غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : حمل الأخبار المانعة على الأخبار الواردة في اصول العقائد ، فإنّهم عليهم‌السلام كما ذكرنا كثر كذب الكذبة عليهم في زمن الصادقين ، وكان كذبهم عليهم غالبا في اصول العقائد لتشويه سمعتهم.

الثالث : حمل الأخبار المانعة عن العمل بما لا يوافق الكتاب أو لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله تعالى على صورة تعارض الخبرين ، كما هو مفروض في الأخبار العلاجيّة بعد الترجيح بالشهرة والعدالة ، وحينئذ فالخبر المشهور مقبول وإن كان مؤدّاه غير موافق ، وإذا كان كلا الخبرين مشهورا فقول الأعدل (١) مقدّم وإن لم يكن موافقا ، وإن كانا متساويين في العدالة فما كان موافقا أو كان عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله تعالى (٢) فهو المقبول.

الرابع وهو أمتن الوجوه : إنّ هذه الأخبار عامّة لكلّ خبر ، وما دلّ على حجّية خبر الثقة أخصّ منها فيكون مخصّصا لعمومها ، وحينئذ فمعناها أنّ ما لم يوافق كتاب الله لم نقله (٣) أو زخرف (٤) باطل (٥) إلّا أن يكون خبر واحد ثقة فيقبل ، فتأمّل (*) (وبالجملة فبعد وجود الدليل القطعي على حجّية خبر الثقة ـ كما سيأتي ـ لا بدّ من حمل هذه الأخبار الناهية على أحد هذه المحامل بنحو مانعة الخلوّ ، ومع عدم الدليل القطعي فالأصل يقتضي المنع فلا حاجة إلى الأخبار) (٦) ، هذا تمام الكلام في ردّ الاستدلال بالأخبار على عدم حجّية أخبار الآحاد.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١٨.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ١٥.

(٤) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤.

(٥) المصدر السابق ، الحديث ٤٨.

(*) أشرت بالتأمّل في المحمل الرابع إلى أنّ لسانها آب عن التخصيص كما عرفت ، (الجواهري).

(٦) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٤١

الثالث من أدلّة المانعين عن العمل بأخبار الآحاد : عموم ما دلّ من الآيات على المنع عن العمل بغير العلم وعن العمل بالظنّ ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) بدعوى أنّ خبر الواحد ظنّ وغير علم فيكون مشمولا لها.

والجواب : أنّ الدليل إذا دلّ على حجّية الخبر الواحد يكون حاكما على هذه الأدلّة ورافعا لموضوعها ، لأنّه حينئذ يكون علما لا ظنا ولا غير علم ، نظير البيّنة فهل في الاصوليين من يمنع عن العمل بها لعموم هذه الآيات؟ كلّا.

ولو سلّم أنّ العلميّات ـ كالبيّنة وخبر الواحد وغيرها ـ ليست حاكمة فهي حينئذ أخصّ ، فتكون مخصّصة لهذه العمومات.

ولو سلّم ورود المنع مثلا عن خصوص خبر الواحد ، فلا ريب أيضا أنّ له إطلاقا لخبر الثقة وغيره فيقيّد بما دلّ على حجّية خبر الثقة. هذا إن قلنا إنّ ظاهر هذه النواهي النهي المولوي كما استظهرناه فيما سبق ، (وأمّا بناء على ما قوّيناه أخيرا من كون هذه النواهي إرشاديّة إلى حكم العقل بلزوم تحصيل المؤمّن القطعي من تبعة التكاليف فيكون مفادها النهي عن اتّباع غير الحجّة لعدم حصول المؤمّن من اتّباع غيرها ، فليس حينئذ لسانها في مقام إثبات أنّ أيّ شيء حجّة وأيّ شيء ليس بحجّة ، فما دلّ على حجّية خبر الواحد يكون العمل به حينئذ عملا بعلم ، لأنّه عمل بما دلّ على حجّية خبر الواحد وهو دليل قطعي ، فافهم) (٣). هذا تمام الكلام في حجّة النافين لحجّية أخبار الآحاد.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) النجم : ٢٨.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٤٢

بقي شيء وهو أنّ خبر الواحد قد يطلق ويراد به مقابل المتواتر كما هو موضوع بحثنا في المقام ، وقد يطلق ويراد به الخبر الضعيف ، وحينئذ فيمكن أن يكون مراد المانعين عن العمل بخبر الواحد ـ المدّعين الإجماع على المنع عن العمل به وأنّ تركه من ضروريات مذهب الشيعة ـ هو الخبر الضعيف ، وحينئذ فيرتفع النزاع ويعود لفظيّا. ويشهد له أنّ الشيخ الطوسي قدس‌سره المدّعي للإجماع على جواز العمل بأخبار الآحاد (١) قد يترك العمل بالخبر الضعيف معتذرا بأنّه خبر واحد لا نعمل به (٢) ويشهد له أيضا عمل جملة من المانعين بخبر الواحد الثقة ، فافهم وتأمّل.

بقي الكلام في أدلّة القائلين بحجّية الخبر الواحد ، فإنّ نهض دليل على حجّيته فذاك ، وإلّا فمقتضى الأصل العملي عدم حجّية كلّ ظنّ يشكّ في حجّيته ، وحينئذ فعدم الحجّية مقتضى الأصل.

[الاستدلال بالآيات الكريمة على حجّية خبر الواحد]

وقد استدلّوا بعدّة أدلّة :

الأوّل : آية النبأ وهي قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٣) وقد استدلّ بهذه الآية بعدّة وجوه :

أحدها : مفهوم الوصف ، وتقريره : أنّ التبيّن ـ الّذي هو واجب لأجل العمل بقرينة ذيل الآية لا لنفسه ـ واجب حيث يكون المخبر فاسقا ، فلو كان عادلا لا يلزم التبيّن بل يجب العمل بلا تبيّن ، وإلّا لزم مساواته للفاسق أو أرجحيّة الفاسق عليه ، وكلاهما محال.

__________________

(١) العدّة ١ : ١٠٠ و ١٢٦.

(٢) انظر العدّة ١ : ١٣٢ و ١٥١.

(٣) الحجرات : ٦.

١٤٣

ولا يخفى أنّ هذا الاستدلال مبنيّ على حجّية مفهوم الوصف ، وقد ذكرنا عدم حجّية مفهوم الوصف كما تقدّم ، خصوصا الوصف الغير المعتمد على موصوف. وإنّا وإن اخترنا أخيرا حجّية مفهوم الوصف إلّا أنّه بمعنى أنّه يستفاد عدم ثبوت الحكم لطبيعي الموصوف ، فيجوز أن يكون التبيّن ملغيا في بعض أفراد الخبر ، وهو خبر العدل المتعدّد يعني البيّنة ، فلا يستفاد حجّية خبر العادل منها.

الثاني : ما استدلّ به الشيخ الأنصاري قدس‌سره وتقريره : أنّ في الخبر المذكور في الآية جهتين ، أحدهما ذاتيّة وهي كونه خبر واحد ، والاخرى عرضيّة وهي كون المخبر فاسقا. لو كان التبيّن من جهة كونه خبرا واحدا لا من جهة كون المخبر فاسقا للزم أن يتعرّض للجهة الذاتيّة في الآية ، فترك التعرّض للجهة الذاتيّة والتعرّض للجهة العرضيّة ممّا يكشف عن أنّ جهة التبيّن ووجوبه من جهة كون المخبر فاسقا ، فإنّ قولك مثلا «اغسل هذا الدم لملاقاته النجس» قبيح لترك التعليل بالذاتي إلى العرضي. فإذا انتفت هذه الجهة وكان المخبر عادلا وجب القبول لانتفاء جهة التبيّن (١).

وقد أشكل بعض المحقّقين (٢) على الشيخ الأنصاري بإشكالين :

أحدهما : أنّ الخبر قد يكون خبر واحد وقد يكون متواترا ، فكون الخبر خبر واحد أيضا أمر عرضي فلا يقال : إنّ ترك ذكر الذاتي إلى ذكر العرضي ممّا يكشف عن أنّ جهة التبيّن لأمر العرضي.

والجواب : أنّ الكلام إنّما هو في الخبر الّذي لا يفيد العلم ، إذ لا معنى لوجوب التبيّن فيما أفاد العلم وإن كان المخبر فاسقا بل كافرا ، إذ المتّبع حينئذ العلم الّذي لا يفرّق بين أسبابه ، والمتواتر ممّا يفيد العلم بخلاف خبر الواحد ، فإنّه بذاته لا يفيد

__________________

(١) انظر نهاية الوصول للعلّامة : ٢٩٤ (مخطوط) ، والفرائد ١ : ٢٥٤.

(٢) لم نقف عليه.

١٤٤

العلم إذ أنّه محتمل للصدق والكذب ، فالمتواتر خارج عن محلّ الكلام فيبقى الخبر الّذي لا يفيد العلم وهو الخبر الواحد. وكونه خبر واحد بمعنى كونه محتملا للصدق والكذب ذاتي للخبر الّذي لا يفيد العلم ، إذ ليس المراد من الذاتي في المقام : الذاتي بمعنى الجنس والفصل بل الذاتي في باب البرهان ، وهو ما يكون تصوّره كافيا في حمل المحمول عليه ، نظير ثبوت الإمكان للإنسان فإنّه ذاتي وإن لم يكن ذاتيّا بمعنى أنّه داخل في الذات ، فافهم.

الثاني : أنّ الخبر الواحد وإن سلّمنا كونه وصفا ذاتيّا لكنّا لا نحتمل في الجهة الذاتيّة ـ وهي الجهة الخبريّة ـ وجوب التبيّن وإنّما جهة التبيّن هو مخبر الخبر ، فيحتمل أن تكون جهة التبيّن كون المخبر به فاسقا ، وأن تكون جهة التبيّن كون المخبر به الأعمّ من الفاسق والعادل ، وكلتا الجهتين عرضيّة. فالموضوع للتبيّن ليس ماهيّة الخبر ، بل الخبر بلحاظ راويه وهو الخبر الّذي يكون راويه فاسقا عند من يقول بحجّية خبر الواحد العادل ، والخبر الواحد بكلا إضافتيه ـ يعني سواء كان المخبر عادلا أو فاسقا ـ على رأي من لا يقول بحجّية خبر الواحد مطلقا. وحينئذ فإنّ الجهة الذاتيّة المزعومة في المقام لا يمكن أن تكون علّة لوجوب التبيّن ، لعدم القول بوجوب التبيّن في الخبر لذاته.

والجواب : أنّ ماهيّة الخبر لا تتحقّق إلّا بإخبار مخبر ، فإخبار المخبر مأخوذ في مفهومه وذاتي له. وحينئذ فخصوصيّة الفاسق هي العرضيّة ، وأمّا كلّي المخبر فهي جهة ذاتيّة. وحينئذ فترك تعليق وجوب التبيّن بالجهة الذاتيّة وتعليقه بالجهة العرضيّة دليل دوران الحكم مدارها.

بقي في المقام أنّه لو كان الموضوع لوجوب التبيّن خبر الفاسق لانتفى بانتفائه وإن لم يكن المخبر عادلا ، كخبر الصبيّ والمجنون ومن بلغ ولم يذنب ولم يحصل له ملكة العدالة.

١٤٥

والجواب : أنّ ما ذكرتموه وارد حتّى إذا قلنا بمفهوم الشرط ، إذ معنى الآية حينئذ : إن كان الجائي فاسقا فتبيّن ، فمفهومه : إن لم يكن الجائي فاسقا فلا تتبيّن ، فهو شامل لما إذا كان المخبر لا فاسقا ولا عادلا بناء على القول بثبوت الواسطة. والجواب في الجميع أنّ هذه الآية توجب التبيّن حيث يكون المخبر فاسقا ، فإذا انتفى كون المخبر فاسقا انتفى وجوب التبيّن ، إلّا أنّ عندنا أخبار دلّت على لزوم العدالة أو الوثاقة فتكون مقيّدة للمفهوم حينئذ ، على أنّ منطوق ذيل الآية يكفى في خروج ما لا وثوق به من الأخبار المذكورة لأنّه به تتحقّق إصابة قوم بجهالة.

فقد ظهر أنّ استدلال الشيخ سالم عن هذه الإيرادات المذكورة ، لكن يبقى شيء هو أنّ ما ذكره الشيخ لا يخرج عن كونه استدلالا بمفهوم الوصف ، وأنّ استدلاله أحد طرق الاستدلال بمفهوم الوصف من أنّه لو لم يكن في الوصف مدخليّة في الحكم لعرى تعليقه عليه عن الفائدة. ومن الممكن أن تكون الفائدة في المقام التنبيه على فسق الوليد ، وحينئذ فالوصف لا مفهوم له. وفرق واضح بين ذكر العلّة فيلزم أن تكون بأمر ذاتي عند اجتماعه بالأمر العرضي ، وبين ذكر الموضوع ، فإنّ إثبات الحكم لموضوع لا يستلزم النفي عمّا عداه ، فافهم.

الثالث : مفهوم الشرط وتقريبه : أنّ الحكم ـ وهو وجوب التبيّن ـ قيّد بكون المخبر فاسقا فينتفي عند إخبار العادل بالخبر.

وقد اورد على دلالة هذه الآية تارة من ناحية المقتضي ، واخرى من ناحية المانع.

أمّا من جهة المقتضي فقد اورد عليه بأنّ الشرط في المقام من الشروط الّتي سيقت لتحقّق الموضوع نظير «إن رزقت ولدا فاختنه» فإنّ لم يأت الفاسق بالنبإ فلا نبأ حتّى يجب تبيّنه أو لا يجب ، كما أنّه لو لم يرزق ولدا فلا موضوع حتّى يختنه.

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره بأنّ الموضوع في المقام هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به ، وليس الموضوع مجيء الفاسق بالنبإ حتّى يكون محقّقا للموضوع.

١٤٦

وتحقيق ما أفاده الآخوند قدس‌سره موقوف على ذكر امور ثلاثة (*) :

الأوّل : معيار كون الشرط قيدا للموضوع أو لا ، ومعياره أنّ الحكم إن قيّد بقيد فانتفاء ذلك القيد يوجب انتفاء ذلك الحكم وإلّا لم يكن الحكم مقيّدا. وأمّا الموضوع إن قيّد بشيء أو المتعلّق إن قيّد بشيء فلا يلزم من انتفاء ذلك الموضوع المقيّد انتفاء سنخ ذلك الحكم أصلا ، فإنّ ثبوت الإكرام لموضوع لا يلزم منه نفيه عن غيره أصلا.

الثاني : أنّ قيد الحكم إن كان قيدا مولويّا ينتفي الحكم بانتفائه ويدلّ على المفهوم ، وإن كان قيدا عقليّا فلا يدلّ على المفهوم ، ومن هنا لم يكن مثل قولك : «إن رزقت ولدا فاختنه» دالّا على المفهوم أصلا بخلاف قولك : «إن جاءك زيد فأكرمه».

الثالث : أنّ القيد إن كان مركّبا من شيئين أحدهما قيد مولوي والآخر عقلي محقّق للموضوع مثل قولك : «إن ركب الأمير وكان ركوبه للزيارة فخذ ركابه» فهنا انتفاء قيد الحكم ـ أعني به القيد المولوي ـ يوجب ثبوت المفهوم ، فيكون مفهوم المثال : إن ركب ولم يكن ركوبه للزيارة فلا تأخذ ركابه.

إذا عرفت هذه الامور الثلاثة فاعلم أنّ الآية من هذا القبيل ، فإنّ قيد الحكم بوجوب التبيّن : النبأ وكون الجائي به فاسقا ، والأوّل وهو النبأ محقّق لموضوع التبيّن لكن كون الجائي به فاسقا قيد مولوي للحكم فينتفي الحكم بانتفائه ويدلّ على المفهوم ، فيكون معنى الآية : إن لم يكن الجائي بالنبإ فاسقا فلا يجب التبيّن ، وحينئذ فدلالته على المفهوم واضحة.

__________________

(*) وتحقيق المقام : أنّ الشرط الّذي علّق عليه الحكم في الجملة الشرطيّة إن كان عقليّا بحيث يستحيل تحقّق ذلك الحكم بدونه فلا يدلّ على المفهوم حينئذ ، لأنّ الحكم حينئذ غير قابل للثبوت على تقدير نفيه ، وثبوته لغير هذا الموضوع بدليل آخر أجنبيّ عن مفادها. وإن كان قيدا شرعيّا مولويّا فنفيه يدلّ على نفي الحكم بمقتضى التعليق في الجملة الشرطيّة. وإن علّق الحكم على امور بعضها شرعي وبعضها عقلي فانتفاء العقلي ينفيه من باب السالبة بانتفاء الموضوع وانتفاء الشرعي من باب إفادة المفهوم. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

١٤٧

(ولكن المذكور في الآية امور ثلاثة : الجائي والنبأ والفاسق ، فإن كان الموضوع هو الجائي بالنبإ ، فيكون مفاد الآية : الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فتبيّنوا وكانت الآية دالّة على المفهوم. وإن كان الموضوع هو النبأ ، فيكون مفادها حينئذ : النبأ إن كان الجائي به فاسقا فتبيّنوا ، فتدلّ على المفهوم أيضا. وإن كان الموضوع هو الفاسق ، فيكون مفادها : الفاسق إن جاء بنبإ فتبيّنوا فلا يكون للآية مفهوم لأنّ عدم التبيّن حينئذ لعدم مجيء الفاسق بنبإ حتّى يتبيّن ، إذ المفهوم حينئذ : الفاسق إن لم يجئ بالنبإ لا تتبيّنوا. والظاهر من الآية هو الأخير وإنّ مساقها مساق قولك : «إن أعطاك زيد درهما فتصدّق به» وحينئذ فلا دلالة لها على المفهوم. ومن الغريب دعوى الآخوند قدس‌سره (١) دلالتها على المفهوم وإن كانت مسوقة لتحقّق الموضوع بدعوى أنّ تعليق الحكم على الفاسق يقتضي ذلك ، إذ هو عين الاستدلال بمفهوم الوصف) (٢).

وربّما يتوهّم ـ كما توهّم ـ أنّ الموضوع في المقام إمّا أن يكون خصوص نبأ الفاسق وإمّا أن يكون كلّي النبأ ، فإنّ كان خصوص نبأ الفاسق فوجوب التبيّن في هذه الحصّة الخاصّة لا يمنع من وجوب التبيّن في غيرها أيضا ، إذ لا مفهوم لها حينئذ إلّا على القول بحجّية مفهوم الوصف ، ضرورة كون الموضوع حينئذ نبأ الفاسق ، ومن المعلوم أنّها ـ أي الشرطيّة ـ حينئذ تكون مسوقة لتحقّق الموضوع. وإن كان الموضوع كلّي النبأ وشرط التبيّن فيه مجيء الفاسق بنبإ ما ، فحينئذ لو جاء الفاسق بنبإ واحد يلزم التبيّن في كلّ نبأ حتّى نفس هذا النبأ إذا جاء به العادل ، لتحقّق شرط التبيّن لكلّي النبأ وهو مجيء الفاسق بنبإ ما.

والجواب : أنّ كون الموضوع لوجوب التبيّن هو كلّي النبأ لا يلزم منه ما ذكرتم من وجوب التبيّن لكلّ نبأ إذا جاء الفاسق بنبإ ما ، نظير قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر

__________________

(١) الكفاية : ٣٤٠.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٤٨

كرّ لا ينجّسه شيء» (١) فإنّ الموضوع إن كان الماء الّذي هو كرّ فلا دلالة له على المفهوم ، وإن كان كلّي الماء لزم أن يكون بلوغ ماء ما كرّا مانعا عن انفعال جميع مياه الدنيا بملاقاة جميع أنواع النجاسات ، والحال أنّ الاستدلال بمفهوم هذا الخبر قد ذكره جميع الفقهاء أو جلّهم.

والحلّ في الجميع أنّ الحكم قد يكون له متعلّق بلا أن يكون لمتعلّقه متعلّق مثل قولك «لا تكذب» فإنّ النهي هنا قد تعلّق بالكذب ، وقد يكون لمتعلّق الحكم متعلّق أيضا ويعبّر عنه بالموضوع للحكم مثل «لا تشرب الخمر» فإنّ الحكم ـ وهو الحرمة ـ قد تعلّق بالشرب والشرب متعلّق بالخمر فالشرب يسمّى متعلّق الحكم والخمر يسمّى موضوع الحكم. إذا عرفت هذا فاعلم أن تقيّد الحكم يوجب تقيّد موضوع الحكم واقعا ، مثلا إنّ قولنا «إن جاءك زيد فأكرمه» موجب لتقيّد زيد الّذي هو موضوع وجوب الإكرام بالجائي ، إذ لا معنى لقولك : يجب على تقدير مجيء زيد إكرام زيد مطلقا سواء جاء أو لم يجئ ، وحينئذ فالنبأ في الآية وإن كان كلّيا إلّا أنّه لمّا صار واقعا موضوعا للحكم بوجوب التبيّن وكان الحكم بوجوب التبيّن مقيّدا بمجيء الفاسق بالنبإ يتقيّد النبأ واقعا لا بلسان الآية فإنّه مطلق كلّي ، فافهم.

ومن جميع ما ذكرنا ـ في إيراد عدم دلالة الآية على المفهوم وجوابه ـ ظهر ما في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) حيث زعم دلالتها على المفهوم حتّى لو كان الشرط محقّقا للموضوع ، بدعوى أنّ للوصف في المقام مفهوما وإن لم نقل بحجّية مفهوم الوصف كلّية لعدم استفادة الانحصار للعلّة ، إلّا أنّ في المقام علّة التبيّن منحصرة في كون الجائي فاسقا فتنتفي بانتفائه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢ و ٥ و ٦.

(٢) انظر الكفاية : ٣٤٠.

١٤٩

ووجه ضعف كلامه أنّ استفادة انحصار العلّة في المقام ممّا لا منشأ له أصلا ، وحينئذ فيبقى كون ثبوت الحكم لموضوع لا يستلزم نفيه عن غيره محكّما أصلا ، فتأمّل.

وأمّا الإيراد على الآية من حيث المانع فهو الإيراد الثاني ممّا أورده الشيخ الأنصاري على آية النبأ (١) بتوضيح منّا هو : أنّ الشرط في المقام لا مفهوم له وإن كان قيدا للحكم ولم يكن محقّقا للموضوع ، بدعوى أنّ عموم العلّة في الآية مانع عن انعقاد مفهوم لها ، لكون ظهور العلّة في العموم أقوى من ظهور الشرط في المفهوم ولا أقلّ من تساويهما ، فيكون المقام من قبيل المحتفّ بما يصلح للقرينيّة فلا يكون ذا ظهور في المفهوم.

وتقريبه : أنّ العلّة في المقام وهي (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) عامّة حتّى لخبر العادل ، إذ احتمال اشتباهه موجود وهو مؤدّ إلى الإصابة بجهالة ، والعبرة بعموم التعليل ، وحيث شمل عموم التعليل خبر العادل فلا مفهوم لها بحكم التعليل ، والتعليل وإن كان إصابة القوم بجهالة إلّا أنّه من حيث مورده ، وإلّا فليس دائما إخبار الفاسق يكون مستتبعا لذلك على تقدير كذبه ، إذ قد يكذب في دعوى دخول وقت الصلاة فهل في التعويل على إخباره إصابة قوم بجهالة؟ كلّا ، بل المراد من إصابة القوم بجهالة الوقوع في المفسدة الّتي كانت في مورد إخبار الوليد.

والجواب : أنّ ما ذكرتموه غير تامّ إذا كان المراد منها السفاهة كما هو الظاهر بقرينة عدم قبول هذا اللسان للتخصيص مع الالتزام بقول البيّنة وقول ذي اليد وغيرها ، مع أنّ احتمال الإصابة بجهالة بمعنى الوقوع في المفسدة متحقّق فيها فيلزم تخصيصها بها مع أنّ اللسان غير قابل للتخصيص كما ذكرنا ، فلا بدّ أن يكون المراد

__________________

(١) انظر الفرائد ١ : ٢٥٩.

١٥٠

من الجهالة السفاهة ، وحينئذ فالإصابة بالسفاهة بمعنى : لئلّا تعملوا عملا يعدّه العقلاء سفهيّا ، وحينئذ فمن المعلوم أنّ ترتيب آثار إخبار العادل لا يعدّه العقلاء سفهيّا أصلا بخلاف ترتيبها على إخبار الفاسق فإنّه عند العقلاء من الأعمال السفهيّة.

نعم يبقى في المقام شيء وهو أنّ أخذ السفاهة بهذا المعنى في الآية تستدعي أن يكون أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم أخذوا بالسفاهة.

والجواب : أنّ هذا إنّما يلزم على تقدير علمهم بفسق الوليد ، ومن الممكن أن يكون الوليد يضمر فسقه كأكثر من أسلم من الصحابة في ذلك الوقت ، فلا يكون ترتيب الآثار من أصحاب النبيّ بمجرّد إخباره سفهيّا وتكون الآية لبيان أنّ المخبر بهذا الخبر فاسق ، فهي لبيان الموضوع وما يترتّب عليه من إصابة القوم بالسفاهة ، فافهم.

وأمّا إذا كان المراد من السفاهة عدم العلم ، فإن قلنا بأنّ عموم التعليل حكم إرشادي ـ كما استظهرنا ذلك أخيرا من تحريم اتّباع غير العلم في الآيات الكريمة وإنّه إرشاد إلى ما يلزم مقام العبوديّة من لزوم تحصيل المؤمّن القطعي ـ فلا إشكال حينئذ ، لأنّ الحكم الإرشادي ليس فيه تعرّض إلى بيان محلّه ، فلا يصلح حينئذ قرينة لرفع الظهور المنعقد.

وإن قلنا بأنّه حكم مولوي فهو قضيّة حقيقيّة لا تعرّض فيها لتحقّق موضوعها وعدمه ، بل هي كسائر القضايا الحقيقيّة حكم على تقدير تحقّق الموضوع ، فإذا فرض انعقاد ظهور صدر الآية في المفهوم خرج خبر العادل عن كونه إصابة بغير علم وصار إصابة بعلم بمقتضى مفهوم الآية ، وهذا هو مراد الميرزا النائيني قدس‌سره من جوابه الثاني في المقام (١).

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ١٧٢.

١٥١

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره جوابين أيضا على تقدير أن يكون المراد من الجهالة في الآية عدم العلم ، أحدهما ذكره في باب تعارض المفهوم مع العموم كليّا (١).

وملخّصه : أنّ ظهور القضيّة الشرطيّة في المفهوم موقوف على أمرين :

أحدهما : تعليق الحكم في إحدى القضيّتين على القضيّة الثانية.

والثاني : كون الشرط منحصرا.

فالأوّل : وهو كون التعليق للحكم هو معنى أدوات الشرط وضعا ، فإنّ أدوات الشرط بحسب وضعها موضوعة لتعليق جملة على جملة اخرى ، فاستعمالها في غير ذلك بأن تكون قيدا للموضوع أو المتعلّق استعمال في غير ما وضعت له ولعلّه يكون غلطا لو خلّي عن المناسبة.

والثاني : وهو كون الشرط منحصرا في التعليق فموقوف على مقدّمات الحكمة ، فإنّ إطلاق كلام الحكيم مع كونه في مقام البيان وعدم ذكر عدل آخر لهذا الشرط كاشف عن كون الشرط منحصرا. واستفادة العموم من القضيّة إمّا من لفظة «كلّ» ولا دلالة لها على العموم ، لأنّها بحسب وضعها لعموم ما يراد من مدخولها ، وكون المراد من مدخولها العموم أوّل الكلام. وإمّا من عموم المدخول ، ومعلوم أنّ عموم المدخول إنّما هو بمقدّمات الحكمة.

إذا عرفت هذا ، فإذا تعارض العموم مع المفهوم فلا بدّ من تقديم المفهوم على العموم ، وذلك لأنّ العموم إمّا أن يرفع المدلول الوضعي لأداة الشرط ، وهو غير معقول ، لأنّ العموم إنّما استفيد بمقدّمات الحكمة والإطلاق ، فلا يرفع اليد عن الظهور الوضعي لأجله ، لإمكان أن يصير بيانا فلا تتمّ مقدّمات الحكمة.

وإمّا أن يرفع انحصار الشرط في المذكور ، وهو أيضا ممنوع ، لأنّ العموم إنّما يدلّ على سريان الحكم إلى كلّ فرد من أفراد المدخول ولا ربط له بانحصار الشرط المذكور في جملة اخرى وعدمه ، وحينئذ فظهور الجملة في المفهوم لا يعارضه العموم.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٨٤ ـ ٣٨٨.

١٥٢

الثاني من الجوابين وقد ذكره في هذا المورد بخصوصه وهو مفهوم آية النبأ (١) وتوضيحه : أنّ العموم موقوف على عدم المفهوم فكيف يعقل أن يكون عدم المفهوم مستندا إلى العموم المعلول له وهل يكون المعلول مانعا عن علّته؟ وهذا من خصوصيّات المورد ممّا يكون المفهوم حاكما على العلّة ومخرجا لنفسه عن أفرادها تعبّدا. وبالجملة أنّ عموم التعليل في الآية الشريفة لا يصلح أن يكون قرينة على عدم المفهوم ؛ وذلك لأنّ العموم إنّما يدلّ على أنّ إصابة القوم بغير علم يوجب الندم ، وحينئذ فهذا الحكم قد اخذ بنحو القضيّة الحقيقيّة وهو لا يتكفّل لوجود الموضوع وعدمه ، فلا يصلح لبيان أنّ خبر العدل من جملة أفراد التعليل. فإذا فرض أنّ الآية بنفسه دالّة على المفهوم لو لا معارضة العموم فيكون خبر العادل حاكما على العموم ورافعا لموضوع عدم العلم ، ومعارضة العموم أيضا مفقودة في المقام ، لأنّ العلّة لا يعقل أن تكون محقّقة للموضوع الّتي تبيّن حكمه.

وبعبارة اخرى لا معارضة بين المفهوم في المقام وعموم التعليل ، لأنّ المفهوم بناء على حجّيته يكون حاكما على العلّة ومخرجا لنفسه عن كونه عدم علم بل يكون علما ، ولا يعارضه عموم التعليل بل لا يصلح لمعارضته ، لأنّ هذا العموم يستحيل أن يحقّق له موضوعا بنفس هذا الجعل فيستحيل ان يكون مانعا عن ظهورها في المفهوم.

وبهذا ظهر أنّ إيراد بعض المحقّقين بأنّ ثبوت المفهوم موقوف على عدم العموم فعدم العموم لو توقّف على حجّية المفهوم لزم الدور (٢) في غير محلّه ، فإنّ ثبوت المفهوم ليس موقوفا على عدم العموم كلّية بل على عدم عموم يكون مزاحما ، وليس ثبوت العموم في المقام مزاحما ، لما ذكرنا من عدم إمكان شموله لإخبار العادل ، فافهم.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) نهاية الدراية ٣ : ٢١٢.

١٥٣

وهذا الجواب الأخير متين جدّا ، وأمّا الجواب الأوّل ففيه أوّلا : أنّ عموم العامّ ليس مفتقرا إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، بل أنّ العموم مستند إلى أمر وضعي وهو «كلّ» فإنّها بنفسها تبيّن أنّ مدخولها مراد على سعته وشموله ، فإنّ قوله : «أكرم كلّ رجل» مثلا بمثابة أن يقول : اريد إكرام كلّ رجل سواء كان عالما أم جاهلا فقيها أم نحويّا عدلا أم فاسقا ، إلى غير ذلك من العبارات ، وذلك كلّه مستفاد من لفظة «كلّ» بوضعها. وحينئذ فقد ظهر أنّ عموم العامّ بالوضع واستفادة المفهوم إنّما هي بمقدّمات الحكمة ليستفاد انحصار الشرط في المذكور ، ومن جملة مقدّمات الحكمة عدم البيان ، والعموم يصلح أن يكون بيانا ، فلا يحرز حينئذ عدم البيان مع وجود العموم كما هو المفروض.

وثانيا : أنّه على تقدير كون العموم مستندا إلى أمر وضعي وأمر بمقدّمات الحكمة فالمفهوم أيضا كذلك ، فأيّ موجب يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر مع تساويهما.

وثالثا : أنّه وإن كان عموم التعليل لا يثبت عدلا للشرط بعنوان أنّه عدل إلّا أنّه بالملازمة يكشف عن وجود شرط ثان ، مثلا في قولنا : «إن كان هذا رمّانا فلا تأكله لأنّ كلّ حامض مضعف» يقتضي أنّه إن كان هذا رمّانا أو كان شيئا آخر حامضا غير الرمّان فلا تأكله ، فلا يدلّ على المفهوم لعدم الانحصار ، فافهم.

الثالث ممّا أورد على آية النبأ : ما ذكره بعضهم ، وتقريره : هو أنّ التبيّن إمّا أن يراد به في منطوق الآية العلم ، وحينئذ فلا يكون الأمر مولويّا لأنّ اتّباع العلم حكم عقلي ، فلو أمر به الشارع لا يكون أمره إلّا أمرا إرشاديّا ، وإذا كان الأمر إرشاديّا فلا حكم في منطوق الآية حتّى يحكم بنفيه في مفهومها.

وإن كان المراد من التبيّن الوثوق فهو يقتضي حجّية خبر الواحد الفاسق إذا أفاد الوثوق بأن عمل به المشهور مثلا ، وعدم حجّية خبر العادل إذا لم يفد الوثوق بأن أعرض عنه المشهور ، مع أنّ هذا القول إحداث قول ثالث لم يقل به أحد من العلماء لأدائه إلى المناقضة في الآية بين المنطوق والمفهوم ، ولأنّهم بين من يعتبر العدالة

١٥٤

فلا يترك خبر العدل كيف كان وبين من يعتبر الوثاقة فلا يترك الموثّق كيف كان ، فلا بدّ أن يكون المراد به الأوّل ، وحينئذ فلا مفهوم (١).

والجواب أوّلا : أنّ الظاهر أنّ ما زعمه قولا لم يقل أحد به ، هو القول المعروف عندهم ، لأنّ خبر الفاسق إذا أفاد الوثوق فدليل حجّيته حينئذ منطوق الآية ، إذ هو ممّا تبيّن.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ١٠٨. وكتب المقرّر في ورقة ملحوقة بيانا آخر للإشكال الثالث وجوابه. ونصّه ما يلي :

ثمّ إنّه قد يقال بأنّ التبين الوارد في الآية المباركة إمّا أن يراد به خصوص العلم كما هو المناسب للتعليل المذكور في ذيلها ، وحينئذ فلا دلالة لها على حجية خبر العادل لعدم كونه محصلا للعلم بالواقع ، وإما أن يراد به الوثوق فيلزم حينئذ حجية خبر الفاسق إذا أفاد الوثوق حتّى في الموضوعات الخارجية التي هي مورد الآية وهي ارتداد بني المصطلق ، وحيث إنّ الثاني غير ممكن للزوم عدم انطباقها على موردها فيتعين الأول.

والجواب أنّ المراد بالتبين معناه اللغوي وهو الظهور وهو غير متحقق في إخبار الفاسق فلذا ألزم الشارع بتحصيله وموجود في خبر العادل ولذا لم يجب التبين في خبره من حيث الخطأ والنسيان والغفلة لأصالة عدمها.

ثمّ إنّ الأمر بالتبين ليس أمرا نفسيا حتّى يكون تاركه معاقبا لتركه واجبا من الواجبات النفسية ، وليس أمرا شرطيا وإن اخترناه في الدورة السابقة لأنّه لو لم يتبين لا يخرج العمل بخبر الفاسق عن كونه عملا بخبر الفاسق ، بل المراد بالأمر الإرشاد إلى عدم الحجية لخبر الفاسق فيصير المفهوم حينئذ إعطاء الحجية لخبر الواحد العادل إذ كما أن الأمر بالتبين إرشاد إلى عدم الحجية كذلك عدم وجوب التبين في إخبار العادل إرشاد إلى لزوم ترتيب الآثار عليه ، وهذا المفاد وهو الإرشاد إلى الحجية وعدمها هو الظاهر من المتفاهمات العرفية فإنّ قولك إذا أخبرك فلان بخبر فتفحص عنه ظاهر في أن خبره لا يعتمد عليه ، كما أن قولك إذا أخبرك فلان بخبر فلا تتفحص عن صحته ظاهر في أنّ خبره صحيح.

١٥٥

وثانيا : أنّه يمكن أن يكون مفاد الآية هو ما ذكر من حجّية خبر العادل مطلقا أو الخبر الموثّق مطلقا ، وعدم التزام العلماء به لوجود المقيّد الّذي به خرج العلماء عن إطلاقها.

وثالثا : أنّ اتّباع العلم وإن كان حكما عقليّا إلّا أنّ تحصيله ليس كذلك ، وفي المقام الأمر بالتحصيل لا بالاتّباع إذ «فتبيّنوا» أمر بالتبيّن وهو تحصيل العلم.

الرابع ممّا اورد على آية النبأ : ما ذكره الشيخ الأنصاري بأنّ مورد الآية وهو الإخبار بردّة جماعة ، الواحد العادل لا يثبتها فضلا عن الفاسق ، فالقول بالمفهوم يوجب تخصيص مورد الآية وهو قبيح مستهجن (١). وقد أجاب عنه بأنّ المراد من الفاسق ليس الفرد الواحد بل المراد جنس الفاسق ، وحينئذ فالمفهوم يكون إخبار جنس العادل سواء كان واحدا أم أكثر. نعم يبقى الإشكال في إطلاق المفهوم وشموله للواحد مع أنّ المورد يأباه ، والجواب أنّ ما دلّ على أنّ الموضوعات أو خصوص الارتداد لا بدّ فيها من البيّنة يقيّده.

وقد أشكل المورد للإيراد المتقدّم على الشيخ بنفس ذلك الإيراد (٢).

وملخّصه : أنّه إن اريد من التبيّن العلم فاتّباع العلم أمر عقلي لا شرعي ، فلا يكون الأمر مولويّا في المنطوق حتّى ينتفي وجوب التبيّن في المفهوم ، وهو خبر العدل.

وإن اريد من التبيّن الوثاقة فهو مستلزم لقبول قول الثقة في مورد الآية وهو الإخبار بالارتداد ، ولا قائل به بخصوصه وإن قال بعضهم بحجّية خبر العادل في الموضوعات إلّا أنّه في خصوص الارتداد لا بدّ من البيّنة كموارد الخصومات.

والجواب ظاهر ممّا مرّ من أنّ المراد من التبيّن لو كان تحصيل العلم فلا يكون إرشاديّا لأنّه ليس أمرا باتّباع العلم بل بتحصيله ، وأيضا التبيّن هو أمر باستظهار

__________________

(١) الفرائد ١ : ٢٧١.

(٢) انظر نهاية الأفكار ٣ : ١١٧.

١٥٦

الحال فإنّ التبيّن لم ينقل عن معناه اللغوي الّذي هو بمعنى الظهور ومنه قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) أي حتّى يظهر. وحينئذ فالمراد من التبيّن الظهور ، ومن ثمّ استفيد حجّية خبر العادل من مفهومه فإنّه باعتبار كونه بنفسه ظاهرا وواضحا ، ولا معنى لطلب ظهور الظاهر ووضوح الواضح. فإذا علم أنّ المراد من التبيّن هو الظهور فإذا أردت أن تعرف الظهور فالمرجع إلى الشارع ، فمثلا الشارع نزّل البيّنة منزلة الظهور فجعلها فردا من أفراد الظهور في جملة من الموارد ، وكذلك خبر العادل في الأحكام ، وأمّا في الموضوعات وخصوصا الارتداد فلم يجعل قول العادل الواحد ظهورا ، بل قيّد كونه ظهورا بانضمام شخص آخر عادل إليه ، وحينئذ فلا يلزم إلّا تقييد المورد وهو غير ضائر ، فافهم.

الخامس ممّا اورد على آية النبأ : أنّ السيّد المرتضى من جملة العدول وقد نقل الإجماع على عدم حجّية الخبر الواحد (٢) فبموجب حجّية خبر الواحد يلزم عدم حجّية خبر الواحد ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

والجواب أوّلا : أنّ السيّد المرتضى نقل الإجماع على عدم الحجّية وقد ذكرنا في موارد عديدة أنّ خبر الواحد إنّما يكون حجّة حيث يكون المخبر به أمرا حسيّا ، ومن المعلوم أنّ المخبر به في المقام أمر حدسي فإنّ السيّد ينقل الإجماع ولا ينقل خبرا حسيّا سمعه من المعصوم عليه‌السلام.

وثانيا : أنّ خبر السيّد قدس‌سره معارض بنقل الشيخ الإجماع على حجّية الخبر الواحد (٣) ويأتي أنّ الخبرين المتعارضين لا تشملهما أدلّة الحجّية.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) انظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ و ٣ : ٣٠٩.

(٣) العدّة ١ : ١٢٦.

١٥٧

وثالثا : أنّ خبر السيّد في خصوص المقام ليس بحجّة ، لأنّ قبول قوله يستدعي عدم قبول قوله لو شمله ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، لأنّ قوله بعدم الحجّية لو قبل لما كان قوله مقبولا لأنّه من أفراده.

وقد اورد على هذا الإيراد الثالث إيراد ملخّصه : أنّ قول السيّد بعدم الحجّية لخبر الواحد لا يستلزم عدم حجّية قوله (١) لاستحالة شمول خبره لقوله ، لأنّ الحكم يلزم تأخّره عن موضوعه ، فإذا فرض أنّه يحكي الحكم فيلزم أن يكون الحكم ـ وهو المحكيّ ـ متقدّما فيلزم أيضا تقدّم موضوعه ، فإذا فرض أنّه بالحكاية يصير له فرد من أفراد الموضوع فلا يعقل أن يكون الحكم المتقدّم شاملا للموضوع المتأخّر لاستدعائه تأخّر الحكم عنه ، والمفروض أنّ الحكم محكيّ به فيكون نفس الحكم متقدّما فلا يعقل تأخّره.

والجواب : أنّ الحكم له مرتبتان :

إحداهما : مرتبة الجعل والإنشاء ، وهذا الجعل لا يتوقّف على وجود الموضوع ، لأنّ جعله إنّما يكون بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وهي لا يتوقّف على وجود الموضوع ، بل إنّما تجعل على تقدير وجود الموضوع. ومن ثمّ انحلّت القضيّة الحقيقيّة إلى شرطيّة وحمليّة فقولنا : «الخمر حرام» مثلا ينحلّ إلى قولنا : إن وجد الخمر فهو حرام.

والثانية : مرتبة الفعليّة ، وهذه المرتبة متوقّفة على وجود الموضوع ، إذ مرتبة الفعليّة هي مرتبة قابليّة الحكم للبعث والزجر ، ومعلوم أنّهما من آثار وجود المأمور به والمنهيّ عنه ، وهما متوقّفان على وجود الموضوع.

إذا عرفت هذا فما أخبر به وحكاه خبر السيّد المرتضى قدس‌سره عدم الحجّية في مرتبة الجعل وهي لا تتوقّف على وجود الموضوع ، وما هو متأخّر عن إخبار السيّد عدم الحجّية في مرتبة الفعليّة ، فلا يلزم تأخّر المتقدّم إذ المتقدّم غير المتأخّر ، بمعنى أنّ

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ٣ : ١١٨.

١٥٨

المتقدّم على خبر السيّد ومحكيّ خبر السيّد عدم الحجّية في مرتبة الجعل وما هو متأخّر عن خبر السيّد عدم الحجّية الفعليّة فيكون شاملا لقول السيّد ، فتأمّل.

ثمّ إنّ هذا المورد على الإيراد الثالث دفع الشبهة المذكورة ـ من عدم حجّية المفهوم في آية النبأ لشموله لقول السيّد المرتضى فلو كان خبر الواحد حجّة لزم عدم حجّيته ـ بأنّ قول السيّد المرتضى ليس بحجّة في المقام ، لأنّ عدم الحجّية إذا لم يمكن ثبوتها لقول السيّد قدس‌سره لكونها محكيّة به والمحكيّ متقدّم على الحاكي فالحجّية نقيض عدم الحجّية والنقيضان في رتبة واحدة وإلّا لم يكونا نقيضين ، فعدم إمكان ثبوت عدم الحجّية يستلزم عدم إمكان ثبوت الحجّية لما بينهما من الاتّحاد في الرتبة.

والجواب عمّا ذكره واضح بعد ما ذكرناه ، فإنّ الحجّية وعدم الحجّية في مرتبة الجعل متضادّان ، لا الحجّية في مرتبة الجعل مضادّة لعدم الحجّية في مرتبة الفعليّة وبالعكس ، بمعنى أنّ عدم الحجّية في مرتبة الجعل ليس مضادّا للحجّية في مرتبة الفعليّة حتّى يكونا في مرتبة واحدة ، فإذا لم يكونا في رتبة واحدة لم يمتنع أن لا يثبت أحدهما وهو المحكيّ ويثبت الحجّية الفعليّة للحاكي لأنّه مصداق وموضوع لحجّية خبر العدل ، والحكم إذا وجد موضوعه فقهرا يكون فعليّا.

وثانيا : بأنّا لو سلّمنا أنّهما في رتبة واحدة فإنّا نمنع أنّ كلّما كانا في رتبة واحدة فلا يثبت أحدهما حيث لا يمكن ثبوت الآخر ، نعم هو فيما كانا في رتبة واحدة بحسب الزمان مسلّم وأمّا أنّه في مطلق ما كان رتبته واحدة ولو لم تكن بحسب الزمان ، فلا ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في مبحث الضدّ.

وأحسن ما ينقض به على كلام هذا القائل أنّ الإنسان لو أخبر كاذبا بحليّة الكذب فإمّا أن يكون إخباره هذا صدقا أو كذبا ، ولا إشكال في كونه كذبا ، فإذا كان كذبا فإمّا أن يكون حراما أو حلالا ، وبموجب قوله يلزم أن لا يكون حراما لأنّه لا يعقل أن يتّصف بالحلّية لتأخّره عنها والحرمة في رتبتها ، فيلزم أن لا يكون إخباره هذا حراما ، ولا يلتزم هذا القائل به ، فافهم.

١٥٩

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ عمدة الجواب عن إشكال أنّ القول بالمفهوم لآية النبأ يقتضي شمول خبر السيّد وهو يقتضي عدم حجّية خبر الواحد منحصر في الأجوبة الثلاثة الّتي ذكرناها :

١ : من أنّ خبر السيّد حدسي ، فلا يكون مشمولا لحجّية الخبر المستفادة من مفهوم آية النبأ.

٢ : وأنّ خبره معارض بخبر الشيخ الطوسي قدس‌سره على الحجّية ، ودليل الحجّية لا يشمل المتعارضين.

٣ : وأنّ شمول آية النبأ لقول السيّد يقتضي عدم حجّية قوله ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وربّما يذكر هنا جواب رابع (بيان ذلك : أنّ خبر الواحد إنّما يجعل حجّيته في ظرف الشكّ فيه يعني في صدقه أو كذبه ، فلو علم صدقه فلا معنى للتعبّد بصدقه ، كما أنّه كذلك إذا علم كذبه. وحينئذ فإن عمّت الآية خبر السيّد وغيره فبمقتضى شمولها لخبر غير السيّد يقطع بعدم حجّية خبر السيّد للعلم بعدم مطابقة مؤدّاه للواقع ، وإن اختصّت بجعل الحجّية لخصوص خبر السيّد فيلزم التخصيص ، وإذا دار الأمر بين التخصّص والتخصيص كان التخصّص مقدّما (١) محافظة على أصالة العموم.

والجواب : أنّ ذلك متين في صورة المعارضة ، ولا معارضة في المقام بين خبر السيّد والأخبار الواردة في فروع الفقه ، لعدم اتّحاد الموضوع. نعم دليل الحجّية لا يشمل خبر السيّد وبقيّة الأخبار معا ، وحينئذ فلو شملت خبر السيّد لكان قبول بقيّة الأخبار الواردة في الفقه ممكنا بالتخصيص لخبر السيّد) (٢).

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ٣ : ١١٩.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٦٠