غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

بما يصلح للقرينية كما في عود الضمير الخاص على العام وتعقّب الاستثناء للجمل المتعددة ووقوع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه ففي القسم الأوّل وهو مورد جهل السامع بمعاني تلك الألفاظ لا إشكال في معاملته معاملة المجمل. وفي القسم الثاني وهو احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة المعبّر عنه في لسان الأصحاب باحتمال قرينيّة الموجود ، فلا يمكن أيضا التمسك بالظهور ؛ لأنّ المفروض أن لا ظهور أصلا.

نعم ، من بنى على أصالة الحقيقة تعبّدا كما يلوح من بعض القدماء كالسيّد المرتضى قدس‌سره في بعض كلماته (١) يمكنه التمسّك بأصالة الحقيقة فيه إلّا أن يقال : إنّ أصالة الحقيقة إنّما يتعبّد بها في غير هذا المورد وهي موارد احتمال وجود قرينية لا احتمال قرينية الموجود فتبقى موارد احتمال قرينيّة الموجود بحكم المجمل في عدم إمكان التمسّك بظهور اللفظ لو فرض عدم القرينة ، وهذا وجه قول الآخوند قدس‌سره (٢) وإن لم يكن بخال عن الإشكال بناء على حجّية أصالة الحقيقة من باب التعبّد فافهم ، نعم إذا شكّ في وجود القرينة الصارفة للّفظ عن ظاهره فلا إشكال حينئذ في التمسّك بالظهور لبناء العقلاء على إلغاء هذا الاحتمال وعدم ترتيب أثر عليه ولم يرد من الشارع ما ينهى عن هذه السيرة المستمرّة ، وذلك كاشف عن إمضائه ما عليه العقلاء في المقام.

وهذا الشكّ الّذي هو شكّ في وجود القرينة يتصوّر على نحوين :

أحدهما : أن يحتمل السامع أنّه غفل عن القرينة المتّصلة الّتي أدلى بها المتكلّم ، وهذا الاحتمال كما ذكرنا ملغى عندهم ، وإنّما الكلام في أنّ إلغاء هذا الاحتمال هل هو اعتماد على أصالة الظهور الّذي هو أصل وجودي أو أنّه اعتماد على أصالة عدم القرينة الّتي هي أصل عدمي وبها ينقّح الظهور. ذهب إلى الأوّل الآخوند قدس‌سره (٣) وإلى

__________________

(١) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣.

(٢) الكفاية : ٣٢٩.

(٣) المصدر المتقدّم.

١٢١

الثاني الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) والظاهر ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره لأنّ العقلاء إنّما بنوا على حجّية الظهور ، ومع احتمال أن يكون المتكلّم قد ذكر قرينة غفل عنها السامع لا يستقرّ للّفظ ظهور أصلا حتّى يبني العقلاء عليه ، وإنّما ينقّح موضوع الظهور بأصالة عدم القرينة أوّلا ثمّ يبني العقلاء على حجّية الظهور بعد إحراز ظهور في البين.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين احتمال القرينة المتّصلة الّتي لم يلتفت إليها السامع واحتمال القرينة المنفصلة وأنّ الاولى تمنع انعقاد الظهور بوجودها الواقعي والثانية إنّما تمنع حجّية الظهور بوصولها العلمي إلى المخاطب فكم بينهما من فرق.

الثاني : أن يكون احتمال خفاء القرينة غير ناشئ من احتمال غفلة السامع بل منشؤه شيء آخر كعروض التقطيع مثلا لاحتمال أن يكون فيما قطع قرينة على الموجود ، وظاهر الأصحاب عدم التوقّف في إجراء أصالة عدم القرينة في المقام كما يجرونها في صورة احتمال غفلة السامع عن القرينة.

نعم المحقّق القمّي قدس‌سره فرّق بين احتمال إخفاء القرينة من جهة غفلة السامع فأجرى أصالة عدم الغفلة وبين غيرها (٢) فلا تجري أصالة عدم الغفلة ، وذلك في ذكر ما اختاره قدس‌سره من انسداد باب العلم من أنّ الأخبار لا يمكن التمسّك بظهورها لعروض التقطيع لها قطعا. ومن المحتمل أن يكون في المقطوع بعض ما يكون قرينة على المذكور ولا بناء من العقلاء في المقام على أصالة عدم القرينة لعدم رجوع الخفاء في القرينة فيه إلى احتمال غفلة السامع حتّى يجري فيه بناء العقلاء ، فكأنّ المحقّق القمّي قدس‌سره يفرّق بين أصالة عدم القرينة في صورة احتمال غفلة السامع فيجري وبين صورة احتمال آخر غير غفلة السامع فلا يجري فيه أصالة عدم القرينة.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ١ : ١٧١.

(٢) لم نعثر عليه.

١٢٢

قال الاستاذ الخوئي في مجلس بحثه : إنّ الحقّ مع المحقّق القمّي في هذه الكبرى الكلّية لأنّ الكلام مع احتمال خفاء القرينة من جهة التقطيع لا ظهور له أصلا حتّى يبني العقلاء على حجّية الظهور ، مثلا من ورده كتاب فيه عامّ وقد قطع بعض الكتاب المحتمل لأن يكون مخصّصا لذلك العامّ لا يستطيع أن يعمل بالعامّ لأنّه حينئذ لا ظهور له أصلا. نعم تطبيق المحقّق القمّي لهذه الكبرى الكلّية على الأخبار الصادرة عن المعصومين الواردة في كتبنا غير صحيح ، لأنّ المقطّع لهذه الأخبار اناس أتقياء عدول وقد ذكروا مثلا أنّ ما يتعلّق بالصلاة من هذا الخبر مثلا هو هذا ، فلو كان ثمّة قرينة تتعلّق به لذكروها ، فتأمّل (*). فلا يترتّب على ما ذكره قدس‌سره مقصوده من انسداد باب العلم.

[الكلام في القراءات السبع]

وحيث انتهى الكلام إلى هنا فلا بأس بالتعرّض للقراءات السبع وأنّها متواترة أم لا؟ ولجواز الاستدلال بها وعدمه ، وحكمها في قراءة الصلاة. والكلام يقع في تواتر القراءات السبع إجمالا ، فنقول : زعم بعض العامّة (١) تواتر القراءات السبع وتبعهم بعض أصحابنا (٢) بل ادّعى الاندلسي من العامّة (٣) أنّ من أنكر تواترها محكوم بالكفر لأنّه أنكر ما هو معلوم بالضرورة من الدين. ويمكن أن يراد بتواترها أنّ قراءة النبيّ في ضمنها قطعا لا المصطلح من التواتر إذ الظاهر عدم كونها متواترة ،

__________________

(*) أشرنا بالتأمّل إلى أنّ هذا يرجع إلى الاعتماد على فهمهم عدم كون المقطوع قرينة على الموجود لا على عدم كونه قرينة ، فافهم وتأمّل ، (الجواهري).

(١) انظر التمهيد في علوم القرآن ٢ : ٤٣.

(٢) انظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣٩٠.

(٣) مفتي البلاد الأندلسيّة أبي سعيد (فرج بن لب) ، انظر التمهيد في علوم القرآن ٢ : ٤٩ و ٧٦.

١٢٣

إذ التواتر المبحوث عنه إمّا التواتر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القرّاء أنفسهم ، ويكذّبه استدلال القرّاء لقراءاتهم بالحجج الخارجيّة ، إذ لو كانت متواترة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن داع حينئذ لاحتجاجهم فإنّه هكذا قرء صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإمّا التواتر من القرّاء إلينا ، وهذا أيضا غير ثابت ، إذ كلّ قارئ له راويان يرويان عنه قراءته وكثيرا ما يختلفون في الرواية عنه. ولو سلّم تواترها عنهم فغاية ما يثبت أنّ القرّاء قرءوا هكذا وأيّ جدوى لذلك ، بل وعلى تقدير تحقّق التواتر عنهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقطع التواتر بنفس القرّاء ، إذ يكون نقل القارئ التواتر بخبره الّذي هو خبر واحد. ولا يخفى أنّ القرّاء غير معصومين عن الكذب بل صرّح بعض أهل الرجال من العامّة (١) بأنّ عاصم كذّاب وضعّفوا غيره من الرواة وتوقّفوا في بعضهم.

وأمّا جواز الاستدلال بقراءتهم حيث تختلف كما في قوله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٢) أو يطهرن فغير ممكن بعد عدم ثبوت التواتر ، نعم إحدى هاتين القراءتين حجّة بناء على كون قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله موجودة في ضمن القراءات إجمالا لكنّ الكلام في تعيينها ، فلا يمكن الاستدلال بالقراءات المختلفة المفاد.

وأمّا القراءة في الصلاة فمقتضى القاعدة الأوّليّة بعد عدم ثبوت التواتر لزوم قراءة سورة من القرآن لا اختلاف فيها للقرّاء كالكوثر ، وأمّا الحمد فمقتضى القاعدة قراءتها بجميع القراءات فما كان قرآنا يأتي به بقصد الجزئيّة وما ليس بقرآن يأتي به بقصد الذكر المطلق ، ولكن الأخبار الكثيرة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام وردت بالرخصة لنا.

__________________

(١) انظر ميزان الاعتدال ٢ : ٣٥٧.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

١٢٤

الكلام في حجّية قول اللغوي

إذا كان عدم انعقاد الظهور من جهة عدم المعرفة بأوضاع مفردات الكلام فهل يسوغ الرجوع إلى قول اللغوي لتعيين الأوضاع أم لا؟ أمّا الرجوع إليه من باب أنّه ظنّ فقد مرّ مرارا أنّ مطلق الظنّ ليس بحجّة بعد العمومات الناهية عن اتّباع الظنّ ، نعم ذكروا للرجوع إلى قول اللغوي وجوها ثلاثة :

أحدها : أنّ الرجوع إلى قول اللغوي في تعيين الأوضاع من باب الرجوع إلى أهل الخبرة نظير رجوع الجاهل العامي إلى المقلّد ، ومعلوم أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة سيرة العقلاء ولا يعتبر فيهم العدالة وأن يكون المخبر أكثر من واحد ، لأنّها ليست شهادة حتّى يعتبر فيها ما يعتبر فيها.

والجواب : أنّ اللغوي ليس من أهل الخبرة في الأوضاع ، وإنّما هو من أهل الخبرة بموارد الاستعمال ، وليس الرجوع إليه فيه رجوعا إلى أهل الخبرة ، بل من باب الشهادة ، لأنّ الفرق بين باب الرجوع إلى أهل الخبرة وباب الشهادات أنّ ما يفتقر إلى إعمال رأي ونظر فالرجوع فيه إلى أهل النظر رجوع إلى الخبرة ، وإن لم يفتقر إلى إعمال رأي ونظر بل إلى صرف مجرد الرؤية نظير كون قصيدة امرئ القيس مثلا ثلاثين بيتا أو أكثر مثلا فهو باب الشهادة. ومعلوم أنّ موارد الاستعمال من الامور الّتي لا تفتقر إلى أزيد من التتبّع والوقوف عليه ، وهو من الامور المحسوسة لكلّ أحد ، غير أنّ اللغوي وقف عليها لتتبّعه وغيره لم يقف لأنّه لم يكن بصدد التتبّع ولو كان بصدده لوقف. وحينئذ فليس الرجوع إلى قول اللغوي في تعيين موارد الاستعمال رجوعا إلى أهل الخبرة ، بل هو من باب الشهادة فيعتبر فيه ما يعتبر فيها ، فافهم وتأمّل.

١٢٥

الثاني : دعوى الإجماع على العمل بقول اللغوي وتسالم الفقهاء ـ قدّس الله أسرارهم ـ على العمل به في مقام عروض الشكّ أو النزاع ، والإجماع حجّة فيكون مستندا لحجّية قول اللغوي.

والجواب أوّلا : أنّ الإجماع غير متحقّق في المقام ، ضرورة كثرة من لم يتعرّض لهذه المسألة من العلماء الأعلام.

وثانيا : على تقدير تحقق الإجماع لا يجدي لأنّه تقييدي أي معلوم الوجه ، إذ أنّ وجهه هو ثبوت كون اللغوي من أهل الخبرة أو أنّ باب العلم منسدّ ، وقد أبطلنا الأوّل ، وسيأتي الكلام في بطلان الثاني إن شاء الله تعالى.

وثالثا : أنّ القدر المتيقّن من عملهم هو صورة حصول شرائط الشهادة في المخبرين من العدالة والعدد على القول المشهور.

ورابعا : أنّ عملهم بقول اللغوي لعلّه من باب أنّهم حصل لهم الاطمئنان بقول أهل اللغة ولو من تكثّر النقل.

الثالث : دعوى انسداد باب العلم بخصوصيات الكلمات المذكورة عند اللغويّين وما نطّلع عليه بحسب الفهم المتعارف هو أقلّ قليل من معاني اللغات ، وحينئذ فلو أجرينا الاصول في جميع موارد اللغة يلزم الخروج من الدين (١).

والجواب : أنّ انسداد باب العلم باللغات لا يجدي مع انفتاح باب العلم في الأحكام الشرعيّة ، ومع انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة لا حاجة إلى الانسداد في اللغات ، ومعلوم أنّ باب العلم بالأحكام الشرعيّة مفتوح ولا يلزم من انسداد باب العلم باللغات إذا أجريت الاصول الخروج من الدين أصلا ، إذ لا ربط للّغة بالدين إلّا أقلّ قليل من كلمات معدودة قليلة جدّا لا يلزم من إعمال الاصول فيها خروج من الدين أصلا.

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ٣ : ١٤٣.

١٢٦

وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس الله أسرارهم (١) وجها وانسدادا ، وملخّصه : أنّه لو كان الوجه في بطلان إجراء الاصول هو لزوم الخروج من الدين لزم ما ذكرتم إلّا أنّ هنا وجها آخر هو لزوم المخالفة القطعيّة ، وهنا أيضا هذا الوجه جار ، وذلك لأنّ إجراء الاصول يوجب المخالفة القطعيّة ليتمّ انسداد باب العلم فيكون الظنّ حجّة.

والجواب أوّلا : أنّ إجراء الاصول في الموارد المشكوكة في اللغات ليس من الكثرة بحيث يحصل العلم بالمخالفة القطعيّة بل هو قليل جدّا.

وثانيا : أنّه ليس جميع موارده أحكاما إلزاميّة حتّى تكون المخالفة القطعيّة فيها قادحة.

وثالثا : أنّه إذا لم يمكن إجراء الاصول لما ذكره من لزوم المخالفة القطعيّة فلا يلزم تماميّة بقيّة مقدّمات الانسداد بل يحتاط فيها ، ضرورة أنّه لا يلزم من الاحتياط اختلال النظام أو عسر وحرج لقلّتها. فتلخّص أنّه لا حجّة بقول اللغوي بنفسه إلّا أن يفيد الوثوق والاطمئنان فقد عاملهما العقلاء معاملة القطع ولم يردع الشارع عنهما فيستفاد حينئذ منه الإمضاء.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

١٢٧

في حجّية الإجماع المنقول وعدمها

والبحث في حجّية الإجماع المنقول بعد الفراغ عن القول بحجّية أخبار الآحاد ، بدعوى أنّ الإجماع المنقول أيضا من جملة أخبار الآحاد وأنّه فرد من أفرادها ومصداق من مصاديقها ، غاية الأمر أنّها تنقل رأي المعصوم عليه‌السلام مباشرة والإجماع المنقول ينقله بلفظ الإجماع. وقد قدّم الشيخ الأنصاري (١) مقدّمة نفيسة في المقام حاصلها : أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد وأهمّها سيرة العقلاء على العمل بالخبر الموثّق إنّما تدلّ على حجّية أخبار الآحاد حيث يكون الخبر مستندا إلى الحسّ ، بمعنى أنّ المخبر به أمر حسّي يدرك بالحواسّ ولا أقلّ من احتمال كونه مستندا إلى الحسّ أو أمرا حدسيّا لكنّه ينتهي لوضوحه إلى الحسّ ككون ضرب تسعة في تسعة أحد وثمانين مثلا أو إخبارا بمسبّب ، الملازمة بينه وبين سببه الحسّي معلومة عند المتكلّم والمخاطب بحيث إنّ المخاطب إذا رأى هذا السبب الحسّي الّذي أدركه المخبر ينتقل إلى المسبّب بلا توقّف. ففي هذه الموارد الأربعة دلّت الأدلّة على حجّية الخبر الواحد الموثّق ، وأمّا إذا علم أنّ المخبر به أمر حدسي قطعا غير منته إلى الحسّ فلا دليل يدلّ على حجّية أخبار الآحاد فيه ، والإجماع المنقول حيث إنّه أمر حدسي بمعنى أنّ كونه إخبارا برأي المعصوم عليه‌السلام أمر حدسي فلا تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد قطعا.

نعم زعم بعض الفضلاء (٢) أنّ الإجماع المنقول الّذي هو إخبار بأمر حدسي إنّما هو الإجماعات المنقولة بعد زمن الشيخ الطوسي قدس‌سره وأمّا الإجماعات المنقولة بقوله وقول من قبله فاحتمال كونها مستندة إلى الحسّ موجود بأن يسمع الشيخ

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ١ : ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٢) لم نعثر عليه.

١٢٨

الطوسي قدس‌سره قول الإمام عليه‌السلام ولو بالواسطة ثمّ يضيف إليه أقوال بقيّة ذوي الأقوال ثمّ ينقله بلفظ الإجماع ، فالإجماعات المنقولة من الشيخ فمن فوقه تكون حجّة لاحتمال استنادها إلى الحسّ ، وقد سلّمتم أنّها إذا احتمل استنادها إلى الحسّ تكون داخلة في الحجّية.

والجواب : أنّ إجماعات الشيخ الطوسي قدس‌سره ليست بسماع رأي المعصوم حسّا حتّى بالواسطة ، (إذ لو كانت كذلك لنقلها رواية ولا مقتضي لذكر قول الإمام عليه‌السلام بعنوان الإجماع) (١) بل أنّها مبتنية على قاعدة اللطف الّتي ادعاها قدس‌سره (٢) وأمّا إجماعات السيّد فإنّما هي بأن يحصل الإجماع على كبرى كلّية ثمّ يدّعيه في كلّ مورد يزعم أنّه من مصاديق تلك الكلّية وأفرادها فيدّعي الإجماع عليه وإن لم يكن من أفرادها ومصاديقها واقعا ، (ولو سلّمنا احتمال كونها أن تكون متضمّنة لقول المعصوم حسّا فهو احتمال موهوم ، وما ذكرناه في الاحتمال العقلائي لا مثل هذا الاحتمال الموهوم) (٣).

[الإجماع المحصّل]

بقي شيء وهو أنّ الملازمة بين الإجماع المحصّل الّذي هو اتّفاق العلماء وبين قول المعصوم إمّا عقليّة أو عاديّة أو اتّفاقية :

أمّا الملازمة العقليّة فقد يستدلّ لإثباتها بوجهين :

أحدهما : أنّ قاعدة اللطف على الله وتحتّمه عليه بمعنى أنّ اللطف واجب عليه ، بمعنى أن لا يكون من قبله تعالى مانع يوجب امتناع العبد عن التقرّب إليه والوصول إلى درجات العبد المطيع لأمر مولاه. فهذه القاعدة الّتي بها اثبت وجوب بعث

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) العدّة في اصول الفقه ٢ : ٦٠٢.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٢٩

الأنبياء على الله ووجوب نصب الإمام على الرعيّة هي بنفسها تثبت أنّ هذا الاتّفاق كاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام عقلا ، وإلّا للزم عليه أن يردعهم ويظهر الخلاف فيما بينهم ، فعدم ظهور الخلاف يكون كاشفا عن إمضائه ما أفتى به العلماء.

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ قاعدة اللطف على تقدير تسليمها إنّما تقتضي تبليغ الأحكام بالطرق المألوفة والسير المعروفة ، بأن يبلّغ النبيّ وأوصياؤه سلام الله عليهم أجمعين الأحكام المودعة عندهم إلى أصحابهم ومعاصريهم ، فإذا بلّغوا ذلك وخفي علينا لتضييع بعضها وكتمان الأعداء البعض الآخر فليس حينئذ انتفاء اللطف مستندا إلى تقصيرهم أو إلى أمر يرجع إليهم وإنّما يرجع إلى امور أخر خارجيّة.

نعم ، لو ثبت ما رواه العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : لا تجتمع امّتي على الخطأ (١) لكان اتّفاقهم كاشفا عن الصواب ، ولكن هذا الحديث لم يثبت لدينا صحّته أصلا. ولو لزم على الإمام عليه‌السلام أن ينقذ امّته من كلّ خطاء بقاعدة اللطف للزم عليه أن يظهر فيبيّن للمجتهد المخطئ في حكم خطأه فيه ، لأنّ قاعدة اللطف لا فرق فيها بين جميع العالم أو أهل قرية أو مدينة ، فلو أنّ مجتهدا أفتى لمقلّديه بحكم من الأحكام وكان فتواه خلاف الحكم الواقعي للزم على الإمام أن يبيّنه له ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد. على أنّ ظهوره عليه‌السلام إن كان مع عدم علم السامع أنّه هو الإمام فلا يجدي خلافه ولا يعتني به ، وإن كان مع العلم بأنّه الإمام فهو وإن كان حسنا إلّا أنّه مقطوع بعدمه.

الثاني : أنّ الخبر إذا تكثّر المخبرون به ففي إخبار أوّل مخبر يحصل احتمال صدق الخبر وفي الثاني يحصل الظنّ وفي الثالث يتأكّد الظنّ وهكذا حتّى يصل إلى مرتبة القطع ، فكما أنّ تكثّر المخبرين بخبر يوجب اضمحلال احتمال الخلاف وانعدامه بالوجدان فهكذا اتّفاق الفقهاء على حكم ، ضرورة أنّه إخبار عن رأي المعصوم بحسب ظنّه واجتهاده.

__________________

(١) كنز العمال ١ : ٢٠٦ وفيه : «لن تجتمع امتي على ضلالة».

١٣٠

وفيه : أنّ قياس ما نحن فيه على مورد الخبر الحسّي قياس مع الفارق ، فإنّ الخبر إن كان بأمر حسّي كسفر زيد مثلا فتكثر الأخبار فيها يوجب اضمحلال احتمال كذبه كما ذكر القائل ، لكن ذلك فيما يكون حدسيّا ممنوع ، لأنّ احتمال الخطأ في الحسّيات ضعيف ، وفي الحدسيّات قويّ جدّا.

وأمّا الملازمة العاديّة فقد تقرّب بأنّ رأي الملك مثلا يستفاد القطع به من أخبار أتباعه ، فلو أخبر أتباعه بأنّه عازم على السفر غدا يحصل القطع بعزمه ، ولا ريب أنّ العلماء أصحاب الإمام عليه‌السلام وأتباعه فيحصل من اتّفاقهم هنا القطع بالحكم. وهذا أمر عادي غير قابل للإنكار.

والجواب : أنّ هذه وإن سلّمت حيث يتّصل أتباع الملك أو الرئيس به لكنّه من جهة كونه حينئذ إخبارا عن حسّ ، أمّا حيث يكون الإخبار حدسيّا فلا ، والمقام من قبيل الثاني.

وأمّا الملازمة الاتّفاقيّة فلا ننكر أنّه قد يحصل اتّفاقا من اتّفاق الأصحاب القطع برأي المعصوم إلّا أنّ الأمر الاتّفاقي لا يدخل تحت ميزان ، فقد يحصل لبعض العلماء القطع باتّفاق معظم الأصحاب ، وقد يحصل باتّفاق خمسة أو عشرة لشخص آخر فلا ميزان في الملازمة الاتّفاقيّة أيضا.

فتلخّص ممّا ذكرنا عدم حجّية الإجماع المحصّل لعدم الملازمة العقليّة والعاديّة ، ووجود الاتفاقيّة لا يجدي لعدم انضباطها.

[الإجماع المنقول]

كما ظهر أن لا موقع للبحث عن حجّية نقل الإجماع ، ضرورة أنّه بعد تحقّق حجّية الإجماع المحصّل يتكلّم في أنّ نقل الإجماع حجّة أم لا. نعم لو علمنا ممّن نقل الإجماع أنّه اطّلع على اتّفاق جمع لو اطّلعنا على اتّفاقهم لحصل لنا القطع برأي المعصوم كان حجّة ، ولكن هذا من أين يحرز؟

١٣١

ثمّ إنّ اتّفاق الأصحاب كما لا يثبت قول المعصوم كذلك لا يثبت أنّ ما أفتى به الأصحاب مستند إلى حجّة صحيحة أو أنّه يثبت ذلك فنقول : إن كان إجماعهم موافقا للأصل والقاعدة فلا ، وأمّا إن لم يكن إجماعهم على طبق الأصل والقاعدة فإن كان جميع الفقهاء متّفقين حتّى أصحاب الأئمّة سلام الله عليهم فلا ريب في كشفه عن وجود الحجّة المعتبرة ، وإن كان من جهة أنّ جملة من القدماء أفتوا بالحكم استنادا إلى الأصل أو القاعدة وتبعهم المتأخّرون محتجّين باتّفاقهم فلا يكشف أيضا عن وجود الحجّة المعتبرة ، وغالب الإجماعات المنقولة من هذا القبيل.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الإجماع المنقول كما لا يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام كذلك لا يكشف عن وجود الحجّة المعتبرة إلّا حيث يعلم اتّفاق الكلّ وعدم استناد بعضهم إلى اتّفاق الباقين ، وهو قليل جدّا في الإجماعات المنقولة الّتي بأيدينا. (نعم لو كان الناقل للإجماع ناقلا لقول المعصوم أو رأيه عن حسّ جرى عليه حكم الإخبار عن حسّ ، وكذا إن كان عن حدس قريب إلى الحسّ ، وإن كان إخباره عن حدس غير منته إلى الحسّ فلا ريب في عدم حجّية نقله. وإن شكّ في كون إخباره حسيّا أو حدسيّا فالظاهر استقرار بناء العقلاء على كون إخباره حسيّا حتّى يثبت كونه حدسيّا. ولا يخفى أنّ أغلب نقلة الإجماع من القسم الثالث وأخبارهم حدسي فلا يجدي شيئا. نعم لو علمنا أنّ السبب الّذي حصل لهم منه الحدس شيء لو حصل لنا لحصل لنا منه الحدس بقول المعصوم عليه‌السلام فلا ريب في قبول قولهم في حصول ذلك السبب ، لأنّه حسّي وما دلّ على قبول خبر العادل والثقة يشمله قطعا ، فيثبت عندنا تحقّق ذلك السبب الحسّي والمفروض حصول العلم منه حدسا بقول الإمام عليه‌السلام.

ولا يخفى أنّ ناقل الإجماع إن كان نقله بلفظ «أجمع المسلمون» فلا ريب في ادّعائه بدخول المعصوم في المجمعين فينبغي قبوله إلّا أنّ الشأن في احتمال تحقّق مثل هذا الإجماع ، لأنّ من كان في عصر الأئمّة لم يدّع مثل هذا الإجماع ومن بعدهم لم يشاهدوا الأئمّة ليطّلعوا على دخولهم في ضمن المجمعين قطعا. وإن كان الناقل

١٣٢

للإجماع بلفظ «أجمع الأصحاب ، أو الحكم كذا بالإجماع» كما في إجماعات الشيخ والسيّد المرتضى وابن إدريس فمعلوم من الشيخ أنّ إجماعه مبنيّ على قاعدة اللطف وهو أمر حدسي يحصل له منه القطع بقول المعصوم وقد أبطلنا صحّتها ، وإجماع المرتضى للإجماع على القاعدة الّتي يرى تطبيقها على المورد بحسب نظره ، وكذا إجماع ابن إدريس. نعم لو كان ناقل الإجماع ممّن يحتمل في حقّه تتبّع فتاوى خمسين عالما يثبت لنا فتاويهم على ذلك الحكم دون تحقّق قول المعصوم على طبقه. هذا كلّه في الاصول) (١) ، ومع ذلك كلّه فمخالفة الإجماعات المنقولة في غاية الإشكال.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٣٣

في حجّية الشهرة وعدمها

والشهرة قد تكون في الرواية كما إذا اشتهر ذكر الرواية في كتب الأصحاب ، ولا ريب في كونها مرجّحة للمشهورة في مقام التعارض ، لقوله عليه‌السلام : خذ بأشهرهما (١) وقوله : خذ بما اشتهر بين أصحابك (٢) عند سؤاله عن الروايتين المتعارضتين.

وقد تكون في الاستناد كما إذا اشتهر استناد الأصحاب في حكم من الأحكام إلى رواية ، (ولا ريب في كونها جابرة لضعف سندها لدخوله تحت التبيّن الّذي علّق عليه وجوب العمل بالخبر الواحد ، لأنّ استناد الفقهاء الأتقياء إليه كاشف عن اطّلاعهم على صحّته كما أنّ إعراضهم عن الرواية المقابلة موهن لها وإن كانت في أرقى مراقي الصحّة ، بل كلّما ازدادت صحّة ازدادت وهنا بإعراضهم عنها) (٣).

وقد تكون في الفتوى كما إذا اشتهرت الفتوى بين الأصحاب من غير أن يعلم مستندها ودليلها.

وكلامنا في المقام في حجّية الشهرة الفتوائيّة ، (ذهب المشهور إلى عدم حجّية الشهرة ، وحينئذ فيمكن أن يقال : إنّه يلزم من حجّية الشهرة عدم حجّية الشهرة) (٤). وذهب بعضهم إلى حجّية الشهرة في الفتوى ، ودليلهم وجوه :

أحدهما : الأخذ بإطلاق الموصول في قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» (٥) في مرفوعة زرارة ، وفي مقبولة ابن حنظلة : ينظر إلى

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه. والظاهر أنّه مأخوذ من مقبولة عمر بن حنظلة ، انظر ذيل الحديث ٣٢٢٣ من كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٨.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٣ و ٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣ و ٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٥) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

١٣٤

ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور ... إلى آخره (١).

والجواب : أنّ المراد الشهرة الروائيّة لا الفتوائيّة كما هو محلّ الكلام ، (وذلك لأنّ قول الإمام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ممّا يعطي أنّ اتّفاق جماعة عليه يوجب عدم الريب فيه بالإضافة إلى الآخر. والفتيا لمّا كانت من الامور النظريّة لم تكن حينئذ الشهرة رافعة للريب فيها ، لأنّها من الامور الحدسيّة وخطأ المشهور فيه غير بعيد كإصابة الشاذّ النادر ، بخلاف الامور الحسيّة كالشهرة في الرواية ، فإنّ تطابق اثنين يوجب ضعف احتمال الخلاف) (٢). ولا إطلاق في المقام حتّى يتمسّك به في المورد فإنّ من سألك : أيّ الرمّان أحبّ إليك؟ فقلت : الحامض ، فهل فيه إطلاق لكلّ حامض أم لخصوص ما سألت عنه؟ ولذا صحّ أن يكون الروايتان مشهورتين ، مع عدم إمكان شهرتين في الفتوى. وحينئذ فالمراد بالشهرة الروائيّة كونها يعرفها كلّ أحد حتّى راوي الشاذّ النادر ، والمراد بالنادر ما لا يعرفه كلّ أحد. فالمراد بالشهرة المعنى اللغوي وهو الظهور لا أن يعرفها أغلب الناس ولا يعرفها البعض منهم بل يعرفون الشاذّة ، فافهم وتأمّل.

الثاني : أنّ الظنّ المستفاد من الشهرة أقوى بمراتب من الظنّ المستفاد من خبر الواحد ، فالشهرة أولى بالقبول من الخبر.

والجواب : أنّ هذا الدليل مبنيّ على كون خبر الواحد حجّة من جهة إفادته الظنّ ، وإن ملاك حجّيته الظنّ فالملاك الّذي أوجب حجّية الخبر يوجب حجّية الشهرة بالأولويّة ، لأقوائيّة الظنّ فيها على الظنّ فيه ، وليس الأمر كذلك فإنّا لا نعلم أنّ ملاك حجّية الخبر الواحد إفادته الظنّ ، بل يمكن أن يكون ملاك حجّيته اطّلاع

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٣٥

المولى على أغلبيّة مصادفته الواقع وقلّة مخالفته ، ويمكن أن يكون غير ذلك. ولا ينافي ما ذكرنا كونه حجّة من باب الطريقيّة ، إذ كونه حجّة من باب الطريقيّة بمعنى أنّه لا مصلحة في المؤدّى كما هو معنى القول بالسببيّة لأدائه إلى التصويب أو غيره من اللوازم الباطلة كما مرّ في محلّه.

الثالث : التمسّك بعموم التعليل في ذيل آية النبأ وهي قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) بتقريب أنّ العلّة تعمّم وتخصّص ، فإذا قال القائل : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، اقتضى المنع عن خصوص الرمّان الحامض دون الحلو ، والمنع عن الحامض الّذي هو غير الرمّان أيضا. وحينئذ فعموم التعليل يقضي بأنّ كلّ ما لم يكن فيه اصابة القوم بالجهالة فالعمل به صحيح ، ومنه الشهرة في الفتيا فإنّه تعويل على نظر جماعة من أهل الخبرة والورع والتقى.

والجواب : أنّ التعليل يقول بأنّ إصابة القوم بجهالة أمر مرغوب عنه ، لا أنّ كلّما ليس إصابة بجهالة فهو مرغوب عندي. وثانيا : أنّه على تقديره فهو في الخبر حجّة لأنّه إخبار عن أمر حسّي ، وفي الشهرة ليس كذلك لأنّه إخبار عن أمر حدسي وهو الحجّة المعتبرة ، فافهم.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٣٦

في حجّية خبر الواحد وعدمها

وهذه المسألة من مهامّ المسائل الاصوليّة ، إذ عليها يترتّب انسداد باب العلمي وانفتاحه بعد انسداد باب العلم ، وعليها أيضا يتوقّف الاجتهاد. وكونها من المسائل الاصوليّة بناء على أصلنا واضح ، فإنّها تقع في طريق استنباط أكثر الأحكام وهو المناط في كون المسألة اصوليّة ، ولا حاجة إلى تجشّم جعل البحث فيها بحثا عن ثبوت السنّة بخبر الواحد فيكون بحثا عن عوارض السنّة ، لعدم انحصار الموضوع لعلم الاصول في الأدلّة الأربعة حتّى يحتاج إلى ذلك ، مع أنّ عدم انطباق الموضوع المدّعى على هذه المسألة كاشف عن كون الموضوع ليس بموضوع ، ضرورة كونها من المسائل الاصوليّة وإن لم يعلم وجهه عند بعضهم. مضافا إلى أنّ الثبوت الواقعي الذهني غير موجود ، لأنّه خبر واحد يحتمل الصدق والكذب وليس متواتر حتّى يثبت في الذهن ولا يحتمل كذبه ولو اشتباها ، والثبوت التعبّدي ليس من أحكام السنّة بل من أحوال الحاكي لها ، فإنّ التعبّد بقول الإمام ولزوم اتّباعه ليس محلّا للكلام أصلا ، وإنّما محلّ الكلام أنّ الحاكي له هل يجب التعبّد به كما يجب بالمحكيّ أم لا؟ بمعنى أنّه يجب تنزيله منزلة قول الإمام عليه‌السلام أم لا.

وقد وجّه بعض الأعاظم (١) كلام الشيخ الأنصاري بتقريب أنّ التنزيل يحتاج إلى

__________________

(١) هو المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ١٩٩.

١٣٧

تصوّر المنزّل والمنزّل عليه وجهة التنزيل ، فالمنزّل في المقام هو الخبر الحاكي ، والمنزّل عليه هو قول المعصوم عليه‌السلام وجهة التنزيل هي التعبّد عملا. وحينئذ فكما يمكن أن يكون موضوع المسألة المنزّل فيقال : الخبر الحاكي هل نزّل منزلة قول المعصوم أم لا؟ كذلك يمكن جعله هو المنزّل عليه فيقال : قول المعصوم عليه‌السلام هل نزّل منزلته شيء أم لا؟

ولا يخفى ما فيه من التكلّف أوّلا ، وثانيا أنّ الأثر المطلوب من البحث هو كون الخبر الواحد منزّلا لا أنّ قول المعصوم عليه‌السلام هل نزّل منزلته شيء أم لا فتأمّل ، مضافا إلى ما في أصل المبنى من التنزيل الّذي قد مرّ أنّه مستلزم للتصويب المجمع على بطلانه ، وقد ذكرنا أنّ معنى التعبّد هو عبارة عن إعطاء صفة الطريقيّة للمتعبّد به وإلغاء نقصان كشفه بإلغاء احتمال الخلاف.

وبالجملة ، فكون المسألة اصوليّة لا يرتاب فيها ذو مسكة وإن اختلفوا في الطريق المثبت لكونها اصوليّة. وبالجملة أنّ الاختلاف في الطريق الموصل إلى كونها اصوليّة لا في كونها اصوليّة.

وقد أطنبنا الكلام فلنعد إلى المقصود فنقول : ذهب المشهور إلى حجّية الخبر الواحد ، وجماعة ـ منهم السيّد المرتضى (١) وابن زهرة (٢) وابن إدريس (٣) والطبرسي (٤) والقاضي (٥) ـ إلى عدم الحجّية مستدلّين (بامور :

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٥٢٨ ، رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٠٩.

(٢) الغنية ٢ : ٣٥٦.

(٣) السرائر ١ : ٥١.

(٤) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.

(٥) حكاه عنه صاحب المعالم في المعالم : ١٨٩.

١٣٨

[أدلّة المانعين عن العمل بخبر الواحد]

الأوّل : دعوى الإجماع على المنع عن العمل بأخبار الآحاد ، بل ادّعى بعضهم (١) أنّ ترك العمل بأخبار الآحاد من ضروريّات مذهبهم ويعرفون به كالقياس.

الجواب : أنّ دعوى الإجماع في مثل المقام من الدعاوي المقطوع ببطلانها ، لأنّ المشهور قائلون بحجّية أخبار الآحاد (٢) ومع القطع بكذب هذه الدعوى لا يكون نقل الإجماع مجديا ، بل قد ذكرنا عدم حجّية الإجماع المنقول مع الشكّ في صدقه وكذبه؟ بل أنّ الإجماع المنقول لو كان حجّة فدليل حجّيته ما دلّ على حجّية أخبار الآحاد ، وحينئذ فيلزم من وجوده عدمه ، وما يكون كذلك لا يكون حجّة قطعا.

الثاني) (٣) : الأخبار الدالّة على أنّ ما خالف كتاب الله لم نقله أو زخرف باطل أو أطرحه أو ارم به الجدار ، وإنّ ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو سنّة نبيّه فلم نقله ، من الأخبار المتواترة (٤) بألسن مختلفة الدالّة على النهي عن العمل بما خالف الكتاب أو لم يوافقه ، وما وافق الكتاب أو السنّة المتواترة فلا حاجة إليه ، إذ يكفينا الكتاب والسنّة المتواترة عنه.

والجواب : أنّ هذه الأخبار كما تواترت فكذلك تواترت أخبار دالّة على لزوم العمل بخبر الواحد الثقة مثل قوله عند السؤال عن يونس بن عبد الرحمن وأنّه ثقة تؤخذ عنه معالم الدين : نعم (٥) ومثل قوله : لا عذر لأحد في ترك العمل بما يرويه

__________________

(١) انظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ و ٣ : ٣٠٩.

(٢) انظر الفرائد ١ : ٢٣٧.

(٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) انظر الفرائد ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، والوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من صفات القاضي.

(٥) الوسائل ١٨ : ١٠٧ ، الباب ١١ من صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

١٣٩

عنّا ثقاتنا (١) ومثل قوله : فلان مأمون على الدين والدنيا (٢) وغيرها. وحينئذ فلا بدّ من الجمع بين الأخبار الآمرة والناهية بأحد وجوه على سبيل منع الخلوّ بمعنى أنّه يجوز أن تحمل بعض الأخبار على محملين أو أكثر ولا يتعيّن فيها محمل واحد :

أحدها : حمل الأخبار الناهية على النهي عن الأخبار المخالفة للكتاب بنحو المباينة والآمرة على غيرها. وما ذكره الشيخ : من عدم إمكان هذا الجمع لأنّ المخالفين لا يكذبون بنحو المباينة لعدم قبوله حينئذ منهم (٣) ، متين لو كان كذب المخالفين بنحو النقل عن الأئمّة عليهم‌السلام وأمّا لو كان بنحو الدسّ فلا ، خصوصا وإنّ غرض الدسّاسين تشويه سمعة الأئمّة ونسبة الباطل إليهم ، فما يمنعهم ان يدسّوا في كتب أصحابهم ما يوجب تشويه سمعتهم بأن يدسّوا المخالفات للكتاب بنحو المباينة في كتب أصحابهم عليهم‌السلام مع أنّه لا يمكن أن يكون المراد بالمخالفة بنحو العموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، لأنّ لنا علما بصدور أمثال ذلك منهم عليهم‌السلام مثل قوله : «لا ربا بين الوالد وولده» (٤) المخصّص لقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(٥) ومثل قوله : «نهى النبيّ عن بيع الغرر» (٦) المقيّد أو المخصّص ل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وغيرها. والتزام كون ما علم بصدوره عنهم يكون مخصّصا لما دلّ على طرح المخالف ممنوع ، لأنّ لسانها آب عن التخصيص ، مع لزوم تخصيص الأكثر ، وهو موهون كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠٨ ، الباب ١١ من صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٦ ، الباب ١١ من صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٣) الفرائد ١ : ٢٤٥.

(٤) الوسائل ١٢ : ٤٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، الحديث ١ و ٢ ، وفيه : ليس بين الرجل وولده ربا.

(٥) البقرة : ٢٧٥.

(٦) عوالي اللآلي ٢ : ٢٤٨ ، الحديث ١٧.

١٤٠