غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

ومسوّغ للتيمّم كالأخبار الواردة في خائف العطش (١) والخوف على النفس (٢) والخوف من قلّة الماء (٣) وغيرها. فهذه الأخبار تدلّ على أنّ خوف الضرر مسوّغ للتيمّم فاعتقاد الضرر يكون مسوّغا بالأولويّة القطعيّة ، فهذه الأخبار تعيّن أنّ خوف الضرر هو الموضوع لجواز التيمّم.

(هذا إن استمرّ اعتقاد عدم الماء أو الضرر في تمام الوقت ، وأمّا إذا لم يستمرّ بأن زال الاعتقاد إلى الشكّ بعد الصلاة أو قبلها فله ترتيب آثار الطهارة بالاستصحاب ، ومع انكشاف الخلاف يعيد لعدم إجزاء الفقدان في بعض الوقت. وإن علم بأنّه يحصل الماء بعد ذلك أو يرتفع إضرار الماء له بعد ذلك فهل له البدار؟ مسألة خلافيّة مبناها أنّه هل الفقدان عند إرادة العمل (٤) يكفي أم لا بدّ من الفقدان في تمام الوقت الّذي كلّف فيه بصرف الوجود؟ والظاهر الثاني ، فافهم وتأمّل) (٥).

بقي الكلام في أنّ من فرضه التيمّم لوجوب صرف الماء الّذي عنده في حفظ نفس محترمة إذا عصى وتوضّأ به هل يصحّ وضوؤه بناء على الترتّب أم لا؟ الظاهر العدم ؛ لأنّ الترتّب وإن كان ممكنا إلّا أنّ تحقّقه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وهو مفقود في المقام ، مثلا في المثال المعروف مقتضى إطلاق الأمر بالصلاة تناوله حتّى لزمن الإزالة ومقتضى إطلاق الأمر بالإزالة تناوله حتّى لزمن الصلاة ، فلو فرض أهميّة الإزالة فيرفع اليد عن إطلاق دليل الصلاة بمقدار المزاحمة وهو زمن الاشتغال بالإزالة ، لعدم إمكان الجمع بين الصلاة والإزالة ، فإذا فرض أنّه عصى أمر الإزالة

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٩٩٦ ، الباب ٢٥ من أبواب التيمّم.

(٢) المصدر المتقدّم : ٩٦٤ ، الباب ٢ من أبواب التيمّم.

(٣) راجع الهامش الرقم الأوّل.

(٤) هنا كلمة غير مقروءة.

(٥) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٥٠١

واشتغل بالصلاة فهي واجدة لأمرها بموجب إطلاق الأمر المرتفع حيث يشتغل بالإزالة. وهذا بخلاف المقام فإنّه حيث يجب صرف الماء في حفظ النفس المحترمة لا أمر بالوضوء أصلا ؛ لأنّه فاقد للماء بحكم الشارع فلا يصحّ وضوءه حينئذ لأنّه لم يؤمر به وإنّما أمر بالتيمّم فافهم (*).

[في أنّ حديث لا ضرر يحكم على عدم الحكم أم لا؟]

بقي الكلام في أنّ حديث «لا ضرر» كما يحكم على الأحكام الوجوديّة هل يحكم على عدم الحكم؟ مثلا لو فرض أنّ شخصا حبس شخصا آخر بغير حقّ فتضرّر المحبوس بسبب الحبس عن تجارته فهل يحكم على الحابس بالضمان بقاعدة «لا ضرر» لأنّ عدم الحكم بالضمان ضرري أم لا؟ ونظيره الزوجة إذا لم ينفق عليها الزوج إمّا لعسره أو لحبسه أو لعصيانه فهل يحكم بجواز طلاق الحاكم الشرعي لها لأنّ عدم الحكم بجواز طلاق الحاكم لها ضرري أم لا؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى عدم جريان قاعدة «لا ضرر» في المقام لأمرين :

أحدهما : أنّ قاعدة «لا ضرر» إنّما تنفي الأحكام المجعولة ولا تتعرّض لموارد عدم الحكم.

__________________

(*) هذا بناء على أنّ الوضوء مشروط بالوجدان للماء عقلا وشرعا فمع وجوب صرفه في حفظ النفس المحترمة لا يكون واجدا شرعا. أمّا إذا قلنا ـ كما اخترناه أخيرا ـ كون الوجدان هو الوجدان العرفي فهو متحقّق في المقام ، فيكون مزاحما لما دلّ على صرفه في حفظ النفس المحترمة والثاني أهمّ فيتقدّم ، فإذا عصاه ـ والمفروض أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه ـ فصرفه في الوضوء غير محرّم فيكون الوضوء صحيحا لكونه واجدا للماء عرفا فيصحّ بالترتّب. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

(١) انظر منية الطالب ٣ : ٤١٨.

٥٠٢

وفيه : أنّ عدم الحكم من الملتفت حكم بالعدم ، وهو واضح في المقام ، لقوله : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) وحينئذ فعدم حكم الشارع بالضمان في المقام حكم بعدمه. وكذا عدم حكم الشارع بجواز طلاق الحاكم حكم بعدم الجواز ، لقوله : «الطلاق بيد من أخذ بالساق» (٢) وحينئذ فالمقام من مقامات حكم الشارع بالعدم لا عدم حكم الشارع. وحينئذ فلا يجدي هذا الوجه ، لمنع جريان القاعدة أصلا.

الثاني : أنّ قاعده «لا ضرر» تنفي جعل الشارع للضرر لا أنّها توجب تدارك الضرر الواقع ، وفي المقام الضرر واقع فهي لا توجب تداركه. نعم قاعدة «لا ضرر» تحرّم حبسه بغير حقّ وتوجب على الزوج الإنفاق على زوجته وتحرّم عليه عدم الإنفاق لا أنّها إذا امتنع من الإنفاق عليها يجوز طلاقها ، مع أنّ الزوجيّة لو كانت ضرريّة لكانت هي بنفسها منفسخة لكنّها ليست ضرريّة ، وإنّما الضرري عدم الإنفاق وقد رفعه الشارع أيضا بإيجاب الإنفاق وبضمانه لها.

وبعبارة اخرى ، الضرر لم ينشأ من الزوجيّة ، فعلى تقدير وجوب التدارك أيضا قد تداركه بجعل وجوب الإنفاق عليه ، مع أنّ القول بوجوب التدارك يستلزم الالتزام بفقه جديد ، فإنّ من ضرّ في تجارته يلزم على هذا القول بلزوم تدارك ضرره من بيت المال أو الزكاة من سهم سبيل الله ولا يلتزم بهذا أحد. وهذا الوجه متين جدّا.

ويمكن أن تمنع قاعدة «لا ضرر» بأنّ الحكم بالضمان في المقام وبجواز طلاق الحاكم ضرر على الطرف الآخر فيتعارض الضرران فلا تجري حينئذ القاعدة.

إن قلت : إنّ الحابس أقدم على الضرر والزوج بمنع النفقة أيضا أقدم على الضرر ، فلا تجري القاعدة في حقّه.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٢٣٤ ، الحديث ١٣٧.

٥٠٣

قلت : إنّ إقدامه على الضرر موقوف على جريان القاعدة في حقّه وعلمه بذلك والكلام بعد في أصل الجريان ، نعم في خصوص المرأة الّتي امتنع زوجها من الإنفاق عليها أخبار خاصّة بأنّه عليه إمّا الإنفاق أو الطلاق (١) فإذا امتنع من الإنفاق ولم يكن من ينفق عليها غيره أيضا يجبر على الإنفاق فإن لم يمكن اجبر على الطلاق ولا ينتقل إلى الحاكم. نعم ، إن امتنع من الطلاق يفعله الحاكم حسبة فيكون مخصّصا لعمومات : «الطلاق بيد من أخذ بالساق». وما زعم من تعارض هذه الرواية بروايات أخر ، لا يخفى ضعفه ، لعدم التعارض لأنّهما في موضوعين ، فافهم ؛ (لأنّ موضوع الرواية الّتي زعم معارضتها موردها عجزه عن المواقعة فقال عليه‌السلام : «ابتلت ببليّة فلتصبر» (٢) كما أنّ أخبار الغائب (٣) ظاهرة في كون عدم الإنفاق لعذر) (٤).

الكلام في تعارض الضررين

وقد وقع الكلام فيه بين الأعلام في موقعين :

أحدهما : إذا دار أمر المكلّف الشخصي بين أن يقع في هذا الضرر أو يقع في هذا الضرر وحيث قدّمنا أنّ الإضرار بالنفس ليس على إطلاقه محرّما فلا مجال لهذا البحث أصلا ؛ لأنّه قد دار أمره بين أمرين مباحين. نعم لو كان أحدهما بالغا مرتبة التحريم دون الثاني فلا ريب في ترك المحرّم منه وارتكاب الثاني ، كما أنّه لو دار بين ضررين محرّمين فمع مساواتهما ملاكا يتخيّر ومع أهميّة أحدهما ملاكا في التحريم يتعيّن الأضعف وكذا مع احتمالها. وكذا لو دار أمره بين إضرارين لأجنبيّ ؛ لأنّه من باب التزاحم والمناط فيه قوّة الملاك.

__________________

(١) انظر الوسائل ١٥ : ٢٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب النفقات.

(٢) انظر المستدرك ١٥ : ٣٣٧ ، الباب ١٨ من كتاب الطلاق ، الحديث ٧ مع اختلاف يسير.

(٣) انظر الوسائل ١٥ : ٣٨٩ ، الباب ٢٣ من كتاب الطلاق.

(٤) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

٥٠٤

الثاني : ما إذا دار الضرر بين مكلّفين والعمدة الكلام في هذا القسم ، وكلام الأصحاب غير منقّح في هذه المسألة ، كما اعترف به الشيخ الأنصاري (١) والميرزا النائيني (٢).

والّذي ينبغي أن يقال : إنّ مسألة وقوع الضرر بأحد المكلّفين إمّا أن يكون بلا دخل لحكم الشارع فيه أصلا بل الضرر حاصل ، كان شارع أو لم يكن شارع ، مثل ما إذا أدخلت الدابّة رأسها في قدر غير مالكها.

وإمّا أن يكون وقوع الضرر مستندا لحكم شرعي ، مثل ما إذا أراد إنسان أن يحفر بالوعة في داره وكانت مضرّة بجاره فجواز الحفر يوجب وقوع الجار في الضرر وحرمة الحفر توجب وقوع المالك في الضرر ، فالضرر مستند إلى حكم بالتحريم أو الترخيص.

أمّا الكلام في الأوّل فنقول : إنّه نسب إلى المشهور (٣) تقديم أقلّ الضررين فتكسر القدر ويغرم صاحب الدابّة قيمته لصاحبه ، ولا نرى وجها لذهاب المشهور إلى ذلك. فالتحقيق أن يقال :

ـ إنّه تارة يكون المالك للدابّة هو الّذي أدخل رأسها في قدر الغير أو أنّ صاحب القدر هو الّذي أدخل رأس دابّة الغير في قدره ، وفي مثل ذلك لا ريب في أنّ المتعدّي غاصب فيلزم بتخليص مال الغير وإن أدّى إلى تلف ماله.

ـ وتارة يكون الأجنبيّ هو الّذي أدخل رأس دابّة الغير في قدر الغير ، وهنا لا إشكال في أنّه يضمن الضرر المترتّب على عمله.

ـ وثالثة : تكون الدابّة بنفسها قد أدخلت في القدر رأسها من دون دخل لأحد في ذلك أصلا ، فالمشهور في هذه المسألة هو تقديم أقلّ الضررين ، ومن الغريب أنّهم

__________________

(١) رسائل فقهيّة : ١٢٦.

(٢) منية الطالب ٣ : ٤٢٥.

(٣) المسالك ١٢ : ٢٤٣ ، ومفتاح الكرامة ٦ : ٢٨٧ ، والفرائد ٢ : ٤٧١.

٥٠٥

مع قولهم بتقديم أقلّ الضررين يمثّلون بالمثال فيقولون : إنّ ضرر صاحب القدر أقلّ ؛ لأنّ قيمة القدر أقلّ من قيمة الدابّة فيكسر القدر ويغرم صاحب الدابّة قيمة القدر لصاحبها.

وهذا الكلام معناه أنّه لم يتضرّر صاحب القدر بشيء من الماليّة ؛ لأنّ ماليّة قدره متداركة ، فهذا معناه أنّه لا يتضرّر بشيء أصلا ؛ لأنّه ليس العبرة بأعيان الأموال وإنّما العبرة بماليّاتها.

وبالجملة ، ففتوى المشهور لا نعرف لها وجها بعد أن كان حديث «لا ضرر» أجنبيّا عن مثل هذا ؛ لأنّ «لا ضرر» إنّما ينفي جعل الشارع للضرر وهذا الضرر لا ربط للشارع به أصلا فهو لا يشمله أصلا ، وحينئذ فلا وجه لاختيار أقلّ الضررين والحكم به أصلا ، مثلا إذا كانت قيمة الدابّة عشرين وقيمة القدر خمسة فلا وجه للحكم بكسر القدر لئلّا تذبح الدابّة فيغرم صاحب القدر عشرين.

وبالجملة ، أيّ مرجّح للضرر الناشئ من خمسة على الضرر الناشئ من عشرين ، مع أنّ حديث «لا ضرر» أجنبيّ عن مثل هذا؟ فافهم ؛ لأنّ معناه عدم جعل الضرر لا وجوب تدارك الضرر الواقع في الخارج ، فافهم وتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ القاعدة ـ يعني قاعدة العدل والإنصاف ـ تقتضي تقسيم الضرر عليهما في المقام ، وحينئذ فيتخيّر ما يكون الضرر فيه أقلّ فيكسر القدر وتقسم قيمته عليهما معا ، لا أنّه يغرم صاحب الدابّة تمام القيمة لصاحب القدر فإنّه لم نطّلع على وجهه.

ومع قطع النظر عن قاعدة العدل والإنصاف الّتي تقتضيها رواية الودعي (١) وتقسيم درهم ونصف لصاحب الدرهمين ونصف درهم لصاحب الدرهم ، ربما يقال بأنّ الحاكم أو عدول المؤمنين يتخيّرون ما هو أقلّ ضررا فيفعلونه ؛

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ١٦٩ ، الباب ٩ من كتاب الصلح ، الحديث الأوّل.

٥٠٦

لأنّ أحد المالين لا بدّ من تلفه فيتلفون الأقلّ ضررا ويحفظون الثاني لصاحبه مع تقسيم الضرر عليهما أيضا ، فإنّ المقام من مقامات الحسبة.

وأمّا الكلام في الثاني وهو ما إذا كان الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي كما إذا دار أمر الإنسان بين أن يكون حكمه جواز حفر البئر في ملكه فيصير الضرر على جاره أو حرمة الحفر فيصير الضرر على نفسه ، وهو على صور :

إحداها : أن يكون في ترك الحفر ضرر عليه.

الثانية : أن يكون في ترك الحفر فوات نفع.

الثالثة : أن لا يكون في ترك الحفر ضرر ولا فوات نفع وإنّما يحفر عبثا.

الرابعة : أن يكون قصده من الحفر إضرار الجار.

وقد حكم المشهور (١) في الصورتين الاوليين بجواز الحفر وعدم الضمان كما حكموا في الأخيرتين بالحرمة والضمان ، ووجه حكمهم في الأخيرتين بالحرمة والضمان واضح ؛ لأنّهما ـ خصوصا صورة قصد الإضرار ـ مورد قاعدة «لا ضرر» ولا ضرار وأدلّة الضمان مثل قوله عليه‌السلام : «من أتلف مال الغير» (٢) شامل له قطعا. وإنّما الكلام في وجه حكم المشهور بالجواز وعدم الضمان في الصورتين الاوليين ، وقد وجّهه الشيخ الأنصاري بأنّ دليل «لا ضرر» في المقام وإن جرى إلّا أنّه محكوم بقاعدة نفي الحرج ، فإنّ فوات النفع أو لزوم تحمّل المالك الضرر حرجي منفيّ بدليل لا حرج إن جعلناها حاكم على دليل نفي الضرر ، وإن لم نقل بحكومتها عليها فهما دليلان بينهما عموم من وجه ففي مورد الاجتماع يتساقطان ويكون المرجع عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» أو أصالة الإباحة الّذي هو الأصل العملي.

__________________

(١) انظر رسائل فقهيّة : ١٢٦.

(٢) هذه القاعدة مصطادة من أدلّة الضمان ، انظر القواعد الفقهيّة للبجنوردي ٢ : ١٩.

٥٠٧

هذا ملخّص ما أفاده الشيخ الأنصاري (١) في تقريب فتوى المشهور بالجواز وعدم الضمان في الصورتين الاوليين وأنت خبير بعدم تماميّته :

أمّا أوّلا فلأنّه لا ملازمة بين فوات النفع أو الوقوع في الضرر وبين الحرج ، فإنّ المراد من الحرج المنفيّ الحرج بمعنى عسر التحمّل لا بمعنى مطلق الكلفة ، ولا ملازمة بين فوات النفع أو الوقوع في الضرر وعسر التحمّل ، نعم هو قد يكون لكنّه ليس ميزانا كلّيا ، نعم لو كان الحرج بمعنى مطلق الكلفة كان بين المقامين ملازمة لكنّه يقتضي رفع كلّ تكليف حينئذ لوجود الكلفة في جميعها.

وأمّا ثانيا فلو سلّم الملازمة بينهما في المورد فليس دليل نفي الحرج حاكما على دليل نفي الضرر ؛ لأنّهما معا ناظران إلى الأحكام المجعولة للأشياء بعناوينها الأوليّة ولا نظر لإحداهما إلى الاخرى أصلا. وأمّا حديث كونهما عامّين من وجه فمع تساقطهما لا مجال للرجوع إلى حديث «الناس مسلّطون» لأنّه إنّما يثبت السلطنة في المال من حيث إنّه مال لا من حيث الترخيص لإضرار الغير ، فهو نظير الاستدلال بحديث السلطنة على جواز ذبح المسلم أخاه بمدية يملكها الذابح ؛ لأنّه مسلّط على التصرّف بمديته كيف شاء.

نعم الرجوع إلى الإباحة لا بأس به لو تمّ ما ذكره من كون المقام حرجيّا بحيث يكون في فوات النفع أو الوقوع في الضرر حرج ، وقد تقدّم أن لا ملازمة بينهما أصلا. هذا كلّه مع أنّه لا وجه لنفي الضمان ؛ لأنّ عموم «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» شامل للمقام قطعا فأيّ وجه للحكم بعدم الضمان؟

وربّما يوجّه الحكم بعدم الحرمة وبجواز حفر المالك بأنّ حديث «لا ضرر» بما أنّه امتناني على الامّة فلا يعقل أن يشمل مثل المقام ؛ لأنّه يقتضي القطع بجعل حكم ضرري ؛ لأنّه إن كان الحكم إباحة حفر البالوعة فهو حكم ضرري على الجار ،

__________________

(١) انظر رسائل فقهيّة : ١٢٩.

٥٠٨

وإن كان الحكم تحريم حفر البالوعة فالتحريم حكم ضرري على نفسه ـ أي المالك ـ فلا يشمل المقام ؛ لأنّ شموله خلاف الامتنان وحينئذ فالمرجع الأصل العملي وهو الإباحة.

وهذا الوجه وإن كان تامّا بناء على أنّ «لا ضرر» ترفع الحكم الترخيصي أيضا ، إلّا أنّه لا يجري حيث يكون في ترك الحفر فوات نفع ، وإنّما يجري حيث يكون في ترك الحفر ضرر ، فلا يكون توجيها لحكم المشهور في كلتا الصورتين أصلا.

نعم يكون توجيها لحكمهم في صورة الضرر بجواز الحفر دون عدم الضمان ؛ لأنّ حديث «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» محكّم لا محيص عنه ، فلا بدّ من الحكم بجواز الحفر حيث يكون في تركه ضرر على نفسه دون موارد فوات النفع ، فالوجه الحرمة فيه.

(هذا كلّه بناء على أنّ حديث «لا ضرر» يرفع الحكم الترخيصي كما يرفع الحكم الإلزامي ، وأمّا بناء على ما قدّمنا من أنّه لا يرفع إلّا الحكم الضرري ـ أي الّذي ينشأ منه الضرر ـ فلا يتمّ حينئذ ؛ لأنّا لا نعلم بجعل حكم ضرري ؛ لأنّ المفروض أنّ تحريم حفر البالوعة ضرري يرتفع بالحديث إلّا أنّ إباحة حفرها لا يرتفع لعدم كونه ضرريّا ؛ لأن له أن يترك حفرها باختياره.

وحينئذ فلا بدّ من أن يلتجئ إلى وجه آخر وهو أنّ «لا ضرر» ترفع الحكم الضرري وهو تحريم حفر البالوعة إلّا أنّ لا ضرار تثبت تحريم الإضرار بالغير فهي تثبت تحريم الحفر ، وحينئذ فيتنافى الصدر والذيل فالصدر بمقتضى الامتنان لا يحرّم التصرّف والذيل بمقتضى الامتنان أيضا يحرّم التصرّف. بل وبهذا الوجه يتمّ كلام المشهور في كلا القسمين يعنى حتّى فيما يفوت به النفع لو ترك ؛ لأنّ تحريم الإضرار لمّا كان امتنانيّا فلا يأتي حيث يكون فيه فوات نفع ؛

٥٠٩

لأنّه خلاف الامتنان أيضا) (١) كما أنّ الوجه الضمان فيهما وحديث «لا ضرر» لا ينفي الضمان ؛ لأنّ نفي الضمان خلاف الامتنان ؛ ولأنّ الضمان من الأحكام المبنيّة على الضرر فلا يرفعها حديث «لا ضرر» لما بيّنّا من أنّ حديث «لا ضرر» لا يشمل الأحكام المبنيّة على الضرر (*).

هذا تمام الكلام في قاعدة نفي الضرر.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات الدورة الثانية.

(*) وربّما يقال : إذا حكم بالضمان لعموم «من أتلف» فقد تصرّف هذا المتلف في مال الغير وهو حرام فلا يمكن التفكيك بين الضمان والتحريم ؛ إذ لا فرق بين كون التصرّف بلا واسطة أم بواسطة. ويمكن أن يقال : إنّا نقول بالضمان لبناء العقلاء على الضمان في قاعدة الإتلاف لا على التعبّد بها لعدم ثبوتها سندا ، والحرمة دائرة مدار التصرّف العرفي وهو مفقود في المقام ، فافهم وتأمّل. (الجواهري).

٥١٠

مبحث الاستصحاب

ويقع الكلام في جهات :

الاولى : في تعريف الاستصحاب ، وقد عرّف بتعاريف كثيرة زعم الشيخ الأنصاري أنّ أسدّها إبقاء ما كان (١). وذكر الآخوند قدس‌سره أنّ عبارات الأصحاب في تعريف الاستصحاب وإن كانت شتّى إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكره من التعريف هو توضيح تعريف الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلّا أنّ ما ذكره في كون التعاريف مشيرة إلى مفهوم واحد غير تامّ.

والإنصاف أنّ في الاستصحاب أقوالا لا يمكن أن يعرّف الاستصحاب بتعريف يكون جامعا بين الأقوال ، بل لا بدّ من تعريف أهل كلّ قول له بتعريف خاصّ. فمن يرى أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأمارات كأكثر المتقدّمين من الأصحاب (٣) لا بدّ أن يعرّفوا الاستصحاب بأنّه عبارة عن كون شيء متيقّنا سابقا ومشكوكا لاحقا ، ولا يمكن أن يعرّف بأنّه إبقاء ما كان ، فإنّ إبقاء ما كان منكشف من

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٩.

(٢) كفاية الاصول : ٤٣٥.

(٣) كالشيخ والسيّدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم ، انظر الفرائد ٣ : ١٣.

٥١١

الاستصحاب والاستصحاب بما أنّه أمارة كاشف لإبقاء ما كان ؛ لأنّ الغالب في شيء كان مسبوقا بالبقاء حصول الظنّ ببقائه فهو كاشف نوعا عن إبقاء ما كان لا أنّه نفسه.

كما أنّ تعريف الآخوند قدس‌سره له أيضا بقوله : الحكم ببقاء ما كان ، كذلك لا يخلو من ضعف بناء على كون الاستصحاب أمارة ؛ لأنّ الحكم ببقاء ما كان مستكشف بالاستصحاب لا أنّه هو نفسه. نعم الاستصحاب بناء على الأماريّة عبارة عن كون شيء متيقّنا سابقا مشكوكا لاحقا ، ولا يرد عليه ما أورده الشيخ بأنّ هذا مورد له (١) بل هو نفسه عين الاستصحاب ؛ لأنّ كونه متيقّنا ومشكوكا هو الموجب للظنّ بالحكم فهو نفس الأمارة ؛ لأنّها ما توجب الظنّ بالحكم. وإن شئت عرّفته بأنّه الظنّ ببقاء اليقين السابق لا ما كان ؛ لأنّه ليس في أخبار الاستصحاب تعرّض للمتيقّن أصلا وإنّما تتعرّض لنفس اليقين. هذا تعريفه بناء على كونه من الأمارات.

وأمّا بناء على كونه من الاصول العمليّة كما هو الحقّ فيصحّ حينئذ تعريفه بأنّه الحكم ببقاء اليقين السابق ؛ لأنّ الاصول العمليّة أحكام مجعولة بحسب الظاهر ولا يصحّ تعريفه بأنّه إبقاء ما كان ؛ لأنّ الأخبار كما ذكرنا لا تعرّض لها بالنسبة إلى المتيقّن وإنّما تتعرّض لإبقاء اليقين بقولها : «لا تنقض اليقين بالشكّ».

الجهة الثانية : في كون الاستصحاب مسألة اصوليّة أم لا؟ أمّا بناء على ما اخترناه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة فهو قاعدة فقهيّة بحتة كقاعدة الطهارة ، وأمّا بناء على إجرائه في الأحكام الكلّية فقد ذكرنا في أوّل مباحث الألفاظ أنّ الميزان في كون المسألة اصوليّة هو أنّها يترتّب عليها مستقلّة حكم كلّي ، والاستصحاب بما أنّه يترتّب عليه حكم كلّي يكون مسألة اصوليّة ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة إذا عرضت للمجتهد فكان متيقّنا بوجوب صلاة الجمعة ثمّ عرض له الشكّ في بقاء الوجوب فبالاستصحاب يثبت

__________________

(١) انظر الفرائد ٣ : ١٠ ـ ١١.

٥١٢

وجوب الجمعة عند المجتهد فيفتي به. وحينئذ فالعبرة في جريان مثل هذا الاستصحاب هو يقين المجتهد وشكّه وإن كان المقلّد غافلا عن أصل الحكم ، فأثر هذا الاستصحاب هو جواز إفتاء المجتهد بوجوب الجمعة ، والمقلّد إنّما يجب عليه العمل بأدلّة التقليد لا بالاستصحاب.

فقد ظهر أنّ الاستصحاب يترتّب عليه وحده استنباط حكم كلّي وهو وجوب الجمعة مثلا ، فهو مسألة اصوليّة لوجدان المناط فيها ، هذا في الشبهة الحكميّة.

وأمّا في الشبهة الموضوعيّة فالاستصحاب مسألة فقهيّة ؛ لأنّه يستنبط منه حكم جزئي ، فالعاميّ إذا كان متيقّنا بطهارة شيء ثمّ شكّ في عروض النجاسة عليه وعدمه فله أن يبني على الطهارة السابقة إذا كان مقلّدا لمن يقول بحجّية الاستصحاب ، وهنا يكون مسألة فقهيّة ، لأنّه لا يترتّب عليه استنباط حكم كلّي وإنّما يترتّب عليه معرفة حكم جزئي.

ولا غرابة في كون خبر واحد وهو «لا تنقض اليقين بالشكّ» متكفّلا لمسألة اصوليّة وفقهيّة باعتبار مواردها ، فإنّ عدم نقض اليقين بالشكّ بالنسبة إلى المجتهد إنّما هو بإفتائه بمقتضى الاستصحاب ، وبالنسبة إلى المقلّد إنّما هو بترتيب آثار الطهارة في متيقّن الطهارة عنده مثلا ، فالمقام نظير خبر الواحد بناء على حجّيته في الموضوعات كما هو الحقّ فيكون متكفّلا للزوم ترتيب آثار الخبر الواحد مطلقا ، وإن كان أثره بالنسبة إلى المجتهد الحكم بمؤدّاه وبالنسبة إلى المقلّد في الموضوعات الخارجيّة العمل بمقتضاه ، فهما سيّان إلّا أنّ أحدهما لبيان الحكم الواقعي والآخر للظاهري.

الجهة الثالثة : في الفرق بين قاعدة المقتضي والمانع ، وبين قاعدة اليقين وبين الاستصحاب.

فنقول : إنّ اليقين والشكّ لا يمكن أن يكونا بالنسبة إلى شيء واحد في زمان واحد ، لأنّ معنى اليقين عدم الشكّ ومعنى الشكّ عدم اليقين ، وحينئذ فلا بدّ من أن يكون ما يتعلّق به اليقين غير ما يتعلّق به الشكّ من جهة من الجهات.

٥١٣

فإن كان ما تعلّق به اليقين مباينا بالكليّة لما تعلّق به الشكّ بحيث لا ربط بينهما أصلا مثلا كان متيقّنا بعدالة زيد وشاكّا في طلوع الفجر ، فلا معنى حينئذ لعدم نقض ذلك اليقين بعدالة زيد بالشكّ في طلوع الفجر ، لعدم الرابط بينهما.

وإن كان ما تعلّق به اليقين أمرا مباينا لما تعلّق به الشكّ لكن بينهما ربط بأن كانا من أجزاء العلّة بأن كان متيقّنا بوجود المقتضي وشاكّا في وجود المانع ، فهي قاعدة المقتضي والمانع ، وسيأتي الكلام فيها وفي دليلها وفي كونه هو دليل الاستصحاب أم غيره؟

وإن كان ما تعلّق به اليقين هو بنفسه تعلّق به الشكّ فتارة يقترن زمان الشكّ بزمان اليقين بحيث يكون زمان اليقين مقترنا بزمان الشكّ آناً ما وإن تقدّم اليقين أو الشكّ ، وإنّما جاز تعلّق اليقين والشك به لأنّ المتيقّن غير المشكوك بأن كان المتيقّن حدوث الشيء والمشكوك بقاءه. وهذا هو الاستصحاب ، وميزان اقتران زمان الشكّ مع زمان اليقين آناً ما وإن كان أحدهما أسبق حدوثا إلّا أنّهما بحسب البقاء يلزم أن يقترنا آناً ما ، فتارة يكون اليقين سابقا والشكّ لاحقا كما هو المتعارف ، أو يكون الشكّ سابقا واليقين متأخّرا مثل أن يشكّ في عدالة زيد هذا العام ثمّ يتيقّن بعدالته قبل عشر سنين مثلا ، وقد يحدثان دفعة كما إذا تيقّن نجاسة شيء وشكّ في ذلك الحال بوقوع المطر عليه حتّى يطهّره أم لا.

واخرى لا يتّصل ولا يقترن زمان الشكّ باليقين بل يكون زمان الشكّ غير زمان اليقين ولكنّ المتيقّن متّحد بحسب الزمان مع المشكوك ، فتارة يكون زمان اليقين أسبق ، واخرى يكون زمان الشكّ أسبق.

فإن كان زمان اليقين أسبق فهي قاعدة اليقين ، وهي المعبّر عنها بالشكّ الساري ، كأن يتيقّن عدالة زيد يوم الجمعة ويشكّ يوم السبت في تحقّقها يوم الجمعة بحيث يحتمل أن يكون يقينه السابق جهلا مركّبا ، وميزانه أن يشكّ في نفس الأمر المتيقّن في الزمان الّذي كان متيقّنا به ، وسيأتي الكلام فيها وفي دليلها وأنّه هو دليل الاستصحاب أم غيره.

٥١٤

وإن كان زمان الشكّ أسبق فهو الاستصحاب القهقري مثل أن يتيقّن الآن عدالة زيد ثمّ يشكّ فيها قبل عشر سنين فبناء على حجيّته يستصحب ويثبت عدالته بالنسبة إلى الزمن المشكوك ، وهذا الاستصحاب لا مستند له من الأخبار والإجماع وبناء العقلاء ، أمّا الأخبار فلا ينكر ظهورها في تقدّم اليقين وتأخّر الشكّ ، وكذا لا إجماع إلّا عليه.

وأمّا بناء العقلاء فلم يستقرّ عليه في شيء إلّا في احتمال النقل ، مثلا إذا كان الكرفس مثلا مستحبّ الأكل والكرفس الآن عندنا معلوم ولكنّا نشكّ عند صدور هذا الخبر كان الكرفس عندهم بمعنى الكرفس عندنا أو أنّه نقل من معناه عندهم إلى هذا المعنى المتعارف عندنا؟ فبأصالة عدم النقل يثبت بأنّه هو الكرفس الّذي كان عند صدور الخبر. فهذا الاستصحاب القهقرى ليس بحجّة إلّا في هذا المورد لبناء العقلاء عليه.

فبقي الكلام في الامور الثلاثة الأخر.

ولا يخفى أنّ «المقتضى» في قاعدة المقتضي والمانع إمّا أن يراد به المقتضي التكويني وبالمانع أيضا التكويني كما يقال : النار مقتض للإحراق والرطوبة مانع ، ونظيره في الفقه ما إذا شكّ في وجود المانع لوصول الماء للبشرة في الغسل ، فإنّ إجراء الماء على البدن مقتض للوصول إلى البشرة فإذا شكّ في وجود المانع وتمّت قاعدة المقتضي والمانع من حيث الحجّية له أن يبني على عدم المانع.

وإمّا أن يراد بالمقتضي الموضوع الشرعي وبالمانع ما اعتبر عدمه فيه ، فيراد بالمقتضي الصلاة مثلا وبالمانع الضحك مثلا ، أو يراد بالمقتضي ملاك الحكم ومصلحته وبالمانع ما يرفع هذا الملاك. ولا ندري ان القائل بقاعدة المقتضي أراد أيّها أو أنّه أرادها كلّها ، وسيأتي الكلام فيها.

الجهة الرابعة في تقسيمات الاستصحاب : المستصحب قد يكون أمرا وجوديّا ، وقد يكون أمرا عدميّا ، وقد يكون حكما شرعيّا ، وقد يكون موضوعا خارجيّا ،

٥١٥

وقد يكون حكما تكليفيّا ، وقد يكون حكما وضعيّا. والدليل الدالّ عليه إمّا شرعي أو عقلي ، والشرعي إمّا الإجماع أو غيره. وأيضا قد يدلّ دليله على استمراره لغاية وقد لا يدلّ. ومنشأ الشكّ قد يكون اشتباه الأمر الخارجي ، وقد يكون اشتباه الحكم الشرعي. والشكّ قد يكون مع تساوي الطرفين و [قد يكون] مع الظنّ بأحدهما ، وأيضا الشكّ قد يكون من جهة الشكّ في المقتضي ، وقد يكون من جهة الشكّ في حدوث المانع ... إلى غير ذلك.

قال الاستاذ الخوئي : والأقوى عندي أنّ الاستصحاب حجّة في الموضوعات الخارجيّة وفي الأحكام الشرعيّة الجزئيّة دون الكلّية فليس بحجّة فيها ، ولا بدّ من ذكر الأدلّة ثمّ النظر في مفادها ومقدار إفادتها فنقول :

[أدلّة حجّية الاستصحاب]

الدليل الأوّل لحجّية الاستصحاب : السيرة العقلائيّة الثابتة على العمل على طبق الحالة السابقة ، ومعلوم أنّها كانت زمن الأئمّة عليهم‌السلام ولم يردعوا عنها فتكون ممضاة من قبلهم عليهم‌السلام بل زعم الميرزا النائيني قدس‌سره أنّه لو لا العمل على طبق الحالة السابقة لاختلّ نظام العالم بأسره (١).

ولا يخفى عليك أنّ دعوى السيرة دعوى غير تامّة ، فإنّ سيرة العقلاء لم تقم على الحالة السابقة من ناحية الاستصحاب ، بل إنّ جملة من العقلاء إنّما يعملون على طبق الحالة السابقة رجاء ، وبعضهم من باب حصول الاطمئنان له ببقاء الحالة السابقة فلا شكّ له ، وبعضهم غافل عن شكّه بالبقاء أصلا. فلا تصلح السيرة حينئذ دليلا ، نعم لو أحرزنا أنّهم كانوا متيقّنين ثمّ شكّوا وعملوا مع التفاتهم إلى شكّهم على طبق الحالة السابقة لا رجاء لبقائها ثبت مطلوبهم عندنا ، ومن أين تحرز هذه المقدّمات؟ بل لا يمكن قيام السيرة ، لأنّ بناء العقلاء تعبّدا بلا وجه مقطوع العدم.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٠.

٥١٦

ودعوى : كون عملهم بوحي من الله وإلهام ، عهدتها على مدّعيها. وبناء العقلاء من باب الكشف ممنوع أيضا ، لأنّ ليس هناك نوعية ببقاء ما كان ثابتا سابقا كي يحصل البناء.

ثمّ إنّه على تقدير وجود سيرة مستقرّة على ذلك فهل يمكن أن تكون الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ وغير العلم (١) رادعة عن هذه السيرة فلا يتحقّق الإمضاء أم لا؟ زعم الآخوند قدس‌سره إمكان كونها رادعة (٢).

لا يخفى أنّ ما ذكره هنا من إمكان الردع ينافي ما ذكره هو بنفسه في حجّية خبر الواحد حيث استدلّ بالسيرة العقلائيّة ، وذكر هناك أنّ هذه الآيات غير صالحة للردع لأنّه يستلزم الدور (٣) وهذا بعينه وارد في المقام.

نعم في خبر الواحد شيء لا يجري وهو أنّه في الخبر الواحد أشكل على نفسه بأنّ تخصيص السيرة للآيات أيضا دوري ، فبعد عدم صلاحية السيرة مخصّصة للآيات وعدم صلاحية الآيات رادعة للسيرة يرجع إلى استصحاب حجّية خبر الواحد الثابتة أوّل الشرع بالسيرة ، فإنّ الآيات الناهية لم تكن أوّل حكم قطعا. وهذا لا يجري في خصوص الاستصحاب ، لأنّ الكلام بعد في حجّيته.

وهذا الكلام مبنيّ على التوقّف في الخاصّ المتقدّم والعامّ المتأخّر عن التخصيص والنسخ ، أمّا مع الالتزام بالتخصيص كما اخترناه فلا عموم في الآيات لها لتكون رادعة حينئذ ، فالإنصاف عدم صلاحية الآيات للرادعيّة من جهة كونها إرشادية إلى حكم العقل بعدم جواز التعويل في الامتثال على غير العلم أو ما في حكمه من المعذّر.

__________________

(١) يونس : ٣٦ ، والإسراء : ٣٦ ، والنجم : ٢٨.

(٢) كفاية الاصول : ٤٣٩.

(٣) المصدر المتقدّم : ٣٤٨.

٥١٧

الدليل الثاني الّذي زعم كونه دليلا هو : الإجماع.

ولا يخفى أنّه كيف يمكن دعوى الإجماع مع هذا الاختلاف الفاحش في حجّيته (١) ، مضافا إلى عدم حجّيته ، لأنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة لعدم شمول أدلّة حجّية الخبر الواحد له لأنّها ظاهرة في الحسيّات ، مضافا إلى أنّ مثل هذا الإجماع لا يكشف عن قول الإمام عليه‌السلام مع كثرة الأخبار الدالّة على حجّيته فلعلّهم استندوا إليها ، وحينئذ فالإجماع تقييدي.

الدليل الثالث : الظنّ بالبقاء بناء على أصالة حجّية الظنّ.

وفيه : منع كون الأصل حجّية الظنّ فإنّ الأصل عدم حجّية الظنّ ، مضافا إلى منع كون الحدوث مقتضيا للظنّ بالبقاء كما هو معلوم ، لاختلاف المتيقّن سابقا ولاختلاف صاحب اليقين أيضا.

الدليل الرابع : الأخبار ، وهي عمدة الأدلّة في باب الاستصحاب ، وعمدة الأخبار صحيحة زرارة «قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا ولكن ينقضه بيقين آخر» (٢).

والكلام في هذه الرواية من جهة سندها تارة ، ومن جهة دلالتها اخرى. أمّا سندها فقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ إضمارها لا يخلّ بها (٣) لأنّ المضمر مثل زرارة المعلوم أنّه لا يسأل غير الإمام عليه‌السلام ، مضافا إلى سؤاله عن الشبهة الحكميّة أوّلا وجواب المسئول له وسؤاله ثانيا عن الشبهة الموضوعيّة.

__________________

(١) انظر مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٢٥١ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤١٠ ـ ٤١١.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٥٥.

٥١٨

ولا يخفى أنّ هذه الرواية قد ذكرها السيّد بحر العلوم قدس‌سره في فرائده (١) مسندة إلى الباقر عليه‌السلام وروى الثانية أيضا كذلك وروى الثالثة مسندة إلى أحدهما عليهما‌السلام مضافا إلى أنّ الشيخ نفسه عند نقل كلام السبزواري في ضمن كلامه نقل قوله : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فلا نحتاج حينئذ إلى القرائن الكاشفة عن المسئول وحينئذ فلا مناقشة في سندها.

وأمّا الكلام في الدلالة فالظاهر كون قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين» كما ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) قد دخلت فاء الجواب على علّته : فالجواب محذوف وهو فليمض على يقينه ، وعلّة ذلك «إنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض ...» الخ نظير قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(٣) وقوله : «فإن أعرضوا فإنّ الله غنيّ عن العالمين» (٤) وغيرهما.

وما زعمه الميرزا من كون الجواب هو مدخول الفاء (٥) لا يخفى وهنه ، فإنّ قوله : «فإنّه على يقين» إن قصد بها الإخبار فلا ربط بينها وبين ما قبلها بل هي اتفاقيّة فلا يناسبها دخول الفاء ، وإن قصد بها الإنشاء فالجملة الخبريّة الّتي تستعمل في الإنشاء هي «يعيد ويغتسل» وأشباهها ممّا هو فعل مضارع أو جملة اسميّة «كهي طالق وهو حر» والأخير لا يستعمل في طلب شيء وإنّما الأوّل هو المستعمل في الطلب.

وبالجملة إنّ قوله : «فإنّه على يقين» جملة اسميّة ابتدائيّة ولم نعهد وقوعها في طلب شيء ، وعلى تقدير التنزّل فالطلب في مثلها إنّما يتعلّق بالمحمول ومادّته ، والمحمول هنا اليقين وهو حاصل.

__________________

(١) لا يوجد عندنا.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٥٦.

(٣) آل عمران : ١٨٤.

(٤) الآية هكذا : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، آل عمران : ٩٧.

(٥) انظر أجود التقريرات ٤ : ٣٢ ـ ٣٣.

٥١٩

ودعوى : كونها توطئة للجواب وكون الجواب «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا» قريب جدّا لو لا اقترانه بالواو. وحينئذ فوجوب المضيّ على يقينه السابق معلوم من قوله : «وإلّا» ويكون مدخول الفاء وهو قوله : «إنّه على يقين» علّة ، وحيث إنّ العلّة عامّة وليست تعبّدية إذ لا معنى لكون العلّة تعبديّة فلا تختصّ حجّية الاستصحاب في باب الوضوء ، لأنّ العبرة بعموم التعليل لا بخصوصية المورد.

ودعوى : كونها عامّة في الوضوء لجميع النواقض لا لخصوص النوم ، خلاف ظهور العلّة فتأمّل.

ودعوى الميرزا النائيني (١) : أنّه يلزم التكرير حينئذ ، لا وجه لها ، لأنّه إنّما يلزم التكرير إذا ذكر الجواب لا إذا حذفه كما في المقام ، ضرورة أنّه حذفه اعتمادا على ذكره سابقا بقوله : لا حتّى يستيقن ... الخ.

ودعوى : كون قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوئه» باعتبار تقييده بخصوص الوضوء فيقيّد قوله : «ولا تنقض اليقين بالشكّ أبدا» فيخصّصه باليقين بالوضوء فلا يعمّ.

مدفوعة أوّلا : بأنّ اليقين من الصفات الحقيقيّة ذوات الإضافة فلا يمكن أن يكون مذكورا بغير ذكر متعلّقه فذكر «من وضوئه» لا بدّ منه وليس زائدا حتّى يكون ذكره قرينة التقييد.

وثانيا : أنّ النقض إنّما يكون لأمر مستحكم فناسبه إطلاق اليقين وعدم اختصاص اليقين بالوضوء إذ لا خصوصيّة له ، فبمناسبة الحكم والموضوع يتمّ المطلوب ، فتأمّل.

وثالثا : أنّ الظاهر من قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا» أنّه تعليل بأمر ارتكازي عند العقلاء ، ومعلوم أنّ الأمر الارتكازي عدم نقض مطلق اليقين بالشكّ.

__________________

(١) انظر المصدر المتقدّم.

٥٢٠