غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

بقي هناك في فقه حديث الرفع وفهمه أشياء ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : أنّ الرفع يقتضي أن تكون هذه الأحكام ثابتة فترفع ، وأمّا إذا لم تكن ثابتة فلا معنى للتعبير بالرفع ، بل ينبغي أن يعبّر في مثله بالدفع.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عنه بأنّ الرفع والدفع مترادفان لمعنى واحد وأنّ مؤدّى أحدهما مؤدّى للآخر ، نظير إنسان وبشر ، وذلك أنّا إن قلنا بأنّ الشيء الممكن يحتاج حدوثه إلى علّة ولكن بقاءه مستغن عن العلّة لكان بين الرفع والدفع تفاوت ، ولكنّا نرى أنّ الممكن كما يحتاج حدوثه إلى علّة يحتاج بقاؤه إلى علّة ، وحينئذ فالرافع للموجود دافع أيضا لعلّته.

وما ذكره قدس‌سره وإن كان لا محيص عن الالتزام به لكنّه لا يدفع الإيراد ، لأنّ كون حقيقتهما واحدة لا تمنع أن يكون أفراد الحقيقة الواحدة قد وضع لها لفظ لم يوضع لبقيّة الأفراد ، بل قد وضع لبقيّة الأفراد لفظ آخر ، فهو نظير حقيقة واحدة تسمّى بالليل باسم وبالنهار باسم آخر.

وبالجملة ، فالوضع أمر توقيفي يتبع به الواضع ، فلو خصّ بعض أفراد الحقيقة بلفظ وبعضها الآخر بلفظ آخر لا يمكن مخالفته بدعوى وحدة الحقيقة.

فالاولى في الجواب أن يقال : لا بدّ من التزام أحد أمرين :

فإمّا أن يقال بأنّ هذه الأحكام كانت مكتوبة على الامم السابقة ولو في بعض موارد الاضطرار وبعض موارد عدم العلم وكذا البواقي وقد رفعها الله عن هذه الامّة ، كما هو ظاهر قوله : «عن امّتي».

وإمّا أن يقال بأنّ المصالح المقتضية والداعية إلى جعل الأحكام لمّا كانت موجودة حتّى في الأحكام المجهولة الّتي لا يعلم بها المكلّف كان عدم جعل الشارع لها باعتبار كونها قريبة من الوجود لوجود مقتضياتها رفعا ، وهذا الإطلاق أيضا شائع في العرف حيث يكون المرفوع بهذا النحو ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٩٧ ، وفوائد الاصول ٣ : ٣٣٧.

٢٢١

ثمّ إنّه بعد أن ذكرنا أنّ المرفوع في حديث الرفع نفس ما لا يعلم من دون حاجة إلى تقدير علم أنّ المرفوع هو مطلق الآثار التكليفيّة والوضعيّة ، فإنّ الشرطيّة المجهولة مرفوعة بحديث الرفع ، وكذا المانعيّة وكذا غيرها من الآثار الوضعيّة.

التنبيه الثاني : أنّ المرفوع فيما لا يعلمون حيث علم أنّه رفع ظاهري ، لأنّه قد اخذ فيه الجهل بالواقع وعدم العلم به ، فلو وجد عموم أو إطلاق في دليل من الأدلّة للأشياء بعناوينها الأوّليّة فلا مجال لحديث الرفع ، لأنّ موضوعه عدم العلم وقد تبدّل عدم العلم ببركة الإطلاق أو العموم إلى العلم ، فهو وارد أو حاكم على حديث الرفع على الخلاف ، فمثلا إطلاق الخمر حرام أو عموم كلّ مسكر حرام شامل للفرد المعلوم الخمريّة أو المسكريّة المشكوك حرمته ، فلا مجال للتمسّك بحديث الرفع في جواز تناوله ، لدخوله تحت عموم الدليل أو إطلاقه فهو معلوم الحرمة ، فيكون الإطلاق أو العموم حاكما أو واردا على حديث الرفع بالنسبة إلى هذا الفرد المشكوك حكمه ، هذا قبل العمل.

وأمّا بعد العمل ، فلو شكّ مثلا في جزئيّة السورة أو شرطيّة شيء للصلاة مثلا فرفعه بحديث الرفع ثمّ وجد دليلا يدلّ على كون ذلك المشكوك جزئيّته جزءا أو المشكوك شرطيّته شرطا ، فهذا العمل السابق الخالي منهما يكون إجزاؤه مبتنيا على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي وعدمه ، لأنّ حديث الرفع إنّما يرفع ظاهرا ولا يرفع الحكم الواقعي ليكون بعد تبدّل الجهل بالعلم من قبيل ارتفاع الموضوع كأصالة الطهارة والإباحة ، هذا كلّه في «ما لا يعلمون» وقد ذكرنا أنّ الرفع فيه ظاهري.

بخلاف بقيّة المرفوعات من المضطرّ إليه والمنسيّ والمكره عليه وغيرها فإنّ الرفع فيه رفع واقعي ، فيكون معنى رفع ما اضطرّ إليه العبد إنّما هو تقييد لإطلاق الأدلّة أو تخصيص لعموم تلك الأدلّة الدالّة على أحكام الأشياء بعناوينها الأوّليّة ، فمثلا قوله :

الكذب حرام أو كلّ كذب حرام ، يقيّد أو يخصّص بالكذب المضطرّ إليه أو المكره عليه فلا يكون محرّما واقعا ، إذ معنى رفعه إنّما هو رفع حكمه الواقعي.

٢٢٢

التنبيه الثالث : أنّ الرفع بالنسبة إلى بقيّة المرفوعات ـ غير حديث الرفع ـ كما يرفع الأحكام التكليفيّة والآثار الوضعيّة لا يفرق في رفعه بين أن يكون الحكم المرفوع مرفوعا عن موضوع التكليف أو عن متعلّقه ، والمراد بموضوع التكليف ما يكون حدوثه موجدا للتكليف بنفسه مثلا قوله : من أتى أهله في نهار شهر رمضان وجبت عليه الكفّارة من أمثلة موضوع التكليف ، والمراد بمتعلّق التكليف ما توجّه الأمر به إلى المكلّف مثل صلّ.

فمثل إتيان الأهل إذا وقع مكرها عليه من جائر أو مضطرا إليه ـ لأنّ تركه يوقعه في مرض ـ أو منسيّا كون اليوم من شهر رمضان مثلا فلا أثر له من حيث وجوب الكفّارة.

وأمّا المتعلّق فتارة يكون منحلّا إلى أفراد كثيرة مثل قوله : لا تكذب ، فإنّه منحلّ إلى كلّ كذب فمثل هذا إذا اضطرّ إليه العبد يكون مرفوع الحكم كموضوع التكليف ، واخرى لا يكون منحلّا مثل قوله : أكرم عالما ، فلو اكره أو اضطر إلى ترك إكرام زيد مثلا لا يكون هذا الإكراه أو الاضطرار رافعا لوجوب الإكرام ، وذلك لأنّ الأمر توجّه نحو إكرام عالم ما ، فتعذّر بعض الأفراد لا يوجب رفع الوجوب بالنسبة إلى بقيّة الأفراد ، لأنّ حديث الرفع إنّما يرفع حكم ما تعلّق به التكليف على تقدير الاضطرار إلى تركه ، وإكرام زيد بخصوصه لم يتعلّق به التكليف حتّى يكون الإكراه أو الاضطرار رافعا لحكمه ، غاية الأمر أنّ تطبيق إكرام عالم ما الّذي كان المطلوب منه صرف الوجود لم يمكن انطباقه على زيد للإكراه أو الاضطرار إلى ترك إكرامه ، وأمّا تطبيقه على غيره فممكن فيجب. وهذا بخلاف ما كان منحلّا إلى كلّ فرد وهو ما كان المطلوب فيه إعدام الطبيعة مثل : لا تشرب الخمر ، المنحلّ إلى النهي عن كلّ شرب ، فإنّ الاضطرار فيه حيث كان لنفس ما تعلّق به التكليف رفع حكمه ، بخلاف ما نحن فيه ممّا كان المقصود صرف الوجود.

٢٢٣

ونظيره الأحكام الضمنيّة مثل أحكام الخلل في الصلاة والصوم ، مثلا لو اضطرّ إلى الكلام أو الضحك أو الاستدبار في الصلاة مثلا فإنّ مقتضى القاعدة بطلان الصلاة ولزوم الإتيان بغيرها وإن ارتفع حرمة الضحك في الصلاة حينئذ ، وذلك لأنّ المأمور به فيما بين الزوال والغروب إيجاد صرف الطبيعة للصلاة ذات الركعات الأربع مرّتين ، فعدم إمكان تطبيق المأمور به على هذا الفرد من جهة الاضطرار إلى فقد شرطه أو إيجاد مانعة لا يرفع الأمر المتوجّه إلى صرف الوجود. فيلزم حينئذ الإتيان بفرد آخر إلّا أن يدلّ دليل على عدم الإعادة مثل : لا تعاد الصلاة إلّا من خمس (١) ونحوها.

نعم ، لو كانت الصلاة المضطرّ إلى إيجاد المانع فيها ، أو إلى فقد شرطها في آخر الوقت ، أو كان المكره على الضحك مكرها عليه بالنسبة إلى جميع أفراد الصلاة ربّما يقال برفع أثر الشرط أو المانع في المقام بحديث الرفع ، فتكون الصلاة صحيحة ، لأنّ هذا المانع لا أثر له في حال الإكراه أو الاضطرار.

ولكنّ الإنصاف أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الشرطيّة أو المانعيّة برفع منشأ انتزاعها لعدم صلاحيتها للرفع والوضع مستقلّة ، فإنّا وإن قلنا بأنّ حديث رفع الاضطرار والإكراه والخطأ والنسيان رافع للأحكام التكليفيّة والوضعيّة إلّا أنّ الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل بالاستقلال يمكن رفعها بالاستقلال به كالرّقيّة والملكيّة.

وأمّا الغير القابلة للجعل مستقلّة كالشرطيّة والمانعيّة فرفعها إنّما يكون برفع منشأ انتزاعها ، ومنشأ الانتزاع إنّما هو الأمر المتوجّه إلى الصلاة المقيّدة بعدم الضحك مثلا ، فإذا رفع ذلك الأمر فلا أمر متوجّه إلى الصلاة الغير المقيّدة بعدم الضحك.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٨٣ ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

٢٢٤

وبعبارة اخرى أنّ حديث الرفع يرفع ذلك التكليف المتقيّد بعدم الضحك في حال الاضطرار ، وحينئذ فلا دليل يدلّ على وجوب صلاة غير مقيّدة بعدم الضحك فيتوقّف وجوب الصلاة الغير المشروطة بعدم الضحك على دليل يدلّ على الوجوب مثل : الصلاة لا تسقط بحال (١) وشبهه. ولهذا لو اضطرّ إلى الأكل في نهار شهر رمضان نلتزم بأنّه مقتضى القاعدة كون الإكراه على الأكل مفطرا ولكنّه ليس بحرام ، لأنّ حديث الرفع لم يتكفّل رفع الموضوع. وبعبارة اخرى حديث الرفع لم يخرج هذا المفطر عن كونه مفطرا بمجرّد الاضطرار ، وإنّما رفع حكمه وهو الحرمة.

نعم ، لو كان لسان حديث الرفع لسان : «لا ربا بين الوالد وولده» في رفع الموضوع وأنّه ليس بربا أصلا أمكن حينئذ التزام كون الأكل حينئذ غير مفطر ، ولكنّ حديث الرفع إنّما يرفع الحكم وهو الحرمة ، ولو خلّينا وحديث الرفع كان مقتضى القاعدة عدم وجوب شيء عليه حينئذ.

بقي هنا شيء ، وهو أنّ هذا الكلام لم لا يجري في حديث الرفع ل «ما لا يعلمون»؟ وكيف يرفع به الجزئيّة والشرطيّة المشكوكة ويثبت به وجوب الباقي؟ ولم لا يكون نظير رفع الاضطرار في أنّ إيجاب الباقي محتاج إلى دليل آخر؟

والجواب : أنّ حديث رفع ما لا يعلمون في صورة الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة مقرون بالعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين عشرة وتسعة مثلا وإنّما يرفع العاشر وتكون التسعة متيقّنة ، فالعلم الإجمالي بالتكليف يعيّن كون الواجب حينئذ تسعة لا حديث الرفع.

التنبيه الرابع : هو أنّ حديث الرفع بقرينة قوله فيه «عن امّتي» وبسياقه وارد في مورد الامتنان ، فلا يرفع الحكم الّذي لا يكون فيه امتنان شخصي أو نوعي ، كما أنّه

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ ، الباب الأوّل من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٥ ، وفيه : لا تدع الصلاة على حال.

٢٢٥

في غير المجهول إنّما يرفع الفعل المضطرّ إليه وحكمه الثابت له بعنوانه الأوّلي ، فلا يرفع حكم الفعل الّذي لا يكون الفعل سببا له بما أنّه فعل ، مثل ما لو نسي الإنسان فلاقى بيده النجسة الإناء ، فلا يقال إنّ الإناء لا يتنجّس ، لأنّ رفع النسيان معناه رفع حكم الفعل المنسيّ لو لا نسيانه ؛ وإنّما لا يقال ذلك لأنّ النجاسة من أثر الملاقاة الّتي هي ليست مستندة إلى فعل المكلّف ، فإنّ ملاقاة النجس دائما توجب النجاسة وإن كانت من غير فعل المكلّف ، مثل ما لو أطار الريح الثوب النجس وألقاه في الإناء أو غير ذلك. وليست النجاسة من أثر فعل المكلّف بما هو فعل مكلّف ، بل قد يكون فعل المكلّف سببا له لكنّه من باب أنّ الملاقاة حصلت به لا من باب أنّه فعل المكلّف ولذا لو حصلت الملاقاة بغيره لتنجّس أيضا.

فليس عدم التنجيس من جهة الإجماع على عدم إجراء حديث الرفع في باب الطهارة والنجاسة كما زعمه الميرزا قدس‌سره (١) بل من جهة عدم شمول حديث الرفع ، كما أنّه لا مجال لأن يقال : إنّ الإكراه على الإفطار في شهر رمضان يرفع حكم الإفطار من وجوب القضاء ، لأنّ وجوب القضاء ليس من آثار الفعل المضطرّ إليه ليرتفع بحديث الرفع ، وإنّما هو من آثار فوت الواقع المتحقّق في المقام قطعا.

نعم ، لو علّق وجوب القضاء على ترك المكلّف فلو ترك المكلّف الواجب عليه اضطرارا لم يكن وجه لوجوب القضاء عليه ، ولكنّه ليس كذلك ، فتأمّل وافهم. كما أنّ الحكم الّذي لا امتنان فيه لا يجري فيه لا يجري فيه حديث الرفع أيضا ، مثلا من اضطرّ إلى بيع داره من جهة أنّ عليه دينا أراد قضاءه فهو مضطرّ إلى بيع داره ، فلا يقال : إنّ بيعه باطل لأنّ بطلان بيعه خلاف الامتنان عليه فلا يشمله حديث الرفع. وكذا لو كان خلاف الامتنان بالنسبة إلى شخص آخر ، مثل ما لو أتلف أحد مال الغير نسيانا أو خطأ ، فرفع حكم هذا الإتلاف بحديث الرفع ينافي الامتنان على الامة ، لأنّ المضمون له منها أيضا ورفع الضمان ينافي الامتنان به.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٠٧.

٢٢٦

(والظاهر أنّ ما حكم به الفقهاء بل ادّعي فيه الإجماع على ما ذكره الشيخ في الجواهر (١) من حكم الفقهاء بضمان من أتلف مال الغير اضطرارا وعدم ضمان من أتلفه مكرها من جهة أنّ رفع ضمان المضطرّ خلاف الامتنان ، لأنّ صاحب المال المتلف أيضا من الامّة ، وهذا بخلاف المكره ، لأنّ حديث الرفع إنّما يرفع ضمانه فقط ولا يرفع الضمان عمّن أكرهه فيضمن من أكرهه المال الّذي أتلفه المتلف بإكراهه ، فشمول حديث الرفع للمكره ليس مخالفا للامتنان ، لوجود الضامن حينئذ ، وشموله للمضطرّ مخالف للامتنان لعدم الضامن) (٢) ، فافهم.

كما ظهر أيضا أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأوّلية لا الثابتة بعنوان الخطأ ـ كقتل الخطأ ـ أو النسيان كسجدتي السهو بالنسبة إلى ناسي السجدة وشبههما ، ضرورة أنّ الخطأ هنا هو سبب ثبوت هذه الأحكام فلا يكون رافعا لها ، فافهم.

كما أنّه يعلم أيضا حال الأحكام الوضعيّة ، فلو اكره المكلّف على أن ينشئ بيع داره بالفارسيّة مثلا أو اضطرّ إلى ذلك لا يقال : إنّ رفع الاضطرار أو الإكراه يقتضي صحّة البيع ، لأنّ حديث الرفع إنّما يرفع حكم المضطرّ إليه لو كان له حكم لو لا الاضطرار لا أنّه يثبت حكم غير المضطر إليه له. والحكم بالصحّة في المقام إثبات لحكم البيع بالعربيّة للبيع بالفارسية وهو لا يثبت بحديث الرفع قطعا.

(التنبيه الخامس : هل يجري «رفع ما لا يعلمون» في المستحبّات أم يختصّ بالواجبات؟ ذهب إلى كلّ قائل ، والظاهر التفصيل بين كون المشكوك مستحبّا مستقلّا فلا يجري حينئذ ، وبين كونه جزءا أو شرطا لمستحبّ فيجري : رفع ما لا يعلمون ، فيرفع الجزئيّة أو الشرطيّة المشكوكة.

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٧ : ٤٦.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٢٧

ووجهه أنّ الرفع كما قدّمنا إنّما يكون حيث يمكن وضع الاحتياط وجعله ، وحيث يشكّ في استحباب مستحبّ ، الاحتياط مستحبّ فيه قطعا ، فحديث الرفع لا يرفع استحباب الاحتياط لكونه معلوما. وهذا بخلاف الأجزاء الّتي يشكّ في كونه جزءا أو شرطا لمستحبّ فإنّ المرفوع حينئذ جزئيّتها وشرطيّتها ، إذ هي كلفة زائدة مجهولة فترفع برفع ما لا يعلمون.

نعم ، لو قلنا بأنّ المرفوع خصوص العقاب لم يجر في المستحبّات حينئذ أصلا) (١).

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ حديث الرفع تامّ الدلالة على رفع الحكم المشكوك ، بل غير المعلوم ، فيصلح أن يكون معارضا لما دلّ على الاحتياط في الأحكام المجهولة ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

[حديث الحجب]

الحديث الثاني : حديث الحجب وهو قوله : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢) بتقريب أنّ الحكم المجهول ممّا حجب علمه فيكون صغرى للكبرى الكلّية المذكورة فيه.

والاستدلال بهذه الرواية وإن كان أظهر من الاستدلال بحديث الرفع ـ لاقتصاره فيها على خصوص المجهول وعدم ذكره المضطرّ إليه والمكره عليه حتّى يستشكل بأنّ وحدة السياق بضميمة أن المرفوع في غير المجهول هو الفعل تقتضي أن يختصّ المرفوع بالفعل في المجهول أيضا فيخصّ الشبهة الموضوعيّة فهو من هذه الجهة أظهر إلّا أنّ هناك جهة اخرى تقتضي التضعيف في دلالته ، وهي إسناد الحجب إلى الله تعالى فإنّ الحكم المبحوث عنه في المقام لم يحجبه الله تعالى وإنّما حجبه الظالمون

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

٢٢٨

لأهل البيت عليهم‌السلام حقوقهم ومراكزهم فهم حجبوه عنّا ، وظاهر الخبر كون الحاجب هو الله تعالى وهو إنّما يصحّ حيث يصدر الشيء من غير إرادة أحد من الخلق كنزول المطر أو يكون عملا حسنا لا قبيحا. فيكون مساق هذه الرواية مساق : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» في أنّ المراد : أنّ الأحكام الّتي لم يشرّعها الله فعلا لمصلحة في عدم التشريع أو لمفسدة في التشريع هي موضوعة عنهم إلى أن يحين وقت تشريعها وهو زمن ظهور الحجّة عليه‌السلام عجّل الله فرجه إن شاء الله تعالى. فهي من هذه الجهة أضعف في الدلالة من حديث الرفع.

(إلّا أنّ الإنصاف أنّ إسناد الحجب إلى العلم ظاهر في أنّ جهة وضعه مجهوليّته وأنّ الحكم فعلي لو لا الجهل به ، ومساق : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» ينفي تشريع الحكم في الواقع فعلا لعدم شرطه وهو وجود الإمام. وإسناد الحجب إلى الله صحيح في تعارض الآيتين بالعموم من وجه ، وفي صورة إجمال النصّ كما في آية التيمّم (١) وكذا أخبار أهل البيت عليهم‌السلام الّذين لا ينطقون إلّا عن النبيّ الّذي لا ينطق عن الهوى صحيح ، فإنّ حجب الحكم في هذه الصور من الله. بل وكذا في صورة عدم النصّ أيضا في زمن الغيبة فإنّ غيبة الحجّة عجّل الله فرجه الشريف بأمر من الله تعالى كما في الأخبار ، فالله هو الحاجب للحكم إذ لو كان الحجّة ظاهرا لأمكن معلوميّة الحكم منه بسؤاله. فالإنصاف أنّ دلالة هذا الحديث تامّة كحديث الرفع) (٢).

نعم ، ويرد عليها ما اورد عليه من عدم إمكان استعمالها في رفع الشبهة الموضوعيّة والحكميّة لاستلزامه استعمال «ما» في معنيين.

__________________

(١) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٢٩

ويجاب عنه بما اجيب ثمّة من أنّ «ما» لم تستعمل إلّا في معنى عامّ وهو الشيء المنطبق على الشبهة الحكميّة تارة والموضوعيّة اخرى ، فالمراد من «ما» الشيء المجهول.

ولو تنزّل عن ذلك فيمكن أن يراد من «ما» الحكم المجهول ، سواء كانت جهالته من عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه أو من جهة اشتباه الامور الخارجيّة.

[حديث الحلّية]

الحديث الثالث أدلّة أصالة الإباحة وهي روايات ثلاثة :

الاولى : موثّقة مسعدة بن صدقه وهي قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» (١).

الثانية : رواية عبد الله بن سليمان وهي قوله : «كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٢).

الثالثة : صحيحة عبد الله بن سنان : «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، بتفاوت.

(٢) الوسائل ١٧ : ٩٠ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة والأشربة المباحة ، الحديث الأوّل ، بتفاوت.

(٣) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

٢٣٠

وقد أغمض الشيخ الأنصاري عن ذكر موثّقة ابن صدقة (١) في الشبهات الحكميّة ، لزعمه ظهورها في الشبهات الموضوعيّة.

لكنّ الآخوند قدس‌سره (٢) ذكرها لاشتمالها على قوله : «كلّ شيء لك حلال» وعدم اشتمال الروايتين الباقيتين عليه ، لأنّ فيهما : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» وهو ظاهر في الشبهة الموضوعيّة.

والإنصاف أنّها ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة من وجوه : بعضها مشترك بينها وبين الروايتين وهو الاشتمال على لفظة «بعينه» الظاهر بحسب الفهم العرفي في الشيء الشخصي المتعيّن. واحتمال إرادة التأكيد من لفظ «بعينه» بعيد ، لعدم موجبه.

وبعضها مختصّ بهذه الرواية ، وهو أمران :

أحدهما : التمثيل بالأمثلة المذكورة ، فإنّ لها دلالة وظهورا في كون القاعدة الكلّية المذكورة مختصّة بهذه الأمثلة المتكرّرة ممّا كانت الشبهة فيه موضوعيّة لا أقلّ من احتمال كون التمثيل قرينة ، فيكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.

الثاني : قوله «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين أو تقوم به البيّنة» فإنّ حصر الدليل بالاستبانة الّتي اريد منها العلم الوجداني والبيّنة ممّا يدلّ على إرادة الشبهة الموضوعيّة ، إذ الحكم يثبت بخبر الواحد وغيره من الأدلّة مثل الإجماع وشبهه.

ودعوى : دخوله في الاستبانة فإنّ المراد منها الأعمّ من العلم الوجداني والتعبّدي ، ينافيها ذكر البيّنة بعدها.

لا يقال : إنّ أدلّة الشبهة الموضوعيّة أيضا لا تنحصر في هذين ، فإنّ الاستصحاب الموضوعي أيضا طريق.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، مع تفاوت.

(٢) كفاية الاصول : ٣٨٨.

٢٣١

فإنّه يقال : إنّ الاستصحاب لا يجري في مثال العبد والثوب. لتقديم قاعدة اليد عليه فيهما. وفي الزوجة الّتي احتمل كونها رضيعته يجري الاستصحاب ، وكذا المحتمل كونها اخته النسبيّة بناء على استصحاب العدم الأزلي كما مرّ ، إلّا أنّ الاستصحاب في هذين الموردين على الحلّية لا الحرمة. فيكون معنى الخبر الأشياء الّتي قام دليل فيها يقتضي الحلّية ـ كقاعدة اليد والاستصحاب ـ كلّها على الحلّية لا يرفع اليد عن حلّيتها إلّا بأحد أمرين : العلم بالحرمة ، أو قيام البيّنة بها.

هذا كلّه بناء على أن يكون المراد من الحلّية الحلّية الظاهريّة الثابتة بأصالة الإباحة ويكون ذكر الأمثلة تنظيرا وتشبيها ، أي كما يحكم بالحلّية ولا يعتنى باحتمال الحرمة ببركة قاعدة اليد والاستصحاب كذلك يحكم بالحلّية ولا يعتنى باحتمال الحرمة بالتمسّك بأصالة الإباحة.

وأمّا بناء على أن يكون المراد من الحلّية الحلّية المطلقة الظاهريّة ، سواء كانت من جهة قيام أمارة أو من جهة أصالة الإباحة ، فيكون الأمثلة تمثيلا حينئذ لبعض الأفراد.

وبالجملة ، فحصر المخرج بهذين الأمرين دليل على إرادة الشبهة الموضوعيّة ، إذ الشبهة الحكميّة لا ينحصر المخرج عنها بأحد هذين ، بل لا بدّ من تخصيص الشبهة الموضوعيّة بما مثّل أيضا.

لا يقال : إنّ الشبهة الموضوعيّة ولو ممّا مثّل به يثبت بالإقرار وبحكم الحاكم ، فلا وجه للحصر فيها أيضا.

لأنّه يقال : أمّا الاعتراف فخارج عن الفرض ، لأنّ محلّ الكلام قيام أمارة على الملكيّة وهي اليد مثلا ، وأمّا حكم الحاكم فهو راجع إلى قيام البيّنة المذكورة في متن الرواية أو الاستبانة ، أي العلم إن قلنا بأنّ الحاكم يحكم بعلمه فإنّهما مستند حكم الحاكم.

٢٣٢

ويمكن أن يقال : إنّ الإقرار وحكم الحاكم داخل في قوله : «أو تقوم البيّنة» بإرادة المعنى اللغوي لها الّذي اطلقت عليه كثيرا في القرآن الكريم ، ويكون معنى الرواية : الأشياء كلّها على الحلّية الظاهرة حتّى يظهر تحريمها بنفسه أو يظهره دليل آخر فافهم وتأمّل.

وعليه فلا يكون في الرواية دلالة على عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات ، فيبقى ما دلّ على حجّية الخبر الواحد على عمومه ، فيكون الخبر الواحد حجّة في الموضوعات كما هو حجّة في الأحكام إلّا ما خرج بالدليل كما في المخاصمات.

(ويمكن أن يراد من البيّنة معناها الاصطلاحي ، ويكون وجه تخصيصها بالذكر دون بقيّة الحجج هو اطّراد قبولها في جميع الموارد حتّى ما فيه اليد ، فإنّ خبر الواحد لا يقدّم على اليد بل اليد مقدّمة عليه ، فذكر الإمام عليه‌السلام أمرا يقدّم على اليد في الثوب والعبد ويقبل في عدم الرضاع أو عدم النسب ، فذكر البيّنة بخصوصها إنّما كان لاطّراد قبولها دون غيرها من خبر الواحد وشبهه ، ولو أنّ مثل هذه الرواية من المستبعد جدّا كونها رادعة للسيرة العقلائيّة على قبوله خصوصا مع ورود عدّة إخبار في موارد متفرّقة تدلّ على قبوله ، كما في الأذان ونجاسة ثوب المصلّي وأخبار المغتسل ببقاء لمعة في جسده وفي الوصيّة.

وبالجملة ، فقد بنينا على حجّية خبر الواحد في الموضوعات كالأحكام بالسيرة إلّا ما خرج بالدليل) (١). هذا فقه الرواية.

وقد ظهر أنّ الاستدلال بها في الشبهة الحكميّة لا مجال له.

كما أنّ الاستدلال بالروايتين كذلك أيضا لأمرين :

أحدهما : اشتمالهما على كلمة «بعينه» والكلام فيها من حيث ظهورها في الشبهة الموضوعيّة كالاولى ، بل أظهر من جهة تعدية العرفان إلى الحرام لا إلى الحرمة كما في الاولى.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٣٣

الثاني : أنّ ظاهر قوله : «فيه حلال وحرام» الحلّية الفعليّة والحرمة الفعليّة ، فظاهر التقسيم الفعلي إلى الحلّية والحرمة فلا بدّ أن يكون المراد اشتباهه أنّه من أيّ الفردين أو النوعين ، وهو مختصّ بالشبهة الموضوعيّة أيضا لا أقلّ من احتمال الاختصاص ، فلا يمكن الاستدلال بها لإجمالها حينئذ ، وهو واضح.

وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من كون الشيئيّة ظاهرة في الموجود الخارجي فإذا حمل «الشيء» في : «كل شيء» عليه يدور الأمر بين كون المراد من «فيه حلال وحرام» كونه محتمل الحلّية والحرمة وبين كون المراد انقسامه إلى الحلال والحرام فعلا فيلزم الاستخدام ، لأنّ الشيء الشخصي ليس فيه حلال وحرام ، فلا بدّ من كون المنقسم الّذي يعود إليه ضمير «فيه» نوع الشيء الكلّي ، وإذا دار الأمر بين هذين الأمرين فيقدّم الأوّل على الثاني لأقربيّته ، فيرفع اليد عن التقسيم الفعلي إلى الاحتمال المذكور من الترديد (١).

لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ لفظ «الشيء» لا ظهور له في الموجود الخارجي ، بل يطلق على المعدوم بل المستحيل ، فيقال : اجتماع الضدّين شيء مستحيل ، فهو عرض عامّ قابل للانطباق على الموجود والمعدوم الكلّي والجزئي ، ولا معنى للحمل على الترديد في المقام بإرادة محتمل الحرمة والحلّية بمعنى المردّد بينهما ، لظهور «فيه حلال وحرام» في التقسيم خصوصا بضميمة قوله : «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» على ما في بعض النسخ من زيادة كلمة «منه» (٢) الظاهرة في التبعيض ، فلا محيص عن الحمل على التقسيم سواء كان المراد من الشيء الشيء الخارجي فيلزم الاستخدام بأن يكون المراد من الضمير في «فيه» الكلّي ، أو كان المراد من الشيء الكلّي المنقسم إلى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) الوسائل ١٧ : ٩٠ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة والأشربة المباحة ، الحديث الأوّل ، بتفاوت.

٢٣٤

الحلال والحرام ، مثل المائع المنقسم إلى الحلال وهو الماء ، والحرام وهو الخمر مثلا : فهو لك حلال حتّى تعرف الخمر بعينه فتدعه ، واحتمال إمكان التقسيم حتّى في الشبهة الحكميّة مثلا : اللحم فيه حلال وهو لحم الغنم ، وحرام وهو لحم الأرنب ، ومشكوك وهو لحم الحمار وإن كان ممكنا إلّا أنّ ظاهر الرواية أنّ نفس الانقسام هو الموجب للاشتباه وليس في المقام كذلك ، لأنّ حرمة لحم الأرنب وحلّية لحم الغنم لا يوجبان الاشتباه في لحم الحمار لعدم ربطهما به وإنّما هو مشتبه في نفسه.

فقد ظهر عدم إمكان الاستدلال بهذه الروايات الثلاثة على جريان البراءة في الشبهة الحكميّة ، وإنّما هي ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة الّتي ليست محلّ كلامنا مع الأخباريّين (*).

(ومن جملة الأخبار قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (١) بناء على إضافة «سعة» إلى «ما» ليكون المعنى : الناس في سعة الحكم الّذي لا يعلمونه (٢) ، فتكون معارضة لما دلّ على وجوب الاحتياط للحكم المجهول فيقع الكلام في تقديم أيّهما. أمّا إذا قرئ سعة بالتنوين (٣) فيكون المعنى : هم في سعة ما داموا لا يعلمون ، فتكون أدلّة الاحتياط حينئذ معلّمة ودليلا على التكليف حينئذ فتكون حاكمة على هذا الخبر.

__________________

(*) توجد تعليقة في هامش الأصل لم يحدّد موضعها ، ولعلّ المناسب ادراجها هنا :

ودعوى : استصحاب عدم ورود النهي في صورة الشكّ في الشبهة التحريميّة ، يدفعها أنّها أخصّ من الدعوى ، إذ من جملة الصور صورة العلم الإجمالي بورود نهي وترخيص وشكّ في التقدّم والتأخّر. ودعوى عدم القول بالفصل عهدتها على مدّعيها في أمثال المقام.

(١) غوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩ ، وانظر المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ٤.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤١.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣١٥.

٢٣٥

والظاهر هي الإضافة خلافا للميرزا النائيني حيث زعم أنّ الظاهر التنوين ، ووجه ظهورها في الإضافة أنّ «ما» المصدريّة الظرفيّة لم نعهد دخولها على غير الماضي من الأفعال. ولو فرض كونها مصدريّة في المقام فدعوى كون أخبار الاحتياط تثبت المعلوميّة غير مسلّم ، ضرورة عدم وجوبه نفسيّا. وظاهر قراءة : الناس في سعة ما داموا لم يعلموا ، عدم العلم بالواقع ، والعلم بالواقع لا يحصل بأخبار الاحتياط ، وإلّا لم يكن احتياطا وهلاكا من حيث لا يعلم كما هو صريح أخبار الاحتياط.

إلّا أنّ الّذي يوقفنا عن العمل بهذه الرواية عدم وجودها في كتب الحديث.

نعم ، في رواية السفرة ، الموجودة الّتي لا يعلم أنّها لمسلم أم مجوسي (الناس في سعة حتّى يعلموا) (١) إلّا أنّها مختصّة في الشبهة الموضوعيّة الّتي قامت الحجّة ـ وهي كونها في بلد المسلمين ـ على حلّية اللحم الموجود فيها الحاكمة على أصالة عدم التذكية فراجع الرواية يتّضح لك الحال) (٢).

ومن جملة الأخبار قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣) بتقريب أنّ الشيء المشكوك حكمه مطلق ، بمعنى أنّه غير محكوم بحكم غير الإباحة حتّى يرد فيه نهي.

وقد أشكل الميرزا النائيني (٤) عليه بأنّ «مطلق» ليس معناه جعل الإباحة له ، إذ ليس المراد من «الشيء» الشيء ، بل المراد من «الشيء» الشيء بعنوانه الأوّلي ، فيكون المعنى : كلّ شيء في الشريعة المقدّسة فهو مطلق ، أي ليس بحرام حتّى

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٧٢ ، الباب ٢٣ من أبواب اللقطة.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) الوسائل ٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٣١٧.

٢٣٦

يرد فيه نهي ، فيكون مفاده : أنّ الأصل في الأشياء الإباحة لا الحظر حتّى يثبت الدليل المحرّم فيكون الخبر أجنبيا عن محلّ الكلام.

كما أورد عليه الآخوند (١) بعد أن سلّم ظهور «الشيء» في الشيء المشكوك بأنّ المراد من الورود الصدور والوجود الواقعي لا الوصول إلى المكلّف ، فيكون مؤدّاه مؤدّى : اسكتوا عمّا سكت الله عنه.

والجواب عن إيراد الآخوند قدس‌سره بأنّ الورود وإن كان قد يستعمل في الوجود والثبوت إلّا أنّ المشهور هو استعماله في الوصول ، ولو سلّم ظهوره في الصدور فلا بدّ من إرادة الوصول منه في المقام ، لوجود القرينة الدالّة على ذلك ، والقرينة هي أنّ المراد إمّا أن يكون الحديث إنشاء للحكم بالإطلاق من الإمام عليه‌السلام أو إخبارا عن الحكم ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون الحكم المنشأ أو المخبر به الحكم الواقعي أو الحكم الظاهري ، أمّا إرادة الحكم الواقعي فلا معنى لها ، إذ المعنى حينئذ : كلّ شيء مطلق ـ أي مباح واقعا ـ حتّى يرد فيه نهي واقعي ، وهذا من الامور البديهيّة الغير المحتاجة للإخبار بها ولإنشائها ، إذ هو جعل الشيء غاية لرفع ضدّه فهو كقولك : كلّ شيء ساكن حتّى يتحرّك. وليس قوله حينئذ : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أولى من عكسه ، وهو قوله : كلّ شيء منهيّ عنه حتّى يكون مطلقا واقعا ، ومؤدّى كلتا الجملتين واحد.

فإذا لم يمكن إرادة الحكم الواقعي من الإطلاق والنهي الواقعي من النهي فلا بدّ أن تكون هذه الجملة لإنشاء الحكم الظاهري أو للإخبار عنه ، (بل الظاهر من الكلام الصادر من المعصوم أن يكون في مقام إنشاء الحكم وبيانه للسائل ليعمل لا في مقام الحكاية والإخبار عن الواقعيّات الّتي لا مساس لعمل المكلّف بها) (٢) ، والحكم الظاهري إنّما يكون للشيء المشكوك حكمه الواقعي ، إذ لا معنى للحكم الظاهري

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٨٩.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٣٧

وجعله للمعلوم حكمه الواقعي. فإذا كان المراد من «الشيء» الشيء المشكوك فلا بدّ أن يغيّا الحكم الظاهري المجعول للشيء بعنوان الشكّ برفع الشكّ وهو وصول النهي إلى المكلّف لا صدوره الواقعي ، إذ الشيء المشكوك لا يغيّا بثبوت النهي الواقعي وإن لم يصل إلى المكلّف ، فافهم.

وقد ظهر من هذا الكلام دفع إيراد الميرزا النائيني حيث زعم أنّ هذا الحكم مجعول للشيء بعنوانه الأولي لا بعنوان كونه مشكوكا فيه ، فإنّه وإن كانت ألفاظ الخبر خالية عن لفظ الشكّ إلّا أنّ عدم إمكان جعل الحكم حكما واقعيّا بما ذكرناه يعيّن كون الحكم هو الحكم الظاهري الذي قد اخذ الشكّ فيه قطعا.

وقد ظهر دلالة هذه الرواية على المقصود ، بل هي أظهر الأخبار باعتبار نصوصيّتها في الشبهة التحريميّة الّتي هي محلّ نزاعنا مع الأخباريّين كما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

هذا تمام الكلام في الاستدلال على الترخيص في الفعل حيث يحتمل التحريم ، أو في الترك حيث يحتمل الوجوب بالأخبار.

[الاستدلال بالاجماع على البراءة]

وأمّا الإجماع فتقريره من وجوه :

أحدها : أن يدّعى اتّفاق الأخباريّين والاصوليّين على قبح العقاب بلا بيان. وهذا الاتّفاق وإن كان موجودا إلّا أنّه لا يجدي ، لأنّه حكم مدركه العقل أوّلا. وثانيا أنّه ليس في محلّ الكلام ، إذ الكلام في الترخيص الشرعي لا في العقاب ، إذ رفع العقاب ليس حكما شرعيّا بالترخيص.

الثاني : أن يدّعى الاتّفاق على أنّ الحكم الشرعي فيما لم يبيّن من الأحكام هو الترخيص. وهذا الاتّفاق وإن كان حاصلا إلّا أنّه لا يجدي في دفع قول الأخباري ، لأنّه يدّعي أنّ الحكم مبيّن بأدلّة الاحتياط.

٢٣٨

الثالث : أن يدّعى الاتّفاق على أنّ الحكم الشرعي الظاهري للحكم المجهول هو الترخيص. وهذا الاتّفاق لو تمّ لنفعنا إلّا أنّه غير تامّ ، لأنّ جملة من أساطين علمائنا وهم الأخباريّون قائلون بوجوب الاحتياط في الحكم الشرعي المجهول ، إمّا مطلقا كما هو ظاهر كلام المحدّث الأسترآبادي ، أو في خصوص الشبهة التحريميّة كما هو رأي المشهور منهم ، وحينئذ فلا إجماع.

وبالجملة ، فما يجدي من الإجماع ليس بمحقّق ، وما هو محقّق لا يجدي ، فالاستدلال بإجماع لا وجه له.

[الاستدلال بدليل العقل على البراءة]

وأمّا دليل العقل فلا ريب في أنّ الحكم العقلي القطعي قائم على قبح العقاب بلا بيان ، وذلك لأنّ التكليف بما هو هو لا باعثيّة ولا زاجريّة له ، وإنّما الباعثيّة والزاجريّة من تبعات وصول التكليف. فكما أنّ الإرادة والشوق في نفس المولى ليس لهما باعثيّة وزاجريّة إلى الفعل المشتاق إليه المولى ، كذلك حكمه المجعول إن لم يصل إلى المكلّف مع فحصه وتتبّعه بمقدار طاقته لا يكون محرّكا نحو العمل أصلا ، وكذا إذا وصل إلى جماعة ولم يصل إلى آخرين يستحيل عقلا أن يكون محرّكا لمن لم يصل إليهم. ونظيره في العرفيّات كثير فإنّ الإنسان قد يموت من العطش والماء في رحله ، وقد تنهشه الأفعى المتحرّز منها إذا لم يعلم بمماسّتها لبدنه.

وبالجملة ، البعث والزجر إنّما هما نتيجة العلم بالباعث والزاجر قطعا ، فإذا كان القصور من جهة المولى في باعثيّته وزاجريّته فالعقل مستقلّ بقبح العقاب بلا بيان.

والظاهر أنّ هذا الحكم العقلي ليس محلّا للكلام عند الأخباريّين أصلا ، وإنّما يدّعون أنّ أخبار الاحتياط صالحة للبيان ، فمع وجودها يرتفع موضوع اللّابيان.

نعم ، ناقش بعض الاصوليّين في قاعدة قبح العقاب بلا بيان بأنّ هذه القاعدة إن سلّمت فهي معارضة بحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

٢٣٩

وقد أجاب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) بأنّ هذه القاعدة يعني حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل حكم نفسيّ لا احتياطي طريقي ، فلا يكون دليلا للزوم مراعاة التكاليف الواقعيّة المجهولة وإنّما هي حكم نفسي يجب العقاب على مخالفته.

وقد أشكل الآخوند (٢) عليه بأنّ وجوبه طريقي إلى الواقع لا نفسي فتقع المعارضة بينهما.

وقد أجاب الآخوند عن الإشكال بأنّه مع حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان لا يبقى احتمال الضرر أصلا.

وقد اشكل عليه بأنّ هذا فرع تقديم هذه القاعدة ، وإلّا فلو قدّم وجوب دفع الضرر المحتمل لكان بيانا حينئذ ، فلا موضوع لقبح العقاب من غير بيان فهما متعارضتان.

والإنصاف أنّ الأحكام العقليّة لا يعقل التعارض بينها ، لأدائها إلى حكم العقل بحسن العقاب وقبحه وهما متضادّان ، فكيف يحكم العقل بالحكمين المتضادّين؟ كما لا يجري التعارض في الحكمين الشرعيّين القطعيّين ، بل لا بدّ من أن يكون أحد الدليلين قاصرا سندا أو دلالة فحينئذ يقع التعارض ، وحيث لا يعقل التعارض في حكم العقل ، فلا بدّ من بيان الحاكم من هاتين القاعدتين من المحكوم.

فنقول : إنّ الضرر في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل إمّا أن يراد منه العقاب أو يراد منه الضرر الدنيوي أو يراد منه المفسدة ، فإن اريد منه العقاب ، فإمّا أن يكون الوجوب حينئذ نفسيّا أو غيريّا أو طريقيّا أو إرشاديّا.

فإن كان نفسيّا (فبأيّ دليل ثبت هذا الوجوب النفسي؟ فإنّ العقل ليس نبيّا حتّى يشرّع الأحكام ، وإنّما هو مدرك للحكم الشرعي ، فكيف أدرك وجوب دفع الضرر

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٦.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٠.

٢٤٠