولا ربط للمقام بكون الحكم الواقعي له مرتبة غير مرتبة الحكم الظاهري ، فإنّ المقام فيه حكمان واقعيّان ، غايته أحدهما واقعي أولي والثاني أيضا واقعي ثانوي في صورة الظنّ بالحكم الواقعي الأوّلي ، لا أنّ أحدهما حكم ظاهري والآخر واقعي.

وما ذكر في اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي كما سيأتي : من كون الحكم الظاهري سنخ حكم لا ينافي الحكم الواقعي أصلا ، غير جار في المقام لكون الحكم في المقام واقعي لا ظاهري ، فافهم وتأمّل.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا النائيني في المقام ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه فلا يجوز أخذ ظنّ في حكم في موضوع حكم مضادّ له (إذا كانا واقعيّين ، كما أنّ ما ذكره الآخوند متين إذا كان المظنون واقعيّا والمجعول حال ظنّه بهذا الظنّ الغير المعتبر ظاهريّا) (٣) ، فافهم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠٧.

(٢) فوائد الاصول ٢ : ٣٢.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٧

ولا يخفى أنّ أخذ الظنّ في موضوع حكم جزء الموضوع أو تمامه بنحو الصفتيّة أو بنحو الكاشفيّة معتبرا أو غير معتبر ممّا لم يؤخذ في الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّ هذا الكلام إنّما ذكر لتشريح الذهن. وأمّا الظنّ بالقبلة أو بالعدالة بمعنى الملكة على القول به والظنّ بالضرر في جواز الإفطار والظنّ بالخطر في حرمة السفر ووجوب الإتمام فيه فليس مأخوذا إلّا طريقا للواقع ، فافهم.

في وجوب الموافقة الالتزاميّة

ثمّ إنّ القطع الطريقي بالحكم كما يقتضي موافقته عملا خارجيّا فهل يقتضي لزوم موافقته في الالتزام أم لا؟

ثمّ لو تردّد التكليف بين محذورين ، فعلى تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة فهل يمنع جريان الاصول من الالتزام بالموافقة الالتزاميّة أم لا؟ (والكلام هنا في مانعيّة لزوم الالتزام عن جريان الاصول بعد الفراغ عن جريان الاصول لو لا ذلك. فلا يرد حينئذ عدم جريانها من جهة قصور الدليل لمنافاة صدر أدلّتها لذيله كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (١) ولا ما ذهب إليه النائيني من المانع الثبوتي (٢) ولا ما ذهب إليه بعضهم (٣) من عدم جريان الاصول في مورد الدوران ، لعدم أثر لجعلها فيه ، لعدم خلوّ المكلّف من الفعل أو الترك ، فافهم) (٤).

أمّا الموافقة الالتزاميّة ، فإنّ اريد بها تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به والإذعان بما أمر به ، فهذا لا يخصّ الأحكام الإلزاميّة ، بل لا يخصّ مطلق الأحكام ، لأنّه يجب تصديق النبيّ حتّى في إخباراته لا في خصوص الأحكام.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٨٦.

(٢) انظر فوائد الاصول ٢ : ٧٨.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٣١٠.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٨

وإن اريد بالموافقة الالتزاميّة أن يأتي بالواجب لوجوبه وبالمستحبّ لاستحبابه ، فقد تقدّم أنّ قصد الوجه غير معتبر في صحّة العبادة ، بل يكفي إتيانها مضافة إلى المولى كما استظهرنا ذلك من الرواية الواردة في الوضوء أن تأتي به بنيّة صالحة ، على أنّ كلامنا لا يخصّ العبادات بل مطلق ما تعلّق به القطع وإن كان حكما وضعيّا.

وإن كان المراد من الموافقة الالتزاميّة العقد للقلب على وجوب العمل الواجب وحرمة المحرّم مثلا ، بمعنى أنّ دليل الواجب دلّ على لزوم عملين أحدهما خارجي والآخر جانحي وأنّ بموافقتهما يحصل ثوابين وبمخالفتهما عقابين وبامتثال أحدهما وعصيان الآخر ثواب الممتثل وعقاب المتروك ، فهو أمر لا دليل عليه أصلا.

ثمّ على تقدير اعتبار الموافقة الالتزاميّة ففي مورد دوران الأمر بين المحذورين حيث لا يمكن الموافقة الجارحيّة فلا ريب في إمكان الموافقة الجانحيّة والالتزام بما هو حكم الله في الواقع وإن لم يعلم على التفصيل ، كما أنّ جريان الاصول العمليّة لأنّها إنّما تعيّن الوظيفة العمليّة ولا ربط لها بالحكم الواقعي لا يمنع جريانها في أطراف العلم الإجمالي من الالتزام بالموافقة الالتزاميّة أصلا. نعم لو كان قيام الاصول يوجب تغيير الأحكام الواقعيّة عمّا هي عليه إلى غيره لأخلّ جريان الاصول بالموافقة الالتزاميّة ، فافهم.

في قطع القطّاع

لا يخفى أنّ أدلّة الشكّ حيث كانت مأخوذة في لسان الأدلّة الشرعيّة تكون منصرفة إلى الشكوك المتعارف حصولها من الأسباب المتعارفة ، فلو كان الشكّ حاصلا من غيرها ممّا لم يكن بحسب العرف يحصل منه الشكّ كما في كثير الشكّ فلا تترتّب عليه تلك الأحكام الثابتة شرعا للشاكّ ، لانصرافها إلى الشكّ من الأسباب المتعارفة. فمقتضى القاعدة بعد عدم جريان أحكام الشكّ عليه لزوم الإعادة ، إلّا أنّ الشارع المقدّس حكم بإلغاء كثير الشكّ في الركعات ، فلا بدّ أن يبني على الطرف

٥٩

المصحّح ، (كذا اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (١). ومقتضاه جريان قاعدة الاشتغال في مطلق كثير الشكّ حتّى إذا كانت الكثرة من جهة الوسواس ، فلو لا إلغاء الشارع كثرة الشكّ لحكم الميرزا بلزوم إحراز الفراغ حتّى من الوسواسي ، لجريان قاعدة الاشتغال في حقّه ولكن الظاهر أنّ كثرة الشكّ للوسواس لا يعتني بها العقلاء فلو لم يلغ الشارع كثرة الشكّ لكانت ملغاة أيضا ، وأنّ قاعدة الاشتغال لا تجري في حقّه ، فإنّ احتمال الفراغ يكفي في قطع الشغل له فإنّ العقل لا يحكم على الوسواسي بالصلاة عشرين مرّة ثمّ لا يحرز فراغه منها. ومن هنا يمكن أن يقال : إنّ الوسواسي غير مكلّف بالواقع حقيقة ، فافهم) (٢).

وكذا الكلام في الظنّ فلو حصل الظنّ من الأسباب الغير المتعارفة لا تشمله الأحكام الثابتة للظانّ ، بل لا بدّ من إلحاق الظنّ الغير الحاصل من الأسباب المتعارفة بالشكّ ، لعدم شمول الدليل له.

وأمّا القطع فلو اخذ في موضوع دليل فكذلك إذا حصل من أسباب غير متعارف حصول القطع منها لا تكون داخلة في ذلك الموضوع ، لكن لا فائدة في ذلك ، لأنّ القاطع لا يرى قطعه حاصلا من أسباب غير متعارفة ، بل يراه حاصلا من الأسباب المتعارفة ، هذا في القطع الموضوعي ، فكيف بالقطع الطريقي الّذي طريقيّته ذاتيّة له؟

وبالجملة ، القطع الحاصل للإنسان من أيّ سبب كان لا يمكن أن ينهى عنه ، لأنّه قطع لم يحصل من الأسباب المتعارفة ، لأنّ القاطع لا يراه حاصلا من الأسباب الغير المتعارفة ، بل يراه حاصلا من الأسباب المتعارفة ، فلا يمكن النهي عن ترتيب العمل عليه ، كما ذهب إليه بعض الأساطين (٣).

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٢ : ٦٤ ، وأجود التقريرات ٣ : ٧٥.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) نهاية الأفكار ٣ : ٤٢ ـ ٤٣.

٦٠