غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

لفاقدها بحسب ذاته وإنّما شأن العقل إدراك الجعل الشرعي ، فحكم العقل ثبوتا ممتنع فلا مجال للبحث عن دلالة هذه المقدّمات عليه.

بقي الكلام في تماميّة المقدّمات وعدمها فنقول : إنّ المقدّمة الاولى وهي العلم الإجمالي بالتكاليف وإن كان مدركه أحد امور ثلاثة :

ـ العلم بالشريعة.

ـ والعلم بوجود تكاليف إلزاميّة على طبق الأمارات الواصلة والأخبار غثّها وسمينها حتّى أخبار أبناء العامّة كصحيح البخاري وابن مسلم وغيرهما ، فإنّا نقطع بأنّ جملة من الأمارات مطابقة للواقع ، وجملة من الأخبار أيضا صادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

ـ والعلم بوجود أخبار صحيحة في ضمن كتبنا الأربعة الموجودة في أيدينا ، لكنّ العلم الإجمالي الأوّل منحلّ بالثاني ، والثاني منحلّ بالثالث. فلو احتاط الإنسان في خصوص أطراف العلم الثالث وهو أخبار الكتب الأربعة الموجودة بين ظهرانينا ـ من الاستبصار ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب والكافي ـ ينحلّ علمه الإجمالي بوجود التكاليف ، ولا يبقى مجال لبقيّة المقدّمات. وإن قلنا بصحّتها فلا ينحصر حينئذ الطريق بالظنّ ، بل الاحتياط بخصوص الأخبار المذكورة ، إذ من المعلوم أنّ الاحتياط فيها غير مستلزم لإخلال بنظام البشر ، بل ولا لعسر أو حرج منفيّين ، وذلك معلوم لكلّ من مارس الفقه.

وبالجملة ، فلو سلّمنا صحّة بقيّة المقدّمات إلّا أنّها بعد انحلال العلم الإجمالي غير مجدية أصلا ، إذ هي فرع هذه المقدّمة ، فافهم.

وأمّا المقدّمة الثانية : وهي دعوى انسداد باب العلم والعلمي :

أمّا انسداد باب العلم الوجداني بمعظم الأحكام فهو مسلّم بحسب الظاهر ولا مرية فيه.

٢٠١

وأمّا انسداد باب العلمي فهو موقوف على عدم تسليم صحّة سند هذه الأخبار الموثوقة بنفسها أو برواتها ، أو عدم تسليم ظهور متنها لنا. وعدم تسليم ظهور المتن موقوف على ما ذكره صاحب القوانين قدس‌سره من اختصاص ظهور الأخبار بمن قصد إفهامه (١) وكون من قصد إفهامه خصوص المخاطبين بها دون الغائبين في زمن الخطاب ، والظاهر أنّ الّذي ألجأ صاحب القوانين قدس‌سره إلى القول بالانسداد وحجّية مطلق المظنّة هو التزامه بعدم حجّية ظهور هذه الأخبار لنا.

وقد ذكرنا صحّة سند هذه الأخبار بما ذكرناه : من مفهوم آية النبأ ومنطوقها ، وسيرة العقلاء ، وآية النفر والأخبار المتواترة ، والأدلّة العقليّة. كما ذكرنا أيضا حجّية ظهورها ببناء العقلاء واستمرار السيرة على القبول والعمل بها.

وما ذكره صاحب القوانين باطل ، إذ لو سلّم اختصاص من قصد إفهامه بخصوص المخاطبين فنحن لا شكّ مقصودون بالإفهام بالنسبة إلى الكليني وغيره من أرباب المجاميع ، كما أنّ الكليني أيضا مقصود بالخطاب بالنسبة إلى الراوي الّذي شافهه بالخطاب ، وهكذا حتّى تنتهي إلى الإمام عليه‌السلام وعدالة هذه الطبقات مانعة عن الإخبار بغير المسموع له من الراوي أو الإمام عليه‌السلام.

وحينئذ فالأخبار تفتح باب العلمي ، وحينئذ فينحلّ العلم الإجمالي بالتكاليف ببركة الأخبار ، ضرورة وفاء نصفها بمعظم الأحكام فضلا عنها كلّها. وحينئذ فلا نرى مانعا من إجراء الاصول في بقيّة موارد الشكّ البدوي ، لعدم استلزامه أحد المحاذير المترتّبة على الانحلال من الخروج عن الدين.

ولو فرضنا عدم وفائها بالمعلوم بالإجمال بأن كان يبقى بعد العمل بالأخبار مقدار من المعلوم الإجمالي باقيا بحاله مشتبها بين الأطراف الكثيرة فالاحتياط فيها غير ممكن ، فهو مضطرّ إلى بعض هذه الأطراف إمّا إلى فعله مع كونه طرفا لما علم إجمالا

__________________

(١) القوانين ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣ و ٢ : ١٠٣.

٢٠٢

تحريمه ، وإمّا إلى تركه مع كونه من أطراف ما علم إجمالا وجوبه ، فبناء على ما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) ـ من أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف يوجب عدم تنجيز العلم الإجمالي ـ لا يكون العلم الإجمالي بالنسبة إلى البقيّة منجّزا ، فلا مانع حينئذ من إجراء الاصول ، ولا يرد ما سنذكره في المقدّمة الثالثة من عدم جواز إجراء الاصول ؛ لأنّه في جميع الموارد يؤدّي إلى نفي الشريعة ، بخلافه فيما ذكرنا ، لأنّ المفروض أنّ الأخبار تفي بأغلب موارد الفقه وإنّما يبقى الفرد النادر.

وأمّا المقدّمة الثالثة : وهي عدم إهمال المكلّفين فهي مقدّمة مسلّمة غير قابلة للنقاش فيها أصلا ، سواء قلنا بتنجيز العلم الإجمالي أو عدم تنجيزه ، لأنّ الإهمال معناه نفي الشريعة المقطوع بفساده. فهذه المقدّمة مسلّمة حتّى عند من أنكر التنجيز للعلم الإجمالي ، وسواء قيل بأنّ الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم الإجمالي يرفع تنجيزه بالنسبة إلى بقيّة الأطراف كما عليه الآخوند قدس‌سره ، أو قلنا بعدم رفع الاضطرار التنجيز بالنسبة إلى غير المضطرّ إليه كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (٢) والنائيني (٣) قدس‌سرهما ، لأنّ القائل بذلك ـ وهو عدم التنجيز ـ يقول به حيث يكون العلم الإجمالي متعلّقا بحكم شخصي بخصوصه ، ولا يقول به حيث يكون العلم الإجمالي بالنسبة إلى جميع التكاليف بحيث إنّ عدم التنجيز فيه يكون موجبا لإلغاء الدين والشريعة.

وإن كان بين القولين فرقا من حيث إنّا إن قلنا بالتنجيز فالتنجيز بحكم العقل بمعنى إدراكه حسن العقاب على تقدير المخالفة ، وإن قلنا بعدم التنجيز فالاحتياط في المقام من اكتشاف العقل حكم الشارع بحجّية المظنّة ، لأنّه مهتمّ بالشريعة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٨.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٢٤٥.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٥٧ ، الصورة الرابعة.

٢٠٣

وأحكامها. فالعقل من اهتمام الشارع بالشريعة وعدم رضاه بإهمالها يكتشف حكمه بلزوم الاحتياط ، لأنّه لو لم يلزم بالاحتياط فمعناه أنّه يرضى بإلغاء أحكامه. وإنّما قلنا بناء على الأوّل التنجيز بحكم العقل بمعنى إدراكه حسن العقاب ، لبيان أنّ العقل ليس حاكما بمعنى كونه مشرّعا في قبال الشارع ، بل هو مدرك حكم الشارع.

وأمّا المقدّمة الرابعة : وهي عدم جواز الرجوع إلى التقليد والقرعة والاستخارة والاحتياط والاصول :

أمّا عدم جواز تقليد من يرى الانسداد لمن يرى الانفتاح فواضح ، لأنّ عمدة أدلّة التقليد إنّما هي رجوع الجاهل إلى العالم ، ومن المعلوم عدم تحقّقها في المقام ، لأنّ من يرى الانسداد يرى خطأ من يرى الانفتاح ويقطع بذلك ، ورجوعه إليه يكون عنده من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل الّذي لا تشمله أدلّة التقليد أصلا.

وأمّا عدم جواز الرجوع إلى القرعة والاستخارة وشبهها فواضح أيضا ، لأنّها ليست طرقا إلى استنباط الأحكام الشرعيّة. نعم ، هي عند بعض طرق لتشخيص الموضوعات المشتبهة كما قال بها الشيخ قدس‌سره (١) لقوله عليه‌السلام : القرعة لكلّ أمر مشتبه (٢). المعلوم كون المراد من «الأمر» الموضوع الخارجي بقرينة المقام ، مضافا إلى ضعف الرواية بحيث لم يعمل بها في مورد إلّا بعد ورود دليل آخر على القرعة بخصوص ذلك المورد.

وأمّا عدم جواز الرجوع إلى الاحتياط إذا أدّى إلى اختلال نظام العباد فلا ريب فيه قطعا ، إذ إنّ مصلحة نظام العباد أهمّ عند الشارع من كلّ شيء.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٢٥.

(٢) لم نعثر على قول المعصوم بعينه. ولكن انظر الوسائل ١٨ : ١٨٩ ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الحديث ١١ و ١٨.

٢٠٤

وأمّا إذا أدّى إلى العسر والحرج فقد ذهب الآخوند قدس‌سره (١) إلى عدم دليل يدلّ على عدم الوجوب ، وقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) إلى عدم وجوبه.

ومنشأ الخلاف بينهما هي أنّ أدلّة رفع الحرج وعدم إرادة العسر هل إنّ مفادها هو رفع الحكم الحرجي بلسان رفع موضوعه فيدور رفع الحكم مدار رفع الموضوع أم أنّ مفاده رفع الحكم الحرجي وإن لم يكن الموضوع حرجيّا؟

ذهب الآخوند قدس‌سره (٣) إلى الأوّل وزعم أنّ لسان الأدلّة لسان رفع الموضوع نظير قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» و «لا ربا بين الوالد وولده» في أنّ الحكم فيها ينفى بلسان نفي موضوعه ، فحيث لا يكون الموضوع حرجيّا لا يمكن نفي حكمه بلا وجود موضوع له.

وذهب الشيخ الأنصاري (٤) إلى أنّ المراد فيها نفي الحكم لا نفي الموضوع ، فحيث كان الحكم حرجيّا يكون منفيّا وإن لم يكن موضوع أصلا.

ويفترق القولان في جواز فسخ المغبون استنادا إلى هذه الآية الشريفة (٥) وحديث لا ضرر (٦) فبناء على رأي الآخوند (٧) لا مجال للفسخ ، لعدم وجود موضوع ضرري حرجي حتّى يرفع حكمه بلسان نفيه نفسه ، إذ ليس إلّا لزوم العقد وليس موضوعا ضرريّا حرجيّا ، وإنّما هو حكم من الأحكام فلا تنفيه الآية ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٧.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٤٠٣.

(٣) كفاية الاصول : ٣٥٨.

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٠.

(٥) البقرة : ١٨٨.

(٦) الوسائل ١٧ : ٣٧٦ ، الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١٠.

(٧) حاشية كتاب المكاسب للآخوند : ١٨٣.

٢٠٥

بخلاف ما إذا قلنا بقول الشيخ قدس‌سره (١) فإنّ الفسخ استنادا إلى دليل رفع الحرج والضرر ممكن لنفيهما الحكم أوّلا بلا لحاظ لموضوعه.

وقد زعم الآخوند قدس‌سره (٢) في المقام أيضا عدم جريان القاعدة ـ وهي قاعدة رفع العسر والحرج ـ بدعوى أنّ الحكم الشرعي في المقام ليس حرجيّا ، لأنّه لو اطّلع العبد عليه لم يكن حرجيّا قطعا ، وإنّما نشأ الحرج من ضمّ بقيّة الأطراف المشتبهة إليه فالاحتياط حرجيّ ، والاحتياط إنّما هو بحكم العقل فالموضوع الشرعي الّذي له الحكم ليس حرجيّا حتّى يرفع برفع حكمه ، خلافا للشيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) فإنّه حكم بجريان القاعدة بدعوى أنّ منشأ الحرج في المقام هو الحكم الشرعي ، فإنّه لو رفع الشارع المقدّس يده عن الأحكام المعلومة له لم يحكم العقل بوجوب الاحتياط ، فمنشأ حكم العقل بوجوب الاحتياط إنّما هو الحكم الشرعي فيرفع إذا كان حرجيّا.

والظاهر جواز التمسّك بالقاعدة في المقام وإن قلنا بمقالة الآخوند قدس‌سره وذلك لأنّ الاحتياط ليس أمرا دفعيّا حتّى يقال إنّه حرجيّ ، بل إنّه أمر تدريجي ، وحينئذ فلو كان أطراف الاحتياط مائة طرف مثلا فليس انضمامها انضماما فعليّا ، بل إنّ الإنسان مثلا يأتي بالفرد الأوّل وليس حرجيّا ويأتي بالفرد الثاني أيضا وهكذا حتّى ينتهي إلى أربعين مثلا ثمّ يكون الإتيان ببقيّة الأفراد حرجيّا فهو يعلم بعدم وجوب إتيان الباقي ، لأنّ الواجب إن كان فيما جاء به فلا يجب الباقي لعدم وجوبه ، وإن كان الواجب فيما بقي فهو موضوع حرجي والحكم فيه مرفوع ابتداء أو برفع موضوعه على القولين.

__________________

(١) المكاسب ٥ : ١٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٣٥٨.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٠.

٢٠٦

وبالجملة ، فمتعلّق التكليف لو كان في الباقي لكان حرجيّا قطعا فيرفع حكمه على أحد النحوين ، وكأنّ الآخوند قدس‌سره تخيّل أنّ الانضمام أمر دفعي فرأى أنّ الحكم بالانضمام للأطراف الّذي هو الاحتياط حرجي وهو بحكم العقل ، فافهم وتأمّل فإنّه دقيق ونافع في كثير من الموارد ، هذا كلّه بالنسبة إلى الاحتياط الكلّي.

وأمّا التبعيض في الاحتياط فقد ادّعي الإجماع على عدم وجوبه (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ مبحث الانسداد من المباحث المستحدثة فكيف يمكن دعوى الإجماع في خصوص هذه المقدّمة؟ على أنّه لو سلّم فهو تقييدي ، لأنّه من جهة اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادات. نعم الاحتياط الكلّي غير واجب لا التبعيض في الاحتياط كما هو محلّ البحث والفرض ، فالإنصاف أنّه لو تمّت مقدّمات الانسداد لما كشفت عن حجّية الظنّ ، لأنّه مبنيّ على عدم جواز الاحتياط أو عدم وجوبه حتّى في بعض الموارد ، وقد ذكرنا أنّه لا دليل عليه فيتعيّن العمل بنحو التبعيض في الاحتياط.

وما قيل من أنّا إن لم نقطع بتحقّق الإجماع على عدم جواز العمل بالاحتياط فلا أقلّ من حصول الظنّ بقيام الإجماع ، وسيأتي أنّ الظنّ بناء على حجّيته لا يفرق فيه بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بطريقه.

لا يخفى ما فيه ، أمّا أوّلا : فلأنّا نمنع الظنّ بالإجماع ، لما ذكرنا من أنّ هذا المبحث من المباحث المستحدثة فكيف يظنّ بالإجماع على مقدّمة من مقدّماته؟

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا حصول الظنّ لكن أيّ دليل دلّ على حجّية خصوص هذا الظنّ؟ إذ الكلام بعد في حجّية الظنّ فكيف يحتجّ عليه بالظنّ؟ وما ذكر من عدم الفرق بين تعلّق الظنّ بالحكم وتعلّقه بطريقه مسلّم ، ولكنّه بعد تماميّة المقدّمات لا قبلها كما في محل الكلام.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٠٣ ، كفاية الاصول : ٣٥٧.

٢٠٧

وأمّا الاصول فما كان منها مثبتا فإن كان قاعدة الاشتغال ـ كما في أطراف العلم الإجمالي ـ فلا ريب في جواز الاحتياط فيها ، كما إذا شك في أنّ الواجب عليه هو القصر أو الإتمام فلا ريب في جواز الجمع. وإن كان نظير الاستصحاب المثبت للتكليف ، فإن قلنا بجواز جريانه في المقام ونظائره ممّا يعلم إجمالا انتقاض الحالة السابقة في بعض أفراده إذ المخالفة القطعيّة هي الموجبة لعدم جريان الاصول الاحتماليّة كما عليه الآخوند قدس‌سره (١) فلا ريب في إجرائه ، وإن قلنا بمقالة الشيخ الأنصاري (٢) والميرزا النائيني قدس‌سره (٣) فلا يجري الاستصحاب.

وما ذكره الآخوند قدس‌سره (٤) من جريان الاستصحاب حتّى إذا قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لعدم الشكّ الفعلي بالنسبة إلى جميع موارد الاستصحاب ، إذ جريان الاستصحاب في الأحكام تدريجي فلا يقين وشكّ بالنسبة إلى الوقائع الّتي ليست هي محلّا للابتلاء.

لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّه وإن كان ما ذكره صحيحا من تدريجيّة مواردها إلّا أنّ المجتهد بعد تمام رسالته العمليّة يعلم إجمالا بوجود أحكام فيها مخالفة للأحكام الواقعيّة فكيف يعطيها للعمل بها مع مخالفة بعضها ـ وهي بعض موارد الاستصحاب ـ فيها للواقع؟

وأمّا الاصول النافية فإن كانت الاصول المثبتة فيها وافية بالأحكام الإلزاميّة المعلومة في الشريعة المقدّسة فلا مانع من التمسّك بالاصول النافية ، لأنّ مواردها حينئذ مشكوكة بالشكّ البدوي ، وإن لم تف بأن بقي لنا علم إجمالي بوجود جملة لا يستهان بها من التكاليف الإلزاميّة في موارد الاصول النافية فالحكم فيها هو الاحتياط.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٠ و ٣٥٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٤١٠.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٩٠.

(٤) كفاية الاصول : ٣٥٩.

٢٠٨

وحيث إنّ الاحتياط الكلّيّ غير جائز أو غير واجب لإخلاله بالنظام أو لأدائه إلى العسر والحرج ، فإن قلنا بأنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف يوجب رفع تنجيز العلم الإجمالي فلا يجب ملاحظة الباقي من أطراف العلم الإجمالي فلا مانع من التمسّك بالاصول النافية ، لعدم حرمة المخالفة القطعيّة. وإن قلنا بأنّ الاضطرار إلى واحد أو أكثر لا بعينه من أطراف العلم الإجمالي لا يرفع وجوب الامتثال إلّا إلى خصوص المضطرّ إليه فيجب حينئذ التبعيض في الاحتياط.

وبالجملة ، فمقدّمات الانسداد لا تنتج الحكومة لاستحالتها كما ذكرنا ، ولا الكشف لابتنائه على بطلان الاحتياط حتّى في بعض الأطراف من جهة الإجماع ، وقد أبطلنا هذا بإنكار الإجماع. فلا مانع عن التمسّك بالاحتياط في بعض الأطراف بمعنى التبعيض في الاحتياط ، ومع إمكان التبعيض في الاحتياط لا يكتشف العقل جعل الشارع لحجّية الظنّ ، لأنّ التبعيض في الاحتياط طريق أيضا ، فليس تكليف الشارع لو لا جعل حجّية الظنّ تكليفا بالمحال حتّى يكتشف العقل جعل حجّة شرعيّة.

وبالجملة ، فمقدّمات الانسداد تنتج حجّية الظنّ مطلقا.

ومن هذا الكلام ظهر أنّ لا مجال للبحث عن أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد مهملة أو كلّية ، لأنّ الكلام في ذلك فرع إنتاجها المعلوم عدمه في المقام. كما ظهر أن لا مجال للبحث عن تقديم الظنّ المانع أو الظنّ الممنوع حيث يقوم الظنّ على حكم ويقوم ظنّ على عدم حجّية ذلك الظنّ ، لأنّ الظنّ القائم والمانع عنه كلاهما لا دليل على حجّيتهما.

كما ظهر أنّ العويصة المذكورة في كيفيّة إخراج الظنّ القياسي عن حجّية مطلق الظنّ (١) لا مجال لها في المقام ، لابتنائها على إنتاج مقدّمات الانسداد حجّية الظنّ بنحو الحكومة ، فيشكل بأنّ الحكم في المقام بحجّية الظنّ عقليّ ، والحكم العقلي غير قابل للتخصيص ، لأنّ العقل لا يحكم إلّا مع وجود الملاك في جميع الأفراد ،

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥١٦.

٢٠٩

وذلك لأنّا قد برهنّا على عدم إنتاج مقدّمات الانسداد كلّية ، فضلا عن كون الإنتاج بنحو الكشف أو الحكومة فلا حكم في المقام فضلا عن كونه عقليّا غير قابل للتخصيص.

(بقي هنا شيء هو أنّه لو قلنا بتماميّة دليل الانسداد وإفادته حجّية مطلق الظنّ فهل يختصّ بفروع الدين أم يشمل الاصول الاعتقاديّة؟

أمّا الامور المطلوب فيها العلم بنحو الصفتيّة ليخرج به من الظلمات إلى النور كمعرفة الصانع وتوحيده ومعرفة رسوله والأئمّة ، فلا يكفي فيها الظنّ وإن كان خاصّا ، لعدم حصول صفة العلم به ، فإذا لم يكن له طريق إلى العلم بذلك لم ينجّزه الظنّ ، فإن كان فقد الطريق إلى العلم راجعا إلى اختياره كان مقصّرا ومعاقبا وإلّا فلا عقاب عليه لقصوره.

ودعوى استحقاقه العقاب لرجوعه إلى الشقاوة الذاتيّة والذاتي لا يعلّل (١) غير تامّ ، لقبح العقاب على ما ليس بالاختيار.

وأمّا الامور المطلوب فيها عقد القلب كالاعتقاد بالجنّة والنار فيفرق فيها بين الظنّ الخاصّ فهو حجّة ويجوز التعويل عليه ، وبين الظنّ الانسدادي فليس بحجّة ، لعدم تماميّة مقدّمات الانسداد ، لإمكان الاحتياط بعقد القلب على ما هو الواقع وليس فيه عسر وحرج فضلا عن اختلال النظام وعدم الإمكان.

وأمّا الامور الأخر مثل كون الملك الفلاني له خمسون ألف جناح والملك الفلاني كان في زمن النبيّ الفلاني فهل يكون الخبر الموثّق حجّة فيه أم لا؟ الظاهر هو التفصيل بين جعل معنى الحجّية اعتبار ما ليس بعلم علما فتكون الحجّية مجعولة لها وأثرها جواز الإخبار بمؤدّاها للمخاطب ، وجعل الحجّية هو التنجيز والإعذار فلا ، إذ لا واقع في المقام حتّى ينجّزه عند الإصابة أو يوجب العذر عند الخطأ) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠١.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢١٠

مبحث البراءة

قد ذكرنا أنّ الاصول على أقسام أربعة :

الأوّل : مباحث إثبات بما هي ألفاظ ، سواء كانت في الأحكام أم في غيرها كمباحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص.

الثاني : ما يبحث فيه عن مقتضيات الأحكام ولوازمها ، شرعيّة كانت أم عقليّة مدلولة للألفاظ أم لغيرها كالإجماع ، وتسمّى بالمباحث العقليّة كالبحث عن الملازمة بين الواجب ومقدّمته وهو بحث عقلي لا لفظي ، كما ذكره صاحب المعالم (١) زاعما كونه من مباحث إثبات حيث استدلّ على نفي الوجوب بنفي الدلالات الثلاث.

الثالث : ما يبحث فيه عن الأدلّة الشرعيّة الدالّة على [أحكام] الأشياء بعناوينها الأوّليّة كخبر الواحد والإجماع ، وتسمّى بالأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّ الحكم المأخوذ في تعريف الاجتهاد هو الحكم الواقعي. ولذا اكتفى فيه بالظنّ فقيل استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ، ولو كان المراد منه الحكم الظاهري لاعتبر فيه العلم.

الرابع : ما يبحث فيه عن الدليل الشرعي حال الشكّ في الحكم الشرعي الواقعي وهي الأدلّة الفقاهتيّة ، لأنّ الحكم المأخوذ في تعريف الفقه هو الحكم

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين في الاصول : ٦٢.

٢١١

الظاهري والواقعي. ولذا عرّف بأنّه العلم بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها ، ولو كان المراد من الحكم خصوص الواقعي لاكتفى فيه بالظنّ ، ضرورة قلّة حصول العلم بالحكم الواقعي.

وقد تقدّم الكلام في هذه الامور الثلاثة ، ويقع الكلام الآن في الرابع وهو الاصول العمليّة الأربعة ، إذ الشكّ إمّا أن تلحظ فيه الحالة السابقة فالاستصحاب ، وإلّا فإن كان الشكّ في التكليف فالبراءة ، وإن كان في المكلّف به وأمكن الاحتياط فهو ، وإن لم يمكن كما إذا دار بين المحذورين فالتخيير.

وأمّا قاعدة الطهارة فعدم ذكرها لكونها من الامور المتسالم عليها. وعدم جريانها في جميع أبواب الفقه لا يصلح سببا لعدم ذكرها ، لأنّ كثيرا من المباحث الاصوليّة لا تأتي في جميع أبواب الفقه ككون النهي عن العبادات هل يقتضي فسادها أم لا؟ فإنّها لا تجري في غير العبادات.

وكون الطهارة والنجاسة من الامور الواقعيّة والشكّ فيها شكّ في المصداق وليس وظيفة الشارع.

لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ الطهارة والنجاسة من الامور الّتي يدقّ فيها باب الشارع فالشبهة حكميّة ، إذ المصداقيّة ما يكون المرجع فيه أهل العرف.

فقد ظهر أنّ المناسب ذكر أصالة الطهارة أيضا ، وإنّما لم يذكرها الأصحاب ، لكونها مسلّمة عند الكلّ (١).

وكلامنا الآن في أصل البراءة الّذي هو أوّل الاصول العمليّة ، وقد ذكر الشيخ الأنصاري (٢) مسائل البراءة في ثمان مسائل ، لأنّ الشبهة قد تكون وجوبيّة وقد تكون تحريميّة ، وعلى كلا التقديرين فقد تكون لعدم النصّ أو لإجماله أو لتعارض

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٨٤.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ١٨.

٢١٢

النصّين أو من جهة الشبهة المصداقيّة. وإنّما فرّق بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة ، لأنّ الأخباريّين يقولون بالاحتياط في الثانية دون الاولى ولاختصاص بعض أدلّة البراءة بها كقوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١) كما أنّ بعض أخبار الاحتياط مختصّ بها أيضا (٢).

ولكن لا يخفى أنّ الشبهة المصداقيّة ليست من عمل الاصولي البحث عنها ، لأنّه يبحث عن القواعد الكلّية. ولذا حذفها الآخوند قدس‌سره (٣) كما حذف صورة تعارض النصّين ، لأنّ المرجع في صورة تعارض النصّين الترجيح أو التخيير فلا مجال للبراءة ، لوجود الحجّة المعتبرة وذكر بقيّة المسائل في مسألة واحدة. ولا يخفى أنّ حذف الشبهة المصداقيّة بمحلّه ، ولكن حذف صورة تعارض الدليلين لم يكن بمحلّه ، لأنّ الدليلين قد يكونان خبرين فالتخيير ، وقد يكونان غيرهما فالتساقط وخروج الخبرين المتعارضين عن مقتضى القاعدة للنصوص الواردة بالخصوص فيهما ، فافهم.

فصل

إنّ التكليف إذا دار بين الوجوب وغير التحريم أو بين الحرمة وغير الوجوب فهل مقتضى القاعدة فيها التمسّك بالبراءة في كلا الموردين كما هو مبنى الاصوليّين (٤) أو أنّه في الشبهة الوجوبيّة تجري البراءة وفي الشبهة التحريميّة يجري الاحتياط

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١ ، و ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، و ١٢٢ : ٣٧.

(٣) كفاية الاصول : ٣٨٥ ، في الهامش.

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٢٠.

٢١٣

كما هو المحكيّ عن الأخباريّين (١)؟ وإن لاح من كلام المحدّث الأسترآبادي (٢) جريان الاحتياط في كلا الشبهتين إلّا أنّ المعروف المنسوب إليهم هو التفصيل بين الشبهة الوجوبيّة فالبراءة بالإجماع ، والتحريميّة فالاحتياط عند الأخباريّين ، والبراءة عند الاصوليّين.

[الاستدلال بالكتاب على البراءة]

ويقع الكلام الآن في أدلّة الاصوليّين في إجراء البراءة ، وقد استدلّوا بأدلّة كثيرة ، فمن الآيات الكتابيّة قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(٣) وقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٤) وقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)(٥) وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٦).

وقد زعم الآخوند قدس‌سره (٧) أظهرية هذه الآية من غيرها في الدلالة على المقصود بناء على أنّ المراد من الرسول إنّما هو إتمام الحجّة والبيان ، إذ لو لا البيان من الرسول لم يكن بعثه مجديا ، فيكون دلالته على المورد من باب انطباق الكبرى الكلّية على صغراها.

__________________

(١) الحاكي هو الوحيد البهبهاني ، الفوائد الحائريّة : ١٠٥ ، وانظر الفصول : ٣٥٢.

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٣٩.

(٣) التوبة : ١١٥.

(٤) الأنفال : ٤٢.

(٥) الأنعام : ١١٩.

(٦) الإسراء : ١٥.

(٧) كفاية الاصول : ٣٨٥.

٢١٤

وقد اشكل على هذه الآية بإيرادين :

أحدهما (١) : أنّ هذه الآية في مقام الإخبار عن عذاب الامم السابقة الّتي عذّبت بعصيانها الرسول المبعوث إليهم ، فهي في مقام الإخبار عن العذاب الدنيوي السابق لا الاخروي اللاحق الّذي هو محلّ كلامنا.

والجواب : أوّلا : أنّ نفي العذاب الدنيوي عند عدم بعث الرسل يقتضي بالأولويّة نفي العذاب الاخروي.

وثانيا : أنّ هذا التركيب وهو قول : (ما كان) (وما كنّا) غالبا يستعمل في مقام بيان نفي ما لا ينبغي صدوره مثل قوله : ما كان زيد ليفعل كذا ، بمعنى أنّ هذا العمل لا ينبغي صدوره منه ، وأنّه لا يعدّ صدوره منه جميلا ، وهذا التركيب شايع الاستعمال في هذا المعنى جدّا (فكنّا) منسلخة عن الماضويّة.

وبهذا التقرير ظهر الجواب عن الإيراد الثاني ، وهو أنّ المنفيّ في الآية المباركة نفي فعليّة العذاب لا نفى استحقاقه والمدّعى هو الثاني لا الأوّل ، وذلك لأنّ الآية بحسب الظاهر في مقام بيان أنّ هذا لا ينبغي صدوره منّا لا في مقام نفي حتّى يورد بما ذكر.

ولا حاجة إلى أن يجاب عن هذا الإيراد الثاني كما أجاب العلّامة الأنصاري (٢) بأنّ نفي فعليّة العذاب يكفي في المقام ، لأنّ الأخباريّين يقولون إنّ العذاب والهلكة فعلا موجود ليورد عليه الآخوند قدس‌سره (٣) بأنّ الاستدلال جدلي حينئذ ، إذ الاصولي بما ذا يستند في إجراء البراءة ، والمفروض أنّ المنفيّ فعليّة العذاب لا استحقاقه.

وثانيا : أنّ المحتمل تحريمه ليس بأعظم ممّا علم تحريمه ، مع أنّ ما علم تحريمه قد لا يعذّب الشارع عليه منّة منه تعالى على عباده.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٨٥.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) كفاية الاصول : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

٢١٥

وكيف كان ، فهذه الآية الشريفة لا تكاد تجدي في قبال الأخباري كنظائرها ، لأنّ الأخباري يزعم أنّ هناك رسولا وبيانا وبيّنة ، وهي عبارة عن العلم الإجمالي بالتكاليف والأخبار الآمرة بالاحتياط.

أمّا العلم الإجمالي فسيأتي الكلام في تنجيزه وعدمه عند سطر أدلّتهم إن شاء الله.

[الاستدلال بالأخبار على البراءة]

وأمّا الأخبار فالكلام فيها يكون في ناحيتين :

الاولى : ناحية دلالتها وأنّها أوامر مولويّة لا إرشاديّة.

الثانية : أنّها لها معارض من الأخبار والآيات أم ليس لها معارض.

أمّا الناحية الاولى فسيأتي الكلام عليها أيضا.

وأمّا الناحية الثانية فيتكلّم فيها الآن.

[حديث الرفع]

فمن الأخبار المعارضة لأدلّة الاحتياط حديث الرفع وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه ... إلى آخره» (١).

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث على إجراء البراءة في الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة هو أن يقال : كما أنّ الحكم الواقعي بيد الشارع رفعه ووضعه ، فله أن يقول : حرّمت الخمر مثلا ، وأن يقول : الخلّ ليس بحرام مثلا ، فكذلك الحكم الظاهري بيد الشارع رفعه ووضعه فله أن يضع الحكم الشرعي في صورة الشكّ بالحكم الواقعي بايجاب الاحتياط ، وله أن يرفعه.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، باب جملة ممّا عفي عنه ، الحديث الأوّل.

٢١٦

ولا يخفى أنّ قوله : «رفع ما لا يعلمون» معناه أنّ الحكم الظاهري في صورة الشكّ في الحكم الواقعي هو رفع الحكم الملازم للترخيص ، وحينئذ فيكون شرب التتن مرخّصا فيه ، وحينئذ فيكون الفعل الخارجي لمحتمل التحريم في الشبهة التحريميّة والترك الخارجي لمحتمل الوجوب مستندا إلى ترخيص الشارع المقدّس ، فيكون نظير الشبهة الموضوعيّة كالمشتبه كونه طاهرا أو نجسا أو حلالا أو حراما في جواز تناوله استنادا إلى قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (١) و «كل شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) وغيرها.

فكما لم يستشكل أحد في الشبهات الموضوعيّة في جواز التناول لوجود الترخيص من قبل الشارع المقدّس ، فكذا هنا لوجود الترخيص وهو قوله : «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» فالمرفوع فيها هو الحكم المجهول ، وإذا رفع حكمه فمعناه أنّه مرخّص من قبل الشارع في فعله وتركه ، وإذا رخّص الشارع في شيء فكيف يعاقب عليه أو على تركه؟ لكنّ الكلام كلّ الكلام في أنّ «ما» الموجودة في الحديث ، المراد بها هل هو الحكم وحينئذ فيتمّ الاستدلال ، أو أنّ المراد منها الفعل الخارجي؟ فيكون معناها حينئذ رفع حكم الفعل الخارجي المجهول ، فتكون حينئذ مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ، ويكون المعنى أنّ شرب الخمر المجهول كونه شرب خمر رفع حكمه ، وحينئذ فلا تكون دليلا على الشبهات الحكميّة الّذي هو محلّ البحث. وقد ذكروا لكون المراد من (ما) الفعل المجهول نفسه وجوها :

الأوّل : السياق فإنّ «ما استكرهوا عليه» هو الفعل الخارجي و «ما اضطرّوا إليه» أيضا هو الفعل الخارجي و «ما لا يطيقون» كذلك أيضا ، فوحدة السياق تقتضي أن يكون «ما لا يعلمون» مثلها في المراد من «ما».

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، مع تفاوت.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ، وفيه : «كلّ شيء نظيف ...».

٢١٧

والجواب : أنّ (ما) لم تستعمل في هذه الموارد في الفعل الخارجي حتّى تقتضي وحدة السياق كون المراد الفعل الخارجي ، وإنّما استعملت في معنى عامّ في جميع هذه الموارد وهو «الشيء» غاية ما هناك أنّ الشيء قد انطبق في الأمثلة المتقدّمة على الفعل الخارجي ، وأمّا في حديث الرفع فقد انطبق على «الحكم» فمعناه واحد ، ووحدة السياق لا تقتضي أكثر من وحدة المعنى ، أمّا وحدة المنطبق عليه المعنى فلا ، فافهم.

الثاني : أنّ الرفع بالنسبة إلى الفعل نفسه مجازي بلحاظ حكمه وبالنسبة إلى الحكم نفسه حقيقي ، واختلاف المرفوعات في ذلك وإن كان غير ضائر لوجود القرينة في المجازي منها إلّا أنّ قوله : «رفع عن امّتي تسعة» إسناد واحد ، والمذكورات بدل عن لفظ «تسعة» أو عطف بيان ، فإن كان المرفوع «الحكم» في «ما لا يعلمون» لزم أن يكون إسناد «رفع عن امّتي تسعة» إسنادا حقيقيّا ومجازيّا ، وأمّا إذا كان المرفوع «الفعل» لا يلزم إلّا الإسناد المجازي الواحد ، فرفع الحكم في «ما لا يعلمون» يستلزم أن يكون الإسناد الواحد في قوله : «رفع تسعة» حقيقيّا ومجازيّا وهو محال.

والجواب من جهتين :

الاولى : أنّ الرفع في الجميع حقيقي ، وذلك لأنّ الرفع لو اريد به الرفع التكويني لكان لما ذكر وجه إلّا أنّ المراد منه الرفع التشريعي ، والرفع التشريعي للفعل ليس إلّا بمعنى عدم اعتبار الشارع له على رقبة المكلّف وترخيصه للمكلّف في تركه في الشبهة الوجوبيّة ، وعدم جعل تركه على رقبة المكلّف وترخيصه له في فعله في الشبهة التحريميّة ، فليس في رفع «تسعة» إسناد مجازي أصلا ، بل هو حقيقي في الجميع.

الثانية : لو سلّم ما ذكر من كون الإسناد حقيقيّا بالنسبة إلى بعض ومجازيّا بالنسبة إلى البعض الآخر والمجموع بدل من «تسعة» فهذا لا يستلزم إلّا أن يكون

٢١٨

الإسناد إلى «التسعة» مجازيّا لكون العبرة بالإسناد اللفظي لا بالتحليل العقلي. ولا ريب أنّ إسناد «الرفع» إلى المجموع إسناد مجازي ، لأنّ إسناد «الرفع» إلى المجموع بما هو مجموع إسناد إلى ما ليس له ، لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين والمركّب من الداخل والخارج خارج ، فافهم.

الثالث : أنّ «الرفع» معناه رفع الشيء الّذي فيه ثقل ، و «الحكم» لا ثقل فيه ، وإنّما الفعل هو ذو الثقل ، فلا معنى لرفع الحكم ، لأنّ الحكم هو المثقل الموجب للثقل في الفعل والموجب للكلفة فيه ، ومن ثمّ سمّي تكليفا فلا بدّ أن يراد منه رفع الفعل.

والجواب : أنّ الرفع كما يكون بالنسبة إلى الفعل يكون بالنسبة إلى سببه ومسبّبه ، ومن ثمّ قيل كما في الخبر : «رفع القلم عن الجاهل حتّى يبلغ» (١) فهذا رفع بالنسبة إلى السبب ، وقد يقال : رفعت المؤاخذة عن الفعل الفلاني الّتي هي المسبّب ، فالرفع كما يسند إلى الفعل الثقيل يسند إلى سبب الثقل ومسبّبه ، فافهم.

الرابع : أنّ الرفع والوضع من الامور الّتي بينها تقابل العدم والملكة ، فهما يتواردان على مورد واحد ، ومعلوم أنّ الوضع هو الجعل لغة (٢) كما قدّمناه ، والمراد من الوضع في التكاليف الجعل في الكلفة وفي ذمة المكلّف ، فالرفع أيضا عن ذمّة المكلّف ، ومعلوم أنّ القابل لأن يوضع ويرفع عن ذمّة المكلّف إنّما هو الفعل الخارجي. وأمّا الحكم فلا معنى لجعله ولرفعه عن ذمّة المكلّف.

والجواب : أنّ الموضوع تارة يكون ظرفه هو ذمّة المكلّف ، فيكون الكلام كما ذكر في أنّه لا معنى له إلّا أن يكون المرفوع الفعل. واخرى يكون ظرفه الشرع والشريعة وحينئذ فلا يكون المرفوع والموضوع في الشريعة إلّا الأحكام ، إذ لا معنى لكون الفعل الخارجي موضوعا أو مرفوعا في الشريعة المقدّسة ، إذ الشريعة عبارة عن جعل الأحكام ، ومعلوم أنّ الحديث ظاهر في كون الرفع في الإسلام والشريعة.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، باب جملة ممّا عفي عنه ، الحديث الأوّل.

(٢) المنجد : ٩٠٥. «وضع».

٢١٩

الخامس : أنّ حديث الرفع لا إشكال في شموله للشبهة الموضوعيّة باعتراف الجميع (١) فلو كان مع ذلك شاملا للشبهة الحكميّة لزم استعمال لفظة (ما) في معنيين (الموضوع) و (الحكم) وهو باطل أو خلاف الظاهر.

والجواب أوّلا : أنّ لفظة (ما) مستعملة في الشيء الشامل بحسب وضعه اللغوي للحكم والموضوع ، فلا يكون إرادة الموضوع والحكم منه إرادة لمعنيين ، بل لمعنى واحد وهو الشيء ، غاية الأمر أنّ انطباقه تارة يكون على الموضوع واخرى على الحكم.

وثانيا : لو سلمنا أنّ (ما) تستعمل في معنيين لو اريد بها الشبهة الموضوعيّة والحكميّة فليكن المرفوع في الموردين الحكم فيكون معنى «رفع ما لا يعلمون» أي الحكم الّذي لا يعلمون ، غاية الأمر أنّ سبب عدم العلم تارة يكون عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه ، واخرى يكون الاشتباه في الأشياء الخارجيّة ، فلا يكون شمول الحديث للشبهة الموضوعيّة والحكميّة موجبا لاستعمال (ما) في معنيين ، بل تستعمل في الحكم ، فافهم.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ حديث الرفع رافع للحكم المجهول في ظرف جهله وليس مختصّا بالشبهات الموضوعيّة كما ذكر ، فيكون حينئذ معارضا لما دلّ على الاحتياط للحكم في ظرف جهله والشكّ فيه.

لا يقال : إنّ حديث الرفع يرفع ما لا يعلم من الأحكام ، ووجوب الاحتياط بناء على استفادته من الأدلّة الدالّة على الاحتياط يكون معلوما وخارجا ممّا لم يعلم.

فإنّه يقال : نعم ، لو كان الاحتياط واجبا لنفسه ، أمّا لو كان وجوبه من جهة إدراك الحكم المجهول فيكون وجوبه طريقيّا فيستفاد منه لزوم الامتثال للحكم المجهول ، وحديث الرفع يرفع اللزوم ، فيقع حينئذ بينهما التعارض.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، كفاية الاصول : ٣٨٧ ، فرائد الاصول ٢ : ٢٨.

٢٢٠